ولاندري كيف تكون منزلة من يصفها الإمام المعصوم من السمو والعظمة ، وهو حجة الله على عباده ، بأنها من خيرة النساء ؟ !
والسيدة آمنة ( عليها السلام ) علاوة على ذلك ، عاشت في كنف إمامين كان الجهال والأبعدون والمتسكعون وأهل اللهو ، فضلا عن العلماء وأصحاب النفوذ ، يهتدون بكلمة واحدة منهم ، ويصلحون بموقف بسيط ، أو إشارة عابرة ، والتاريخ شهيد على ذلك . فأخوها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وسيد الساجدين ، ذلك الذي تعرف البطحاء وطأته ، والبيت يعرفه والحل والحرم ، وحسبك به مربيا وهاديا ومرشدا ، وابن أخيها الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، باقر علوم آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ذلك الذي كانت علماء الدنيا وما زالت تنحني إجلالا له ، وخضوعا بما عنده من علوم الرسالة المحمدية الخالدة ، وبخوعا وتسليما له هيبة وفرقا من قوة الحجة وسطوع البرهان . عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 9 _فهل يقبل منطق ، أو يرتضي لك عقل ، أن تعيش تلك السيدة الجليلة في ظلهما وفي بيوتهما ، وهي تدخل المغنين عليها وتستمع إليهم ، وتساهر الشعراء والمتخلعين حتى الصباح ؟ ماهذا الهراء والنعيق ؟ ! ولقد أحسن من قال : حدث العاقل بما لا يليق ، فإن صدق فلا عقل له .فالسيدة سكينة ما فارقت المدينة منذ عادت إليها بعد واقعة كربلاء ، بل ولم تتخلف ـ بما توحي إليه الشواهد ـ عن بيت أخيها السجاد عليه السلام ، الذي كان دائم البكاء والحزن على أبيه الحسين ( عليه السلام ) ، فلا غرو أن ورثت السيدة آمنة عن أخيها الحزن السرمدي على أبيها ، خاصة وقد أدركت هي حادثة الطف الأليمة ووعتها ، فهي يومذاك قد جاوزت سن التكليف قليلا ، ومع عدم وجود خبر قطعي يركن إليه في تحديد عمرها ، فإنه يمكن الاستنتاج من بعض القرائن والشواهد التاريخية أنها كانت بين ( 11 ـ 14 ) عاما ، ولعلنا نستطيع أن نستقرب تاريخ ولادتها بين سنتي 47 و 48 هـ . وبعد الإمام السجاد ( عليه السلام ) لاذت في كنف ابن أخيها الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، فهي امرأة وحيدة تحتاج إلى من يكفلها ، خاصة مع انقطاعها إلى العبادة ، وتبتلها لله عز وجل . وتاريخ الإمامين الهمامين بين يديك ، فهل تجد فيه أن بيوتهم كانت محتشدا للشعراء ؟ ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) . وهل تجد شيئا من هذا يتوافق مع ما زوره آل الزبير ، ونشره آل مروان ، وروج له من هو في الميل والهوى مع آل أمية ، والجميع هم أعداء الله وأعداء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأعداء أهل بيته ( عليهم السلام ) ؟ فالكذاب الأشر زبيري ، والمروج البطر أموي ، وناهيك بهما من مبغضين وعدوين لدودين لأهل البيت عليهم السلام بالخصوص ، ولبني هاشم عموما بما فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 10 _ولا نريد الدخول ـ هنا ـ في أبحاث تاريخية جانبية ، فتاريخ الأسرتين الأسود يشهد على سوء فعالهم ، وعدائهم للدين .لكن المهم الذي يجب أن يعرفه القارئ مسبقا ، أن رائد وضع الأحاديث والأخبار الطاعنة في أهل البيت ( عليهم السلام ) هو مصعب الزبيري ، ثم تلاه الزبير بن بكار ، بعد أن أخزتهم ابنتهم سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير ، بما شاع من ملاحمها ، ومغامراتها مع شعراء الخلاعة والمجون والمغنين ، في مجالس لهو وطرب وسكر يندى لها الجبين الحر والحيي ، ولكن من أين تخجل أوجه سكبت بلذات الفجور حياءها ؟ ! وبدل أن يدفنوا عارهم ، راحوا فزحزحوه إلى أشرف البيوت التي تقف في مواجهة باطلهم ، وانحرافهم عن الدين . ووجد المدائني ، رفيق مصعب ، ومن بعده المبرد والزجاجي وأبو علي القالي في هذه الأخبار مادة جيدة لمؤلفاتهم أولا ، وليحققوا بعض أغراضهم في النيل من البيت العلوي الطاهر ثانيا ؛ لما جبلوا عليه من نزعة أموية . وأخيراً جاء أبو الفرج الإصفهاني متوجا أعمال أولئك بكتابه « الأغاني » عيبة السفاسف ، وجراب الهزال ، وجعبة الضلال ، ويكفيك قول ابن الجوزي فيه عن غيره من الأقوال الكثيرة : ومن تأمل كتاب الأغاني رأى كل قبيح ومنكر (1) . فهل يتصور عاقل ـ بعد هذا ـ أن أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، والذين أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمودتهم ، وآمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ـ سكينة ـ من ذوي القربى قطعا وجزما ، يصدر منهم مثل هذه القبائح والمنكرات ؟ ! ( أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ) . --------------------------- (1) المنتظم 185 : 14 رقم 2658 وفيات سنة 356 . عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 11 _
وهكذا جازى آل الزبير رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عترته وذريته عليهم السلام ؟ ومن قبل ترك زعيمهم وكبيرهم خلف ابن الزبير بن العوام ، ونجعة السوء ، الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في خطبه في الجمعة والجماعة . وجانب آخر من حياتها يعطينا عنه خبرا ما جاء في الخبر من أن الحسن المثنى بن الحسن السبط لما اختار فاطمة بنت الحسين على اختها سكينة ، كان يقال : إن امرأة تختار على سكينة لمنقطعة القرين . وقد علمت من ذي قبل قول الإمام الحسين ( عليه السلام ) في ابنته فاطمة من أنها تقوم الليل كله ، وتصوم النهار ، فإذا كان هذا حال فاطمة وهي مع ذلك تصلح لرجل ، فما ظنك بأختها ، التي لا تصلح لرجل ، من حال التبتل والعبادة ؟ وبعد هذا وذاك ، فأين تكون تلك المخاريق التي ألصقوها بابنة النبوة من مقيل الحق والصدق ؟ ألا إنها أهلك من ترهات البسابس . لا جرم أنهم جاءوا بأذني عناق ، فهذه سجية القوم تجاه أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، شنشنة نعرفها من ( أخزم ) ، وقد ملؤوا حشفا بسوء كيلة ، وسيعلم الذين ظلموا محمداً وآل محمد أي منقلب ينقلبون ، والعاقبة لأهل التقوى . وأخيراً وليس آخراً رواية سهل بن سعد الساعدي الصحابي الشهير ، وقد صادف دخوله الشام يوم وصول سبايا كربلاء إليها ، وصادف أن سأل سكينة عن جاجتها ، بعد أن عرفها نفسه ، وعرفها باستحفائها السؤال ، فقالت له : قل لصاحب الرأس ـ تعني رأس الحسين ( عليه السلام ) ـ أن يقدم الرأس أمامنا ، حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ، ولا ينظروا إلى حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 12 _مثل هذا الموقف من هذه السيدة العلوية الجليلة ، تستشعر منه مدى حرص ابنة النبوة ، وسليلة الإباء ، وغيرتها أنها لا ترضى بالنظر إليها وإلى حرم آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كباراً وصغاراً .وتتجلى من ذلك الموقف الغاية التي بلغتها « سكينة » ( سلام الله عليها ) من العفة والطهر والقداسة ، والروح الملائكية ، أو يصدر منها ـ بعد ذلك ـ ما نقلوا من أفائك ، من كانت هذه نشأتها وسلوكها وسيرتها حتى وفاتها ؟ ! ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ) . والنتيجة التي نخلص إليها حول إيمان وتقوى وزهد ابنة النبوة ، وربيبة الرسالة ، وصاحبة الخلق المحمدي ، والنهج العلوي ، والشمائل الحسينة ، هي ما نجمله في النقاط التالية : 1 ـ عاشت وتوفيت تحت ظلال الإيمان ، وفي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، جوار جدها المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وفي ظل أخيها وابن أخيها ( عليهما السلام ) . 2 ـ كان غالب عليها الاستغراق مع الله تعالى . 3 ـ كانت من خير نساء زمانها . 4 ـ إنها من ذوي القربى الذين أوجب الله مودتهم . 5 ـ إنها من أشرف وأرفع بيوت العرب ، بل الدنيا بأسرها . 6 ـ إنها لم تكن تصلح لزوج لعزوفها عن الدنيا كلية . 7 ـ كان الإمام الحسين ( عليه السلام ) يحبها حبا جما ، وله بها تعلق شديد ؛ لكثرة عبادتها وتبتلها لله تعالى ، والمعصوم لا يحب ولا يبغض إلا في الله ، ولمن هو مع الله في المبدأ والمنتهى . 8 ـ كانت شديدة الغيرة على بنات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع عفافها وشدة حفاظها على حجابها . 9 ـ ورثت إباء أبيها الإمام الحسين ( عليه السلام ) وشجاعته ، حيث ردت على طاغية زمانها وفرعونه يزيد بن معاوية ، واعترضت عليه ، وهي الصبية الصغيرة ، وقد عرفت أنها في أكثر التقادير كانت بنت (14) سنة . وفي الختام نقدم جزيل شكرنا للمحقق المفضال السيد عدنان علي الحسيني حفظه الله ؛ فأنه قد بذل غاية المجهود في تحقيق وتدقيق الكتاب بما لا مزيد عليه فجزاه الله خير الجزاء . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . عباس الساويز الكاشاني
عيد الغدير 1423 عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 13 _المقدمة :تبقى الكتابات التاريخية محبوسة الأنفاس بين ما احتكره أهل الصنعة من التزوير ، وبين ما استحسنه الحكام من كتابته ، بما ينسجم وتطلعاتهم في إلغاء مسلمات الواقع ، أو فرض تخيلات القصاصين على كاهل تاريخ يمتد بعطاءاته منذ بزوغ فجر الرسالة إلى ما شاء الله له أن يقوم . وإذا أردنا أن نحسن الظن بما سطره هؤلاء وأولئك من مروياتهم ، فلا ينبغي أن نتعامل معها بحسن ظن يفقدنا مصداقيتنا في الرغبة إلى معرفة الحق ومجرياته ، وشؤون الواقع وتطلعاته ، وهكذا تبقى المرويات التاريخية مكتمة ، لا يحق لها أن « تتفوه » عما أضافته يد الوضع عليها ، أو تلك النابعة من تخيلات القصاصين مجاراة لوضع سياسي قائم ، أو مدارة لنزعات تكتل معين ، أو تنفيذا لرغبة نفسية جامحة في الانتقاص من هذا ، وسلب محاسنه لتزويق صورة ذاك ، أو رمي هذا بداء ذاك دون وازع من دين ، أو تحرج من عرف ، أو حتى لو تعارض مع مبتنيات علمية ، أو أسس منطقية ، بل ومبادئ أخلاقية ، استجابة لمصالح شخصية عارمة ، أو طموحات سياسية هائجة ، تسحق معها كل مبدأ ، وتقتل من خلالها كل فضيلة ، وتوأد بسببها كل مكرمة . عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 14 _وليس في منطق هؤلاء غير استدرار رضا أسيادهم ، وإشباع حاجات أوليائهم من « نهم » الوضع والتزوير ، ونزعة الكذب والتضليل .وهكذا يبقى الصراع قائما بين توجهات هؤلاء ، وأسس المنطق العلمي الذي من خلاله يقرأ الواقع التاريخي دون تزلف لعصبة ، أو مراء في حقيقة أو تجن على واقع . والذي بين أيدينا نموذج مما جنته الأهواء في كتابة التاريخ ، وما فرضته المصالح من تزوير ، وما أفرزته صراعات التكتلات السياسية من تضليل ، فخال لهم ما وضعوه « مسلمة » أجورها على ألسن السذج من الناس ، وأوهموا بها الحمقى من القصاصين ؛ ليستظرفوا بها كتبهم ، ويستملحوا بها قراءهم . وكان نصيب هؤلاء من تخيلاتهم في مروياتهم ، وطعونهم على أهل البيت ( عليهم السلام ) ، أن صوروا السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، الملقبة بسكينة ، أنها من أهل الظرافة والبطر ، فهي تتعاطى الغناء ، كما هي تتعاطى التحكيم بين الشعراء والمغنين ، وتترامى في أحضان أزواجها الأمويين والزبيريين دون وازع من دين أو مانع من عرف ، وكأنها « موقوفة » لبني مروان وآل الزبير ، فبين مفارق لها ، وبين كاره ، وبين خاطب ، وبين مطلق ، وكأن لم يكن من بني هاشم كفء يتولى أمرها ، أو ولي يحسن منعها عما ترتكبه مما يخالف الدين وينافي العرف . عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 15 _في خضم هذه « الأهوال » التي تحدثها زوابع ثقافية ، يتسكع أصحابها على أبواب السلطان ، ويعيشون في دهاليز البلاط ، ويدفع بها هؤلاء ، ويتجاذبها أولئك . . ليحاولوا إقحامها في مرتكزات العامة ، ويدعوها لسذج الناس .لم تدم هذه المحاولات الخائبة طويلا حتى قيض الله لذلك من يبطل أحدوثتهم ، ويرد مكائدهم ، ليطالعنا الحجة المحقق السيد عبد الرزاق المقرم قدس سره ، الذي عرف بالدفاع عن أهل بيت العصمة والطهارة ( عليهم السلام ) ، فيثبت دجل الوضاعين ، مما ادعوه من وصمة الظرافة واللهو ، وتعدد الأزواج التي يلصقونها بالسيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) الملقبة « بسكينة » ، فأثبت براءتها عن كل تهمة وشائنة ، بكتابه الرائع « سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) » . وكتابنا هذا هو حلقة مكملة لجهود العلامة المقرم رضوان الله تعالى عليه ، وليميط اللثام عما ارتكبه هؤلاء القصاصين ؛ من تخيلات ترضي أهواء أسيادهم ، وتنتقص من مقامات آل البيت ( عليهما السلام ) . ولسوف يرى قراؤنا ما أحدثته السياسة من فجوة بين الحق الباطل ، وبين الحقيقة والخيال ، حرصا منا على تحرير القارئ من أسر توجهات الكتابات التاريخية المنفلتة عن قيم الدين ومبادئ العقل ، ومسلمات الوجدان ، وكان لمؤسسة السبطين ( عليهما السلام ) العالمية التي يشرف عليها آية الله السيد مرتضى الموسوي الإصفهاني « حفظه الله تعالى » ، الأثر الكبير في إنجاز هذا المشروع ورعايته ، وقد لمست الجد والإخلاص في إنجاز هذا العمل من لدن فضلائها الأخيار ، وأخص بالذكر سماحة العلامة الشيخ عباس الساويز الكاشاني الذي بذل جهده في مراجعة الكتاب ، والأستاذ السيد عدنان الحسيني في إخراجه ، ولجميع فريق عمل هذه المؤسسة الخيرة كل تقدير وإكبار ، سائلا المولى التسديد لهم لتقديم المزيد من مشاريع الدفاع عن أهل البيت ( عليهم السلام ) . ذكرى شهادة الصديقة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) 3 جمادى الثانية 1423 هـ السيد محمد علي السيد يحيى الحلو قم المقدسة عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 16 _تنويه :اسمها آمنة ، وقيل : أمينة ، وقيل : أميمة ، وسكينة لقب لقبتها به أمها ابن خلكان في وفيات الأعيان 1 : 378 . ورد في الكتاب اسم السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، بدل سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) ، توخيا لإثبات اسمها الصحيح ، وربما أشرنا إلى إثبات اسم السيدة آمنة إلى جانب اسم سكينة بنت الحسين ، إشارة إلى مسايرة بعض الأخبار الموضوعة بما تقتضيه سيرة البحث ، إمعانا في إرشاد القارئ وتنبيهه إلى استخدام اسم السيدة « آمنة » بدل « سكينة » ، وحرصا منا على تداول الاسم الصحيح وهو : السيدة آمنة بنت الحسين ( عليهما السلام ) . وراثة نبوية : « وأما الحسين فله جودي وشجاعتي » (1) . هكذا كان ميراثه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لولديه ، فورث الحسين ( عليه السلام ) جوده وشجاعته ، وورث الحسن ( عليه السلام ) هيبته وسؤدده . كان هذا الإرث النبوي يتقاسمه الوريثان من قبل ومن بعد ، فقبل وفاة جدهما كانت بوادر الإرث النبوي قد بدت على الغلاميين الهاشميين ، وهما يرفلان في عناية إلهية ما انفكت عنهم وعن أبويهما يوم جللهما بالكساء اليماني ، وقال : « اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد » وأنزل الله عز وجل : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) (3) . --------------------------- (1) الإرشاد للمفيد 7 : 2 ، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي : 210 ، الخصال للصدوق77 : 1 وفيه : جرأتي وجودي وفي رواية أخرى : سخائي وشجاعتي ، بحار الأنوار 293 : 43 ، مقتل الحسين للخوارزمي 105 : 1 ، الإصابة لا بن حجر 316 : 4 رقم 481 ترجمة زينب بنت أبي رافع ، أسد الغابة130 : 7 رقم 6955 ، البداية والنهاية 161 : 8 ، ذخائرالعقبى لمحب الدين الطبري : 129 ، المعجم الأوسط للطبراني 136 : 7 ح 6241 وفيه : كرامتي وجودي ، مجمع الزوائد 185 : 9 ، وأخرجه ابن منده ، وابن عساكر في تاريخه ، والمتقي الهندي في كنز العمال ، وأبو نعيم وغيرهم . (2) الأحزاب 33 : 33 . (3) المستدرك على الصحيحين 160 : 3 ح 4709 ، دار الكتب العلمية . عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 17 _ولطالما كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم : « أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم » (1) .ولكم كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينوه عن حبه لابنيه هذين حتى أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما ترك مناسبة إلا وأشهد المسلمين على حبه إياهما . فما رواه أسامة بن زيد قال : طرقت باب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذات ليلة لبعض الحاجة ، فخرج إلي وهو مشتمل على شيء لا أدري ماهو ، فلما فرغت من حاجتي قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه ؟ فكشف فإذا حسن وحسين على وركيه فقال : « هذان ابناي وابنا ابنتي ، اللهم إني أحبهما فأحبهما ، وأحب من يحبهما » (2) . ولم يكن ذلك التنويه مقتصرا لأصحابه بل خص أهله وعمومته وأقرهم على حبهما وعظيم منزلتهما حتى صار ذلك مركوزا لدى الهاشميين من أهله كما هو مركوز عند المسلمين طرا . وعن مدرك بن عمارة قال : رأيت ابن عباس آخذا بركاب الحسن والحسين فقيل له : أتأخذ بركابهما وأنت أسن منهما ؟ فقال : إن هذين ابنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أوليس من سعادتي أن آخذ بركابهما (3) ؟ ! هذه عناية الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لولديه ، ولم تنقطع هذه الرعاية الخاصة بانقطاع الوحي ، عند رحيله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ملكوت الله الأعلى ؛ ليكون قرير العين بسبطيه هذين وأبويهما ، وهم يحملون عيبة علمه ومكنون حكمته ، وضن عليهم من التخلف عنهم وتركهم ، فقال : « يا أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي ، أمرين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » (4) . --------------------------- (1) المستدرك على الصحيحين 3 : 161 ح 4713 . (2) سنن الترمذي 5 : 656 ح 3769 كتاب المناقب ، ب 31 مناقب الحسن والحسين . (3) ترجمة الإمام الحسين لابن عساكر من تاريخ دمشق ، تحقيق المحمودي : 146 ح 188 . (4) المعجم الكبير للطبراني 3 : 65 . عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 18 _ولم تكن أمته قد سمعت ما وعته بالأمس حتى تستعدي عليهم اليوم ، فهذا علي عليه السلام يهجره المهاجرون ، ويخذله الأنصار ، ويحيلونه إلى مأمور بعد ما كان أميرهم في غدير خم ، تلك الواقعة التي أكحلت عيون قوم وزكمت أنوف آخرين .فما كان من هؤلاء إلا ويسوقون علياً ( عليه السلام ) إلى بيعتهم مكثورا ، يخذله قومه وأهل مودته ، إلا نفر ثبت رغم بريق السيوف وشروع الأسنة ، وليس للحسن بن علي ( عليهما السلام ) شأن للنصرة عند هؤلاء القوم ، الذين آثروا ابن حرب على حربهم مع سبط الرسول فأسلموه عند الوقعة ، وأحبوا العافية عند نصرة الحق ، واختاروا الخضوع على العزة في ظل كتاب الله وعترة نبيهم ، ولم يحيلوا بينه وبين عدوه ، الذي جرعه غصص الفتن قبل أن يجرعه كأس المنون على يد زوجته جعدة بنت الأشعث ، فذهب صابرا محتسبا يشكو مالاقاه لربه ، ويبث ما عناه لجده . وفي كربلاء موعد القوم مع آل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حيث يناجزون سبطه الحبيب بكل خسيسة حرب ودخيلة صدور ، فينكفئون على آله بسيوف الحقد وسهام الغدر ، يرمونهم من كل ناحية ؛ ليكون لرضيعه سهم المنون كما كان له نصيب من الظمأ ، وانهالوا على أهله قتلاً وتنكيلاً ، فأحرقوا خيامهم ، وأركبوهم أسارى بغير وطاء ولا غطاء . لم تنته واقعة الطف بعد ، بل كأنها بدأت منذ لحظة تسييرهم سبايا ، فهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يتصدى لخطط هؤلاء القوم ، الذين أذاعوا بين العامة أنهم أسرى خوارج ، فيقول عند دخوله الكوفة : «أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتهكت حرمته وسلبت نعمته وانتهب ماله وسبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا تراث ، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا . عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام ) _ 19 _أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه ، فتبا لكم لما قدمتم لانفسكم ، وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي » ، فارتفعت الأصوات بالبكاء وقالو : هلكتم وما تعلمون (1) .وهكذا يدأب الإمام على كشف الحقائق وفضح الأباطيل ، ثم هو بعد ذلك يتصدى لإحباط المحاولات في التمويه على الواقع ، ولم يقتصر الأمر على الإمام في جهده المقدس لكشف الحقائق ، فإن لربيبة الوحي دورا تلقيه ظروف الدعوة هذه . بعد وصول الركب إلى الكوفة كانت زينب بنت علي ( عليهما السلام ) تلملم جراحها ، وترنو إلى الإمام لئلا يصيبه مكروه ، وإلى العائلة لئلا تكترث من هول الوقعة ، وفجيعة المصاب ، ثم هي تقف ثابتة بثبات المبدأ ، شامخة بشموخ الرأس الشريف ، الذي علا على رمح عال يتطلع إلى ما يجري حوله من تخاذل القوم وصمود الآل . كانت زينب ( عليها السلام ) صامدة رغم ما تعانيه من تتابع الأهوال ، وهي في هذا تتابع الأحداث ، والخطب جلل ، والجرح لما يندمل ، فقالت من خطبة لها : « ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ؟ وأي كريمة له أبرزتم ؟ وأي دم له سفكتم ؟ وأي حرمة له انتهكتم ؟ لقد جئتم شيئاً إداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً . --------------------------- (1) مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرم : 316 و317 . . |