فإنّ ذلك كلَه يُفَرّقُ الاُمورَ المُقَربة إلى التحصيل ، ويُشْغل القَلْبَ ، ويُضَيّعُ الأوقات.

16 ـ اختيار الشريك
  وأما اخْتيار الشريك ، فينبغي أن يختارَ الُمجِدَ ، والوَرِعَ (1) وصاحبَ الطبعِ المستقيمِ.
  ويفرّ ويحترزُ (2) من الكسْلانِ ، والمُعَطَلِ ، ومِكْثارِ الكلامِ ، والمُفْسِدِ ، والفتّانِ.
  كما قيل ـ في الحكمة الفارسيّة ـ نَظْما :
يــارِ بَــدْ بـدْتَـرْ بُــوَدْ أزْ مــارِ بَــدْ      تـــا تَــوَانِـيْ مِـيُْـرِيْزْ أزْ يــارِ iiبَــدْ
مـارِ بَـدْ تَـنْها تُـو را بَـرْ جانْ iiزَنَد      يارِ بَدْ بَرْ جانُ وبَرْ إيمانْ زَنَدْ (3)

**************************************************************
(1) كذا في النسخ والزرنوجي ، وفي الخشاب وبعض النسخ : المتورّع.
(2) في (ب ، د) : يفرّ وفي سائر النسخ : (يحترز) وقد جمع بينهما في (ع).
(3) وقد نظمتُ معنى البيتين بالعربية ، فقلتُ :
لـئنْ كـانَ خل السوء أعتى iiمضرَة      من الحيّة السوداء فاهجُرْه iiبالبَيْنِ
فإنْ كانَتْ السوداء للجسم سمها      فـضرّ صديق السو للجسم iiوالدِيْنِ
وقد أثبت الخشاب معنى البيتين نثرا في المتن ، وذكر الشعر الفارسي في أمّا الزرنوجي فقد أورد الشعر هكذا :
يـارِ بَـدْ بَـدْتَرْ بُـوَد أزْ مـارِ بَـدْ بـحق ذاتِ اكِ الله iiالـصَمَدْ
يارِ بَدْ آرَدْ تو را سُويِ جَحِيمْ يارِ نيكُو كِيْرْ تا يابي نَعِيْمْ

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 71 ـ

  وقيل :
فـاعْتَبِرِ الأرْضَ بـأسْمائِها (1)ii      واعْتَبِرِ الصاحبَ بالصاحِبِ (2)

**************************************************************
(1) كذا في الزرنوجي والنسخ ، لكن في الخشاب : بإنمائِها.
(2) جاء في الزرنوجي ، قبل هذا البيت ، قوله :
إنْ كُنْتَ تبغي العِلْمَ من أهلِه      أوْ شـاهـدا يُـخْـبِرُ عـن iiغـائبِ
ولاحظ نهاية الفقرة (33) ففيها كلام حول الشخص الذي يُنتخب للمذاكرة.
وأنشد الماوردي ، لأبي بكر الخوارزمي :
لا تَـصْحَب الـكسلان في iiحالاته      كــم صـالحٍ بـفساد آخَـرَ iiيـفسدُ
عدوى البليد إلى الجليد سريعة      والـجَمْرُ يُوضَعُ في الرمادِ iiفيخمُدُ
أدب الدنيا والدين (ص 112).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام :
فلا تَصْحَبْ أخا الجهل      و إيّـــــــاكَ و iiإيّـــــــاه
فكم من جاهلٍ iiأرْدى      حـلـيـما حـيـنَ iiآخــاه
يُـقـاسُ الـمَـرْءُ بـالمَرْءِ      إذا مـــا هــو iiمـاشـاه
ولِـلقَلْبِ عـلى iiالقَلْب      دلــيـل حــيـن iiيَـلْـقاه
ولـلشيء مـن الشي      ء مـقـايـيس وأَشْـبـاه
وهو في الديوان (ص 122) ورواه القُضاعي في دستور معالم الحكم (ص 157).

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 72 ـ

17 ـ تعظيم العلم وأهله
  وينبغي أنْ يُعَظّمَ العلمَ وأهلَه بالقَلْبِ غايةَ التعظيم.
  قيل : (الحُرْمَةُ خَيْر من الطاعَةِ).
  حتّى لَمْ يأخُذ الكتابَ ، ولَمْ يُطالِعْ ، ولَمْ يَقْرأ الدَرْسَ ، إلا مَعَ الطَهارة (1).

18 ـ أَدَبُ الكِتابة
  وينبغي أنْ يُجَودَ كتابة الكتاب (2)

**************************************************************
(1) لا سيّما الكتب المحتوية على النصوص المقدّسة ، كالقرآن الكريم ، وتفاسيره ، فإنّ ما يؤدّي إلى الاستهانة بها حرام.
وكذلك كتب الحديث الشريف والسُنّة المطهرة ، بل يلزم تعظيمها كما نقل عن العلاّمة الفاضل الدربنديّ أنّه كان يُوْلي كتب الحديث الشريف تعظيما بالغا ، حتى كانَ إذا أخذ بيده كتاب (تهذيب الأحكام) للشيخ الطوسي : قبّلَه ووضعه على رأسه ، كما يُصْنَعُ بالقرآن الكريم ، ويقول : (إنّ كتُب الحديث لها عَظَمةُ القرآن).
لاحظ : المنتقى النفيس من درر القواميس (ص 158).
وأمّا الكون على الطهارة فقد رووا فيه عن مالك بن أنس ، أنه قال : كانَ لا يحدّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ وهو طاهر ، جعفر بن محمّد [ عليه السلام]جامع بيان العلم (1992).
(2) روى الخطيبُ والسمعانيّ ، مسندا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أنّه قال : (الخطّ الحسنُ يزيدُ الحقَ وضوحا) الجامع لأخلاق الراوي (ج 1 ، ص 399) رقم 532 ، وأدب الإملاء والاستملاء (ص 166) ، وفيه : (وضحا) بدل (وضوحا) وفي هذا المصدر كلام عن آداب الكتابة.
وانظر : تدوين السُنّة الشريفة (ص 101) فقد أوردنا له تخريجا أوسع.
وأسند الخطيبُ إلى أبي عثمان ، عمرو بن بحر الجاحظ قال : قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : (الخطّ علامة ، فكلّما كانَ أبْيَنَ كانَ أحْسَنَ) ، الجامع لأخلاق الراوي (ج 1 ، ص 400) رقم 535.
وقال عليه السلام : (الخطّ لسان اليد) ، معجم ألفاظ غرر الحكم (خطط).

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 73 ـ

  ولا يُقَرْمِطَ (1) ويترك الحاشية (2) إلا عند الضرورة ، لاِضنّه إنْ عاشَ

**************************************************************
(1) قال ابن منظور : قَرْمَطَ في خَطْوِه : إذا قارب ما بين قَدَمَيْه ... والقرمَطَةُ في الخطّ : دقّة الكتابة وتداني الحروف ، وقرمَطَ الكاتبُ إذا قارب بين كتابته ، لسان العرب (2529) مادّة (قرمط).
فالنّهي عن القرمطة ، بمعنى عدم الكتابة الدقيقة ، التي يصعب قرأتها عند الحاجة ، وأما ما ورد من الأمر بالقرمطة فيما رواه الخطيب عن عليّ أميرالمؤمنين أنّه قال لكاتبه عُبَيْد الله بن أبي رافع : (ألِقْ دِواتَك ، وأطِلْ سِنَ قَلمِكَ ، وأفْرِجْ بين السّطور ، وقَرْمِطْ بينَ الحروف) ، الجامع لأخلاق الراوي (4031) رقم 540 ، وأرسله في لسان العرب (قَرْمَطَ) وفيه : (فَرجْ ما بين السّطور وقرْمط ما بين الحروف).
فالمراد التقريب بين حروف الكلمة الواحدة ، فإنّ الفصل الكثير بينها مؤد إلى الوهم والتصحيف ، كما لا يخفي .
(2) المقصود من (ترك الحاشية) عدم كتابة شي على هوامش الكتاب ، بعنوان التوضيح أو التعليق ، فإنّ فِعْل الطالب المتعلّم ذلك ، يؤدّي إلى تشويه الكتاب ، مَعَ أن ما يكتبه ليس بالجودة والقوّة اللازمة ، بحيث يُرْتضى ـ حتى من قبله هو ـ بعدَ هذه المرحلة.
فالأولى اجتناب ذلك ، والكتابة في دفتر منفصل .

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 74 ـ

نَدِمَ ، وإنْ ماتَ شُتِمَ (1).

19 ـ أَدَبُ السماع
  وينبغي أنْ يستمع العِلْمَ بالتعظيم والحرمة ، لا بالاسْتهزاء.

20 ـ الاعتماد على الاُستاذ
  ولا يختارُ نَوْعا من العِلْم بنفسِه ، بَلْ يُفَوضُ أمْرَه إلى اُسْتاذِه ، لأنَ الاُسْتاذَ قد حَصَلَ له التجاربُ في ذلك عند التحصيل ، وعَرَفَ ما ينبغي لكُلّ واحدٍ ، وما يليقُ بطبيعتِه (2).

21 ـ التأدبُ مَعَ الاُستاذ
  وينبغي لِطالبِ العلم أنْ لا يجلسَ قريبا من الاُستاذ عند السبق ، بغير (عذر إلاّ للضّرورة) (3) ، بَلْ ينبغي أنْ يكونَ بينَه وبينَ الاُستاذِ قَدَرُ القوسِ ، لاِنَه أقربُ إلى التعظيم (4).

**************************************************************
(1) ومن اَداب الكتابة :تركها بعد العصر ، وقد روي :( من اكرمَ حبيبتيه فلايكتبْ بعد العصر ) رواه السخاويفيالمقاصد الحسنة ،وقال : ليس فيالمرفوع .
اقول : ذكر المولى صدرالمتالّهين في تفسيره (1 358) في الحديث :( من احبّ كريمتاه لايكتبنّ بالعصر) كذا فيه :(كريمتاه) بالألف ويمكن تخريجه على اسنعمال المثنى بالألف دائماً كما هي لغة ، لكنّ احتمال التحريف وارد ، والمشهور عندنا : ( من احبّ كريمتيه فلا يقرا بعد العصر).
وقال في تذكرة الموضوعات (ص 162) : اوصى احمد ان لا ينظر بعده ـ اي بعد العصر ـ فيكتاب ، وعن الشافعيّ : الورّاق إنّما باكل من دية عينيه.
(2) لاحظ الفقرة (15) وما نقلنا في هامشها.
(3) ما بين القوسين من (ف) وفي النسخ : بغير ضرورة.
(4) ذكر الزرنوجي ما يرتبط بهذه الفقرة في بداية الفقرة [19] فقال : ومن تعظيم العلم : تعظيمُ المعلّم.
قال علي عليه السلام : (أنا عَبدُ مَنْ علّمني حرفا واحدا ، إنْ شاءَ باع ، وإنْ شاءَ أعْتَقَ ، وإنْ شاء اسْترقّ).

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 75 ـ

  ولم أقف على هذا الحديث في غير هذا الكتاب ، إلاّ أنّ المشهور على ألْسِنة المشايخ رحمهم الله يتداولونه مرسلا عنه عليه السلام أنّه كان يقول : (مَن علّمني حرفا فقد صيّرني عبدا).
  وأرسل الشهيد قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (مَنْ علَمَ أحدا مسألةً ملك رِقَه) ، قيل له : أيبيعه ويشتريه ?
  قال : [ لا ] بل يأمُرُه وينهاه) ، في منية المريد (ص 243) ونقله محقّقه عن إجازة ابن أبي جمهور الأحسائي ، بلفظ : قال سيّدُ العالمين : ( مَنْ علّمَ ... ) وفيه وردت كلمة [ لا ] التي وضعناها بين المعقوفين ، نقل ذلك عن بحار الأنوار (ج 108 ، ص 16).
  وبالنسبة إلى تعظيم الاُستاذ المعلّم :
  روى الخطيب بسنده إلى محمّد بن سلام الجمحي قال : قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام : (من حقّ العالم عليك :
  أنْ تُسَلمَ على القوم عامَةً ، وتخصّه دونَهم بالتحيّة.
  وأنْ تجلس أمامه.
  ولا تُشيرَنَ عنده بيدك.
  ولا تغمِزَنّ بعينيك.
  ولا تقولَنَ (قال فلان) خلافا لقوله.
  ولا تغتابنَ عنده أحَدا.
  ولا تسارّ في مجلسه.
  ولا تأخذ ثوبَه.

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 76 ـ

  ولا تلحَ عليه إذا كَسَلَ.
  ولا تعرض من طول صُحبته ، فإنّما هو بمنزلة النخلة تنتظرُ متى يسقطُ عليك منها شي.
  وإنّ المؤمنَ العالم لأعظمُ أجْرا من الصائم ، القائم ، الغازي في سبيل الله.
  وإذا مات العالِمُ انثلَمَتْ في الإسلام ثُلمة لا يَسُدها شي إلى يوم القيامة) ، الجامع لأخلاق الراوي (3001 ـ 301) رقم 350.
  ورواه القاضي القضاعي في دستور معالم الحكم في بداية الباب السابع (ص 107 ـ 108) بتقديم وتأخير في بعض الفقرات.
  ورواه من أصحابنا البرقي في المحاسن (ص 233) في كتاب مصابيح الظلم ، باب (19) حقّ العالم ، الحديث (185) بسنده عن الصادق عليه السلام قال : كان علي عليه السلام يقول : (إنّ من حقّ العالم أنْ ... ) ، ورواه الكليني في الكافي (291) كتاب فضل العلم ، باب حقّ العالم ، إلى قوله : (في سبيل الله) ، وأرسله باختلاف في منية المريد (ص 234).
  وأسند ابنُ عبد البرّ إلى سعيد بن المسيّب ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال : (إنّ من حقّ العالم :
  أنْ لا تُكثر عليه بالسؤال.
  ولا تعنّتْه في الجواب.
  وأن لا تلحَ عليه إذا كسل.
  ولا تأخذ بثوبه إذا نهضَ.
  ولا تُفْشِينَ له سرّا.
  ولا تغتابنَ عنده أحدا.

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 77 ـ

  ولا تطلبنَ عَثْرتَه.
  وإنْ زلَ قبلتَ معذرتَه.
  وعليك أنْ توقّرَه وتعظّمَه لله ، مادام يحفَظُ أمر الله.
  ولا تجلس أمامه.
  وإنْ كانتْ له حاجة سبقْتَ القومَ إلى خدمته).
  جامع بيان العلم (ج 1 ، ص 129).
  وفي (رسالة الحقوق) المرويّة عن الإمام زين العابدين عليه السلام : (وحق سائِسِك بالعلم : التعظيمُ له ، والتوقيرُ لمجلسه ، وحُسْنُ الاستماع إليه ، والإقبالُ عليه.
  وأنْ لا ترفع عليه صوتك ، ولا تجيبَ أحدا يسألُه عن شيٍ ، حتى يكون هو الذي يُجيبُ ، ولا تُحدث في مجلسه أحدا ، ولا تغتابَ عندَه أحدا.
  وأنْ تدفعَ عنه إذا ذكر عندك بسوءٍ ، وأن تستر عيوبَه وتُظْهرَ مناقبه.
  ولا تجالسَ له عدوّا ، ولا تُعادي له وليّا.
  فإذا فعلتَ ذلك شَهدَتْ لك ملائكةُ الله جلَ وعَزَ بأنّكَ قصدتَه وتعلمتَ علمه لله جلّ اسمُه ، لا للناسِ). رسالة الحقوق ، الفقرة (السادسة عشرة) وانظر شرح رسالة الحقوق ، للقبانجي (4091 ـ 438).
  وأخبرني بعض طُلاّب العلم من أهل اليمن ، أنّ استاذَه المغفور له ، صديقنا العلاّمة السيّد يحيى بن عبد الله راوية ، كان يتلو عليه هذه الأبيات غير منسوبة :
إصْـبِرْ عـلى مُر الجفا من iiمعلّمٍ      فـإنّ رسـوب الـعلم فـي نـفراتِه
فَـمَنْ لَـم يذُقْ مُرَ التعلّم ساعةً      تـجـرّع مُـرَ الـجهل طـول iiحـياتِه
ومـن فـاتَه التعليم وَقْتَ iiشبابه      فــكَـبـر عـلـيـه مـعـلِـنا iiلـوفـاتِـه
حياةُ الفَتى والله بِالعِلم والتقى      إذا لــم يـكـونا ، لا اعْـتبارَ بـذاتِه

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 78 ـ

22 ـ أخلاق الطالب
  وينبغي لطالب العلم أنْ يحتَرِزَ عَن الأخْلاق الذَميمة ، فإنّها كِلاب معنويّة ، وقال رسولُ الله صلىالله عليه وآله وسلم : (لا تدخُلُ الملائِكةُ بيتا فيه كَلْب أوْ صُوْرَة) (1).

**************************************************************
(1) الحديث بهذا اللفظ مذكور في مسند أحمد (831) والجامع الصغير للسيوطي ( 2/ 200).
ورواه ابن أبي جمهور الأحسائي في الفصل العاشر من عوالي اللاَلي (ج 1 ، ص 261) بدون : (أو صورة) ، وأرسل الفاضل المقداد السيّوريّ في (كنز العرفان في فقه القرآن) (2/ 309 ) حديثا طويلا في صدره : أنّ جبرئيل نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : (إنّا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب ... ) الحديث.
والمراد من إيراد الحديث ليس هو ظاهره ، بل ـ كما ذكره بعض شرّاح العوالي ـ : المراد بالملائكة : المعارف الإلهيّة ، والمراد بالبيت : القلب ، والمراد بالكلب : الصفات الذميمة.
فالمعني : أنّ العلم لا يستقرّ في قلب مَنْ تملّكتْ من قلبه الأخلاقُ الذميمة ، وقد ذكر المؤلّف بعضَ الصفات الذميمة والأخلاق السيّئة في الفقرة [10]و ، [49] وأفضل كتاب يُفيد الطالب والعالم هو كتاب (أدب الدنيا والدين) للماوردي ، فإنّه عظيم الفائدة ، غنيّ المادّة ، قويّ العبارة ، وواضح الدلالة.
وقد حثّ الرسول والأئمة : ، الناس كافةً على امتلاك الأخلاق الحسنة والكريمة ، وإليك بعض ما روى في ذلك : ممّا روي واشتهر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله : (إنّما بُعِثتُ لاُتممَ مكارم الأخلاق) رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق ومعاليها (ص 1) وهو أوّل أحاديثه.

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 79 ـ

  وروى الخطيب عن الحسين بن عليّ عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ الله يحبّ معاليَ الأخلاق وأشرافها ، ويكْرَه سفسافها).
  الجامع لأخلاق الراوي (1371) ، ورواه الخرائطي عن سهل بن سعد الساعدي في مكارم الأخلاق (ص 1) بدون : وأشرافها.
  وقال عليّ بن أبي طالب عليه السلام : (إنّ الله تعالى جعل مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلا بينه وبينكم ، فحسب الرجل أنْ يتّصل من الله تعالى بخُلُقٍ منها) ، ذكره في أدب الدنيا والدين (ص 226).
  وقال عليه السلام : (تعلّموا العلم ، وتزيّنوا معه بالوقار والحلم ، وتواضعوا لمن تتعلّمون منه ، ولمن تعلّمونه ، ولا تكونوا جبابرةَ العلماء فيذهب باطلكم حقّكم) وفي لفظ : ( ... فلا يقوم علمكم بجهلكم ) ، جامع بيان العلم (1411).
  وعن عليّ عليه السلام ، قال : (إذا تعلّمتم العلم فاكظموا عليه ولا تخلطوه بضحك وباطل ، فتمجّه القلوب) رواه ابن عبد البرّ في جامعه (1411) ، ورواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (2321).
  وقال عليه السلام : (إذا ضحكَ العالم ضحكةً مجَ من العِلْمِ مَجَةً) رواه الماوردي في أدب الدنيا والدين (ص 302).
  وممّا قاله أمير المؤمنين عليه السلام منظوما :
إنّ الــمـكـارمَ أخـــلاق iiمُـطـهـرة      فـالـديـنُ أوّلــهـا والـعـقل iiثـانـيها
والـعـلـمُ ثـالـثُها والـحـلمُ iiرابـعُـها      والجود خامسُها والفضل ساديها
والــبِـر سـابـعها والـصـبر ثـامـنُها      والـشـكرُ تـاسعها والـليْنُ iiبـاقيها
والـنـفس تـعلم أنّـي لا iiاُصـادِقُها      ولـستُ أرشُـدُ إلا حـينَ iiأعْـصيها

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 80 ـ

  وهو في الديوان (ص 123) ورواه في أدب الدنيا والدين (ص 30) باختلاف وزيادة.
  وقال عليه السلام ـ وهو أجدر بطالب العلم أن يكون عليه ـ :
ومـحـترسٍ عــن نـفـسه خـوف iiذِلـةٍ      تــكـون عـلـيـه حُـجّـةً هــيَ iiمـاهـيَا
فــقـلّـصَ بُــرديْــه وأفــضـى iiبِـقـلـبه      إلــى الـبـرّ والـتـقوى فـنـال iiالأمـانِيَا
وجـانـب أسـبـاب الـسـفاهةِ iiوالـخنا      عَــفـافـا وتـنـزيـهـا فــأصـبـح iiعـالِـيَـا
وصـانَ عـن الـفحشاء نـفسا iiكـريمةً      أبَـــتْ هــمّـةً إلا الـعُـلـى iiوالـمـعالِيَا
تـراه إذا مـا طـاشَ ذوالـجهل iiوالـصِبا      حـلـيما وَقُــورا صـائن الـنفسِ هـادِيَا
لــه حِـلْـمُ كـهـلٍ فـي صـرامة iiحـازِم      وفي العينِ إنْ أبصرتَ أبصرت ساهيَا
يَـــروق صــفـأُ الــمـاءِ مـنـه iiبـوجـهه      فـأصبحَ مـنه الـمأ فـي الـوجه iiصافِيَا
ومــن فـضـله يـرعـى ذِمـامـا iiلـجارِه      ويـحـفظ مـنـه الـعَـهدَ إذ ظــلَ iiراعِـيَا
صـبـورا عـلى صـرف الـليالي وَدَرْئـها      كــتـومـا لأســـرار الـضـمـير iiمُــدارِيَـا
لــه هـمّـة تـعـلو عـلـى كــلّ iiهـمّـةٍ      كـمـا قـد عـلا الـبدرُ الـنجومَ iiالـدراريَا
وهو في الديوان (ص 128 ـ 129)

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 81 ـ

الفصل الرابع : في الجدّ والمواظبة والهمَة
23 ـ الجدّ في الطَلَب

  ثمَ لابُدَ لطالب العِلْمِ من الجدّ ، والمواظبة والملازَمة.
  قيل : (مَنْ طَلَبَ شيئا وَجَدَ وَجَدَ ، ومَنْ قَرَعَ بابا وَلَجَ وَلَجَ) (1).
  وقيلَ : (بقَدْرِ ما تتعنّى (2) تنالُ ما تَتَمنَى) (3).

**************************************************************
(1) قال الماوردي : روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : (بالصّبر يتوقّعُ الفرَجُ ، ومَنْ يُدْمِنْ قرْعَ البَابَ يَلجْ) أدب الدنيا والدين (ص 279).
وفي المنقول من حكم أمير المؤمنين عليه السلام قوله : (اطلب تجد) معجم الفاظ غرر الحكم (ص 641).
(2) كذا في بعض النسخ والزرنوجي ، وكان في (ف) ونسخ اُخرى والخشاب : سعى.
(3) قال أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام لبعض ولده : ( ... وإيّاك والضجر والكسل ، فإنّهما يمنعانك حظك من الدنيا والاَخرة) عن كتاب الحسن بن محبوب السراد في مستطرفات السرائر (ص 80).
وفي حديث وصيّة النبي لعليّ : (يا علي ... لا تمزَحْ فيذهبُ بهاؤك ، ولا تكذب فيذهب نورك وإيّاك وخصلتين : الضجر ، والكسل ، فإنْ ضجرت لم تصبر على حق ، وإن كسلت لم تؤدّ حقّا) كتاب من لا يحضره الفقيه (3524 ، ح 5762).
وروى القضاعي قول أمير المؤمنين عليه السلام: إصْبِرْ على مضض الإدْلاج بالسَحَرِ = وفي الرواح إلى الحاجات والبُكَرِ لا تَيْئَسَنَ ولا تُحْزِنْكَ مَطْلَبة = فالنُجْحُ يَتْلَفُ بين العَجْزِ والضَجَرِ إنّي رأيتُ وفي الأيّام تجربَة = للصَبْرِ عاقبةً محمودَةَ الأثَرِ وقلَ مَنْ جَدَ في أمْرٍ يُطالبُه = واسْتَصْحَبَ الصَبْرَ إلا فازَ بالظَفَرِ دستور معالم الحكم (ص 8 ـ 159).
ونقل الماوردي البيت الثاني فقط في أدب الدنيا والدين (ص 64) وهو عنده : لا تعجَزنّ ولا تَدْخلك مضجرة فالنجحُ يهلك ...

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 82 ـ

  وقيلَ : (يُحتاجُ في التعلم إلى جِدّ الثلاثة : المتعلّم ، والاُستاذ ، والأب ـ إنْ كان في الحياة ـ ) (1).

**************************************************************
(1) قال الزرنوجي : واُنْشِدْتُ ـ وقيل : إنّه لعليّ بن أبي طالب عليه السلام ـ :
ألا لا تَـنـالُ الـعِلْمَ إلاّ iiبِـسِتّةٍ      سأُنبيك عن مجموعها بِبَيانِ
ذكـاء وحِـرْص واصْطِبار وبُلْغَة      وإرشـادُ اُسْـتاذٍ وطُـوْلُ زَمانِ
وقال عليه السلام :
لو كانَ هذا العلمُ يحصَلُ بالمُنى      لما كانَ يبقى في البريَة iiجاهلُ
إجْـهدْ ولا تـكسَلْ ولا تـكُ iiغـافلا      فـندامة الـعُقْبى لـمن iiيـتكاسلُ
وهو في الديوان (ص 97).
قال الشاعر ـ وهو من شواهد العربيّة ـ :
اُطْلُبْ ولا تضجَر من مَطْلَبِ      فـآفـةُ الـطـالبِ أنْ iiيـضْـجرا
أمــا تــرى الـحَـبْلَ iiبِـتكراره      فـي الـصَخْرة الصمّأ قَد أثّرا
مغني اللبيب لابن هشام (ص 519) الشاهد (741) و (ص 763) الشاهد (999) وقال المعلّق : لم يذكر قائله ، وقد أهمله السيوطي.
وقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام : (من ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه فيها لم ينَلْ جسيما ، ومن تعاطى ما ليس من أهله ، فاتَه ما هو من أهله ، وقعد به ما يرجوه من أمَله ، ومن أبْطَرَتْه النعمةُ وقره زوالها) ، في نزهة الناظر (ص 60).

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 83 ـ

24 ـ المواظبة على الطَلَب
  ولابُدَ لطالب العلمِ من المواظَبةِ على الدرس ، والتكرارِ في أوّل الليل وآخره ، فإنَ ما بينَ العشائين ، ووَقْتَ السحر ، وَقْت مبارَك.
  وقيلَ : (مَنْ أسْهرَ نفسه بالليل فقد فَرَحَ قلبه بالنهار).
  ويغتنم أيّامَ الحداثة ، وعُنفوان الشباب (1).

**************************************************************
(1) قال أمير المؤمنين عليه السلام : (قَلْبُ الحَدَثِ كالأراضي الخالية ، ما اُلْقيَ فيها من شيٍ قبِلَتْه) ، رواه الماوردي في أدب الدنيا والدين (ص 57) وقال : وإنّما كانَ كذلك لأنّ الصغيرَ أفْرَغُ قلبا ، وأقل شُغْلا ، وأيْسَرُ تَبذلا ، وأكْثَرُ تواضُعا.
وقال الإمام عليه السلام شعرا :
حَـرضْ بَـنيك عـلى الاَداب فـي iiالصِغَرِ      كَـيْـمـا تــقِـرَ بــه عَـيْـناكَ فــي iiالـكِـبَرِ
وإنّـــمـــا كـــامِـــلُ الاَدابِ iiيـجـمَـعُـهـا      في عُنفوان الصِبا كالنقش في الحَجَرِ
هـــيَ الـكُـنوزُ الـتـي تَـنْـمُو iiذخـائِـرُها      ولا يُــخــافُ عـلـيـهـا حــــادِثُ iiالـغِـيَـرِ
الــنـاسُ إثْــنـانِ ذُو عــلـمٍ ومُـسْـتـمع      واعٍ وســائــرهـمْ كــالـلَـغْـوِ iiوالــعُــكَـرِ
وهو في الديوان (ص 68).

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 84 ـ

  وروى ابن عبد البرّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (مَنْ تعلّم العلم وهو شاب ، كانَ كَوَشْمٍ في حَجَرٍ ، ومن تعلّم العلم بعدما يدخل في السِنّ ، كانَ كالكِتاب على ظهر الماء) ، جامع بيان العلم (821).
  وروى عن أبي عبيد الله نِفْطوَيْه ، أنّه أنشدَ لنفسه : جامع بيان العلم (41 ـ 85).
أرانـيَ أنـسى مـا تـعلّمتُ فـي الكِبَرْ      ولـستُ بـناسٍ مـا تعلّمتُ في iiالصِغَرْ
ومــا الـعـلم إلا بـالـتعلم فــي iiالـصِبا      ومــا الـحـلم إلا بـالـتحلم فـي iiالـكِبَرْ
ولـو فُـلِقَ الـقلبُ الـمعلَم فـي الـصِبا      لاُلْفيَ فيه العلمُ كالنقش في الحَجَرْ
  وللسيد محمد صالح القزويني (المتوفى عام 1375 هـ) وهومن كبار خطباء كربلاء المقدسة وشعرائها العلماء :
الـعـلـم زيـنـتكم يــا مـعـشر iiالـبـشر      بـه رقـيت الـعلى فـارقوا عـلى iiاثرى
إنــي طـلـبت الـعلى جـدا iiومـجتهدا      ألا بـجـهدى سـأرقـى هـالـة iiالـقـمر
تـزيـنـوا بـفـنون الـعـلم فــى iiالـصـغر      العلم فى الصغر كالنقش فى الحجر
  نصيحة هامّة : وقد أثار الشيخ ابن إدريس نُكْتةً مهمّة ، فيها نصيحة هامّة للمُحدَثين من طلاب العلم الذين يشتغلون بالتحصيل وهم أحداث يافعون ، لكنّهم بفضل ما مهدَه لهم الأوّلون من وسائل التحصيل وأسباب الوصول إلى أفضل النتائج بأسهل سبيل ، قد يستدركون على مَنْ سبقَ من الأساتذة والعلماء والمحقّقين ما لم ينتبه إليه أحدهم ، أو زلّت فيه أقلامهم ، أو سَهتْ عنه أعيُنهم ، أو غفلت عنه أذهانهم ، فليس له أن يتبجّحَ ويغترّ ، أو يظنّ أن حظّه من العلم أوفر ، فقال الشيخ ابن إدريس في ذلك ما نصّه : ولا ينبغي ـ لمن استدرك على مَنْ سَلَفَ ، وسبق إلى بعض الأشياء ـ أنْ يرى لنفسه الفضل عليهم ، لأنّهم إنّما زلّوا ـ حيث زلّوا ـ لأجل أنّهم كدّوا أفكارهم ، وشغلوا زمانهم في غيره ، ثمّ صاروا إلى الشي الذي زلّوا فيه بقلوبٍ قد كلّتْ ، ونفوسٍ قد سَئِمتْ ، وأوقاتٍ ضيّقة ، ومن يأتي بعدَهم فقد استفاد منهم ما استخرجوه ، ووقف على ما أظهروه ، من غير كد ولا كُلْفةٍ ، وحصلتْ له بذلك رياضة ، واكتسب قوّةً ، فليس بِعَجَبٍ ـ إذا صار إلى حيثُ زَلّ فيه مَنْ تقدَمَ ، وهو موفورُ القِوى ، متّسعُ الزمان ، لم يلحقه مَلَل ، ولا خامرَه ضَجَر ـ أنْ يلحظ ما لم يلحظوه ، ويتأمّلَ ما لم يتأمّلوه ولذل زاد المتأخرون على المتقدّمين.
  ولهذا كثرت العلوم بكثرة الرجال ، واتّصال الزمان ، وامتداد الاَجال ، فربّما لم يُشبع القول المتقدّم في المسألة ، على ما أورده المتأخرون ، وإنْ كان ـ بحمد الله ـ بهم يُقتدى ، وعلى أمثلتهم يُحتذى ، غفر الله لهم ، ولنا ، ولجميع المؤمنين ، آمين ربّ العالمين ، السرائر ، لابن إدريس (6523 ـ 653) ومستطرفات السرائر (ص 166 ـ 167).

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 85 ـ

  ولا يُجْهدْ نَفْسَه جُهدا يُضْعِفُ النَفْسَ ، وينقطعُ عن العَمَلِ ، بل يستعملُ الرِفْقَ في ذلك فإنّ الرِفْقَ أصْل عظيم في جميع الأشياء (1).

25 ـ الهمّة العالية
  ولابُدّ لطالِب العلم من الهمّة العالية في العلم ، فإنّ المَرَْ يطير بِهمَتِه

**************************************************************
(1) وروى عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله : (الرفْقُ رأسُ الحكمة) رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق (ص 91) رقم 423.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (عليكم بالرفق ، فإنّه ما خالط شيئا إلا زانَه ، ولا فارقه إلا شانَه) ، أرسله في نزهة الناظر (ص 4) و (ص 14).
وقال عليّ عليه السلام من وصيّته لابنه الحسين الشهيدعليه السلام : (يا بُنيّ ، رأس العلم الرفق ، وآفته الخرق) رواها نزهة الناظر (ص 28).

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 86 ـ

  كالطيْرِ يطيرُ بجناحَيْه.
  فلابُدَ أنْ تكونَ همَتُه على حِفْظِ جميع الكُتُبِ ليُحصلَ البَعْضَ.
  فأمّا إذا كانَتْ له همَة ، ولم يكنْ له جِد ، أو كانَ له جد ولم تكُنْ له همَة عالية ، لا يحصل له إلا القليلُ من العلم.

26 ـ المثابَرة والدقّة
  وينبغي أنْ يَبْعَثَ نَفْسَه على التَحْصيلِ والجِد والمُواظَبةِ ، بِالتأملِ في فضائِلِ العُلوم ودَقائِقها وحَقائِقها (1).
  فإنَ العلم يَبْقى ، وغيرُه يَفْنى (2) فإنَه حَياة أَبَدِيّة.
  قيل : (العالِمونَ (لا يموتون) وإنْ ماتُوا فَهمْ أحْياء) (3).

**************************************************************
(1) كلمة (وحقائقها) وردت في بعض النسخ دون بعض.
(2) أضاف الزرنوجي هنا : كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام :
رَضِـيْنا قِـسْمة الـجبّار فينا      لـنـا عـلـم ولـلأعـداء iiمــالُ
فإنّ المالَ يفنى عن قريبٍ      وإنّ الـعـلمَ يـبقى لا iiيُـزالُ
وهو في الديوان (ص 85).
(3) كذا جاء القول في كتابنا ، وما بين القوسين من (ف ، و) فقط ، وزاد الخشاب في أوّله : ( المؤمنون ... ) ولم يذكره الزرنوجي ، إلا أنّه نقل بمعناه شعرا ، فقال : أنشدنا ظهير الدين المرغيناني شعرا ، فقال :
الجاهلونَ فموتى قبلَ موتهمُ      والـعالِمونَ وإنْ مـاتوا iiفـأحْياءُ
وفي حديث كميل بن زياد النخعي المشهور عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، المشهور في تفضيل العلم على المال ، قال : (العلم خير من المال : لأنّ المال تحرسُه ، والعلمُ يحرسُكَ ، والمالُ تُفنيه النفقةُ ، والعلم يزكو على الإنفاق ، والعلم حاكم والمال محكوم عليه ، مات خزّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ... ) ، رواه ابن عبد البرّ في جامعه (571) وقال : من قول عليّ عليه السلام هذا أخذ سابقُ البربري قوله :
مـوتُ الـتقيّ حـياة لا انـقطاع iiلـها      قد مات قوم وهم في الناس أحياء
أقول : ومن الشعر الشهير النسبة إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قوله :
مـا الـفضل إلا لأهـل العلم iiأنّهم      على الهدى لمن استهدى أدِلاّءُ
وقَـدْرُ كـلّ امْرِىٍ ما كان iiيُحسِنُه      ولـلـرِجال عـلى الأفـعال أسْـماءُ
وضِـدّ كـلّ امْـرِىٍ مـا كـانَ يجهلُه      والـجـاهلونَ لأهـل الـعلم iiأعْـداءُ
فَـفُـزْ بِـعـلمٍ ولا تـطـلب بـه iiبَـدَلا      فالناسُ مَوْتَى وأهل العلم iiأحْياءُ
وهو في الديوان (ص 16) ونقله ابن عبد البِرّ في جامعه (481) إلا البيت الأخير.

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 87 ـ

  وكفى بِلَذّةِ العلم داعِيا ـ لِلعاقِلِ ـ إلى تَحْصيله.

27 ـ الكَسَلْ وأسبابُه وعلاجُه
  وقد يتولّدُ الكَسَلُ من كثرة البَلْغَمِ والرطوبات (1).
  وطريق تقليله تقليلُ الطعام ، وذلك : لاِضنّ النسيانَ من كثرة البَلْغَمِ ، وكثرةُ البَلْغَمِ من كَثْرة شُرْبِ المأِ ، وكَثْرةُ شُرْبِ المأِ من كَثْرة الأكْلِ (2).

**************************************************************
(1) لاحظ الفقرة [53] .
(2) قال الزرنوجي هنا : قيل : (اتّفقَ سبعونَ نبيّا على أنّ كثرة النِسيان من كثرة البلغم) .

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 88 ـ

  والخبزُ اليابِسُ يقطع البَلْغَمَ والرّطوبة.
  وكذا أ كْلُ الزبيبِ ، ولا يُكْثر الأكْلَ منه ، حتّى لا يَحْتاجَ إلى شُرْب الماءِ ، فيزيدُ البَلْغمُ.
  والسِواكُ يُقَللُ البَلْغَمَ ، ويزيدُ في الحفظ ، والفَصاحَةِ.
  وكذا القَيُْ يُقلّلُ البَلْغَمَ والرطوبات.
  وطريقُ تقليلِ الأكلِ : التأملُ في منافعِ قلّة الأكلِ ، وهي : الصحةُ ، والعفّةُ ، وغيرُهما.
  والتأمُلُ في مَضار كثْرةُ الأكْلِ ، وهي : الأمراضُ وكلالةُ الطَبْعِ ، وقلّة الفِطنة (1).
  وقيل : (البِطْنَةُ تُذهب الفِطْنَةَ) (2).
  وينبغي أنْ يأكُلَ الأطعمةَ الدسْمةَ (3) ، ويُقَدمَ ـ في الأكْلِ ـ الألطفَ ،

**************************************************************
(1) قوله (وقلة الفطنة) لم يرد في (ب ، و ، ع).
(2) قال الماوردي : قد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : (إيّاكم والبطنةَ ، فإنّها مفسدة للدين ، مُورِثة للسُقْمِ ، مَكْسلة عن العبادة) ، أدب الدنيا والدين (ص 335).
وقال عليّ عليه السلام : (إنْ كُنْتَ بَطِنا ، فَعُدَ نفسك زَمِنا) ، أدب الدنيا والدين (ص 335).
(3) الظاهر أن أثر الأطعمة الدسمة في تقليل الأكل من جهة أنّها تصدمُ الاَكل فيمتنع من الأكل الأكثر ، ويحصل بذلك المطلوب.
وقد يُتصوّرُ أنْ أكل الأطعمة الدسمة يقتضي شرب المأ ، وقد ذكر الماتن في بداية هذه الفقرة أن كثرة شرب المأ يؤدي إلى كثرة البلغم وهو موجب للنسيان فيُقال : إنّما الغرضُ هنا الإرشاد إلى طريقٍ لتقليل الأكل ، وذلك يحصل بتناول الطعام الدسم ، فلو عارض ذلك عند شخص يغلب عليه البلغم ، فلابدّ له من أنْ يلتجى إلى طريقة اُخرى لتقليل الأكل ، فلاحظ.

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 89 ـ

  والأشهى.
  وأنْ لا يَسْعى في الأكْلِ والنوم إلا لغرض الطاعات ، كالصلاة ، والصوم ، وغيرهما.

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 90 ـ

الفصل الخامس : في بِدايةِ السبقِ (1) وقَدَرِه وتَرْتيبِه
28 ـ وَقْتُ الشروع

  ينبغي أنْ تكونَ بدايةُ السَبْق يومَ الأربعاء ، كما قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما من شي بُدِىَ في يوم الأربعاء إلاّ وقد تمَ) (2).

**************************************************************
(1) السَبْقُ : مصدر (سَبَقَ) قال الراغب في المفردات : أصله التقدّم في السَيْرِ ، ثم يتجوّز به في غيره من التقدم ، ويُستعارُ لإحراز الفضل والتبريز.
أقول : والمرادُ هنا (الدَرْسُ) ولعلّه من أجل كون الدرس منشأً لإحراز الفضل والرّفعة ، تسميةً للسبَب باسم المسبَب.
(2) قال الشيخ الشهيد الثاني : ( وروي في يوم الأربعاء خبر ... ) فأورد هذا الحديث ، لاحظ منية المريد (ص 266).
وقال الزرنوجي : (كان اُستاذنا شيخ الإسلام برهان الدين يروي في ذلك حديثا فيستدلّ به ، ويقول : ... ) وأورد هذا الحديث.
وقال الزرنوجي ـ أيضا ـ : وهكذا كان يفعل أبو حنيفة ، وكان يروي هذا الحديث عن اُستاذه الشيخ الإمام الأجلّ قوام الدين أحمد بن عبد الرشيد.

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 91 ـ

  قيل : كل عملٍ من أَعمالِ الخير لابُدّ أنْ يوقَعَ يَوْمَ الأربعاءِ (1) وهذا ، لأنّ يومَ الأربعاء يوم خُلِقَ فيه النُورُ (2) ، وهو يوم نحْس فى حق الكُفّارِ ، فيكونُ مُبارَكا للمؤمِنينَ (3).

**************************************************************
(1) كذا في النسخ إلاّ (أ) وبعض النسخ ، فلم يرد من أوّل السطر إلى هنا فيهما.
(2) جاءفي الحديث (1854) من رياض الصالحين للنووي : (خلق النور يوم الأربعاء انظر كنوز الباحثين ، نور : (ص 798) ويوم : (845).
وقد روى ابن طاوس عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام حديثا فيه : ( أما الأربعاء فيوم خلقت فيه النار ... ) لاحظ الدروع الواقية (ص 58) وانظر الهامش التالي.
(3) روى ابن طاوس في الدروع الواقية (ص 58) الفصل (8) عن الإمام الصادق عليه السلام انّه سئل عن سبب الصوم يوم الأربعاءفي وسط الشهر ? فقال : (لأنّه لم يعذّب قوم قطّ إلا في أربعاء في وسط الشهر ، فنردّ عنا نحسه).
وروى عن كتاب (علل الشريعة) للحسين بن عليّ بن شيبان القزويني ، عن الإمام الرضا عليه السلام قال : (الأربعاء يوم نحسٍ مستمرّ ، لأنّه أوّل الأيام وآخر الأيام التي قال الله عزّوجلّ : (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَامٍ حُسُوْما) ، [الحاقّة 96 ـ آية 7] وروى صدره ابن عدي في الكامل (2381) في ترجمة (ابراهيم بن أبي حية ، أبو إسماعيل المكّي).
وروى الزمخشري في (ربيع الأبرار) (831) حديثا نصّه : (آخر أربعاء في الشهر يوم نحس).
وظاهر هذه الأخبار كون نحوسة الأربعاء عامّا للمؤمن وغيره ، وأنّ ورود العذاب فيه على غير المؤمنين علامة لنحوسته العامّة ، وهذا يُنافي كونه مباركا ويبدو لي ـ في الخروج عن هذا الدخل ـ أمران :
الأوّل : أنّ النحوسة العامّة إنّما هي في خصوص أربعاء وسط الشهر وآخره كما هو صريح الأخبار ، فإنّها قيدت بذلك ، وقد ورد في حديث من مسانيد الرضا عليه السلام مرفوع إلى أمير المؤمنين فيه أنّ رجلا قام إليه فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن يوم الأربعاء وتطيرنا منه ، وثقله ، وأي يومٍ هو ?
فقال عليه السلام : آخر أربعاء في الشهور ، وهو المحاق ، وهويوم قتلِ قابيل هابيل أخاه ، ويوم الأربعاء اُلقي إبراهيم عليه السلام في النار ... إلى آخر الحديث وهو طويل ، ذكر فيه أربعا وعشرين حادثةً وقعت في يوم الأربعاء ، أورد الحديث الصدوق في عيون أخبار الرضا 7 (2401) ح 1 ووزّع فقراته في علل الشرائع (ص 493) باب 244 ح 1 وغيرها ، وفي الخصال (ص 318 ـ 319) ح 102 و 103 وغيرها ، وفي البحار عن العيون والعلل (7510) ح 1.
الثاني : أنّ نحوسة الأربعاء إنّما تندفع عن المؤمن بإقدامه على الأعمال الصالحة ، ولذا أضاف الإمام بعد حكمه على الأربعاء بأنّه خلقت فيه النار ، فقال : (والصومُ جُنّة) أي ندفع بالصوم نحوسة هذا اليوم ، فيكون الابتداء بالدرس فيه جُنّة يدفع بها ما في هذا اليوم ، ويرد به نحسه ، كما يُرد بالصوم.

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 92 ـ

29 ـ مقدار الدرس وتكراره
  وأمّا قَدَرُ السَبْقِ في الابتداء : فينبغي أنْ يكونَ قَدَرُ السبقِ للمُبْتَدِىِ قَدَرَ ما يُمْكِنُ ضَبْطُه بالإعادَةِ مرّتينِ ، بالرِفْقِ والتَدْريجِ.
  فأمّا إذا طالَ السبقُ في الابتداء ، واحْتاجَ إلى الإعادة عشر مرّاتٍ ، فهو في الانتهاء ـ أيضا ـ كذلك ، لأنّه يعتاد ذلك ، ولا يتركُ تلك العادةَ إلاّ

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 93 ـ

  بجُهدٍ كثير.
  وقد قيلَ : (الدَرْسُ (1) حَرْف ، والتكرارُ ألْف).

30 ـ الشروع بالمتون الصغار
  وينبغي أنْ يبتدىَ بشيٍ يكونُ أقربَ إلى فهمه.
  والأساتيذُ كانوا يختارونَ للمبتدىء صِغارَ المُتونِ المبسوطةِ (2) ، لاِنّها أقْربُ إلى الفهم ، والضَبْطِ.

31 ـ كتابةُ الدرس
  وينبغي أنْ يُعَلّقَ (3) السبق ، بعدَ الضَبْطِ والإعادة كثيرا.
  ولا يكتب المتعلّمُ شيئا لا يفهمُه ، فإنّه يورِثُ كلالةَ الطبْعِ ، ويُذْهبُ الفِطْنةَ ، ويضيّعُ أوقاته.

**************************************************************
(1) في الخشاب و (ب ، د) : السبق ، بدل (الدرس).
(2) في أكثر النسخ : (صغارات المبسوط) ، وفي (ع) المبسوطة ، وما أثبتناه تلفيق من عدّة نسخٍ ، والمراد : المتون الصغيرة الواضحة العبارة ، لما فيها من البسط والتفصيل.
(3) كذا في الزرنوجي وبعض النسخ ، وفي بعضها : يتعلّق ، وفي آخر : يعوّل ، وفي الخشاب : يعقل وفي (ف ، و) يتعقّل.
والتعليق : الكتابة على الهوامش ، ومنه سُمّي (خطّ التعليق) ، وقد يُطلق على مُطلق كتابة الشي واستنساخه ، ونقله ، وأطلقه بعض المؤلّفين كذلك على كتابة ما ألّفوه.

آدَابُ المُتَعَلِّمِينَ   ـ 94 ـ

32 ـ فهم الدرس
  وينبغي أنْ يجتهدَ في الفهم عن الاُستاذ ، أو بالتأملِ ، والتفكرِ ، وكثرة التكْرار ، فإنّه إذا قَلَ السبقُ وكَثُرَ التكْرار والتأمل يُدْركُ ويُفْهمُ.
  وقيل : (حِفْظُ حرفينِ خَيْر من سماع وَرَقين (1) (وفَهمُ حرفينِ خَيْر من حِفْظ وِقْرين) (2).

**************************************************************
(1) في الزرنوجي : وِقْريْنِ ، بدل (ورقين).
(2) ما بين القوسين ورد في الزرنوجي ونسخة (أ ، و ، د ، ع) لكن في هذه : ورقين هنا.
وقد أثبتنا (ورقين) في الموضع الأوّل ، و (وِقرين) في الموضع الثاني ، لِحاظا للسجْع ، فإنّه مع اختلاف الكلمتين أبْدَعُ ، وقد جأ القول في (ب) كما أثبتناه.
والوِقْر : الحِمْل الثقيل.
وقد ورد التأكيد في الأحاديث الشريفة على معنى تقديم الفهم على مجرّد الرواية والجمع : منها قول الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام : (خَبَر تدريه خَيْر من ألْفٍ ترويه).
وقوله عليه السلام : (عليكم بالدرايات لا بالروايات).
وقال عليه السلام : (رواة الكتاب كثير ، ورعاته قليل ، فكم من مستنسخٍ للحديث مُسْتَغِشٍّ للكتاب ، والعلماء تجزيهم الدراية ، والجهال تجزيهم الرواية).
رواها الشيخ ابن إدريس الحليّ في مستطرفات السرائر (ص 149 ـ 150) نقلا عن كتاب (اُنس العالم) للصفواني ، وروى الخطيب البغداديّ بإسناده عن عليّ بن موسى الرضا عن ابيه عن جدّه عن اَبائه عليهم السلام انّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( كونوا دراةً ولاتكونوا رواةً ، حديث تعرفون فقهه خير من الف حديثٍ تروونه ) كتاب نصيحة اهل الحديث للخطيب (ص 4 ـ 125).
وفى حلية الأولياء لأبي نعيم (ج ص ) : عن ابن مسعود مرفوعاً :( كونوا للعلم رعاةً ولا تكونوا رواةً ) لاحظ فيض القدير (575) الحديث 6434.
وروى الماوردي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله : (همَةُ السفهأ الرواية وهمّةُ العلماء الرعاية) ، أدب الدنيا والدين (ص 65).
وانظر جامع بيان العلم ، لابن عبد البرّ (1272 وما بعدها) وخاصة الصفحات (131 ـ 132) فقد نقل أشعارا منظومة منها قول عمّار الكلبي :
إنّ الرواةَ على جهلٍ بما iiحملوا      مثل الجمال عليها يُحمل الودعُ
لا الودع ينفعه حمل الجمال iiله      ولا الـجمال بـحمل الودع iiتنتفعُ