تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط البويهي

الدكتور تحسين حميد مجيد

الزنج وتدميرهم لمدينة البصرة
القرامطة
البريديون

   يعتبر مقتل المتوكل على يد الجند الاتراك في سامراء بداية لضعف الخلافة العباسية من الناحية السياسية ، ومؤشراً لنهاية الخلفاء العباسيين الاوائل الاقوياء .
   فقد اصطلح المؤرخون على تسمية الفترة التي اعقبت مقتل المتوكل بفترة التسع السنوات ، او فترة الفوضى العسكرية ( 247 هـ ـ 256 هـ ) (1) وكان من اثر ذلك ظهور المتغلبين من امراء الاطراف ، ومحاولتهم الانفصال عن الحكومة المركزية ، بعد ان وجدوا الفرصة مواتية بهم ، بسبب انشغال الخلفاء في هذا الصراع .
   كما اصبح الجو ملائماً للرجال الطموحين المغامرين ان يجربوا حظهم ، ويدلوا بدلوهم ، لعلهم يفوزون بالسلطان .
   وفسحت المجال للتيارات والحركات الاجتماعية المكبوتة ان تظهر بشكل عنيف (2) كما حصل في حركتي الزنج والقرامطة .
   ولعل من اكثر المدن والمناطق التابعة للدولة العباسية التي تأثرت بهذه الفوضى التي اصابت الحكومة المركزية هي البصرة وما جاورها .

**************************************************************
(1) انظر : الطبري وابن الاثير في احداث سنة 247 هـ ـ 256 هـ .
(2) الدوري . دراسات في العصور العباسية المتأخرة ص 59 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 2 ـ
   فالبصرة التي كانت من امهات الدول العربية الاسلامية ، وثاني المدن الكبرى في العراق ، واحد الامصار السبعة (3) ، والتي لعبت دوراً مميزاً وخطيراً في الحياة السياسية والفكرية منذ تأسيسها ايام الخليفة عمر بن الخطاب ( رض ) ، وطيلة العهد الاموي والعصر العباسي الاول ، تصاب في القرن الثالث الهجري ، وما بعده بأفدح الاضرار على يد الزنج والقرامطة .
   ولم تعد تلك المدينة الزاهرة التي كانت تحتل مكان الصدارة بين المدائن .
   واننا حينما نتناول هاتين الحركتين ، واعمال التدمير التي رافقتهما سوف نقدر مدى الاضرار الفادحة التي اصابت هذه المدينة المنكوبة .

الزنج وتدميرهم لمدينة البصرة
   تعتبر حركة الزنج من الحركات الخطيرة التي هددت كيان الدولة العباسية في الصميم ، وشغلتها نحواً من اربعة عشر عاماً ، وكانت البصرة مركز الثقل في هذا التدمير الحضاري ، والابادة البشرية .
   ويعود السبب في نشوب هذه الحركة في منطقة البصرة بالذات ، الى ظهور الملكيات الفردية الكبيرة وامتلاك الاراضي الشاسعة ، بالشراء والاستصلاح ، واستخدام الايدي الرخيصة في زراعتها واستصلاحها من قبل الزنوج المجلوبين من شرق افريقا .
   فقد شهد القرن الثالث هجري ـ نتيجة لتحول المجتمع من طور زراعي الى تجاري ـ نشوء طبقة من الاثرياء ، يمتلكون رؤوس اموال عظيمة ، اخذت توضف اموالها في الزراعة ، وتستخدم الرقيق ( الزنوج ) في سهول البصرة لكسح السباخ ، وجعل الارض صالحة ، هذا فضلاً عن استخدامهم في استخراج الدبس وجني التمور ، والذين اطلق عليهم بالدباسين والتمارين (4) ، ومن الطبيعي ان تكون حالة هؤلاء

**************************************************************
(3) صالح العلي : تنظيمات البصرة ( المقدمة ) ص 1 .
(4) الدوري . الدراسات في العصور العباسية المتأخرة 75 ـ 76 .
علي : ثورة الزنج 73 ـ 74 ، 78 ـ 79 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 3 ـ
الزنوج ـ وهم ارقاء يشتغلون بلا مقابل ـ الاقتصادية والاجتماعية سيئة ، لذلك فقد كانوا مهيئين للانضمام الى اي شخص او جماعة تنميهم بالوعود لتحسين حالتهم ، ومن هنا نجد ان علي بن محمد الذي قاد حركتهم ـ وهو من اصل فارسي انتحل النسب العلوي (5) ـ قد شخص مشاكلهم ، وعرف مواطن الضعف فيهم ، فكان له في الزنج مادة صالحة للعمل السياسي ، بعد اقناعهم ، عن طريق الوعود المعسولة والاماني البراقة ـ بأن الثورة هي طريقهم الوحيد لتحسين احوالهم (6) ، وذكر لهم ما هم عليه من سوء الحال ( وانه يريد ان يرفع اقدارهم ، ويملكهم العبيد والاموال والمنازل ، ويبلغ بهم اعلى الامور ) (7) ثم حلف لهم على ذلك .
   فساروا تحت لوائه وهم يحملون بهذه الوعود الكاذبة ، مدفوعين لغرض السلب والنهب والانتقام من اسيادهم .
   وفي الوقت الذي كانت الخلافة تخوض صراعاً مريراً مع الجند الاتراك في سامراء ، ونتيجة لانقسام اهل البصرة على انفسهم بين حزبيين متنافرين من بلالية وسعدية ، استطاع الزنج في غفلة من الحكومة المركزية ، وضعف حامية البصرة النظامية ، ان يدخلوا مدينة البصرة بعد ان دافع البصريون عن مدينتهم ، دفاعاً مجيداً على مستوى الجيش النظامي الذي يقوده عامل الخليفة ، وعلى الصعيد الشعبي ، الذي كان يقودهم احد اشرافها ، وهو ابراهيم بن محمد الهاشمي المعروف بـ ( برية ) (8) .
   غير ان ذلك الدفاع لم يغن شيئاً بسبب تفوق الزنج في العدد ، حيث لم يبق من حامية البصرة النظامية ـ بعد المعارك الطاحنة التي خاضتها مع الزنج خارج

**************************************************************
(5) يقول بن الجوزي ج 5 ص 70 ان صاحب الزنج كان فارسي ، واسمه الاصلي ( بهبوذ ) من ورزنين ، قرية من قرى الري .
انظر كذلك المسعودي \ مروج ج4 ص 108 ، الطبري ج 12 ص 1743 ، ابن تغري بردي \ النجوم الزاهرة ج 3 ص48 .
(6) السامر \ ثورة الزنج 188 .
(7) الطبري ج 12 ص 1750 ـ 1751 .
(8) المصدر السابق ج 12 ص 1849 ـ 1851 ، ابن ابي الحديد \ شرح نهج البلاغة ج 2 ص 317 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 4 ـ
البصرة ـ الا العدد القليل ، اما جموع اهل البصرة التي خرجت للقتال ، فلم تكن جيوشاً نظامية مدربة .
ومع ذلك فقد خرج الى كل فرقة زنجية من خف من ضعفاء اهل البصرة ، وقد جهدهم الجوع واضرهم الحصار ، ( فلم يغن قليل من اهل البصرة الى الجموع الخبيث شيئاً ) فدخلت خيول الزنج المدينة من جهات ثلاث : من ناحية بني سعد والمربد والخريبة (9) .
   وكانت مجزرة رهيبة ابادوا فيها معظم سكان البصرة ، وخربوا واحرقوا معظم دورها ومنشأتها الحضارية .
   يذكر الطبري ـ وهو المؤرخ المعاصر للاحداث ـ نقلاً عن شهود عيان : ان علي بن ابان ( احد قادة الزنج ) حين دخل البصرة ، اقبل يقتل الناس ، ويحرق المنازل والاسواق بالنار ، ثم دعا اهلها للاجتماع في احدى ساحات البصرة ليعطيهم الامان ، فلما حضر البصريون ، وقد ملاؤا الرحاب انتهز الفرصة ، فأمر بأخذ السكك والطرق والدروب لئلا يتفرقوا ، وغدر بهم ، اوامر اصحابه بقتلهم ـ فقتل كل من شهد ذلك المشهد الا الشاذ ويذكر الطبري عن محمد بن سمعان ـ وهو احد البصريين الذي نجوا من القتل ـ قال : كنت يومئذ بالبصرة ، فمضيت مبادراً الى منزلي ، فلقيت اهل البصرة هاربين يدعون بالويل والثبور ، فأخذ الناس السيف ، قال : فو الله اني لأسمع تشهدهم وضجيجهم وهم يقتلون وقد ارتفعت اصواتهم بالتشهد ، حتى سمعت بالطفاوة ، وهو على بعد من الموضع كانوا به (10).
   ولما اتى على الجميع اقبل الزنج على قتل من اصابوا ، ودخل احد قادة الزنج وهو ( علي بن ابان ) يومئذ فأحرق المسجد الجامع ، وراح الى الكلأ ـ وهو ميناء البصرة ـ فأحرقه من الحبل الى الجسر ، والنار في ذلك تأخذ كل شيء مرت به ، من انسان وبهيمة ومتاع (11) .

**************************************************************
(9) الطبري ج 12 ص 1851 ـ 1853 ، شرح نهج البلاغة ج 2 ص 317 .
(10) الطبري ج 12 ص 1855 ، شرح نهج البلاغة ج 2 ص 317 .
(11) المصدرين السابقين ج 12 ص 1185 ، ج 2 ص 317 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 5 ـ
   وقد الحَّ الزنج عند دخولهم البصرة في طلب الاموال المخبأة ، فمن وجدوه ساقوه الى يحيى بن محمد ـ احد قادة الزنج ـ وهو يومئذ نازل ببعض سكك البصرة ، فمن كان ذا مال ، قرره حتى يستخرج ماله ويقتله ، ومن كان مملقاً قتله معجلاً .
   وفي سبيل استصفاء جميع اموال اهل البصرة عمد صاحب الزنج الى استخلاف احد اتباعه المسمى ( شبل ) ليسكن اهل البصرة ، حتى يظهر المستخفي ، ومن عرف بكثرة المال ، فلما ظهروا ، اخذوا بالدلالة على ما دفنوا واخفوا من اموالهم ، فكان لا يخلوا في يوم من الايام من جملة ، يؤتى بهم ممن عرف منم باليسار فيستنظف ما عنده ويقتله ، ومن ظهرت خلته عاجلة بالقتل ، حتى لم يدع احداً ظهر له الا اتى عليه وهرب الناس على وجوههم (12) ، واستخفى من سلم من اهل البصرة في آبار الدور ، فكانوا يظهرون ليلاً فيطلبون الكلاب فيذبحونها ، ويأكلونها ، والفأر والسناير فافنوها حتى لم يقدروا على شيء منها (13) .
   اما من بقي من الاحياء فقد استرق صاحب الزنج معظمهم ، ووزعهم على جنده ، حتى بلغ الامر انه كان ينادي فيه على المرأة من اشراف البصرة ، فكانت الجارية تباع منهم بدرهمين وبثلاثة دراهم ، واخذ كل زنجي منهم العشرين والثلاثين امرأة (14) .
   وبعد ان انتهى صاحب الزنج من تدمير المدينة ، انسحب الى موقعه الحصين على نهر ابي الخصيب الذي اطلق عليه ( المختارة ) ذلك ان احتلال البصرة احتلالاً دائماً يعتبر امراً مستحيلاً ، خصوصاً وان الخلافة العباسية سوف تحاول استرجاعها مهما كلف الامر .
   وهذا ما حدث فعلاً ، فقد استطاع جيش ( محمدين المولد ) الذي ارسله الخليفة المعتمد على جناح السرعة اثر النكبة ، ان يستعيد البصرة والابلة ، ويدخلهما

**************************************************************
(12) الطبري ج 12 ص 1855 ـ 1857 ، شرح نهج البلاغة ج 2 ص 317 .
(13) شرح نهج البلاغة ج 2 ص 318 .
(14) المصدر السابق ص 318 ـ 319 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 6 ـ
دون مقاومة تذكر (15) ، وقد عاد معه بعض من فر من اهل البصرة ، ومنهم ( بريه ) الهاشمي فنزلوا البصرة ، واجتمع الى ( بريه ) من اهل البصرة خلق كثير ممن كان قد هرب (16) ، ولكنهم وجدوا مدينتهم العامرة قد اصبحت خراباً ، حتى لم يجدوا فيها ـ على حد قول اليعقوبي (17) ـ منزلاً يسكن .
   وبالرغم من ان الجيوش العباسية استطاعت ان تسترجع معظم المدن والقرى التي احتلها الزنج ، الا انهم اخفقوا في القضاء على حركتهم ، الا بعد طول اناة ، وصبر طويل ، اكتسب خلالها الجند العباسي خبرة واسعة ، ومعرفة جيدة للمنطقة التي يتحصنون فيها لان الرقعة الجغرافية التي تواجد فيها الزنج ـ بما فيها من انهار واهوار وادغال ـ جعل حركة الجيوش المنظمة ـ ومعظمهم من الفرسان ـ امراً عسيراً ، وجعل اقامة وسائل الدفاع فيها امراً سهلاً ، وازالتها امراً صعباً (18) .
   لذلك فقد كان مصير معظم الجيوش العباسية الاخفاق ، الواحدة بعد الاخرى ، حتى تسلم القيادة العامة رجل من البيت العباسي ، وهو الموفق الذي عرف بالحزم والشجاعة (19) .
   قاد الموفق ( وهو اخو الخليفة المعتمد وولي عهده ) جيشاً ضخماً ، وخرج من سامراء ( التي كانت العاصمة آنذاك ) قاصداً البصرة لحرب الزنج ، فمر بمدينة بغداد ، فشاهده المؤرخ الطبري ـ وهو من سكنة بغداد ـ فأظهر اعجابه ودهشته بهذا الجيش العظيم ، الذي يقوده الموفق ، وقال معلقاً : ( فعاينت انا الجيش وقد اجتازوا بباب الطاق ( وهي احدى المحلات الشهيرة ) وانا يومئذ نازل هناك ، فسمعت جماعة من مشايخ اهل بغداد ، يقولون قد رأينا جيوشاً كبيرة من الخلفاء ،

**************************************************************
(15) الطبري ج 12 ص 1857 .
(16) الطبري ج 12 ص 1857 ـ 1858 .
(17) تاريخ اليعقوبي ج 3 ص 240 .
(18) الدوري \ دراسات ص 80 .
(19) الطبري ج 12 ص 1842 ، شرح نهج البلاغة ج 2 ص 318 ـ 319 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 7 ـ
فما رأينا مثل هذا الجيش ، احسن عدة ، واكمل سلاحاً وعتاداً ، واكثر عدداً وجمعاً ) (20) .
   وقد انظم الى هذا الجيش عدد كبير من الجمهور البغدادي ، غير ان هذا الجيش الكبير لم يستطع ان يحوز على انتصارات حاسمة على الزنج ، فرجع الموفق الى واسط ، ومنها الى سامراء ، دون ان ينتهي من الحركة ، وذلك لاسباب قاهرة استدعت وجوده في سامراء (21) .
   ولكن وضع الموفق بألله قد تحسن في سنة 265 هـ وما بعدها ، فتفرغ كلياً لحرب الزنج ، فأرسل ابنه ابو العباس ( وهو الخليفة المعتضد فيما بعد ) لحربهم سنة 267 هـ في جيش كبير تعداده ( عشرة آلاف رجل في احسن زي واكمل عدة ) (22) مع اسطول نهري كبير ، ثم تبعه الموفق بجيش الخلافة الرئيس والتقى بابنه ابو العباس (23) في منطقة واسط ، وكان قد حاز قبل مقدمه على انتصارات باهرة على الزنج ، والتي تعتبر أولى الانتصارات الحقيقية عليهم (24) ، فدخلا مدينتي الزنج المنيعة (25) والمنصورة (26) ، بعدما سحقا جيوش الزنج في معركتين حاسمتين .
   ثم تتبعها فلولهم المهزومة ، حتى وصلا الى المدينة صاحب الزنج ( المختارة ) التي بناها على نهر ابي الخصيب .
   ومذ هذا الوقت اقتصر الزنج للدفاع عن مدينتهم المختارة ، وعلى المجاورة لنهر ابي الخصيب ، واصبحت الحرب تدور حولها مدة ثلاث سنوات ( من سنة 267 هـ \ 270 هـ ) في رقعة جغرافية ضيقة نسبياً ، ولكنها شهدت حروباً طاحنة تكبد فيها الفريقان خسائر كبيرة .

**************************************************************
(20) الطبري ج 12 ص 1862 .
(21) الطبري ج 12 ص 1862 ـ 1874 .
(22) المصدر السابق ج 12 ص 1842 .
(23) المصدر السابق ج 12 ص 1961 ـ 1962 .
(24) المصدرالسابق ج 13 ص 1949 ـ 1950 ، 1961 .
(25) المصدر السابق ج 13 ص 1962 ـ 1963 .
(26) المصدر السابق ج 13 ص 1968 ـ 1971 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 8 ـ
   وقد قدر عدد جند الخلافة بـ 50 الف جندي نظامي غير المتطوعين ، اما الزنج فقد بلغ نحو من 300 الف .
   يقول الطبري : ( ان الموفق حين اشرف على مدينة الخبيث التي سماها المختارة من نهر ابي الخصيب ، وتأملها رأى من منعتها وحصانتها بالسور والخنادق المحيطة بها ، وما عور من الطرق المؤدية اليها ، وما اعد من المجانيق والعرادات والفسي وسائر الالآت على سورها ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان ، ورأى من كثرة عدد مقاتلتهم واجتماعهم ما استغلظ امره ) (27) .
   ورأى الموفق حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة جمعه ما علم انه لابد له من الصبر عليه ومحاصرته وتفريق اصحابه عنه ، ببذل الامان لهم ، والاحسان الى من اناب منهم (28) .
   وفي سبيل الوصول الى هذه الغاية ، نودي على الزنج بأن الامان مبسوط للناس اسودهم واحمرهم الا الخبيث ، فمالت قلوب اصحاب المارق بالرهبة والطمع فيما وعدهم من احسانه وعفوه ، فأتاهم جمع كثير (29) ، وظلت حوادث الاستئمان تتكرر وباعداد كبيرة طيلة الثلاث سنوات (30) ، وبنى الموفق بازاء مدينة صاحب الزنج مدينة اطلق عليها ( الموفقية ) وكتب الى عماله في النواحي في حمل الاموال الى هذه المدينة بدلاً من سامراء او بغداد ، كما هو المعهود سابقاً ، واتخذ فيها داراً لضرب النقود ليوزعها على جنده .
   ووردت اليه المير متتابعة ، يتلو بعضها بعضاً وجهز التجار صنوف التجارات والمتجهزون من كل بلد ، ووردتها مراكب البحر ، فجمعت مدينة الموفقية جميع المرافق ، وسيق اليها صنوف المنافع ، حتى كان ساكنوها لا يفتقدون شيئاً مما يوجد في الامصار العظيمة القديمة (31) .

**************************************************************
(27) الطبري ج 13 ص 1982 ـ 1983 .
(28) المصدر السابق ج 13 ص 1988 .
(29) المصدر السابق ج 13 ص 1987 ، 1989 .
(30) المصدر السابق ج 13 ص 1987 وما بعدها .
(31) الطبري ج 13 ص 1989 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 9 ـ
   وحاول الموفق احكام الحصار الاقتصادي على الزنج في البر والبحر والنهر (32) .
   ثم استمر في مهاجمة ( المختارة ) والتوغل فيها دون احتلالها ، في الوقت الذي استمر فيه استئمان الزنج ، فيتناقص عددهم ، في حين كان جيش الموفق يزداد باستمرار ، بانضمام فرق جديدة اليه من ارجاء العالم العربي الاسلامي .
   ثم كان الهجوم العام الشامل في السنة الثالثة على شرق نهر ابي الخصيب وغربه 27 محرم سنة 270 هـ الذي تم فيه اقتحام مدينة المختارة واحتلالها وتمزيق جموع الزنج نهائياً (33) .
   فلما جيء برأس صاحب الزنج الى الموفق نصبه بين يديه على قناة في شذاة ( نوع من السفن ) واخترق به نهر ابي الخصيب ، والناس مزدحمون على ضفتي النهر ينظرون الى رأس الخبيث ، حتى وافى شط العرب (34) .
   لم تأخذ الموفق نشوة النصر ـ بالرغم مما حققه من انتصار ـ ولم يتعجل الرجوع الى سامراء او بغداد حيث مقر ملكه ، بالرغم من غيابه عنهما مدة ثلاث سنوات ، وانما اكتفى بتوجيه ابنه ابي العباس الذي شاركه هذا الانتصار العظيم الى بغداد بجزء كبير من جند الخلافة ( في احسن زي واكمل عدة ) وهو يحمل رأس صاحب الزنج بين يديه مرفوعاً على قناة (35) ، حيث استقبل بحفاوة في معظم المدن والقرى التي مر بها من البصرة حتى دخوله بغداد .
   وكان دخول ابي العباس برأس الخبيث صاحب الزنج الى بغداد من الايام الخالدة التي شهدتها بغداد ، حيث تجمع الجمهور البغدادي بمشاهدة الجيش العباسي المنتصر ، وقد زينت له الطرق وعقدت له قباب الزينة (36) .

**************************************************************
(32) الدوري \ دراسات ص 100 .
(33) الطبري ج 13 ص 2093 .
(34) المصدر السابق ج 13 ص 2093 .
(35) المصدر السابق ج 13 ص 2097 ـ 2098 .
(36) المسعودي \ التنبيه والاشراف ص 319 .
ارجوزة ابن المعتز \ ديوانه ص 486 ، السيوطي \ تاريخ الخلفاء ص 364 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 10 ـ
   اما الموفق فلم يلبث ان نظم امور المناطق المنكوبة والمخربة من قبل الزنج وعمل على اعادة الحياة الى مجراها الطبيعي ، فأمر ( ان يكتب الى امصار الاسلام بالنداء في اهل البصرة والابلة وكور دجلة ، واهل الاحواز وكورها ، واهل واسط وما حولها مما دخله الزنج بقتل الفاسق ، وان يؤمروا بالرجوع الى اوطانهم ، ففعل ذلك ، فسارع الناس الى ما امروا به وقدموا مدينة الموفقية من جميع النواحي ، واقام الموفق بعد ذلك بالموفقية ليزداد الناس بمقامه امناً وايناساً ) (37) .
وعين الولاة والقضاة الموثوق بعدالتهم قبل ان يعود الى بغداد عودة الظافر المنتصر .
   فولى البصرة والابلة وكور دجلة رجلاً من قواده ، كان قد حمد مذهبه ، ووقف على حسن سيرته ، فأمره بالانتقال الى البصرة والمقام بها (38) ، بدلاً من تعين نائب له فيها ، لان من التقاليد التي شاعت في ادارة الاقاليم العباسية آنذاك ، ان لا يقيم القادة الكبار في الاقاليم التي يتولوها ، وانما يفضلون البقاء في سامراء او بغداد ويبعثون اليها من ينوب عنهم في ادارتها .
   وولى الموفق قضاء البصرة والابلة وكور دجلة واوسط محمد بن حمّاد (39) ، وهو من اسرة بصرية توارثت القضاء فيها لمدة طولية .
   والحقيقة ان حركة الزنج بالرغم من اخمادها ، الا ان اثارها بقيت ماثلة للعيان لفترة طويلة ، فقد تركت وراءها اثاراً من التدمير والتخريب ذهبت ضحيتها مدينة عرقية كمدينة البصرة ، فقد تعطلت الزراعة في بقعة ترويها المياه بسخاء لا نظير له .
   فقد جاء عن الاصطخري (40) ان انهار البصرة عدت ايام بلال بن ابي بردة فزادت على مائة الف نهر وعشرين الف تجري فيها الزواريق .

**************************************************************
(37) الطبري ج 13 ص 2097 .
(38) المصدر السابق ج 13 ص 2097 .
(39) الطبري ج 13 ص 2097 .
(40) الاصطخري \ مسالك الممالك ص 80 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 11 ـ
   ومهما بولغ في عدد هذه الانهار ، فهو يعطي فكرة خصبة على جودة الري في هذه المنطقة ، ولا عجب بعدها اذ ( كانت بساتين نهر الابلة اجدى جنان الدنيا الاربع ) (41) ، وانه كانت تقوم على حافتي نهر الابلة قصور وبساتين متصلة كأنها بستان واحد قد مدت على خيط واحد ، ولكن هذه البساتين والجنان ذوت في نيران الزنج التي التهمت المدينة ، وبساتينها (42) .
   هذا فضلاً من ان معظم سكان منطقة البصرة قد فروا من وجه الزنج وتركوا اراضيهم ، والتجأوا الى مدينة بغداد التي بدات تضيق بالسكان المهاجرين ، ولم يعودوا الى ارضهم ومدينتهم الا بعد ان وجه اليهم الموفق نداءه الشهير يطلب منهم العودة ويبشرهم بمقتل صاحب الزنج (43) .
   ان ما اصاب الزراعة قد يهون امام الضرر الفادح الذي الم بالتجارة ، فقد تعطلت المواصلات النهرية والبحرية نحواً من عشر سنين .
   اخرب ميناء البصرة (الكلأ) (44) وميناء الابلة (45) ، الذي يقع على شط العرب في زاوية الخليج على بعد اربع ساعات من البصرة القديمة .
   وبذلك اضرّ بالتجارة الواردة الى العراق عن طريق البحر ضرراً بالغاً ، فالبصرة التي هي ( عين العراق ) ومرفؤها الكبير كان المركز الرئيس للتجارة الشرقية الزاهرة ، وذلك مع الهند وسيلان وسومطره وكمبوديا والصين ، وكانت البصرة ايضاً مركزاً لخط بحري آخر مهم ، وهو الذي يدور حول الجزيرة العربية عبر المحيط الهندي والبحر الاحمر ، ويتفرع منه خط يذهب الى افريقية الشرقية (46) .
   كما ان البصرة كانت مجمع التجار والاثرياء الذين يمتلكون ثروات طائلة وقعت معظم اموالهم في قبضة الزنج ، لان نهب المدينة والحصول على كان

**************************************************************
(41) لسترنج \ بلدان ص 67 .
(42) احمد علي \ ثورة الزنج ص 102 .
(43) الطبري ج 13 ص 2097 .
(44) المصدر السابق ج 12 ص 1855 .
(45) المصدر السابق ج 12 ص 1836 ـ 1837 .
(46) علي \ ثورة الزنج ص 103 ـ 104 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 12 ـ
الهدف الرئيس من دخولهم البصرة ، ولم تسلم من الاموال حتى المخبأة والمدفونة في الارض والحيطان .
   لذلك نجد ان الزنج حين دخلوا البصرة كان يلحون في طلب الاموال المخبأة فمن عثروا عليه ، قرروه حتى يتعرف بأمواله المخبأة ثم يقتلون (47) .
   وقد ذهب ضحية الزنج جلة من الاعيان والادباء والمحدثين والعلماء ، الذين كانت البصرة تزخر بهم آنذاك ، تذكر المراجع منهم : ابا سعيد الاشجع ، وبريد بن اخرم الطائي ، والرواس ، وقد قتلوا في جملة من قتلوا من اهل البصرة .
   ولعل اكبر خسارة عملية منيت بها البصرة هي قتل ابي الفضائل الرياشي النحوي واللغوي المشهور الذي قتله الزنج ايضاً (48) .
   ولم تعد البصرة بعدها تلك المدينة الزاهرة التي كانت تغري العلماء في سكناها ، ولا طلبة العلم والدارسين في قصدها الاستقرار فيها بل ان مدينة بغداد وسامراء اخذتا تستقطبان علماء البصرة في هذا الوقت اكثر من اي وقت مضى .
   وقد اسهمت المراجع في وصف المآسي التي لحقت بهذه المدينة حتى ليبدو انها تخربت الى حد كبير وفقدت كثير من معالمها العمرانية منذ ذلك اليوم ، بل سؤال المثل السائر ( بعد خراب البصرة ) حياً في ذاكرة البصريين (49) ، ويقال ان ضحايا هذه المدينة في اقل تقدير كانوا 300 الف (50)، والمكثرون يقولون مليون نسمة .
   وقد اوحت حادثة ( خراب البصرة ) للشاعر العباسي المعاصر للاحداث ( ابن الرومي ) بقصيدة رائعة ، صور فيها الدمار الذي لحق بمدينة البصرة على يد الزنج ، والقصيدة تعتبر وثيقة تاريخية مهمة ، تفيض بالشعور الصادق ، تظهر فيه غيرته على الاسلام والاوطان .

**************************************************************
(47) الطبري ج 12 \ ص 1857 ، شرح نهج البلاغة ج 2 ص 317 .
(48) السامر \ ثورة الزنج ص 185 ـ 186 .
(49) المصدر السابق ص 110 .
(50) النجوم الزاهرة ج 3 ص 48 .
(51) المسعودي \ التنبيه ص 319 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 13 ـ
يقول في مطلعها ، وهو يرثي المدينة واهلها (52) .
ذاد  عـن مـقلتي لـذيذ المنام      شـغلها  عـنه بالدموع iiالسجام
اي نوم من بعد ما حل بالبصرة      مـا حـل مـن هـنات iiعظام
اي  نـوم من بعدها انتهت iiالز      نـج جـهاراً مـحارم iiالاسلام
   ثم ينتقل الى وصف البصرة ، وما كانت عليه في القرن الثالث من العمران والتقدم ، وما آلت اليه من الانحطاط والخراب .
   لقد كانت هذه المدينة ـ على حد قول ابن الرومي ـ معدن الخيرات ، مزدحمة بالناس كثيرة الضجة والصخب والضوضاء ، وهي ذات ابنية انيقة ودور عامرة ، واسواق نشيطة بالبيع والشراء وسفن تجري في النهر حافلة بالبضائع والركاب (53) فيقول (54) .
عرجا صاحبي بالبصرة بالزهر      سـراء  تعريج مذنف ذي سقام
فـأسئلاها ولا جـواب iiلـديها      لـسؤال  ومـن لـها بـالكلام
ايـن ضـوفاء ذلك الخلق منها      ايـن اسـواقها ذوات iiالـزحام
ايـن فـلك فـيها ، وفلك iiاليها      مـنشآت  فـي البحر iiكالاعلام
ايـن تلك القصور والدور iiفيها      ايـن ذاك الـبنيان ذي iiالاحكام
بـدلت لـكم الـقصور iiتـلالاً      مـن  رمـاد ومن تراب iiركام
سـلط  الـبثق والحريق iiعليها      فـتـداعت اركـانها iiبـانهدام
بـل الما بساحة المسجد الجامع      ان كـنـتـما ذوي iiالــمـام
فـاسـألا  ولا جـواب iiلـديه      ايـن عـباده الـطوال iiالـقيام
**************************************************************
(52) ديوان ابن الرومي ج 3 ص 419 ـ 420 .
(53) السامر / ثورة الزنج ص 111 .
(54) ديوان ابن الرومي ج 3 ص 422 ـ 423 .
وأنظر بقية القصيدة في ص 425 ـ 427 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 14 ـ
القرامطة
   في الوقت الذي كانت حركة الزنج على اشدها (55) ، كان هناك فارسي آخر ، هو الحسين الاهوازي وتابعه حمدان قرمط فيما بعد ، يدعوان بدعوة سرية في الكوفة (56) ، ظاهرها ديني ، وغايتها الريئسية ازالة الحكم العربي لاسرة بني العباس .
   وقد استطاع حمدان قرمط في اول امره ان يعمل بحرية ، ودون رادع ( لتشاغل الخليفة بصاحب الزنج في البصرة ) آنذاك (57) ، كما حاول حمدان توحيد قواه مع صاحب الزنج ضد الخلافة العباسية وصار اليه في منطقة البصرة ليتفق معه على ذلك ، ولكنه بعد مناظرة طويلة جرت بينهما لم يصلا فيها الى نتيجة (58) .
   وبعد ان انتهت الخلافة العباسية من امر الزنج سنة 270 هـ قمعت حركت القرامطة بشدة بأمر الخليفة المعتضد بالله ، وطورد دعاتها في سواد العراق (59) .
   وفي الوقت الذي اخمدت فيه حركة القرامطة في السواد ، ولم يصبح لهم شأن يذكر بعد ذلك ، استطاع احد الدعاة وهو ابو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي (60) ـ وهو من اصل فارسي ـ ان يلقى نجاحاً كبيراً في منطقة نائية عن الحكومة المركزية كالبحرين .
   وقد اندفع الجنابي بأتباعه ، واكثرهم من بقايا الزنج واللصوص (61) الذين كانوا على قدم الاستعداد للسير الى ارض السواد الغنية يقتلون وينهبون (62) ، فهاجم

**************************************************************
(55) الطبري ج 13 ص 124 ، ابن الجوزي \ المنتظم ج 5 ص 111 ـ 112 ، التنبيه ص 339 تلبيس ص 101 ـ 102 ، المقريزي \ اتعاظ الحنفا ص 204 وما بعدها .
(65) muir , the cliphate p . 561 .
(57) المقريزي \ اتعاظ ص 113 .
(58) الطبري ج 13 ص 2130 ، المنتظم ج 5 ص 112 ـ 113 .
(59) الطبري ج 13 ص 2179 ، 2198 ، 2202 ، 2206 ، ابن الاثير ج 7 ص 174 ، 178 ، 182 .
(60) الاصطخري \ ص 148 ، اتعاظ 214 ـ 215 ، الكامل ج 7 ص 175 ـ 176 .
(61) ابن العماد الحنبلي \ شذرات ج 2 ص 192 ، الديار بكري \ تاريخ الخميس ج2 ص 344 .
يحيى بن الحسين \ غاية الاماني ق 1 ص 169 .
(62) متز \ الحضارة ج 2 ص 46 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 15 ـ
مدن البحرين وقراها ، ودخل في طاعته الناس خوفاً ورهبة ، ولم يتمتع عليه غير سكان مدينة ( هجر ) عاصمة البحرين ، التي دخلها بعد سنتين من الحصار (63)
   وتعاظم امر الجنابي حتى اقترب من مدينة البصرة بين سنتي 286 هـ وسنة 287 (64) ، فاستنجد عاملها احمد الواثقي بالخليفة المعتضد وطلب منه المدد ، فأمره باحاطة المدينة بسور بلغت تكاليفه اربعة عشر الف دينار ، بنيت وحصنت خوفاً من هجوم مرتقب .
   وارسل اليه الخليفة من بغداد بثلثمائة مقاتل محمولين على جناح السرعة بثمان سفن (65) كتدبير مؤقت ، الى ان يتم اعداد جيش كبير ، ثم انتدب العباس بن عمرو الغنوي ـ وهو احد القادة الذين عرفوا بالنجدة والشجاعة ـ لهذه المهمة بعد ان ولاه الخليفة اليمامة والبحرين وضم اليه زهاء الفي مقاتل (66) .
   فسار الغنوي الى البصرة لقتال القرامطة ، ولما دخلها انظم اليه جمع كبير من متطوعي البصرة ، ثم خرج لملاقاة الجنابي ، وكان اللقاء به مساءً ، فاقتتلوا بقية النهار الى ان حجز بينهما الليل ، وفي ساعات الليل تسلل الاعراب والمتطوعة من جيش الغنوي ورجعوا الى البصرة ، ولم يبق معه غير جنده النظامي الذي جاء بهم من بغداد .
   وفي الصباح تقاتل الفريقان قتالاً شديداً ، انهزم فيه جند الغنوي ووقع هو ومعظم جنده في الاسر ، فأمر الجنابي بقتل الاسرى واحراقهم ، وابقى على قائد الحملة ليحمله رسالة الى الخليفة .
   اما من افلت من اصحاب الغنوي ، فأنهم هلكوا عطشاً وجوعاً وقتلاً وهم في طريقهم الى مدينة البصرة ، بالرغم من ان البصريين قد هبوا لنجدتهم حاملين اليهم الطعام والكسوة والماء .

**************************************************************
(63) اتعاظ ص 215 ، الطبري ج 13 ص 2196 ـ 2197 ، المنتظم ج 6 ص 16 ـ 17 .
(64) الطبري ج 13 ص 2192 المنتظم ج 6 ص 18 ، اتعاظ ص 218 .
(65) الطبري ج 13 ص 2188 ، 2192 ، المسعودي \ مروج ج 2 ص 264 ـ 275 ، ابن العبري ص 151 ، سنات 13 .
(66) الطبري ج 13 ص 2193 ، مسكوبة ج 5 ص 10 ، ابن الاثير ج 7 ص 177 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 16 ـ
   وكان لهذه الحادثة تأثير سيء في نفوس اهل البصرة وعلى معنوياتهم فاضطربوا لها اضطراباً شديداً ، خوفاً من اقتحام القرامطة لمدينتهم ، وهموا بترك المدينة ، لو لا ان عاملها احمد بن محمد الواثقي يمنعهم من ذلك (67)
   والحقيقة ان خوف البصريين كان له ما يبرره ، لا سيما وهم قربو عهد بحركة الزنج اذ لم يمض على اخمادها غير سبعة عشر سنة وما زالت كوارثها في مخيلتهم ، ثم ان ما سمعوه من فتك الجنابي وبطشه باعدائه كان يفوق صاحب الزنج بكثير .
   ولكن الجنابي تريث ولم يهاجم البصرة ، بالرغم من الانتصار الحاسم الذي احرزه على جند الخلافة ، مع انه كان بمقدوره ان يفعل ذلك لو اراد .
   والظاهر ان سبب احجام الجنابي من مهاجمة البصرة راجع الى ان تفكيره كان منصباً في تكوين دولة في منطقة الاحساء والبحرين على الاقل ، دون التعرض الى ارض السواد الغنية ، التي تجلب له المتاعب ، وله في تجربة الزنج الذين سبقوه خير عظة .
   هذا فضلاً عن كون البحرين والاحساء تتمتع بحصانة جغرافية لا قبل للجيوش النظامية بالوصول اليها الا بمشقة .
   هذا الى الصعوبة التي تواجه الدولة العباسية في ارسال الجيوش الى تلك الصحاري النائية وبعد خط التموين ، وكان في حسبانه ، وفي تقديره ان الخليفة لن يهتم بهذه المناطق التي تكاد ان تكون عديمة النفع للخلافة ، لانها بلد فقير (68) .
   ويظهر ذلك من رسالة الجنابي التي كان يحملها الغنوي للخليفة المعتضد ، ولكن الخليفة غضب غضباً شديداً وقال : ( كذب عدو الله الكافر ، المسلمون رعيتي حيث كانوا من بلاد الله ، والله لئن طال بي العمر لأشخص بنفسي

**************************************************************
(67) الطبري ج 13 ص 2196 ـ 2197 ، الكامل ج 7 ص 177 ـ 178 .
المسعودي مروج ج 4 ص 265 ، 175 ، اتعاظ ص 218 ، ابن كثير \ البداية ج 11 ص 85 ، مسكوية \ تجارب ج 5 ص 10 ـ 13 ، ثابت بن سنان \ اخبار القرامطة ص 16 .
(68) التنوخي \ الفرج ج 1 ص 115 ـ 116 المنتظم ج 5 ص 134 ، تجارب ج 5 ص 14 ـ 16 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 17 ـ
الى البصرة في جميع جيوشي ولأوجّهن اليه جيشاً كثيفاً ، فأن هزمه وجهت جيشاً آخره ، فأن هزمه ، خرجت في جميع قوادي وجيشي حتى يحكم الله بين وبينه ) .
   وظل الخليفه يذكر ابا سعيد الجنابي في مرضه ويتلهف ويقول : ( حسرة نفسي ، كنت احب ان ابلغها قبل موتي واني اخاف ان يكون هناك حوادث عظيمة ) من بعدي (69) .
   وقد كان خوف المعتضد وتوقعاته في محلها ، لان قرامطة البحرين اخذوا يزدادون قوة بعد وفاة المعتضد ويتعاطاهم امرهم يوماً بعد يوم حتى اصبحوا خطراً على الخلافة العباسية .
   واتخذوا من البحرين قاعدة لإنطلاقهم ومهاجمتهم للمدن العراقية حتى اقتربوا ايام المقتدر بالله الى عكركوف قرب بغداد (70) ، وكان من المدن التي حل بها الدمار والخراب مدينة البصرة
   وقد بدأت هجماتهم لها سنة 299 هـ ، حيث هاجموا احد ابوابها الرئيسية في ثلاثين فارساً والبصروين مشغولون في صلاة الجمعة ، فقتلوا الموكلين بالباب ومن خرج لحربهم من المتطوعة حتى اوشكوا ان يدخلوا المدينة فخرج اليهم عامل البصرة ( محمد بن اسحاق بن كنداج ) بمن معه من الجيش وشحنة البصرة والمطوعة فقتل اكثر القرامطة ، ولم ينج منهم الا من هرب (71) .
   ويبدو ان هؤلاء القرامطة لم يكونوا سوى فرقة استطلاعية ارسلت من قبل الجنابي لمعرفة قوة المدينة ومدى حصانتها ، ومواطن الخلل فيها ، تمهيداً لغزوها بجيش اكبر .
لذك فأن صاحب معونتها ( ابن كنداج ) وهو مسؤول عن حماية المدينة يسارع ويستنجد بوزير الخليفة المقتدر ابن الفرات فيمده بمحمد بن عبد الله الفارقي في جيش كثيف لمساعدته في صد القرامطة عن مدينة البصرة (72) .

**************************************************************
(69) المقريزي \ اتعاظ الحنفا ص 219 .
(70) ثابت بن سنان \ اخبار القرامطة ص 48 ، التنبيه والاشراف 331 ـ 332 .
(71) مسكوبه \ تجارب الامم ج 5 ص 33 ـ 34 ، الهمداني \ تكملة الطبري ج 1 ص 14 .
(72) تجارب ج 5 ص 34 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 18 ـ
   ولكن القرامطة لم يعاودوا مهاجمة البصرة الا بعد عشر سنوات ، لقوة حامية البصرة والشكل التي كانت تواجه القرامطة في البحرين وما جاورها آنذاك .
   فلماء جاء ابو طاهر الجنابي الذي خلف والده ابو سعيد الجنابي سنة 300 هـ (73) سار من الاحساء سنة 311 هـ بألف وسبعمائة رجل قاصداً البصرة ، فوصلها بعد ستة ليال (74) ، والقى سلالم الشعر التي كانت محمولة معه على سور المدينة ، وصعد اليها وفتح الباب وقتل الحراس الموكلين بها .
   وكان والي البصرة سبك المفلجي ، فلم يشعر بهم الا سحراًً ، وكان يظنهم جماعة من الاعراب تجمعوا في المدينة ، فلما خرج اليهم قتلوه ، ووضعوا السيف في اهل المدينة ، وهرب الناس الى الكلأ ( ميناء البصرة وسوقها الشهير ) ، وحارب البصريون القرامطة عشرة ايام بلياليها ، فظفر بهم القرامطة بعدها وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وطرح الناس انفسهم في الماء حتى غرق اكثرهم ، وتهارب البعض منهم الى الابلة والشطوط والانهار والجزائر ، واقام ابو طاهر الجنابي بالبصرة ثمانية عشر يوماً يحمل منها ما يقدر على جمله الاموال والامتعة والنساء والصبيان (75) ، كما احرق جزءاً كبيراً من المدينة ، منها المربد ومسجدها الكبير ومسجد قبر طلحة (76) .
   وبعد ان دمر المدينة ونكبها وافقر اهلها بما حمله من اموالها رجع الى مقره بالبحرين .
   وبذلك تكون مدينة البصرة اصيبت بكارثتين كبيرتين على يد الزنج والقرامطة خلال نصف قرن من الزمان ، فلم تكد ان تسترجع انفاسها وتستيعد نشاطها وحيويتها بعد خلاصها من الزنج تقع فريسة مرة اخرى بيد القرامطة .

**************************************************************
(73) التنبيه والاشراف ص 338 كان عمره 6 سنين ولم يتولى الجيش الا سنة 310 هـ بعد تسع سنين وفي ثابت بن سنان قتل الجنابي سنة 301 .
(74) التنبيه ص 330 .
(75) ثابت \ اخبار القرامطة 37 التنبيه والاشراف ص 330 .
(76) تكملة الطبري ج 1 ص 40 ، التنبيه والاشراف ص 330 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 19 ـ

   وبالرغم من ان القرامطة لم يمكثوا في مدينة البصرة اكبر من ثمانية عشر يوماً ، ولم يحتلوها احتلالاً دائماً ـ لان ذلك معتذر عليهم ـ الا انهم تركوها مدينة مدمرة وفقيرة ، فكان على هذه المدينة المنكوبة ان تبدأ البناء من جديد .
   وقد اعتبر المسعودي هذه الاحداث من الكوائن العظمية والانباء العظيمة الجليلة ، مما لم يتقدم مثلها في الاسلام .

البريديون
   ارتبط تاريخ البصرة السياسي والاقتصادي ما يقارب من ربع قرن ( من 316 على وجه التقريب والى سنة 337 هـ ) بأسرة البريديون الثلاثة وهم ابو عبد الله ، وابو يوسف وابو الحسين البريدي .
   فقد تغلب هؤلاء الاخوة طوال هذه الفترة على البصرة ، مع فترات متقطعة كان هناك حضوراً للسلطة المركزية فيها ، ويعود ظهورهم على المسرح السياسي ليس في البصرة فحسب بل في رقعة جغرافية واسعة بضمنها الاحواز واوسط الى سياسة التضمنيات التي انتجتها الدولة العباسية في جباية الخراج خلال القرن الثالث هجري وما بعده .
   فقد اضطربت الحكومة المركزية ببغداد بسبب ما واجهته من الازمات المالية ، وعجزها في مطالبة عمال الاقاليم وامراء الدويلات ، بانتظام في دفع الاموال المقررة على ولاياتهم ودويلاتهم ان تنتهج سياسة تضمين بعض المناطق الزراعية لبعض الممولين من اصحاب رؤوس الاموال لجباية الخراج منها ، لقاء مقدار معين من المال يتفق عليه (77).
   وقد ظهرت سياسية التضمينات على نطاق واسع ايام المعتضد بالله ، فنجد في بداية توليه سنة 279 هـ يواجه ازمة مالية حادة بحيث لا تستطيع ان يسدد

**************************************************************
(77) انظر بحثنا للدكتوراه المصادرات ص 184 وما بعدها .
وانظر كذلك محمد حلمي \ الخلافة العباسية 124 ـ 125 ، حسام السامرائي \ المؤسسات 166 وما بعدها Bowen p . 29 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 20 ـ

نفقات الحكومة المركزية ودار الخلافة ببغداد التي بلغت 2.520.000 دينار في السنة .
   لذلك عمد على تضمين جزء من ارض السواد الى حد الممولين وهو احمد الطائي مقابل دفع نفقات الحكومة المركزية اليومية والشهرية (78) .
   ثم لم تلبث التضمينات ان اصبحت موضع تنافس بين العمال المقربين من الوزراء المتنافسين ، فتغير كثير من الملتزمين بالضمان نتيجة لتغير الوزراء ، وتكررت مصادرة المتضمنين بتبدل الوزراء .
   وهكذا فأن المتضمنين لعبوا دوراً خطيراً في الادارة والسياسية بما يمتلكونه من سلطان المال (79) .
   وقد استطاع البعض منهم ان يكون سبباً في تولية وعزل الكثير من الوزراء ، لانهم كثيراً ما كانوا يحرجون موقف الوزراء والحكومة المركزية في تأخيرهم للاموال او قطعها ، فيسببون الازمات المالية ، او يعجلون فيها ويقدمون السلف المالية لتمشية امور الوزير الجديد .
   وهذا ما فعله البريديون مع الكثير من الوزراء ، فحين استوزر ابو علي بن مقلة ايام المقتدر خلفاً لعلي بن عيسى سنة 316 هـ لم يكن بمقدوره البقاء في الوزارة وهو يواجه ازمة مالية لو لا ان يسارع ابو عبد الله البريدي فيقدم له سفاتج بمبلغ 300 الف دينار (80) .
   وكان هذا العمل نفسه سبب مهم في كسب رضا الوزير ابن مقلة ، وتجديد ضمانهم .
   ولكن سرعان ما فقدوا اعمالهم بتولي وزير جديد خلفاً لابن مقلة ، حيث

**************************************************************
(78) الصابي \ الوزراء ص 14 ـ 15 ابن الابار \ اعتاب الكتاب 182 bowen p . 29 .
(79) انظر بحثنا : المصادرات ص 185 ـ 186 .
(80) تكملة الطبري 57 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 21 ـ
قبض على البريديين الثلاثة وهم في طريقهم الى البصرة فصودروا على 9 ملايين درهم (81) .
   وبعد ان تخلص البريديون من المصادرة قدموا سنة 319 هـ الى الوزير الكواذي قروضاً بربح درهم في كل دينار .
   ثم اختصوا بالوزير الحسين بن القاسم الذي خلف الكواذي وقدموا له جملة من المال عن الضنماء بربح درهم في كل دينار على رسمهم (83) .
    وبذلك اعاد ضمانهم ، فقلد ابو يوسف البريدي اعمال البصرة من الخراج والضياع والمراكب وسائر وجوه الحبايات على ان يؤدي نفقات الحكومة المحلية في البصرة بما فيها رواتب الجند مضافاً اليها رواتب الف مقاتل زيادة على عدد الجند الموجودين لحفظ سور مدينة البصرة ، مع حمل 60 الف دينار الى الحكومة المركزية في بغداد سنوياً (83) .
   ولكن بعد عودة ابن مقلة الى الوزارة للمرة الثانية سنة 321 هـ قبض عليهم وصادرهم ، ثم اعادهم الى اعمالهم (84) .
   وهيأ مقتل الخليفة المقتدر سنة 321 هـ فرصة لتحقيق طموحاتهم السياسية بما يناسب ما يمتلكونه من الاموال في الهيمنة على رقعة جغرافية كبيرة من ارض السواد تضم الاحواز ومنطقة البصرة وواسط متخذين البصرة مقراً لها .
   غير ان طموحاتهم السياسية لم تكن حركة استقلالية عن الخلافة ، كالذي حدث في بعض الولايات التي تغلب عليها القادة العسكريون لان البريديين كانوا من اصحاب الدراريع ( اي من الكتاب ) وليسوا من اصحاب السيوف ( اي الجند ) ، ولكن الظروف السياسية والاحداث الجسام التي عاصروها هي التي جرتهم الى تجريد الجيوش وخوض الحروب حفاضاً على مصالحهم وكرد فعل ضد هيمنة الجند الاتراك

**************************************************************
(81) تجارب ج 1 ص 207 ـ 208 .
(82) المصدر السابق ج 1 ص 220 .
(83) المصدر السابق ج 1 ص 223 ـ 224 .
(84) تجارب ج 1 246 ـ 247 ، 250 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 22 ـ

على الخلافة والحكومة المركزية في بغداد ، كما ظلوا وهم في اوج تألقهم يحتفظون بعلاقات طيبة مع الخليفة ، بل ان ابا عبدالله البريدي قدم ايام الخليفة القاهر للحكومة المركزية 250 الف دينار لمساعدتها في القضاء على المتمردين ضد الخلافة (85) .
   واستطاع ابو عبدالله البريدي ان يستميل احد المتمردين ـ وهو ابن رائق ـ ويعيده الى صف الخلافة ، ويتوسط في تعيينه متولياً للبصرة (86) .
   ثم اصبح يتقلد اعمال المعاون بواسط والبصرة سنة 323 هـ (87) .
   ولما كان ابن رائق يقود ثلة من الجنود العباسي ، ومهمته الاساسية حفظ الامن في هذه الرقعة الشاسعة ، فقد تذرع ـ حين قطع اموال الضمان للمنطقتين المذكرورتين (88) ـ بأن موارد البصرة وواسط لا تكفي لسد نفقات جنده ، وانه ان اجابه الخليفة الراضي واستدعاه للحضرة وفوض اليه التدبير قام بكل ما يحتاج اليه من نفقات الخليفة ، وارزاق الجند ، ودبر الامور احسن تدبير .
   قبل الخليفة الراضي ما عرضه عليه ابن رائق مرغماً ـ بعدما ضاقت به الامور وبعد ان وجد معظم الضمناء والمتغلبين ـ ومن ضمنهم البريديون ـ قد قطعوا الاموال عن بغداد .
   فقلده ( امرة الامراء ) ورد اليه رياسة الجيش وتدبير اعمال الخراج والضياع واعمال المعاون في جميع النواحي ، وفوض اليه تدبير المملكة ، وامر بان يخطب له على جميع المنابر في المماليك (89) .
   ومن هنا بدأ تحول خطير في نظام الادارة العباسية حيث بموجبه اعطيت صلاحية الوزراء ـ وهم من طبقة الكتاب ـ الى قائد عسكري من اصحاب السيوف ، فتحولت الادارة الى قادة الجند الاتراك.

**************************************************************
(85) المصدر السابق ج 1 ص 255 .
(86) المصدر السابق ج 1 ص 255 ـ 256 .
(87) المصدر السابق ج 1 ص 332 .
(88) تجارب ج 1 ص 332 .
(89) المصدر السابق ج 1 ص 351 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 23 ـ

   حاول ابن رائق ان يقضي على البريديين ، واستطاع ان يقود جيشاً بنفسه يصحبه بجكم التركي ، واستطاع ان ينتزع من ابي عبدالله البريدي الاحواز ، واشرف على دخول مدينة البصرة الذي كان يدافع عنها اخواه ابو يوسف وابو الحسين ، ولكن ابن رائق رجع الى بغداد دون ان يتم له تحقيق ذلك (90) .
   مما اضطره ان يجدد ضمان البصرة للبريديين ، ويولي شؤون الحرب فيها الى عامل من عمال الخليفة وهو محمد بن يزداد (91) .
   تعتبر سنة 325 هـ ـ وهي السنة التي جدد فيها ابن رائق ضمانهم على البصرة ـ نقطة تحول في حياة البريديين في ترسيخ اقدامهم في مدينة البصرة وما جاورها ، فقد استغل البريديون تذمر البصريون من ابن رائق وظلمه لهم حينما كان عاملاً عليهم قبل ان يتولى امرة الامراء ، كما وجد البصريون ظالتهم المنشودة في شخص اسرة البريديين بعد ان وقفوا نداً خطيراً في وجه ابن رائق وجنده الاتراك ، وتوسموا فيهم خيراً .
   فلما جدد ضمانهم خرج اهل البصرة بأجمعهم الى سوق الاحواز لتهنئة ابي عبدالله البريدي بالولاية ، وكان جمعهم عظيماً جداً ، يتقدمهم احد وجهاء البصرة المعروفين وهو ابو الحسين بن عبد السلام الهاشمي ، فهنأ ابا عبدالله وابا يوسف البريدي ، واشار عليهما بالغلبة على البصرة ، وانفاذ العساكر اليها .
   فشكرهم ابو عبدالله على تهنئتهم وقربهم واكرمهم ورفع منهم وقال مخاطباً لهم : قد اطلعتم على نيتي الجميلة فيكم ومحبتي لصلاحكم ، وكنت مستغنياً عن ضمان البصرة ، اذ لا فائدة لي فيها ، وانما امتعضت لكم من ظلم ابن رائق ومحمد بن يزداد خليفته لكم ، وتحمّلت في مالي اربعة آلاف دينار في كل شهر بازاء ماكان يؤخذ من الشرطة والمأصير (*) والشوك تخفيفاً عنكم ، وقد ازالت جميعها ، وهذا خطي

**************************************************************
(90) المصدر السابق 357 .
(91) تجارب ج 1 ص 357 .
(*) المآصر : المأصر : هو الحاجز او الحبل الذي يمد على طريق النهر ليؤخر به السفن والسالبة ليؤخذ به السفن والسالبة ليؤخذ منهم العشور .
انظر الاعلاق النفيسة ليدن 1892 م ص 185 ، ميخائل عواد : المأصر في بلاد الروم والاسلام مطبعة المعارف بغداد 1948 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 24 ـ

برفعها عنكم ، ووقع بذلك تويقعاً وسلمه اليهم ، وكثر الدعاء والضجيج بشكره .
   واضاف واني قد اعددت آلة الماء ( اي السفن ) ، انفذ منها الجيوش لأحصن بلدكم من القرامطة ، وانما ضمنت البصرة من السلطان لظلم ابن رائق لكم ، واني لأرجو المغفرة بازالة الرسوم الجائرة عنكم .
   ثم قال لهم : انه سيبلغ هذا ابن رائق فينكره ويوحشه فيّ ويصير سبباً للعداوة بيني وبينه ، ووالله ما ابالي ان يعاديني اخواي في صلاحكم ، لأني اعلم ان فيكم بني هاشم وطالبيين واولاد المهاجرين والانصار ، ومن حرمة الاسلام صيانتكم .
   ثم حرّضهم على الثورة ضد ابن رائق قائلاً لهم :
( فمتى رام ابن رائق نقض ماعملت ، فاضربوا وجهه ووجوه اصحابه ، بتلك السواعد والسيوف ، وانا من ورائكم ) .
   ثم ذكر اهل البصرة ببلائهم في القتال في ايامهم الغابرة وثوراتهم ضد الامويين مع ابن الاشعث وغيره ، وقال لهم : لتكن قلوبكم قوية ، وامالكم فسحة ، ونفوسكم شديدة في مجاهدة عدوكم ، ثم وقع ابو عبدالله البريدي للنفقة على المسجد الجامع بالبصرة بألفي دينار ، لأنه كان خراباً .
   يقول مسكويه : فانصرف اهل البصرة عنه ، وقد صاروا سيوفه (92) .
   وفي سبيل تحقيق ما همَّ به ابو عبدالله البريدي بدأ ببناء سفن حربية ، كالشذاورات والزبازب والطيارات والاستكثار منها حتى اجتمعت له مائة قطعة في نهاية الوثاقة والجودة (93).

**************************************************************
(92) تجارب الامم 364 ـ 365 ج 1 .
تكملة الطبري ص 100 .
(93) تجارب ج 1 ص 364 ، تكملة الطبري ج1 ص 100 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 25 ـ

   وقد بلغ جند البريدي النظامي من العدد والعُددَ ما فاق جند ابن رائق في بغداد ، لان ابن رائق في سبيل تخفيض النفقات سرح قسم كبير من جند الخلافة النظامي ، خصوصاً ( الحجرية ) التي هي من خيرة الفرق العسكرية ، فالتجأوا الى ابي عبد الله البريدي في البصرة ، وانضموا اليه ، فقبلهم واضعف ارزاقهم (94) .
   يقول المسعودي : اشتد امر البريديين بالبصرة ومنعوا السفن ان تصعد وعظم جيشهم ، وكثرت رجالهم ، وصار اليهم جيشان : جيش في الماء في الشذوات والطيارات والسميريات والزبازب ، وهذا انواع من المراكب يقاتل فيها صغار وكبار ، وجيش في البر عظيم ، واصطنعوا الرجال ، وبذلوا الرغائب ، فانضاف اليهم حجرية السلطان وغلمانه (95) .
   ولما بلغ ابن رائق ما خاطب به البريدي اهل البصرة ، وما اعده من جيوش جهز جيشاً كبيراً وتحرك من واسط قاصداً البصرة (96) .
   فأمر البريدي جنده الذين كانوا بحصن مهدي بدخول مدينة البصرة ، فدخلوها وكسروا جند ابن رائق فيها وفر عاملها محمد بن يزداد (97) وعندما ارسل ابن رائق رسالة لابي عبد الله البريدي يطلب فيها اخراج جنده منها رفض ذلك واجابه : ( انه لا يمكنه رد رجاله من البصرة ، لان اهلها قد انسوا بهم واستوحشوا من قبيح ما عملهم به عاملها ابن يزداد في ايامه ، لان القرمطي طامع في البلد ، وليس يأمن متى كاتبهم بالانصراف ان يدخل القرامطة الى البصرة ) (98) .
   ارسل ابن رائق قائده التركي بجكم لحرب البريديين فاستطاع ان يهزمهم في الاحواز ، ولكنه فشل في دخول البصرة ، وحلت به الهزيمة ، مما جعل ابن رائق ان يسير بنفسه ، فلما دخلت طلائع جند ابن رائق الكلأ وهو مرفأ السفن بالبصرة

**************************************************************
(94) تكملة الطبري ص 101 .
(95) المسعودي \ مروج ج 4 ص 248 .
(96) تجارب ج 1 ص 368 .
(97) تجارب ج 1 ص 369 ، تكملة الطبري 102 ـ 103 .
(98) تجارب الامم ج 1 ص 369 ـ 370 ، تكملة ج 1 ص 103 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 26 ـ

قاتلتهم العامة قتالاً شديداً حتى رجموا الجند بالحجارة ، وخرج ابو الحسين البريدي تحف به الجند والعامة لدفعهم عنها ، مما اضطر جند ابن رائق الافراج عن شاطي الكلأ .
   اما جيش ابن رائق الرئيس فقد دخل البصرة عن الطريق شط العرب ، ولكن العامة تزاحمت ورمته بالحجارة ( فشاهدوا امراً عظيماً وخطباً جليلاً من العامة وتكاثرهم عليه ) (99) ، مما اضطره الى الرجوع الى واسط دون ان يحقق الهدف الذي جاء من اجله .
   ويعود السبب في مقاومة البصريين لابن رائق على حد قول مسكويه لظلمه لهم في معاملاتهم ظلماً مفرطاً ، وكانوا قد اعتادوا العز فسامهم الخسف خلال ولايته عليهم وسار بهم سيرة سدوم ، وانهم حينما نصروا ابا عبد الله البريدي وحاربوا معه ، كانوا يتوسمون به خيراً ، ولكنه خيب املهم فيما بعد ، فقد رأوا منه ومن اخويه ابي يوسف وابي الحسين ما ودوا انهم اكلوا الخرشف والخزنوب وصبروا على ابن رائق وخليفته ابن يزداد (100) .
   وبعد ان فشل الحل العسكري مع البريديين اضطر ابن رائق الى موادعتهم واصطناعهم ، خصوصاً ان البويهيين بدأ يتعاظم خطرهم بعد دخولهم الاحواز ، فتم الصلح بينهم ، واخذ خط الخليفة الراضي بالرضا عنهم ، وقطعت لهم الخلع على ان يقيموا الخطبة بالبصرة لابن رائق ، ويعملوا على استراجاع الاحواز من البويهيين ، وان يحملوا الى بغداد 30 الف دينار سنوياً (101) .
   ثم ارسل الخليفة الراضي بعدها يعرض على ابي عبد الله البريدي الوزارة فقبلها بعد امتناع ، ولكنه لم ينتقل الى بغداد ، وانما اكتفى باسم الوزارة واناب عنه ببغداد احد اتباعه (102) .

**************************************************************
(99) تجارب ج 2 ص 372 ـ 373 ، تكملة ص 105 .
(100) تجارب ج 1 ص 370 .
(101)تكملة الطبري ص 108 ، تجارب ج 1 ص 385 .
(102) تجارب ج 1 ص 409 ، تكملة 113 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 27 ـ

   ولما تقلد ابو عبد الله البريدي الوزارة نظم ابو الفرج الاصفهاني صاحب كتاب الاغاني قصيدة سخر بها من البريدي يقول في اولها : (103) .
يا سماء اسقطي ويا ارض ميدي      قـد  تولى الوزارة ابن iiالبريدي

   ولما كانت السلطة الحقيقة في بغداد بيد امير الامراء ـ وكان آنذاك بجكم ـ فقد تجدد الخلاف بينه وبين ابي عبد الله البريدي وانتهت الى ازالة اسم البريدي من الوزارة (104) .
   ولكن بحبكم قتل وهو خارج من واسط لحرب ابو عبد الله البريدي ، وكان البريديون قد عملوا على الهرب وضاقت عليهم البصرة حتى سمعوا خروجه اليهم فتقدم البريديون ـ مستغلين الظروف الجديدة ـ من البصرة الى واسط ، بعد ان زاد عدد جندهم بمن انضم من جند بجكم مستأمنين ، فقد التجأ اليهم بدفعتين نحو من 3 آلاف جندي نظامي من جند الخلافة فقبلهم واضعف ارزاقهم (105) .
   واستطاع ابو عبد الله البريدي واخوه ابو الحسين وابنه ابو القاسم من دخول بغداد عنوة ـ بنحو من 7 آلاف مقاتل ـ ومعهم من السفن الحريبة ( كالزبازب والطيارات والحديديات والشذاوات ما لا يحصى ) عدداً ، وتأسف وزير الخلفية المتقي على 400 الف دينار التي انفقها الخليفة المتقي على الذي اعده لصد البريديين عن بغداد .
   وقد اعترف الخليفة المتقي بالامر الواقع فقلد ابا عبد البريدي الوزارة للمرة الثانية دون ان يلقاه ، او يجتمع به (106) .
   ولما كان الهدف الاساسي الذي دفع ابا عبد الله البريدي في دخول بغداد هو الحصول على الاموال ، فقد اتبع سياسية البطش والعنف مع الناس خصوصاً

**************************************************************
(103) تكملة ج 1 ص 113 .
(104) تجارب ج 1 ص 412 ـ 413 تكملة ص 115 ـ 116 .
(105) تجارب ج 2 ص 13 .
(106) تجارب ج 2 ص 14 ـ 16 تكملة 123 ، الصولي / اخبار الراضي 200 / 201 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 28 ـ

الاغنياء منهم ، حتى ( هم ارباب النعم بالانتقال من مدينة بغداد ) (107) الى مكان آخر ، ولم يستقم منه حتى الخليفة نفسه ، حيث راسله على يد احد القضاة وطالبه بحمل 500 الف دينار ، بدعوى توزيعها على الجند ، وقد استجاب الخليفة لطلبه مرغماً (108) .
   وكان ابو عبد الله البريدي خلال وجوده في بغداد يأمر جنده على طلب الاموال من الخليفة ويحرّضهم على الشغب عليه .
   فلما استصفى اموال الخليفة ، واصبحت الاموال بيده رجعت المكيدة عليه وشغب الجند عليه بدلاً من الخليفة ، فانحاز الجند الى دار الخلافة وانضموا اليه ، ونفر الجيش من ابي عبد الله البريدي ووقعت الحرب بينه وبين امير الامراء الجديد ( كورتيج ) وعاونهم العامة على ذلك ، فهرب ابو عبد الله واخوه وابنه وانحدروا في نهر دجلة الى واسط (109) ثم توجهوا منها الى البصرة (110) .
   واتفق ان عاد ابن رائق للمرة الثانية الى بغداد وتولى امرة الامراء من جديد ، فخطب البريديون له في البصرة وواسط محاولين ترضيته (111) ، ولكن ابن رائق خرج لحربهم بعد ان تباطئوا في حمل اموال ضمانهم الى بغداد ثم اصطلحوا بعد ان ظفر بينهم فأعيدوا الى ضمانهم (112) ، واعيد ابو عبد الله البريدي للوزارة الثالثة ، فاستخلف احد اتباعه ممثلاً له في بغداد (113) .
   واتفق ان شغب الجند الاتراك على ابن رائق سنة 330 هـ ، والتجأوا الى ابي عبد الله البريدي ، فقبلهم وقويَ بهم ، مما ادى الى عودة الخلاف بينهما مرة اخرى ، وازيل اسمه من الوزراة ، ولعن البريدي على المنابر في بغداد (114) .

**************************************************************
(107) تجارب ج 2 ص 16 .
(108) تكملة 123 تجارب ج 2 ص 16 ، الصولي / اخبار 200 ـ 201 .
(109) تكملة 124 ، تجارب ج 2 ص 17 .
(110) تجارب ج 2 ص 19 .
(111) تجارب 21 / 22 تكملة 125 .
(112) تجارب ج 2 ص 23 .
(113) تكملة ج 1 ص 126 .
(114) تكملة ص 126 ، تجارب ج 2 ص 24 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 29 ـ

   وقد عزم ابو عبد الله البريدي الدخول الى بغداد للمرة الثالثة ، فتقدم اخوه ابو الحسين البريدي الى بغداد واستطاع ان يكسر جند ابن رائق اما ابن رائق والخليفة المتقي فقد خرجا الى الموصل ملتجئين الى بني حمدان وهي الاسرة العربية المشهورة التي طالما قدّمت للخلفاء العباسين الخدمات الجليلة ، وكانوا سيفاً من سيوفها على اعدائها ايام المعتضد والمكتفي والمقتدر .
   لم يسطع البريديون البقاء في بغداد اكثر من اربعة شهور فقد استطاع الحمدانيون ان يدخلوا الى بغداد ومعهم الخليفة المتقي بعد ان قاتلت معهم العامة ونصرهم جند الخلافة .
   فاستقبلوا من قبل الجمهور البغدادي بحفاوة ونصبت لهم القباب ومعالم الزينة احتفاءً بهذا النصر ، ولقاء هذه الخدمات خلع المتقي على الحسن بن عبد الله بن حمدان وقلّده امرة الامراء ولقّبه بـ ( ناصر الدولة ) وعلى اخيه علي بـ ( سيف الدولة ) (115) .
   اما البريديون ، فقد رجعوا منهزمين الى البصرة (116) ، الا انهم وجدوا بانتظارهم متاعب ومشاكل كثيرة ، حيث جابهتهم المخاطر في هذه المرة ليس من الحكومة المركزية ببغداد ، وانما من الامارات المجاورة ومن الحكام المحليين ، احداهما من الشرق حيث تقدم البويهيون بقيادة احمد بن بويه ( معز الدولة ) وهاجموا ضواحي البصرة ، ولكن البريديون استطاعوا ردهم ، مما اضطر معز الدولة الرجوع على اعقابه الى الاحواز (117) .
   اما الخطر الثاني فقد جاء من الجنوب من قبل يوسف بن وجيه صاحب عمان ، حيث تقدم ابن وجيه في مراكب وشذاآت لحرب البريديين وانتزاع البصرة منهم .

**************************************************************
(115) تجارب ج 2 ص 26 ، 28 ، 30 ، تكملة ج 1 ص 128 ـ 129 .
(116) تجارب ج 2 ص 30 .
(117) تجارب ج 2 ص 37 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 30 ـ

   وكان معه من يحارب بقوارير النار ، فأحرق شذاوات البرديين وزبازبهم ، وملك مدينة الابلة ، وقارب ان يملك البصرة ، لو لا ان تحرق سفنه من قبل احد اتباع البريديين ، مما اضطر صاحب عمان الى الرجوع الى عمان دون ان يحقق هدفه (118) .
   وبقي البريديون يقارعون القوى المختلفة بما فيهم امراء الاتراك المسيطرين على الخلافة في بغداد ، محتفظين بنفوذهم وهيمنتهم على البصرة ، حتى بعد وفاة رأس هذه الاسرة .
   فقد توفي ابو عبد الله البريدي سنة 332 هـ ، وكان قبل وفاته بثمانية اشهر قد قتل اخاه ابا يوسف طمعاً في امواله (119) .
   لذلك فقد انتصب مكانه اخوه ابو الحسين البريدي (120) ، إلاّ ان ابن اخيه ابا القاسم بن ابي عبد الله البريدي استطاع ان ينتزع الرئاسة من عمه بعد ان اشترى تأييد الجند له بـ 300 الف دينار ، فنصّبوه مكانه ، وتقررت الرئاسة بالبصرة لأبي القاسم .
   اما ابو الحسين البريدي فقد التجأ الى الهجريين في البحرين ، وسألهم ان يعاونوه على دخول البصرة ، ورده الى امره ، فضمنوا له ذلك واقام عندهم نحواً من شهر ، ثم سار ابو الحسين من هجر ومعه اخوان من اخوة ابي طاهر الجنابي بجيش من القرامطة ، حتى وصلوا الى سور البصرة ، فوجدوا ابا القاسم البريدي قد حفظه بالرجال واحترس منه ، فلم تكن لهم حيلة من الوصول الى داخل المدينة .
   وقد طال حصارهم لمدينة البصرة دون ان يستطيعوا دخولها ، مما اصابهم الضجر ، وملّوا الانتظار ، فكاتبوا ابا القاسم البريدي ، وسفروا بينه وبين عمه في الصلح ، وسألوه ان يؤمنه ويأذن له في الدخول الى البصرة .

**************************************************************
(118) تجارب ج 2 ص 46 ، تكملة وأمر 135 .
(119) تجارب ج 2 ص 51 ـ 53 ، 58 .
(120) تجارب ج 2 ص 59 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 31 ـ
   وقد استجاب ابو القاسم لطلبهم ، واحتاط من عمه طول مكوثه في البصرة الى ان اختار الشخوص الى بغداد ، فأذن له ، واطلقه ، فخرج الى مدينة السلام (121) ، علّه يجد من ينصره ويعينه على ابن اخيه ويسترجع البصرة منه .
   فشرع في مسئلة توزون ـ الذي كان آنذاك امير الامراء ـ وطلب منه ان يعاونه على فتح البصرة ، وسأله ان يوصله الى الخليفة المستكفي ، ولكن ابا القاسم البريدي ـ وكان له من يمثله في بغداد ـ علم بتدبير عمه ، فسارع بتوجيه الاموال الى توزون وارضاه ، فأقره على عمله ، وانفذ اليه الخلع من دار الخلافة برضاء الخليفة عليه (122) .    وقد انتهز احد اعداء ابو الحسين البريدي وجوده في بغداد ، فاخرج فنوى من فقهاء وقضاة بغداد ايام ناصر الدولة الحمداني باحلال دمه لما ارتكبه من القتل والنهب حين دخوله مراغماً للسلطان ، فأخرجت ، وحوكم بموجبها ، فقتل بحضرة الخليفة المستكفي (123) .
   اما ابو القاسم البريدي ، فقد استقامت له الامور في البصرة ، طيلة فترة امرة الامراء.
   فلما تغلب البويهيون على بغداد ، اضطر معز الدولة البويهي مهادنة البريدي بسبب حاجته للمال فأقره على عمله سنة 334 هـ ، واضاف له ضمان واسط (124) ، ولكن بعد سنتين من هذا الاتفاق قرر معز الدولة انتزاع البصرة من البريديين والقضاء عليهم نهائياً .
   فسار بصحبته الخليفة المطيع ـ وقد خرج معه مكرهاً ـ فدخل مدينة البصرة ـ بعد حرب قصيرة ـ استأمن فيها معظم جيش البريدي وهرب ابو

**************************************************************
(121) تجارب ج 2 ص 61 .
(122) تجارب ج 2 ص 79 .
(123) المصدر السابق 79 .
(124) المصدر السابق ج 2 ص 88 .

تاريخ البصرة من مقتل المتوكل حتى التسلط   ـ 32 ـ
القاسم الى ( هجر ) وملك معز الدولة البصرة فقبض معز الدولة على جميع قوّاد البريدي بالبصرة واستخرج امواله وودائعه ، وقبض خزائنه ، واحرق كل ما وجد له من آلات الماء من الشذاوات والطيارات والزبازب ، ليضعف قوة البصرة العسكرية ، حتى لا تتمرد عليه فيما بعد (125) ، واستدعى احد اتباعه من بغداد فقلّده اعمال البصرة خراجها وحربها .
   اما ابا القاسم البريدي ، فلم تطل اقامته في البحرين ، فقد دخل في الآمان الى بغداد 337 هـ ولقى معز الدولة ، فاقطعه اقطاعاً بمائة وعشرين الف درهم ضياعاً زراعية ، تعويضاً له عما فقده من اموال في البصرة وقد قضى ايامه الاخيرة في بغداد (126) .
   وبذلك اصبحت البصرة ضمن هيمنة البويهيين شأنها شأن معظم المدن والاقاليم الاسلامية التابعة للخلافة العباسية .

**************************************************************
(125) تجارب ج 2 ص 112 .
(126) المصدر السابق 115 .