من هجمات الزّنج منذ العصر الأمويّ في ولاية مصعب بن الزبير (1) على البصرة (2) ، وخلال ولاية الحجّاج بن يوسف الثقفيّ على البصرة سنة (75 هـ - 694 م) (3) ، إلا ان هجماتهم تلك كان تأثيرها ضعيفاً ومحدوداً، فتمَ ردعها بسهولة ، لأنهّا لم تكن ذات
قيادات منظّمة، أو أهدافٍ سياسيّة، وإنمّا كانت هجمات تُشَنّ من مجموعةٍ من الزّنج ضمن مواقع تواجدهم، وأسبابٍ اقتصاديّة واجتماعيّة، نظراً لما يعانونه من سوء المعاملة وكثرة الضرائب وتردّي مستواهم المعاشي (4) .
ولم يشكّل الزنج خطراً كبيراً خلال هجماتهم في بداية العصر العبّاسي الأوّل إبّان خلافة أبي جعفرٍ المنصور، فقد واجه أمير البصرة وقاضيها سوار بن عبد الله العنبريّ عام (143 هـ - 760 م) ثورات الزنج، وتمكّن مِن ردعِها، وكانت -أيضاً- هجمات غير منظّمة، وللأسبابِ المذكورة آنِفَاً نفسِهَا (5) . إلا أنّ خطر الزّنج بدأ يهددُ الخلافة العبّاسيّة، وأصبحت هجماتهم أكثر شدّةً ووطأةً على مدينة البصرة منذ عام (255 هـ - 868 م) ، وأصبحت منظّمة وذات أهداف سياسيّة ************************************************* (1) مصعب بن الزبير بن العوّام بن خويلد يكنى أبا عبد الله، تولّى البصرة سنة 67 هـ، ثمّ عزله عبد الله بن الزبير وولىّ ابنه حمزة سنة 68 هـ، وفي سنة 69 هـ أُعيد لولاية البصرة مع الكوفة، فلم يزل بها حتى قتل. ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق : ج 58 ، ص 210 ، 220. (2) ذُكر أنهم لم يكونوا كثيرين، فأفسدوا وتناولوا الثمار فلما بلغهم قدوم الجيش تفرّقوا، وتمَ قتل بعضهم، وصلبهم . ينظر ابن الأثير، الكامل : ج 4، ص 388 . (3) خرج الزّنج سنة 75 هـ، وجعلوا عليهم رجلاً اسمه رباح، ولقب (شبير زنجي) ، ويعني أسد الزنج، فبعث الحجَاج لهم جيشاً فقاتلهم، وتمّ قتل زعيمهم، وهزم أصحابه . ابن الأثير، الكامل : ج 4، ص 388. (4) ينظر : البلاذريّ، أنساب الأشراف : ج 7، ص 220 ، ج 13 ، ص 380 - 381 . (5) ذُكر أنّ خروج الزنج في خلافة المنصور، فقال بعض الناس : (أخرجهم الجوع) . ينظر : وكيع ، أخبار القضاة : ج 2، ص 58 ، 60 .
حينما ظهر رجل زعم أنّه علويُ النسب، يعود نسبه إلى الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب (ع) ، وهو عليّ بن محمّد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (ع) ، الذي جمع حوله قطّاع الطرق والعبيد السّود من غلمان أهل البصرة ، وشكّل بمعيَتهم قوّةً وجّهت هجماتها المدمرة إلى مختلف أنحاء البصرة قتلاً وتدميراً (1) . واستمرّت تلك الهجمات لغاية عام (270 هـ - 883 م) ، إذْ تمكّنت السلطة العبّاسيّة من قتله (2) ، وخلال تلك السنوات استباح الزنج مدينة البصرة في أكثر من هجوم ، وقتلوا خلقاً من أهلها، وأحرقُوا الكثير من المؤسّسات والدّور، حتى قيل : إنَ مقدار ما أحرقته النّار كان أكثر من الذي نهُِبَ من أموال البصرة (3) وكان جامع البصرة في مقدّمة مؤسّسات البصرة الفكريّة التي تعرّضت للحرق والتدمير (1) ، كما نهُبت وحُرقت العديد من مكتبات علماء البصرة، كما الحال مع الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن أورمة الأصبهانيّ، الذي قدِم العراق واستقرَ به منكبّاً على العِلم والتدريس، وخلال هجمات الزنج تعرّضت كُتُبه للتلَف، وربمّا للحرق، فقد رُوي أنّه : (ذهبت كتبُه بالبصرة في فتنة الزنج) ، وتوفي في أصبهان سنة (270 هـ - 883 م) (5) ، وورد ************************************************* (1) اليافعي، مرآة الجنان : ج 2، ص 161 ، الذهبيّ، سير أعلام النبلاء : ج 12 ، ص 375 . (2) اليافعي، المصدر نفسه : ج 2، ص 161 ، الذهبيّ، العبر : ج 2، ص 14 ، 19 ، السيوطيّ، تاريخ الخلفاء : ص 363 . (3) ابن الأثير، الكامل في التاريخ : ج 6، ص 225 ، 232 . (4) ابن الأثير، الكامل : ج 6،ص 232 ، اليافعي، مرآة الجنان : ج 2، ص 169 ، الذهبيّ، العبر : ج 2 ، ص 19. (5) أبو نعيم الأصبهاني، ذكر أخبار أصبهان (مطبعة بريل، ليدن - 1934) : ج 1، ص 184 . |