من هجمات الزّنج منذ العصر الأمويّ في ولاية مصعب بن الزبير (1) على البصرة (2) ، وخلال ولاية الحجّاج بن يوسف الثقفيّ على البصرة سنة (75 هـ - 694 م) (3) ، إلا ان هجماتهم تلك كان تأثيرها ضعيفاً ومحدوداً، فتمَ ردعها بسهولة ، لأنهّا لم تكن ذات قيادات منظّمة، أو أهدافٍ سياسيّة، وإنمّا كانت هجمات تُشَنّ من مجموعةٍ من الزّنج ضمن مواقع تواجدهم، وأسبابٍ اقتصاديّة واجتماعيّة، نظراً لما يعانونه من سوء المعاملة وكثرة الضرائب وتردّي مستواهم المعاشي (4) .
  ولم يشكّل الزنج خطراً كبيراً خلال هجماتهم في بداية العصر العبّاسي الأوّل إبّان خلافة أبي جعفرٍ المنصور، فقد واجه أمير البصرة وقاضيها سوار بن عبد الله العنبريّ عام (143 هـ - 760 م) ثورات الزنج، وتمكّن مِن ردعِها، وكانت -أيضاً- هجمات غير منظّمة، وللأسبابِ المذكورة آنِفَاً نفسِهَا (5) .
  إلا أنّ خطر الزّنج بدأ يهددُ الخلافة العبّاسيّة، وأصبحت هجماتهم أكثر شدّةً ووطأةً على مدينة البصرة منذ عام (255 هـ - 868 م) ، وأصبحت منظّمة وذات أهداف سياسيّة

*************************************************
(1) مصعب بن الزبير بن العوّام بن خويلد يكنى أبا عبد الله، تولّى البصرة سنة 67 هـ، ثمّ عزله عبد الله بن الزبير وولىّ ابنه حمزة سنة 68 هـ، وفي سنة 69 هـ أُعيد لولاية البصرة مع الكوفة، فلم يزل بها حتى قتل. ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق : ج 58 ، ص 210 ، 220.
(2) ذُكر أنهم لم يكونوا كثيرين، فأفسدوا وتناولوا الثمار فلما بلغهم قدوم الجيش تفرّقوا، وتمَ قتل بعضهم، وصلبهم . ينظر ابن الأثير، الكامل : ج 4، ص 388 .
(3) خرج الزّنج سنة 75 هـ، وجعلوا عليهم رجلاً اسمه رباح، ولقب (شبير زنجي) ، ويعني أسد الزنج، فبعث الحجَاج لهم جيشاً فقاتلهم، وتمّ قتل زعيمهم، وهزم أصحابه . ابن الأثير، الكامل : ج 4، ص 388.
(4) ينظر : البلاذريّ، أنساب الأشراف : ج 7، ص 220 ، ج 13 ، ص 380 - 381 .
(5) ذُكر أنّ خروج الزنج في خلافة المنصور، فقال بعض الناس : (أخرجهم الجوع) . ينظر : وكيع ، أخبار القضاة : ج 2، ص 58 ، 60 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 51 ـ

  حينما ظهر رجل زعم أنّه علويُ النسب، يعود نسبه إلى الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب (ع) ، وهو عليّ بن محمّد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب (ع) ، الذي جمع حوله قطّاع الطرق والعبيد السّود من غلمان أهل البصرة ، وشكّل بمعيَتهم قوّةً وجّهت هجماتها المدمرة إلى مختلف أنحاء البصرة قتلاً وتدميراً (1) .
  واستمرّت تلك الهجمات لغاية عام (270 هـ - 883 م) ، إذْ تمكّنت السلطة العبّاسيّة من قتله (2) ، وخلال تلك السنوات استباح الزنج مدينة البصرة في أكثر من هجوم ، وقتلوا خلقاً من أهلها، وأحرقُوا الكثير من المؤسّسات والدّور، حتى قيل : إنَ مقدار ما أحرقته النّار كان أكثر من الذي نهُِبَ من أموال البصرة (3)
  وكان جامع البصرة في مقدّمة مؤسّسات البصرة الفكريّة التي تعرّضت للحرق والتدمير (1) ، كما نهُبت وحُرقت العديد من مكتبات علماء البصرة، كما الحال مع الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن أورمة الأصبهانيّ، الذي قدِم العراق واستقرَ به منكبّاً على العِلم والتدريس، وخلال هجمات الزنج تعرّضت كُتُبه للتلَف، وربمّا للحرق، فقد رُوي أنّه : (ذهبت كتبُه بالبصرة في فتنة الزنج) ، وتوفي في أصبهان سنة (270 هـ - 883 م) (5) ، وورد

*************************************************
(1) اليافعي، مرآة الجنان : ج 2، ص 161 ، الذهبيّ، سير أعلام النبلاء : ج 12 ، ص 375 .
(2) اليافعي، المصدر نفسه : ج 2، ص 161 ، الذهبيّ، العبر : ج 2، ص 14 ، 19 ، السيوطيّ، تاريخ الخلفاء : ص 363 .
(3) ابن الأثير، الكامل في التاريخ : ج 6، ص 225 ، 232 .
(4) ابن الأثير، الكامل : ج 6،ص 232 ، اليافعي، مرآة الجنان : ج 2، ص 169 ، الذهبيّ، العبر : ج 2 ، ص 19.
(5) أبو نعيم الأصبهاني، ذكر أخبار أصبهان (مطبعة بريل، ليدن - 1934) : ج 1، ص 184 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 52 ـ

  أنّ مكتبة ابن أبي عاصم (1) أُتلِفت أيضاً خلال هجمات الزنج في البصَرة (2) .
  وخلال هجمات الزنج وقتلهم أهلَ البصرة قُتل عددٌ من علمائها، نذكر منهم العالم الرّيَاشي أبي الفضل العبّاس بن الفرج، وهو من كبار علماء النحو واللُغة ورواية الشعر ، مات مقتولاً في إحدى هجمات الزنج على البصرة عام (257 هـ - 870 م) (3) ، وروي أنَ عام اللُغة أبا العلاء محمّد بن أبي زرعة الباهليّ هو الآخر قُتل يوم دخول صاحب الزنج البصرة عام (257 هـ - 870 م) (4) .
  وكان لشدّة ما لحق بأهلِ البصرة من قتلٍ اضطرَ العديد منهم إلى الهجرة والنزوح عنها إلى مناطق أُخَر (5) ، وضمن المهاجرين كان العديد من علماء البصرة، ويبدو أنّ هجرة علماء البصرة كانت بكثرة إلى الدرجة التي ترك نزوحُهم عنها فراغاً وأثراً على الحياة الفكريّة، ومن أجل معالجة ذلك الفراغ العلميّ ومحاولة إعادة نشاط الحركة الفكريّة في البصرة طلب الموفّق بالله (6) من العالم أبي داود السجستانيّ الأزديّ سليمان ابن الأشعث بن إسحاق إمام أهل زمانه أن ينتقل إلى البصرة، ويتّخذَ منها وطناً ، كي

*************************************************
(1) هو أبو بكر أحمد بن عَمْرو بن أبي عاصم النبيل الشيبانيّ (ت 257 هـ) . ينظر ، الذهبيّ، تذكرة الحفّاظ : ج 2، ص 640 - 641 .
(2) الذهبيّ، تذكرة الحفّاظ : ج 2، ص 641 .
(3) الزبيديّ، طبقات النحويين واللغويين : ص 97 ، 99 ، ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء : ج 3 ، ص 443 ، الذهبيّ، سير أعلام النبلاء : ج 12 ، ص 374 - 375 ، ابن العماد الحنبليّ، شذرات الذهب : ج 2، ص 136.
(4) الزبيديّ، طبقات النحويين واللغويين : ص 110 .
(5) الذهبيّ، تاريخ الإسلام : ج 19 ، ص 24 .
(6) محمّد بن جعفر بن محمّد يكنّى أبا محمّد، أخو المعتمد، عقد له ولاية العهد بعد ابنه جعفر فمات سنة 278 هـ قبل موت المعتمد بسنة وأشهر، ويقال : إنَ اسمه كان طلحة، وعلى يديه قُتل صاحب الزنج . ينظر : الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد : ج 2، ص 125 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 53 ـ

  يرحلَ إليه طلبة العلم من أقطار الأرض، وهذا ما ورد في قول الموفّق : (... يرحل اليك طلبة العلم من أقطار الأرض فتعمُر بك، فإنهّا قد خُرّبت، وانقطع عنها النّاس لما جرى من محنةِ الزنج) ، فرحل إليها أبو داود السجستانيّ، وظلّ فيها حتى وفاته سنة (275 هـ - 888 م) (1) .
  ويظهر بجلاء أنّ ما تعرّضت له البصرة من محنٍ بسبب الزنج أثّر تأثيراً بليغاً على الحركة الفكريّة، ليس داخل البصرة فقط، بل في العالم الإسلامي ، إذْ انقطعت بهجرة علمائها الرحلاتُ العلميّة إليها، وأصيبت بخمولٍ أو فتورٍ فكريٍ، فكان لا بُدَ من إعادة الحياة لمدينة البصرة برفدها بكبار العلماء لتعاود نشاطها الفكريّ، ويبدو أنّ هذه الإجراءات شملت عدداً آخر من العلماء، أي لم يكن أبو داود السجستانيّ وحده من أُرسِلَ إلى البصرة، وإنما شمل ذلك علماء آخرين غيره.
  وفي عام (286 هـ - 899 م) ظهر رجلٌ من القرامطة (2) يُعرف بأبي سعيد

*************************************************
(1) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد : ج 22 ، ص 191 ، 199 ، أبو يعلى الحنبلي : طبقات الحنابلة (تحقيق : محمّد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت - د. ت) ، ج 1، ص 159 ، 162 ، السُبكيّ : طبقات الشافعية الكبرى (تحقيق : د. محمود محمّد الطناحي، و د. عبد الفتاح محمّد الحلو، دار حجر للطباعة والتوزيع ، ط 2 - 1413 هـ) : ج 2 ، ص 296.
(2) القرامطة نسبة إلى رجلٍ يقال له حمدان قَرمط، لقب بذلك لقرمطةٍ في خطه، وكان في ابتداء أمره أكّاراً من أكَرَة سواد الكوفة، وإليه تنسب القرامطة. ينظر : البغدادي، الفَرق بن الفِرَق (ط 2 ، دار الآفاق الجديدة، بيروت - 1977 ) : مج 1، ص 266 - 267 ، والقرامطة هم الذين يرون أنّ إسماعيل بن جعفر الصادق (ع) قد توفيّ في زمن أبيه، غير أنّه قبل وفاته نصّ على ابنه محمّد، فكان الإمام بعده، وهؤلاء هم القرامطة المباركيّة ونسبهم إلى القرامطة برجلٍ من أهل السّواد يُقال له قرمطويه، ونسبهم إلى المباركيّة برجلٍ يسمّى المبارك مولى إسماعيل بن جعفر، والقرامطة من أخلاف المباركيّة، والمباركيّة سلفهم. ينظر، الشريف المرتضى : الفصول المختارة (تحقيق : السيّد نور الدين جعفريان الأصبهانيّ وآخرون، ط 2، دار المفيد، بيروت - 1993) : ص 305 - 306 ، النوبختيّ، فرق الشيعة ( دار الأضواء، بيروت - 1984 ) : ص 72 - 73 ، وجاء أنهّم طائفة قالت

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 54 ـ

  الجنابيّ (1) في البحرين، فاجتمع إليه جماعةٌ من الأعراب والقرامطة، وقوي أمره وأظهر أنّه يريد البصرة (2) ، حيث وصلت الأخبار عن اقترابه من البصرة عام (288 هـ - 900 م) ، فعمَ الخوف والهلع في صفوف أهل البصرة، وهمُوا بالهروب (3) ، وفي عام (307 هـ - 919 م) هاجم القرامطة مدينة البصرة للمرّة الأولى، وقتلوا وسلبوا ونهبوا (4) ، ونجح أبو طاهر القرمطيّ (5) في دخول البصرة عام (311 هـ - 923 م) ، وقتل والي البصرة، ووضع السّيف في أهلِها (6) .
  وخلال هجمات أبو طاهر القرمطيّ أُحرق الجامعُ، وهرب

*************************************************
بإمامة محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (ع) ظاهراً وبالإلحاد وإبطال الشريعة باطناً ، لأنهّم يحللون أكثر المحرّمات. المازني : شرح أصول الكافي (تحقيق وتعليق : الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ ، صحّحه : السيّد علي عاشور، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت- 2000) : ج 7، ص 345.
(1) هو الحسن بن بهرام أبو سعيد الجنابيّ كبير القرامطة، ظهر في البحرين سنة 286 هـ ، واجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة وقوي أمره، وقيل : إنّه كان يبيع الطعام للناس، قتل سنة 301 هـ . الصفديّ : الوافي : ج 11 ، ص 314 .
(2) ابن الأثير، الكامل : ج 6، ص 396 ، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة (وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر - د. ت) : ج 3، ص 119 - 120 ، السيوطيّ، تاريخ : ص 371 .
(3) ابن الأثير، الكامل : ج 6، ص 408 .
(4) الذهبيّ، تاريخ : ج 23 ، ص 28 ، ابن العماد الحنبليّ، شذرات الذهب : ج 2، ص 261 .
(5) هو سليمان بن الحسن بن بهرام الجنابي، عهد أبوه في سنة (301 هـ) بأمر زعامة القرامطة إلى ابنه الكبير سعيد، فعجز عن الأمر، فغلبه سليمان، فأغار على بعض أنحاء البلاد الإسلاميّة كالبصرة والكوفة ومكّة، وعاد إلى هجر، وهناك مات سنة (332 هـ) بالجدري. ينظر الزركليّ، الأعلام : ج 3، ص 123 .
(6) ابن الأثير الكامل : ج 7، ص 15 ، ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة : ج 3، ص 207 - 208 ، القلقشنديّ : مآثر الإنافة في معالم الخلافة (تحقيق : عبد الستّار أحمد فرّاج، ط 2، مطبعة حكومة الكويت - 1985 ) : ج 1، ص 278 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 55 ـ

  العديد من أهل البصرة (1) ، وعانت البصرة من الهجمات المتكرّرة بين البريديّ (2) الذي سيطر عليها واستولى على أموالها منذ عام (320 هـ - 932 م) وبين معزّ الدولة (3) البويهيّ، حتى تمكّن معزّ الدولة والحاكم العبّاسي المطيع بالله من إعادة السيطرة على البصرة في عام (335 هـ - 946 م) (4) ، ولا ريب أنّ الهجمات المتبادلة أثّرت على أحوال البصرة الفكريّة، وألحقت بها أضراراً، ومن الطبيعي أن تتعرّضَ بعض المؤسّسات الفكريّة ومجالس العلماء ومكتباتهم إلى الخراب والضرّر أيضاً .
  وفي سنة (357 هـ - 967 م) حدث خلاف بين البويهييّن، إذْ تمرَد حبشيٌ في البصرة محاولاً الاستقلال عن سيطرة أخيه بختيار بن معزّ الدولة، وقد تمكّن بختيار من القضاء على ذلك التمرّد، وخلال وقائع الصرّاعات المتبادلة وضع بختيار يده على مكتبةٍ ضخمةٍ قيل إنهّا ضمّت حدود ( 15 ) ألف مجلّدٍ فيما عدا الأجزاء والكتب التي لا تحتوي على جِلد (5) ، ومن الطبيعي أن تتبعثر بعض الكتب خلال نقلها، أو أن يتعرّض بعضها

*************************************************
(1) الذهبيّ، العبر : ج 1، ص 153 .
(2) سيطرت على البصرة أسرة البريدييّن، وهم أربعة أخوة منهم أبو عبد الله أحمد بن البريديّ، وهو الأخ الأكبر، ثمّ أبو عبد الرحمن بن محمّد الذي ذاع صيته وقوي نفوذه، حتى أنّه هدّد الخليفة المتقي في بغداد، وأبو يوسف يعقوب بن محمّد وأبو الحسن عبد الله بن محمّد، وقد حكم البريديّون البصرة والأهواز وواسط، وامتدَ نفوذُهم إلى أطراف بغداد، حتى تمكّن معزّ الدولة البويهيّ من القضاء عليهم . ينظر : الغفار، الشيخ عبد الرسول : الكليني والكافي (ط 1، قم - 1416 ) : ص 239.
(3) معزّ الدولة أحمد بن بويه بن فنافرو بن تمام، من سلالة سابور (ذو الأكتاف) الساسانيّ من ملوك بني بويه بالعراق، يقال له الأقطع ، لأنّ يده قطعت في معركة مع الأكراد، تولّى في صباه كرمان وسجستان والأهواز، ثمّ امتلك بغداد سنة 334 هـ في خلافة المستكفي، ودام حكمه ( 22 ) سنة إلا شهراً، وتوفيّ في بغداد سنة 356 هـ . ينظر : الزركليّ، الأعلام : ج 1، ص 105 .
(4) ابن الأثير، الكامل : ج 7، ص 171 ، 175 - 176 ، 221 .
(5) ابن الأثير، المصدر نفسه : ج 7، ص 304 ، وذكر ابن خلدون أنّ مقدار ما أُخذ من الكتب كان عشرة الآف مجلد . ينظر : تاريخ (ط 5، دار القلم، بيروت - 1984 ) : ج 3، ص 529 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت ـ 56 ـ

  للنّهب والسرّقة.
  وكانت هجمات الأعراب المتكرّرة على البصرة طول العصور العبّاسية المتأخرة قد أضرّت كثيراً بالبصرة، ولعلّ أشدَها تلك التي وقعت في عام (483 هـ - 1090 م) ، إذ ذُكِر أنّ رجلاً أدّعى الأدب والنجوم فلقّبه أهل بغداد (بليا)، فسار إلى أحد أمراء العرب من بني عامر وبلاده متاخمة الإحساء (1) ، فأغراه وحرّضه على نهب مدينة البصرة، فجمع الأمير العامريّ من العرب ما يزيد على عشرة آلاف مقاتل وقصد البصرة، وحينما سمع أهل البصرة بذلك هجروا ديارهم وهربوا، فدخلت الأعراب البصرة وقوِيت شوكتهم، وملكوها، ونهبوا فيها نهباً شنيعاً، وأحرقوا عدّة مواضع، وفي جملة ما أحرقوه دارين للكتب، أحدُهما وُقفت قبل أيّام عضد الدولة البويهيّ (2) ، فقال عضد الدولة : (هذه مكرمةٌ سبقنا إليها) وهي أوّل دار وُقفت في الإسلام، والأخرى وقفها الوزير أبو منصور (3) بن شاه مردان، وكان بها نفائس الكتب وأعيانها (4)
  وجاء في روايةٍ أخرى أنّ ذلك الرجل الذي لقب (بليا) كان قد استغوى خلقاً من

*************************************************
(1) الإحساء، إحساء القطيف وبحذاء الحاجر في طريق مكّة، والإحساء مدينة بالبحرين معروفة مشهورة، كان أوّل من عمّرها وحصّنها وجعلها قصبة هَجَر أبو طاهر الحسن بن أبي سعيد الجنابيّ القرمطيّ . ينظر : ياقوت الحمويّ، معجم البلدان : ج 1، ص 97.
(2) عضد الدولة : فناخرو بن الحسن بن بويه، تولّى ملك فارس، ثمّ ملك الموصل وبلاد الجزيرة ، وهو أوّل من خُطب له على المنابر بعد الخليفة العبّاسي، وُصف بأنّه كان شديد الهيئة جباراً عسوفاً، أديباً عالماً شاعراً، أنشأ البيمارستان العضديّ وعدداً من القناطر والجسور، توفيّ في بغداد سنة 372 هـ . الزركليّ، الأعلام : ج 5، ص 156.
(3) أبو منصور بن شاه، رجلٌ فارسيٌ، وزير ابن أبي كاليجار الديلميّ الذي ملك فارس. ينظر : ناصر خسرو، سفر نامة (تحقيق : د. يحيى الخشاب، ط 3، دار الكتاب الجديد، بيروت - 1983) : ص 145.
(4) ابن الأثير، الكامل : ج 8، ص 465 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 57 ـ

  أهل بغداد وزعم أنّه المهدي (ع) ، فهجم على البصرة، وأحرق فيها شيئاً كثيراً، ومن ضمن ذلك أحرق دارَ كُتُبٍ وُقِفت على المسلمين لم يُرَ في الإسلام مثلُها (1) .
  وعلى الرغم من الاختلاف حول الشخص الذي قاد الهجوم على البصرة ودمّرها هل هو الأمير العامري أو مدَعي النجوم والكذب (بليا)، فالروايتانِ تؤكدان أنَ أكبر دارِ كتبٍ في البصرة قد تمَ حرقها.
  وفي عام (499 هـ - 110 م) ملك سيف الدولة (2) صدقة بن مزيد مدينة البصرة بعد أن أوقعت قوّاته فيها نهباً وسلباً وتدميراً، ثمَ أمَنَ سيفُ الدولة المزيّديّ أهلَ البصرة، وعينّ عليهم شحنة من قبله يُدعى التونتاش، وعاد إلى الحلّة ثانية (3) ، وما أن علمت قبائل ربيعة (4) والمنتفق (5) بعودة سيف الدولة حتى أجمعوا أمرهم على مهاجمة البصرة، وانضمّ إليهم من العرب جمعٌ كبيرٌ، وقصدوا البصرة وتمكّنوا من أسر شحنتها التونتاش، فتفرّق عنه جنده، ودخل الأعراب البصرة بالسّيف، وأحرقوا الأسواق والدور، ونهبوا ما قدروا عليه، واستمرُوا بالنّهب والحرق مدّة ( 32 ) يوماً، وكان من جملة ما تمّ نهبه خزانة كتبٍ كبيرةٍ موقوفةٍ وقفها القاضي أبو الفرج بن أبي البقاء (6) ، فبلغ الخبر ابنَ صدقة

*************************************************
(1) ابن كثير، البداية والنهاية (تحقيق وتعليق : علي شبيري، ط 1، دار إحياء التراث العربي ، بيروت - 1988) : ج 12 ، ص 168 .
(2) الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد الأسديّ، أمير العرب الذي بنى الحلّة السيفيّة بالعراق، عظم شأنه وعلا قدره واتسع جاهه، توفي سنة (500 هـ) . ينظر : ابن الأثير، الكامل : ج 9، ص 113.
(3) ابن الأثير، المصدر نفسه : ج 9، ص 90 - 91 .
(4) قبائل ربيعة (عبد القيس، وشيبان، وبنو عجل، وبنو قيس، وسدوس).
(5) المنتفق نسبة إلى المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ابن الأثير، اللُباب : ج 3، ص 359.
(6) أبو الفرج بن أبي البقاء عبد الله بن الحسن قاضي البصرة، كان من فقهاء الشافعيّة المشهورين

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 58 ـ
  المزيّدي فأرسل قوةً في الوقت الذي هرب الأعراب عنها، كما بعث السلطان السلجوقيّ محمّد بن ملكشاه (1) قوّة تمكّنت من استرجاع البصرة من يد سيف الدولة بن صدقة المزيّديّ، وعنّ عليها شحنةً وعميداً، وشرع في إعادة إعمارها (2) .
  وتوالت هجمات الأعراب على البصرة مستغلين ضعف السّلطة السياسيّ، ففي سنة (588 هـ - 1192 م) نهب بنو عامر البصرة، ولم يغادروها إلا بعد وصول قبائل خفاجة والمنتفق ودخولهم البصرة، فنهبوا ودمّروا، فاضطرّ العديد من أهلها إلى الهجرة بعد أن نهُبت أموالهم، وقيل جرت في البصرة أمورٌ عظيمةٌ وتكرّر ذلك في سنة (593 هـ - 1196 م) (3) .
  ولا شكّ في أنّ تلك الهجمات وما تخلّلها من نهبٍ وسلبٍ وتدميرٍ كان قد أثّر على واقع الحركة الفكريّة في البصرة، ولابدّ أن يكونَ من ضمن المهاجرين عددٌ من العلماء الذينَ هم أكثر تأثيراً بما شهدته البصرة من فوضى واضطراب.
  وفي أواخر العصر العبّاسي كان في مدينة البصرة ثلاث مدارس (للحنفيّة

*************************************************
  تفقّه على الماورديّ، وكان عفيفاً مقدَماً عند الخلفاء والسلاطين، توفيّ عام (499 هـ) . ابن الأثير، الكامل : ج 9، ص 98 . (1) أبو شجاع محمّد بن ملكشاه بن آلب أرسلان، الملقّب غياث الدين، وكان السلطان محمّد رجل الملوك السلجوقيّة وفحلهم، وله الآثار الجميلة والسيّرة الحسنة، استقلّ بالممالك بعد موت أخيه (بركياروق)، ولم يبقَ له منازع، وأقام على ذلك مدّة، ثمّ مرض زماناً طويلا، وتوفيّ (سنة 511 هـ) بمدينة أصبهان. ابن خلّكان، وفيات الأعيان : ج 5، ص 71 - 72 .
(2) ابن الأثير، الكامل : ج 9، ص 95.
(3) ابن الأثير، المصدر نفسه : ج 10 ، ص 214.

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 59 ـ

  والشافعيّة (1) والمالكيّة )، وبني فيها الأمير أبو المظفّر (2) باتكين مدرسةً للحنابلة، إذْ لم تكن لهم مدرسةٌ في البصرة، وأنشأ مدرسةً للطب، وجدّد المستشفى القريب من المدرسة الذي خُرب قبل عهده، كما عمل على إعادة إعمار جامع البصرة الذي احترق عام (642 هـ - 1244 م) وأنشأ رباطاً متّصلاً بالجامع، ورباطاً آخر قريباً منه، وبنى في دهليز الجامع حُجرتين، جعل في إحداهما كُتُباً، كما أوقف على جميع المدارس المذكورة آنفاً كُتُباً نفيسةً (3) .
  إلا أنَه بعد سقوط بغداد بيد المغول عام (656 هـ - 1258 م) وسيطرتهم على البصرة لم نعُد نسمع عن مكتبات البصرة العامّة والخاصّة ومؤسّساتها شيئاً ضمن تراجم علماء القرنين السابع والثامن الهجرييّن، فربمّا تعرّضت للتدمير والخراب بأثر هجمات المغول، أو هجمات الأعراب المتكرّرة، وقيامهم بالنّهب والسّلب (4) ، سوى ما ذكره ابن بطوطّة حينما زار البصرة حدود عام (727 هـ - 1331 م) فإنَه رأى المسجدَ الجامعَ في البصرة

*************************************************
(1) يبدُو أنهّا المدرسة النظاميّة التي أنشأها الوزير نظام الملك الحسن بن علي الوزير السّلجوقيّ عام (459 هـ - 1066 م) في البصرة، إذْ كانت وفق المذهب الشافعيّ، ينظر : السُبكيّ، طبقات الشافعيّة الكبرى : ج 4 ، 309 ، 313 ، د. عبد الجبار ناجي : من تاريخ الحركة الفكريّة في البصرة، المركز الثقافيّ، جامعة البصرة، (سلسة تراث البصرة (12) - 1991) : ص 30.
(2) أبو المظفّر شمس الدين باتكين بن عبد الله الروميّ الناصريّ، كان ملوكاً لعائشة بنت المستنجد بالله، وخدم في الجيش، وأقام بتكريت مدّة، ثمّ سُلّمت إليه البصرة بحربها وخراجها، فأقام بها (23) سنة، فعمّرها، وجدّد فيها مدارس كانت قد درست، وأنشأ مدرسةً للحنابلة ومدرسة للطبّ، ولما ملك المستنصر بالله إربل سنة 630 هـ نقله من البصرة إليها، وفي أيّامه دخل إربل المغول سنة 635 هـ، فذهب إلى بغداد ، ولزم داره إلى أن توفيّ سنة 640 هـ . الزركليّ، الأعلام : ج 2 ، ص 40.
(3) الزركلي، الأعلام : ج 2، ص 40 .
(4) العزّاويّ، رنا سليم : الحركة الفكريّة في العراق بالقرن الثامن الهجريّ (أطروحة دكتوراه، جامعة البصرة ، كلّيّة الآداب - 2013 ) : ص 36 - 37 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 60 ـ

  ووصفه وأشار إلى المكتبة التي كانت فيه وما حويه من كُتُب (1) . ويرى الدكتور عبد الجبار ناجي أنّ هذه المكتبة التي وصفها ابن بطوطة ربمّا تكون هي نفسها مكتبة باتكين التي أنشأها في جامع البصرة (2) .

  ب ـ الاسبابُ الذاتّية والطبّيعية :

  ونقصد بالأسباب الذاتيّة الإتلاف الذاتيّ للكتب من أصحابها، وكذلك الأسباب الطبيعيّة المتمثّلة بالكوارث الطبيعيّة، فبالنسبة للإتلاف الذاتيّ فقد ذُكر أنّ العالم البصريّ أبا عمرو بن العلاء القارئ (ت 153 هـ - 770 م) أحرق مكتبته الخاصّة التي قيل إنهّا كانت مِلْءَ بيته إلى السّقف بعد أن تنسَك (3) .
  وروي أنّ أبا عبد الرحمن مؤمّل بن إسماعيل العدويّ البصريّ (ت 206 هـ - 821 م) كان قد دفن كتبَه وأتلفها (4) ، والأمرُ نفسُه ورد بشأن المحدث إبراهيم بن فهد بن حكيم الساجيّ البصريّ (ت 282 هـ - 895 م) ، إذْ روي ذهبت كتبه (5) ، دون تحديد كيفيّة إتلافها أدَفْناً أم تمزيقاً أم حرقاً ؟
  أمّا بشأن الظروف والأسباب الطبيعيّة فعلى الرغم من تعرّض البصرة لبعض الكوارث الطبيعيّة كالحرائق (6) على سبيل المثال، إلاّ أنّه لم ترد إشارةٌ بشأن تعرّض إحدى

*************************************************
(1) رحلة ابن بطوطة (تحقيق د. علي المنتصر الكناني، ط 4، مؤسّسة الرسالة، بيروت - 1405 ) : ج 1 ،ص 207 .
(2) من تاريخ الحركة الفكريّة في البصرة : ص 28 .
(3) المزّي، تهذيب الكمال : ج 34 ، ص 124 ، السيوطيّ، بغية الوعاة : ج 2، ص 158 .
(4) المزّي، المصدر نفسه : ج 29 ، ص 176 - 177 .
(5) أبو نعيم الأصبهانيّ، ذكر أخبار أصبهان : ج 1، ص 186 ، ابن حَجَر العسقلاني، لسان الميزان : ج 1، ص 91.
(6) وقَع في البصرة حريقٌ سنة 128 هـ ، وفي سنة 217 هـ وقع حريقٌ وصف بأنّه حريقٌ عظيمٌ ،

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 61 ـ

  المكتبات للتلف حرقاً أو غرقاً أيضاً، سوى إشارة واحدة وردت بصدد تلف بعض كتب الحافظ أبي أيّوب المنقريّ الشاذكويّ البصريّ سليمان بن داود (ت 234 هـ - 848 م) فقد روي أنّه كان في طريق ذهابه لأصبهان فانهال عليه المطر، ولم يكن تحته سقفٌ أو شيءٌ يقِيه، وكان يحمل معه كتباً فانكبَ عليها، كما ورد عنه قوله : (فانكببت على كُتُبي حتّى أصبحت وهدأ المطر) ، وبأثر ذلك أُتلفت كُتُبه تلك (1) .

3 ـ الاسباب الخاصة بعمر بن شبَّة :

  قبل الخوض في أسباب ضياع كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة لابُدَ من القول إنّ المصادر لم تشُر إلى تاريخ تأليفه ومكان التأليف، أي : هل ألَفه عمر بن شبَة في البصرة، أو في بغداد، أو في سامراء ؟ وإذا كان قد ألَفه في البصرة، فهل بقي فيها، أو نقله معه إلى بغداد وبعدها إلى سامراء حينما انتقل للعيش فيها ؟ أي : هل نقل عمر بن شبَة خزانة كتبه إلى أماكن إقامته الجديدة، أو بقيت في البصرة ؟ وهل كان ضياعها داخل البصرة، أو في بغداد، أو في سامراء ؟
  بالنسبة إلى وقت تأليف الكتاب فقد ذُكر أنّ عمر بن شبَة ألَفه قبل كتابيَ الكوفة ومكّة (2) ، دون أن نعرف متى وأين كان ذلك بالضبط، أمّا بصدد التساؤل الذي يتعلّق بوجود الكتاب في البصرة – إذا كان قد ألَفه في البصرة – أو نقله معه لبغداد وسامراء، فأغلب الظن أنّه نقل خزانة كتبه معه إلى محل إقامته الجديدة، والأرجح أنّ جميع كتب عمر بن شبَة كانت معه في سامراء، إذْ إنَ انتقاله إليها كان من أجل الاستقرار، فلم يعُدْ

*************************************************
ينظر : اليافعيّ، مرآة الجنان : ج 1، ص 270 ، ابن العماد الحنبليّ، شذرات الذهب : ج 2، ص 80 .
(1) الخطيب البغداديّ، تاريخ : ج 9، ص 49 ، السمعاني، الأنساب : ج 3، ص 372 ، الذهبيّ، ميزان الاعتدال : ج 2، ص 205 ، 206 .
(2) ابن حوقل، صورة الأرض : ص 238 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 62 ـ

  بعدها لبغداد أو البصرة، ومن الطبيعيّ أن يكونَ قد حمل معه مستلزماتِه وشؤونَه كافّة، ولا سيمَا ما يخصُ نشاطه العلميّ، كأوراقه وكتبه، وبالفعل فقد أصبحت سامراء موطناً لعمر بن شبَة وأسرته، حتى قيل عن ابنه أحمد بأنّه من أهل سامراء، ولم يعُد يُعرف بالبصريّ كأبيه، بل قيل : إنَ (والده بصريّ) (1) .
  وفيما يتعلّق بالأسباب الخاصّة بعمر بن شبَة وكتبه على وجه التحديد بما فيها كتاب أخبار البصرة، فقد وردت روايتان بشأنها تؤكدان أنَ عمر بن شبَة كان قد نقل معه مؤلَفاته إلى بغداد، ثمّ نقلها إلى سامراء، الرواية الأولى ذُكر فيها أنّه أُمتحن في سامراء، وحينما امتنع عن القول بخلق القرآن كفّروه، وعوقب بتمزيق كتبه (2) ، وهذه الرواية دفعت بعض الباحثين إلى القول بأنّ كتاب أخبار البصرة لابن شبَة كان قد فُقد منذ بداية القرن الثالث الهجريّ في عام (231 هـ - 845 م) بعد أن مزق مع ما تمَ تمزيقُه من كتبه (3) .
  وأغلب الظنّ أنّ الكتب التي مُزّقت لعمر بن شبَة هي تلك التي تتعلّق بأمور الفقه والحديث، وهي الكتب المخالفة لمذهب الاعتزال، المذهب الرسميّ للسلطة العبّاسيّة آنذاك. وما يجدر ذكره أنّ جميع مؤلَفات عمر بن شبَة كانت تتعلّق بمواضيع الشعر واللُغة والأنساب والتاريخ كما مرَ بنا، فما فائدة تمزيق مثل هكذا مؤلَفات في محنةٍ كبيرةٍ تتعلّق بالجانب الديني والفكري ، فلو كانت مؤلَفات ابن شبَة التاريخيّة قد مزقت ومزق معها كتاب أخبار البصرة، فلماذا لم يتمَ تمزيق كتابه عن تاريخ المدينة الذي وصل إلينا وسلِم من نوائب الزمن ؟

*************************************************
(1) الصفدي، الوافي : ج 7، ص 171 - 172 .
(2) الخطيب البغداديّ : تاريخ بغداد، ج 11 ، ص 209.
(3) محمّد العبيدي، عمر بن شبَة ومكانته في كتابة التاريخ : ص 16 - 17 ، فاضل جابر ضاحي، أغرب الأخبار : ص 76 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 63 ـ

  ومن جهةٍ أخرى أنّ ابن حوقل خلال حديثه عن مؤلَفات عمر بن شبَة وبالتحديد (البصرة والكوفة ومكّة) أكّد أنهّا موجودة في جميع الأماكن (1) ، فابن حوقل (ت 367 هـ - 977 م) اقر بوجود كتاب أخبار البصرة لغاية منتصف القرن الرابع الهجريّ، أي بعد مرور أكثر من قرنين من الزّمن على الرواية التي صرّحت بتمزيق كتب ابن شبَة، ليس هذا فحسب، بل إنَ الكتاب كان في أكثر من نسخةٍ، ومحفوظاً في أكثر من مدينةٍ، وأنّه من المصنّفات المشهورة، فأصبح متداولاً في أماكن عديدة.
  وعند متابعة نقولات المؤرّخين والبلدانيّن وكتّاب التراجم والأدباء من كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة، يظهر ما يشير إلى وجودِه وتداولِه والاعتماد عليه حتى حقبةٍ متأخرةٍ كما سنرى (2) .
  والرواية الثانية أكّدت أنّ جميع مؤلَفات وكتب عمر بن شبَة كانت موجودة ولم يتمَ تمزيقُها، وإنمّا تولّى بيعَها ابنُه أبو طاهر أحمد، إذْ باعها بعد وفاة أبيه إلى أبي الحسن علي ابن يحيى بن المنجّم (3) .
  وما يجدر ذكرُه أنّ لعمر بن شبَة ثلاثة أولاد، الأوّل : يُدعى (زيد)، وبه يُكنّى، ولا أخبار عنه، وكأنّه غير موجودٍ، والثاني : يُدعى (عبد الرحمن) ، وهو من رواة الأخبار (4) والثالث أبو طاهر أحمد المذكور آنفاً، وكان شاعراً ظريفاً مجُِيداً، توفيّ بعد أبيه بنحو عشر سنن (5) ، وقيل : إنَ أبا طاهر أحمد كان قد اعتبط قبل أن يبلغ مبلغ المشهورين (6) ، ولعلّ

*************************************************
(1) صورة الأرض : ص 238 .
(2) ينظر الفصل الثاني (نقولات المؤرّخين وكُتاب التراجم والأدباء والجغرافيين) . .
(3) ابن النديم، الفهرست : ص 125 .
(4) العبيديّ، عمر بن شبَة ومكانته في كتابة التاريخ : ص 21.
(5) ابن النديم الفهرست : ص 125 ، الصفديّ، الوافي : ج 7، ص 171 - 172 .
(6) ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء : ج 4، ص 466 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 64 ـ

  عبطَهُ وحمُقَه كان سبباً في تفريطه بكتب أبيه وبيعها، أو أنّه حصل على أموال كثيرة أغرته ببيعها، فمؤلَفات عمر بن شبَة انتقلت ملكيّتها لأبي الحسن عليّ بن يحيى بن أبي منصور المنجم (ت 275 هـ - 888 م) ، وهو من العلماء النابغين، كان شاعراً وراوياً للأخبار، نادم المتوكّل ومَن بعده من الخلفاء، واتّصل بالفتح بن خاقان (1) في سامراء، وعمل له خزانة كتب كبيرة نقل إليها من كتبه، وأكثرُها كتبُ حكمةٍ (2) .
  وجاء أنّ أبا الحسن بن المنجم خلَف عدداً من الأولاد، كلُهم علماء نجباء، لديهم مؤلَفاتٌ عديدة (3) ، وهنا يتبادر إلى الذهن احتمالان، الأوّل : إنّ أبا الحسن المنجم كان قد اشترى كُتُب عمر بن شبَة ليجعلَها في خزانة الفتح بن خاقان، وربمّا كان ذلك بناءً على طلب ابن خاقان، وهذا الاحتمال وإن كان وارداً إلاّ أنّه ضعيف ، أنّ خزانة ابن خاقان وُصفت بأنّ أكثرها كتبُ حكمةٍ -كما أسلفنا-.
  والاحتمالُ الثاني : إنّ ابن المنجم كان قد اشترى كتب عمر بن شبَة لنفسه ووضعها في مكتبته، فهو شاعرٌ وراوي أخبار، وإنّ أغلب مؤلَفات ابن شبَة في هذين الجانبين، ولا شكَ في أنّ تلك الكتب توارثها أبناء أبي الحسن عليّ بن المنجم وأحفاده، لوصفهم بالعلماء النجباء، ولديهم اهتمامٌ بالشعر ورواية الأخبار (4) ، وفي كلتا الحالتين فإنَ كتب عمر بن شبَة ظلّت موجودةً ومتداولةً، ومنها كتاب أخبار البصرة.
  ويمكن القول : إنّ كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة كان موجوداً ومتداولاً طول

*************************************************
(1) الفتح بن خاقان بن أحمد من أولاد الملوك، وصف بالذكاء والفطنة، كانت له خزانة جمعها إليه علي ابن يحيى المنجم، وكان يحضر داره فصحاء العرب وعلماء الكوفة والبصرة، توفيّ في الليلة التي قتل بها المتوكّل سنة (247 هـ) . ابن النديم، الفهرست : ص 130 .
(2) ابن النديم، المصدر نفسه : ص 160 ، ابن خلّكان، وفيات الأعيان : ج 2، ص 373 - 374 .
(3) ابن خلكان، المصدر نفسه : ج 2، ص 375
(4) ابن النديم، الفهرست : ص 160 - 161 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 65 ـ

  العصور الإسلاميّة، فقد صرّح ابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ - 1063 م) ، بأنّ كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة هو الأكثر انتشاراً، وأنّه معروفٌ ومتداولٌ بقوله : (ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبَة ...) .
  وأشار إليه ياقوت الحمويّ (ت 626 هـ - 1228 م) بقوله : (وأخبار البصرة كثيرة والمنسوبون إليها من أهل العلم لا يحُصَون، وقد صنّف عمر بن شبَة وأبو يحيى زكريّا السّاجي، وغيرهما، في فضائلهما كتاباً في مجلّدات) (2 ، أي إنّه كان موجوداً في أيّام ياقوت الحمويّ في القرن السابع الهجريّ.
  وقد استبعد الدكتور عبد الجبار ناجي اطلاع ياقوت الحمويّ على كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة إذْ لم يعتمد عليه، أو ينقل منه نصوصاً تتعلّق بالبصرة أو فضائلها، وإنّ أغلب نقولاته كانت عن البلاذريّ التي أخذها بدوره عن أبي عبيدة مَعمر بن المثنى، وعن أبي الحسن المدائنيّ (3) .
  وعلى الرغم من صحّة هذا القول فإنَ ياقوت الحمويَ فعلاً من ينقل من كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة، إلا أنّ وصفه إيّاه وتحديده سعةَ حجمِه في مجلّدات هو دليلٌ على معرفته بالكتاب وبمحتواه، أو على الأقل سماعه به، ولو كان كتابَا أبي عبيدة مَعمر بن المثنى والمدائنيّ أفضل من كتاب عمر بن شبَة، فمن باب أولى الإشارة إليها بوصفها مثالينِ على المصنّفات الخاصّة بالبصرة، وليس الإشارة إلى كتابيَ عمر بن شبَة والسّاجيّ دونهما.

*************************************************
(1) ابن حزم الأندلسي، رسائل ابن حزم (تحقيق : د. إحسان عباس، ط 1، بيروت - 1981 ) : ج 2 ، ص 176 .
(2) معجم البلدان : ج 2، ص 347 .
(3) إسهامات مؤرّخي البصرة : ص 281 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 66 ـ

  فضلاً عن ذلك كلَه فقد اعتمد ونقل عن كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة عددٌ من المؤرّخين الذين جاءوا بعد ياقوت الحمويّ، وكانت صيغ النقل عنه تدُلُ على اطّلاعهم ونقلهم المباشر من الكتاب كما سنرى لاحقاً (1) ، وهذا يعني أنّ الكتاب لم يزل موجوداً حتى بعد سقوط بغداد على يد المغول عام (656 هـ - 1258 م) ، ولم يتلف خلال أحداث الغزو مع ما حرق وأُتلف من الكتب (2) ، ولم يتلف قبل ذلك أيضاً ضمن الأسباب العامّة التي تخصُ العراق بأجمعه، أو الأسباب الخاصّة بالبصرة، ولا حتى ضمن الأسباب الخاصّة بعمر بن شبَة وحادثة معاقبته بعد تكفيره لامتناعه عن القول بخلق القرآن.
  وقد صرّح بالنقل من كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة مؤرّخو القرن التاسع والعاشر الهجرييّن ومن بعدهم، كابن حَجَر العسقلاني (ت 852 هـ - 1449 م) (3) ، والعينيّ (ت 855 هـ - 1451 م) (4) ، وكذلك الشوكانيّ (ت 1255 هـ - 1839 م) (5) .
  ولكنّ الغريب في الأمر أنّ الذهبيّ (ت 748 هـ - 1347 م) أشار إلى ما يؤكد فقدان الكتاب في أيّامه أو عدم وجوده، فقد أدلى خلال ترجمته لعمر بن شبَة قائلاً : (صنّف تاريخاً كبيراً للبصرة لم نرَه) (6) ، وقد كرّر الذهبيُ العبارةَ نفسَها خلال ترجمته لابن

*************************************************
(1) ينظر الفصل الثاني .
(2) هناك مبالغةٌ في وصف مقدار الخراب والتدمير الذي وقع بالعراق عامّة، وبغداد بصورةٍ خاصّة بسبب الغزو المغوليّ، ولا سيمَا بشأن حرق الكتب . ينظر : ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة : ج 7 ، ص 51 .
(3) ينظر على سبيل المثال، فتح الباري : ج 13 ، ص 45 ، تهذيب : ج 7، ص 387 .
(4) عمدة القارئ : ج 8، ص 93 .
(5) نيل الأوطار : ج 4، ص 156 ، 163 .
(6) سير أعلام النبلاء : ج 12 ، ص 372 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 67 ـ

  الأعرابيّ (ت 340 هـ - 951 م) مشيراً إلى أنّه ألَف عن تاريخ البصرة كتاباً لم يَرَهُ أيضاً (1) ، فربمّا هناك خلطٌ بين كتاب البصرة لابن شبَة وكتاب البصرة لابن الأعرابي، ولعلَه قصد كتاب البصرة لابن الأعرابيّ الذي لم يَرَهُ، وليس كتاب عمر بن شبَة ، لسببين اثنين، السببُ الأوّل : إنّ الذهبيَ نفسَه في موضعٍ آخر اعتمد على كتاب أخبار البصرة لابن شبَة، ونقلَ منه مستعمِلاً صيغَ النقل المباشرة من الكتاب بقوله : (وقال عمر بن شبَة) (2) ، أو (حكى عمر بن شبَة) (3) .
  والسببُ الثاني : إنّ جميع المؤرّخين وكُتّاب التراجم الذين عاصروا الذهبيّ، والذين جاءوا بعده، كانوا قد صرّحوا بالنقل منه كما أسلفنا، فكيف يكون ابن حَجَر العسقلاني اطّلع على الكتاب، واعتمد عليه، وتصرّف في النقلِ عنه، ويكونُ الذهبيّ لم يَرَهُ، وبعد ذلك ترِدُ إشارةَ المقَري (ت 1041 هـ - 1631 م) إلى كتاب أخبار البصرة بقوله : (ولا أعلمُ في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبَة ...) ، ثمَ قوله : (ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر بن شبَة) (4) ، فهذا يعني أنّ كتابَا عمر بن شبَة (أخبار البصرة وأخبار الكوفة) كانا لا يزالان متداوليَن ومعروفَين، وبلغت شهرتهما آفاقَ البلاد، وكان الشوكانيُ (ت 1255 هـ - 1839 م) آخر من نقل من كتاب أخبار البصرة مستعملاً صيغَ النقلِ المباشر (5) .

  ونخلص من ذلك إلى نتيجةٍ مُفادها :

  إنَ كتابَ أخبارِ البصرةِ قيد الدراسة إمّا أنْ يكونَ ما يزالُ موجوداً مخطوطاً في

*************************************************
(1) سير أعلام النبلاء : ج 15 ، ص 409.
(2) تاريخ الإسلام : ج 8، ص 50 ، العبر : ج 1، ص 362 .
(3) المصدر نفسه : ج 8، ص 316 .
(4) نفح الطيب : ج 3، ص 165 .
(5) نيل الأوطار : ج 4، ص 156 ، 163 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 68 ـ

  إحدى المكتبات وإنَ أمرَه لم يُكشفْ بعدُ ، لفقدان أجزاءٍ منه، وهذا الاحتمال ضعيفٌ، أو أنَهُ ضاعَ في حِقَبٍ متأخرةٍ ضمن العصور الحديثة مع العديد من المؤلَفات الأُخَر ، بسبب الإهمال والجهل من جهةٍ، واضطراب الأوضاع السياسيّة والفكريّة لتعرّض العراق والبلاد العربيّة لقوىً محتلّةٍ عديدةٍ من جهةٍ ثانيةٍ مع تقادم الزّمن، وتعرّض العديد من المؤلَفات للتلف لأسبابٍ طبيعيّة، كتآكلِ أوراقِها، أو تعرّضها للقوارض من جهةٍ ثالثةٍ.

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 69 ـ

الفصل الثاني : نُقولُ المؤرخين وكتّاب التّراجم
والادباء والجغرافيين وغيرهم من كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَّة النميريّ


  احتوى كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة النُمَيرْيّ على معلوماتٍ شاملةٍ ومتنوعةٍ وواسعةٍ عن مدينة البصرة، وعن أخبار أهلِها في مختلف مجالات الحياة، كما سنرى.
  لذا فقد أصبح الكتاب مصدراً مهماًّ ورئيساً للعديد من المؤرخين، وكتّاب التراجم، والأدباء، والجغرافييّن، إذْ أغنت معلوماتُه المتنوعة مؤلَفاهتِم.
  وفي الوقت ذاتِه فإنّ تلك النُقول ساهمت بشكلٍ كبيرٍ حفظ العديد من نصوص روايات كتاب أخبار البصرة لابن شبَة النُميَرْيّ، وساعدت في إمكانِ الكشفِ عنه، وتحديد هيكليّة الكتاب، وطبيعة معلوماتِه، ومنهجيّة مؤلفه، بعد أن أصبح في عداد المفقودات.
  لقد أثبتت الدراسة أنَ الكتاب كان متداولاً منذ وقتٍ قريبٍ من تأليفه في القرن الثالث الهجريّ، واستمرّ لغاية منتصف القرن التاسع الهجريّ / الخامس عبر الميلاديّ، أو ربمّا بعد ذلك.
  ومِن أهمّ النُقول عن كتاب أخبار البصرة لعُمر بن شبَة النُميَرْيّ :

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 70 ـ

المبحثُ الأوّل : النُقول في القرنِ الثالث الهجريّ / التاسع الميلادي

  كان كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة النُمَيرْيّ مبذولاً للعلماء، ومتداولاً في أوساطهم منذ وقتٍ قريبٍ على تأليفه، إذْ اعتمد عليه ونقل منه عددٌ من العلماء المعاصرين لابن شبَة وتلامذته، كان في مقدّمتهم الفضل بن شاذان الأزديّ (ت 260 هـ - 873 م) ، الذي نقل عنه خمس روايات، صرّح في ثلاث روايات منها عن نقله المباشر من كتاب أخبار البصرة لابن شبَة، بقوله :
  (وذكر عمر بن شبَة في كتاب أخبار البصرة) (1) ، و (ذكر عمر بن شبَة في أخبار البصرة) (2) ، وقوله : (قال عمر ...) (3) ، وفي الروايتين الأُخرَيين اعتمد ابن شاذان صيغة المحادثة، بقوله : (حدّثني عمر بن شبَة) (4) ، و (حدّثني عمر ...) (5) .
  ومواضيع تلك الروايات بشأن ردّ عمر بن الخطاب شهادة المغيرة بن شعبة، وعن جلد أبي بكرة، واستخلاف سمُرة بن جندب على البصرة، وعن إقرار سمُرة بن جندب على البصرة بعد وفاة زياد، وحول استبداد سمُرة بالبصرة، ووفاته.

*************************************************
(1) الإيضاح : ص 554 .
(2) المصدر نفسه : ص 554 - 555 .
(3) المصدر نفسه : ص 68 .
(4) المصدر نفسه، والصفحةُ نفسها .
(5) المصدر نفسه، والصفحةُ نفسها .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 71 ـ

  واعتمد البلاذريُ (ت 279 هـ - 892 م) على كتاب أخبار البصرة لعمر بن شبَة النُميَرْيّ مستقياً منه ( 12 ) رواية، مستعملاً صيغةَ (حدّثني عمر بن شبَة) (1) ، و (حدّثنا عمر بن شبَة) (2) ، وفي روايةٍ واحدةٍ صيغةَ (قال عمر بن شبَة) (3) .
  ومواضيع تلك الروايات تتعلّق إحداها بنص كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعريّ ضمّنه العديد من الوصايا في مجال القضاء والحكم، وروايات تخصُ إجراءات زياد بن أبيه الأمنيّة في البصرة، وعن ولاية مصعب بن الزبير على البصرة وتوليته مطرف بن سيدان الباهليّ الشرََطة، وبصدد كتاب الحجَاج بن يوسف الثقفيّ إلى أهل البصرة ومشاركتهم في ثورة ابن الأشعث، وعن خروج الحجَاج إلى البصرة واستخلافه أبا يعفور على الكوفة، وعن ولاية عدي بن أرطأة على البصرة أيّام عمر ابن عبد العزيز، وعن القاضي عبيدة السّلَمي، وبشأن كتاب القاضي بلال بن أبي بردة، وولاية أبو العَاج على البصرة.
  وانتفع ابن أبي الدنيا (ت 281 هـ - 894 م) من أخبار البصرة لعمر بن شبَة ناقلاً عنه خمس روايات مستعملاً صيغةَ (أخبرني ..) (4) ، و (حدّثني ...) (5) ، والروايات تتعلّق بأي الأسود الدؤليّ، وعن عبد الله بن عامر بن كريز، وسعيد بن العاص، وعن مدح الشاعر ابن الرقيّات لبشر بن مروان، وعن قحطٍ وقع بالبصرة أيّام ولاية بشر بن مروان.

*************************************************
(1) أنساب الأشراف (تحقيق إحسان عباس، بيروت - 1979) : ج 5، ص 223 ، 236 ، ج 7 ، (تحقيق : د. سهيل زكار ود. رياض زركلي ) بيروت - د. ت : ص 21 ، 220 ، 292 ، 380 ، ج 8 ، ص 158 ، ج 9 ، ص 56 ، 123 ، ص 366 ، 380 .
(2) أنساب الأشراف : ج 5، ص 237 ، ج 8، ص 161 ، 162 .
(3) المصدر نفسه : ج 10 ، ص 290 .
(4) مكارم الأخلاق (تحقيق : مجدي السيّد إبراهيم، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة - د. ت) : ص 107 ، 108 .
(5) المصدر نفسه : ص 142 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 72 ـ

  ونقل الثقفيّ الكوفيّ (ت 283 هـ - 896 م) ، عن عمر بن شبَة رواية عن خروج عبد الله بن عبّاس من البصرة إلى الكوفة، واستخلاف زياد فيها، بقوله : (حدّثني عمر بن شبَة ...) (1) .

*************************************************
(1) الغارات (تحقيق : السيّد جلال الدين المحدث، مطبعة بهمن، إيران - د. ت) : ج 2، ص 374 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 73 ـ

المبحثُ الثاني : النُقول في القرن الرابعِ الهجريِ / العاشر الميلادي

  أصبحت معلومات عمر بن شبَة التي ضمَنها كتابه أخبار البصرة مصدراً مهماًّ للعديد من مؤلفي القرن الرابع الهجريّ، وهذا الأمر يمكن تلَمُسه من خلال القدْر الكبير من الروايات المستقاة عنه، فقد نقل وكيع (ت 306 هـ - 918 م) ، حدود ( 83 ) روايةً عن عمر بن شبَة بصورةٍ غير مباشرة، إذْ أخذ ( 68 ) روايةً عن أبي شعيب عبد الله ابن الحسن الحرّاني المؤدب (ت 295 هـ - 907 م) ، وهو أحد تلامذة عمر بن شبَة - كما مرَ بنا -، فقد نقل عبد الله بن الحسن بصورةٍ مباشرةٍ من كتاب أستاذه، مشيراً إليه بلفظة (عن النُمَيرْيّ) (1) ، او (عن عمر بن عبيدة) (2) ، او عن (أبي زيد) (3) .
  وقد توهّم مصطفى المراغيّ الذي علّق على كتاب (أخبار القُضاة) لوكيع بأنّ النُمَيرْيّ هو (فُضيل بن سليمان) ، وهو بصريّ (ت 185 هـ - 801 م) (4) ، بينما كانت وفيات الرُواة الذين اعتمد عليهم النُميَرْيّ بعد وفاته، وهذا لا يجوز، أمثال موسى بن

*************************************************
(1) أخبار القضاة: ج 1، ص 270 ، 271 ، 278 ، 279 ، 290 ، 293 ، 294 ، 297 ، 29 ، 300 ، 309 ، 329 ، 330 ، 335 ، 336 ، 337 ، 339 ، 340 ، 340 ، 341 ، 344 ، 357 ، 367 ، 368 ، ج 2، ص 6، 7 ، 9 ، 10 ، 17 ، 18 ، 29 ، 30 ، 36 ، 77 ، 79 ، 81 ، 84 ، 91 ، 116 ، 117 ، 118 ، 125 ، 127 ، 128 ، 129 ، 140 ، 142 ، 147 ، 153 ، 157 ، 159 .
(2) المصدر نفسه : ج 1، ص 312 ، ج 2 ، ص 50.
(3) المصدر نفسه : ج 2، ص 55 .
(4) ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل : ج 7، ص 72 ، ابن حَجَر العسقلاني، تهذيب : ج 8، ص 262 .

اخبار البصرة لعمر بن شبة النميري 875 م / 262 هـ ت   ـ 74 ـ

  إسماعيل المنقريّ (ت 223 هـ - 837 م) ، وأحمد بن إبراهيم الموصيّ (ت 236 هـ - 850 م) ، وعبد الواحد بن غياث (ت 240 هـ - 854 م) ، وهارون بن عبد الله (ت 243 هـ - 857 م) ، والأرجح أنّ النُميَرْيّ هو عمر بن شبَة (ت 262 هـ - 875 م) ، إذ يوجد توافقٌ زمنيٌ بين عُمْر ابنِ شبَة وبين الرُواة الذين نقل منهم (1) ، ليس هذا فقط بل إنّ أولئك الرُواة هم شيوخ عمر بن شبَة، وممّن روى عنهم مرويّاته في كتاب أخبار البصرة (1) ، كما أنّ عبدَ الله ابن الحسن الحرّاني المؤدب نفسَه هو أحدُ تلاميذ عمر بن شبَة.
  واستعمل عبد الله بن الحسن المؤدب صيغاً أُخَر في النقل عن عمر بن شبَة كقوله : (عن عمر بن عبيدة) ، وعمر بن عبيدة هو عمر بن شبَة النُميَرْيّ، أو قوله : (عن أبي زيد) وأبو زيد كنية عمر بن شبَة، وهذا ما يعزز القول في توهّم المراغيّ في عد النُميَرْيّ هو الفُضيل بن سليمان .
  ومواضيع تلكَ الروايات تتحدّث عن أخبار القاضي أبي مريم الحنفيّ، وتوليّ كعب بن سور قضاء البصرة وبعض قضاياه، وقول عُمر بن يثربيّ في الدَين وقضيّةٍ له، وقضايا زرارة بن أوفى وصفاته، وقضاء شريح بالبصرة، وقضايا هشام بن هبيرة، وعن توليّ إياس بن معاوية القضاء وبعض قضاياه وفراسته، وتوليّ الحسن البصريّ القضاء وبعض قضاياه ووفاته، وقضايا عبد الملك بن يعلى، وأخبار القاضي بلال بن أبي بُردة، وأخبار القاضي سوار بن عبد الله وبعض قضاياه وصفته ووفاته، وعن أخبار القاضي عبيد الله بن الحسن العنبريّ، وقضايا خالد بن طليق وإجراءاته، ورفع أمر خالد للمهديّ، وعن اختيار عبد الرّحمن المخزوميّ للقضاء، ونزاع حول ولاية البصرة أيّام هارون الرشيد، وتوليّ مُعاذ قضاء البصرة، وتوليّ محمّد بن عبد الرّحمن الأنصاريّ

*************************************************
(1) سلمى الهاشمي، أخبار القضاة لوكيع : ص 53 - 54 .
(2) ينظر الفصل الأول، المبحث الثاني (شيوخُه) .