قيمتك ومقدرتك الكبيرة ، ولان الضعفاء لا يمكنهم مقاومة الاقوياء ، وخلال هذا الحديث كان ( الشيخ غضبان ) البنية يصغي اليه ، وبعد التامل الطويل الذي لفت انظار جميع الحاضرين عفا عنه الشيخ غضبان ثم اكرمه واعطاه الامان ، وبعد ايام قلائل تقدم المستشارون بسؤال الى الشيخ غضبان عن معنى السكوت عن التصرفات المتكررة من قبل ( اكريم الصدام ) ، فاجابهم ايضا ان معظم الرجال العظام لهم حلم واسع من المقدرة والمعرفة والعقل هو المحرك الاساسي لكل الاشياء .
 وعلى هذا الاساس فان هذا وذاك يفصح امامنا عن ان الريف العراقي كان وما زال يتمتع بخصائص مميزة للاصالة التاريخية من حياة العرب ويجعلنا ندرك تماما انه الامتداد التاريخي للفترة الزمنية الطويلة من تاريخنا الانساني سواء كان في شبه الجزيرة العربية ووادي الرافدين الذي زود الاجيال بالثقافة وبهذا التراث التقليدي الذي ساد المنطقة ، ثم اصبح فيما بعد مدرسة للاجيال المتعاقبة .
 وهكذا كانت حياة الافراد والاسر الفلاحية التي استوطنت في تلك الاراضي وهي تحت حماية الشيخ غضبان البنية .
 اما فيما يتعلق بحياته فيروى انه كان جازما وصارما في بعض الحالات التي تستدعي المواجهة مع القبائل ، واخيرا توفي الشيخ غضبان عن عمر طويل وارسل جثمانه الى ( النجف الاشرف ) ولا يعرف عن تاريخ وفاته ، اما مكان قبره فهو واضح ومعروف ويعلو جميع القبور التي تحيط به من ابناء عشيرته من قبيلة بني لام .

5 ـ العرف العشائري
 مما لاشك فيه ان العرف العشائري الذي استقر في اذهان الناس ردحا من الزمن وجد له افكارا قبلية بفضل الظروف التاريخية المستمدة من الواقع والارض التي نشأ عليها سكان وادي الرافدين ، وبما ان سكان المناطق الجنوبية هم امتداد للاسر الفلاحية التي نزحت نحو تلك الاراضي الخصبة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 137 ـ
 واستوطنت هناك وبمرور الزمن رافق حياتهم الاقتصادية المعتمدة على الزراعة والرعي حيث اصبح ذلك العرف القبلي الذي هيمن على جميع مرافق الحياة مهيمنا على الواقع الاجتماعي والسياسي واصبح ملازما لحياتهم وهم يتعاطفون معه ويرونه القانون الامثل لحل جميع معضلاتهم ، ولانه جزء مهم لتصريف الحياة اليومية في شتى المجالات ، ومن دونه لا يستطيع الافراد الحصول على حمايتهم الحقوقية حينما يكون الناس خاضعين وموافقين لتطبيق ذلك القانون .
 وبقي الريف العراقي الى وقت ليس بالبعيد يطبق هذه القوانين العشائرية التي تعد الثقافة التي يتعامل بها السكان المحليون في تلك المناطق وتقسيم الناس الى افخاذ وعشائر ومسميات عديدة ، الامر الذي شجع جميع ( الاسر الفلاحية ) على التاكيد التام لمناصرته والدفاع عنه ، وقد ساهمت فيه جموع سكان الريف وتابعوا نصوصه وقوانينه تتبعهم الاجيال المتعاقبة تدريجيا مع جميع المفردات الناجمة عنه ، كما اصبح مواكبا لمراحلهم في ترحالهم واستقرارهم لذلك فقد نتج عن هذا القانون او ذلك العرف ( نصوص ) قانونية عديدة عرفت بكلمة الفصل و ( الفجرية ) و ( التلوية ) ولتوضيح هذه القوانين نوجز ما يلي :
الفجرية
 ( الفجرية ) هي احدى المواد القانونية المتعلقة بنظام العرف العشائري اي انها احدى قوانين ( الفصل ) ويعني ذلك استحصال مبالغ نقدية او اعطاء نساء يقدمن فورا للعشيرة المتضررة في مثل حالات القتل الي تتضر منه قبيلة اخرى ، وتكون هذه الغرامة وطبيعة دفعها حسب نوعية ودرجة الحادث الذي من اجله تؤخذ تلك النساء والمبالغ ، وعلى هذا الاساس فان كلمة ( الفجرية ) هي الفصل المدفوع فورا ويعرف في الريف انه استحصال امرأة ( نسافة الكلة ) اي انها بالغة سن الرشد ، وبموجب ذلك فقد حصل ان الفصل الذي يقع بطريقة ( الفجرية ) يشمل ما بين امرأة واحدة او عدة نساء .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 138 ـ

التلوية
 اما فيما يتعلق بمعنى ( التلوية ) فهي ايضا واحدا من بين انظمة قوانين الفصل الاخرى المرتبطة بقانون ( العرف العشائري ) الذي تحدثنا عنه في نظام الفجرية ، اي ان النساء اللواتي يؤخذن بطريقة التلوية يتعين ابقاؤهن لفترة زمنية غير محددة وحسب الوقت المناسب الذي تقرره تلك العشيرة المتضررة فكثيرا من النساء غالبا ما يكون بقاؤهن تحت اليد مع عدم التصرف بهن في زواج الغير حيث اصبحن محجوزات لافراد هذه العشيرة او تلك بموجب ذلك القانون الذي ندعوه بـ ( التلوية )، ومن الشروط الواضحة في نظام الريف ان مثل هؤلاء النساء اللواتي اعطين بهذه الطريقة ان لا يتم الاّ في نظام قضائي وهو نظام الفصل الذي يجمع فيه جميع المتخاصمون امام ( الفريضة ) وهم الرجال الذين لديهم خبرة طويلة في ممارسة القضاء العشائري ويكون قرارهم ملزما
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 139 ـ
 للجميع ومنهم ( سلمان بن غيلان ) ( وشلاكة ) ( وكبار السواعد ) ( وآل ازيرج ) وغيرهم ، من امثال ( كاظم السدخان ) وطبيعي ان مثل هذه الاعراف كانت تلزم الاشخاص بذكر مسميات النساء اللواتي يعطين بهذه الطريقة وهي فصل التلوية اي المرأة اللاحقة .
 واصبح في الريف لسنوات طويلة ان فصل ( الفجرية ) وحتى ( التلوية ) وفق هذه الاساليب جعل من حالة اعطاء النساء بهذه الطريقة تجنيا واضحا بحق المرأة التي تصبح الضحية الاولى في حسم المنازعات والجسر الذي تعبر عليه المارة ، لكن اهل الريف يعدون ذلك حالة اجتماعية سائدة ومألوفة مرت عليها مراحل حياتهم وهو ما يشبه الاعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد لبعض القبائل الموجودة في بقية بلدان العالم ، وعلى هذا الاساس فقد اصبحت تلك الامور من بين الانظمة الاجتماعية التي تهيمن على مجمل الحياة التي وما زالت تمارس اعمالها في داخل المدن حتى الان وتتخذ قرارات قانونية وتطبق بحقها كما نشاهده .
 وبموجب ذلك النظام ( القضائي ) الذي فرضته الحياة في تلك البقاع قلت اهمية بروز المعارك والاقتتالات بسبب هذه القواعد او هذه الانظمة التي اخذ شباب اهل الريف يفهمون ويعطون مسمياتهم وفق هذه القوانين ، وان اشد ما يزعجهم اجتماعيا مثل هذه الحالات او تدفيعهم مبالغ نقدية باهظة .
 وهناك انظمة محلية اخرى عبر عنها بكلمة ( صاية او رواية ) ولتوضيح ذلك فهو معنى التقليل من شدة التوترات فيما بين القبائل المتحدة مثل ( البو محمد والسراج ) او بين ( بيت زامل والكورشة ) من عشيرة السواعد او بين القبائل المتداخلة في ( عشيرة آل ازيرج ) فيكون الفصل ( صاية او رواية ) اما في حالة عدم وجود ذلك الاتحاد فان موضوع الفصل يفتش عن منافذ اخرى ويتخذ مأخذا اخر تدخل فيه اعتبارات عشائرية عديدة مما يؤدي بالتالي الى اضعاف العلاقات الاجتماعية فيما بينهم واشعال الفتن بين الناس ، واذا لم يحسم فانه يسبب في تعطيل الانتاج الزراعي واشغال الناس بالتهيؤ للمعارك الجديدة احيانا ، ومن جراء نشوب هذه الخلافات يتقمص الفرد لباسا اخر ثم يحصر
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 140 ـ
 آراءه نحو ارتكاب الجريمة لاخذ الثأر انتقاما لعشيرته او للفرد الاخر وقد تصل طريقة اخذ الفصل كما بينا في السابق الى امور عديدة ، اما النظام الاخر الذي نتحدث عنه فهو النهوة والعطوة .

النهوة والعطوة
 اما نظام النهوة ( والعطوة ) فهو واحد من بين تلك الانظمة العشائرية الاخرى التي تتصل في واقع الحياة الريفية بجميع خصائصها الاجتماعية والانسانية ، ومعنى ذلك ان نظام النهوة والعطوة متمم للقوانين التي تحدثنا عنها ويمكن توضيح ذلك بان كلمة ( النهوة ) جاءت على الوجه التالي :
 فلو اعطيت امرأة لرجل في الريف من غير ابناء عمومتها والذين يرغبون في الزواج منها فعندئذ ترسل الى عشيرتها كلمة ( النهوة ) وخصوصا الى ذلك الرجل الذي يروم الزواج من ابنة عمه باسم ( النهوة ) ، وغالبا ما تكون الانذارات هذه موجهة من اقرباء البنت التي اعطيت الى رجل اخر ، كما لا يقتصر مفهوم النهوة على هذا الامر فقد استعملت ايضا في حالات عديدة .
 اما العرف العشائري الذي ندعوه بـ ( العطوة ) فقد يحصل في حالات النزاع والاقتتالات ثم يطلب فيما بعد من القبيلة المتضررة الحصول على ( الهدنة ) وهي ايقاف الاقتتالات التي تنشب بين القبائل او بين بعض الاشخاص وتمزيق حالات الاستقرار العام والتهيؤ الى المعارك الجانبية الجديدة ، فعندها يطلب من السيد ( سروط ) وبقية السادة الموجودين مثل ( سيد محمد العايد ) والسيد نور الدين ( او السيد يوسف ) او كبار القبائل مثل سلمان بن غيلان وغيرهم التقدم بطلب ( العطوة ) حفظا لسفك الدم لحين حصول تاريخ بدء ( الفصل) ، وجرت العادة هناك ان فترة طلب العطوة تكون لشهر او شهرين وهي قابلة للتجديد ، كما حصل ذلك في كثير من المعارك التي جرت بين البو محمد وقبائل بني لام ( وبن البو محمد ) ( والفرطوس ) ، وعند قبول ( العطوة ) يعود الجميع الى العشيرة التي ارتكبت الجريمة ضد العشيرة الاخرى ويتم تبليغهم بأمر العطوة الصادر من الجهات المعنية بحسم الامور ، وبعد
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 141 ـ
 انقضاء الفترة المطلوبة يتهيأ الجميع الى طبيعة الحالة الثانية وهي تقرير الفصل ، وغالبا ما تكون مدة العطوة اياما معدودة واستصحابهم معهم الى مكان القبيلة المتضررة لاعطائها مطاليب حسب قوانين العرف العشائري المتداول في المنطقة ، وفي حالة عدم ايجاد الحلول المناسبة للمنازعات تتجه القبيلة المتضررة فيما بعد الى سلوك الاساليب الاخرى مثل القتل والسلب والاعتداء على الاشخاص الذين ليست لهم صلات بموضوع القتل ، وتلجأ الى حفر الملاجىء التي يدعونها في الريف باسم ( الطوامير ) لحماية انفسهم .
 وبهذا فان قانون العطوة يفصح عن كونه طلب ( المدة ) الموقت للقبائل المتخاصمة ، فغالبا ما كان يستحيل حل المنازعات بالطرق السلمية دون الاستعانة باهل المعرفة والدراية .
 لذلك فلا غرابة في كون هذه التقاليد الريفية حالة مالوفة فيما كان يعتقد به رجل الريف ، الامر الذي مكن اهل المعرفة لهذه المكانة البارزة في حل تلك المعضلات مع قبول آرائهم في حل جميع المنازعات التي كانت تحدث في جميع المناطق ، وطبيعي ان طاعة الناس لنداء كبار السن امثال السيد ( سروط ) والسادة الاخرين ورجال الفريضة هو امتداد تاريخي للمعتقدات الدينية والقبلية الموروثة في العراق كما كان يجري في اداء القسم فيحلف البعض منهم في كربلاء والنجف ، وهذه الامور وغيرها جاءت نتيجة السلطة المركزية ولكون الريف يقع تحت الادارة الذاتية وهي قوانين الريف .

أحكام الفريضة
 في موضوع احكام الفريضةنسلط الاضواء على بعض الامور التي تتعلق القضايا القانونية الاخرى بكل من نظام الفجرية ـ والتلوية ـ والنهوة ـ والعطوة ، وخصوصا في تلك المناطق التابعة الى محافظة العمارة .
 ومما تجدر الاشارة اليه ان سكان ريف العمارة للفترة الزمنية التي سبقت عام 2058 كانت تشكل نسبة كبيرة من حجم المقاطعات للمحافظات المجاورة مثل الناصرية والكوت وغيرهما ، ولابد لهذا الحجم الواسع من
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 142 ـ
 السكان التعامل مع الحياة بضوابط ونظم قانونية تؤمن سلامة الاسر الفلاحية في تلك المناطق النائية ، حيث ان الريف العراقي في الجنوب كان قائما بذاته ضمن ( الادارة الذاتية ) ، وحتى العرف العشائري واحكام الفريضة كانت تمارس تحت وصاية الاقطاع ثم رجال الفريضة ، وهاتان السلطتان هما الاثنان يشرعان القوانين ويصدران الاحكام القضائية ويتم تنفيذها بحق جميع الافراد مهما كان نوع الجريمة في داخل الريف ، ومعظم الحالات التي تتعلق بقضايا القتل والسطو وغيرها كانت تحسم ايضا وفق تلك القوانين والانظمة التي برهنت على فعاليتها في اخمادها ، لذلك فان ديمومة الحياة في الريف وتجديدها كان مكفولا وفق نظام يحمي حقوق الاخرين وعدم توقف حركة الانتاج الزراعية ، ولغرض تاكيد اهمية قانون النظام العشائري وتنفيذ بنوده على ايدي رجال تمرسوا في معرفة ادق التفصيلات وحل المعضلات العشائرية اطلق عليه اسم ( الفريضة ) التي انحصرت في ( بيت نصر الله ) ( وعرار بن صابر ) وكذلك عند ( غيلان ) الذي تزعم نظام الفريضة من بعده ابنه ( سلمان بن غيلان ) رئيس عشيرة ( البو علي ) الذي عاصر وادي بن خليفة والد عريبي ، وكان بارعا حقا حتى ذاع صيته في جميع الاماكن بين ( البو محمد والسواعد ) ، وبعد وفاته جاء من بعده ابناؤه وهم حمود بن سلمان ، والحاج محمد ، وحاتم ، وحيدر ، كما ظهر من بين القبائل الاخرى من بيت ( اشميل ) ومن بيت سعدون ، وبيت مولى ومن عشيرة البيضان ( مطلق بن معلا ) و ( عبد النبي بن كلخان ) و ( مناتي بن زبون ) اما الاشخاص الاخرون الذين برزوا من بين الرجال الذين ذكرنا عنهم في احكام الفريضة فهم ( منخي بن كريم ) ( وشلاكة ) من قبيلة البو ( اسليم ) ومن قبيلة البو زيد ( شريف بن معلا ) الموجود في مدينة جميلة ومن قبيلة السواعد ( شبل الثامر ) و( محمد الموسى ) و ( محمد السبهان ) ، وولده ( اربيع بن سبهان ) و ( حسين بن حسان ) و ( عزيز بن شياع ) ، ومن عشيرة البهادل ( كاظم السدخان ) و ( شواي ) و ( خلف الشواي ) ، وكذلك لدى ( خلف آل ربيع ) في بيت ( جويلي ) وفي قبيلة الحريشي ( بيت حيدر) .
 ولغرض الوقوف على بعض الاحكام المتشابكة نستعرض هذا الحدث الذي وقع في عهد قديم وكان قد حصل في بعض الاجزاء الريفية الجنوبية وهو
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 143 ـ
 ان ( شابة ) ريفية ظريفة كانت قد احبت شابا ريفيا من ابناء منطقتها لغرض الزواج منه ، لكن عشيرتها واشقاءها رفضوا زواجها منه ، وبعد ان علمت مؤخرا بعدم رغبة اهلها به ، اشتد غضبها وجزعها لما عرفته من اهلها وعشيرتها برفضهم عشيقها هذا ، ثم طلبت منه فيما بعد تدبير خطة للهرب بها الى مكان مجهول يبعدها عن محل سكناها الحالي لكي يتزوج منها هناك ..وبعد ان تم الاتفاق على الموعد المذكور في المكان والزمان المعنيين ، وفي الموعد المحدد سارعت الى المكان المطلوب غير ان عشيقها اخلف في الموعد المقرر ، واصبحت في حيرة من امرها في ذلك المكان النائي ، ثم خطر ببالها انه اوعد واخلف ، وعلمت فيما بعد انه تنكر لها ، وقررت بانها لم تعد بحاجة اليه ، وفي هذه الحالة المحرجة في وسط المنطقة الزراعية النائية ظهر هنالك شاب يروم الذهاب الى بعض الاماكن ، فاهتدى بصره اليها ، ولدى وصوله اليها اخذ يلح عليها لمعرفة سبب مجيئها الى هذا المكان النائي الذي لم تصل اليه اية شابة ، وبعد ان عرضت عليه قصتها كاملة ، وتحت وطأة الظروف المحرجة عرض عليها في الحال بان يكون بديلا لعشيقها الذي خذلها بسبب تخلفه ، ثم اكد لها بانه يكون موضع ثقتها ويجعلها زوجة له في مكان اخر ، وتحت وطأة الظروف المعروفة بالرغبات والياس قبلت بذلك العرض لكونها اصبحت محرجة ، وكرد فعل واتقاما من عشيقها ، وبينما هما سائرين في تلك المنطقة النائية ، اهتدى نظرها الى رجلين كانا مسرعين نحوهما وعلمت انهما شقيقاها لا محالة ، ثم اسرعت هي وذلك الشاب نحو رجلين يحرثان الارض وطلبا منهما النجدة ، وفجأة وصل شقيقاها ونظرا اليها مع ذلك الشاب الذي ليست لديهما اية معرفة سابقة به لانه ليس من منطقتهما ، وبعد لحظات استقر رأيهما بطلب عودتها معهما وصرخت بصوت عال بطلب النجدة مرة ثانية واخيرا اراد شقيقاها استخدام قوتهما ضد جميع الاشخاص الذين ساهموا بعدم موافقتهم على اعطاء( الدخيل ) في نظام العرف القبلي ، وحصلت معركة ضارية جرح على اثرها شقيقها الاكبر بجروح بالغة وانهزم الاخر ، كما جرح الرجلان اللذان كانا يحرثان الارض واللذان احتمت بهما هذه البنت ، واخيرا تمكن
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 144 ـ
 هو وتلك الشابة من الذهاب الى مكان ناء يقع في وسط الاهوار بعد ان اصبحا ضيفين لدى بعض الاشخاص الموجودين هناك وضلت هي وذلك الشاب هناك ، اي لدى رجل البو غنام في منطقة الاهوار وحلا ضيفين لديه .
 وبعد ان علم مضيفهما بقضيتهما وجميع الملابسات التي حصلت في طريقهما اخبرهما انهما سيكونان في مامن هنا وانهم سيصبحان معززين مكرمين في هذا المكان فضلا عن كون اهلهما وعشيرتهما اصبحوا مشغولين في موضوع هروبهما والحادث الذي سبب جرح احد اشقائها وعدم معرفتهم بمكان ابنتهم وما حل بها .
 وعلى كل حال فانهما اصبحا معززين مكرمين لدى رجل البو غنام وكانت توجد في داره شقيقته البكر ووالدته المسنة ، وبعد مكوثها عدة اشهر طلب الشاب من رجل البو غنام موافقة على ذهاب شقيقته معه للتوغل في داخل الاهوار لقطف القصب والبردي وهذه عادة مالوفة هناك واطلاقا من ايمانه بان ذلك الشاب قد اصبح واحدا من عائلته وافق في الحال على طلبه ، وكالعادة المتبعة في الريف ان معظم النساء كانت لاتقيم حواجز بين الرجل والمرأة لان معظم النساء كانت تمارس الاعمال الزراعية واعمال الصيد مع الرجال ، سيما وان شقيقته كانت تقوم ببيع الاسماك على المناطق الزراعية المجاورة ، ومن بعد السير الطويل في اعماق ( الاهوار ) الآمنة وصلوا الى مسالك عديدة وفي لحظات الهدوء والسكون وهم بين ذوابات القصب والبردي امتزجت الاحاديث مع مشاعر ودية غيرت من مفاهيم عقد الزواج الذي تم بين ذلك الشاب والمرأة المتروكة في دار رجل البو غيام مما جعله يفقد الهدف الذي استند اليه مؤخرا .
 لذلك فقد انقلب على زواجه الاول وقرر الهروب معها الى مكان اخر يبعدها عن اهلها لكي يتزوج منها هناك ومن خلال هذا العرض الذي توافق مع امانيها وافقت هي ايضا على قبول ذلك العرض .
 واخيرا نفذت خطة الهروب العصيبة وتم هروبهما نحو بعض القرى الفلاحية القريبة من الاهوار وفي اماكن بعيدة عن اماكن سكناها السابقة وعند حلول المساء لم ير رجل البو غنام عودة شقيقته فاشتد غضبه وجزعه ولم يعرف
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 145 ـ
 الاسباب التي ادت الى ذلك ، فقد اخذ يفتش عنها في جميع الاماكن ولم يعثر على اي اثر عن مكانها ، وأخبر الشابة التي تركت في ( داره ) بخيانة صاحبها ونتيجة للبحث الطويل علم بمكانهما وطلب من القبيلة التي آوته ان تقوم بطرده لفعله هذا ولم يفلح بسبب التقاليد والعادات المتبعة في الريف ، ومن خلال تلك الملابسات تكشفت معظم الامور بكل تفاصيلها مما حمل معظم القبائل التي تهمها هذه الحالات ان تشرف على المنازعات فيما بينها للاسباب المارة الذكر فكانت قبيلة البنت المختطفة تطلب الثأر من القبيلة التي ينتسب اليها الرجال الثلاثة اللذين احتمت بهم شقيقتهم ومعرفة الشاب الذي اختطفها وهم يجهلون اسمه كما اصبح رجل البو غنام وعشيرته يطلبون الثأر من القبيلة التي آوت الشاب الذي اختطف شقيقتهم ، ومن ثم اصبحت القبائل تروم القتال فيما بينها مما حمل معظم افرادها على طلب التحكيم من الفريضة وهو ( سلمان بن غيلان ) وعند وصولهم اليه طرحت امامه جميع القضايا وطلب منهم في بداية الامر ما يلي (1) :
 1 ـ الطلب باحضار الشاب الذي اوعد واخلف في بادىء الامر مع احضار رئيس قبيلته واشقائه .
 2 ـ احضار الرجل الذي اختطف شقيقة رجل البو غنام مع رجل البو غنام ورؤسائهم .
 3 ـ ثم التحدث مع الرجال الثلاثة ورئيسهم الذين احتمت بهم الشابة والذين كانوا يحرثون الارض والذين تسببوا في جرح شقيقي البنت المخطوفة ، وبعد احضار الجميع ذهب ( سلمان بن غيلان ) لمشاورة جميع اصحاب الاقضية كل على انفراد وطبيعي ان معظم هؤلاء كانوا متواجدين مع رؤسائهم في مضيفه ، وكبار السادة والاشراف من القبائل الاخرى .

**************************************************************
(1) حدثني في هذا الموضوع المرحوم ( شريف الموسى ) الذي كان يسكن في مدينة الثورة من عشيرة بني طرف والذي شاهد هذا الحادث وكذلك جبار بن حيدر ابن سلمان ابن غيلان المتوفى سنة 1994 .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 146 ـ
طبيعة الجلسة
 كانت معظم الجلسات التي تتم في مكان وجود ( الفريضة ) تشهد اجتماعا يثير الرهبة والدهشة لما كانت تتمتع به تلك التقاليد الريفية ، لان معظم اصحاب القضية مهأيون لاستلام نهاية القضية ، حيث يجتمع المتخاصمون جميعا لحضور ذلك المشهد الغريب وبالرغم من حضور جميع المتخاصمين فكان لايسمح لاي فرد مهما كانت صفته وصلاحيته ان يتصرف بما لا يتناسب في هذا الاجتماع ، فكانت ( السادة ) والرجال الذين جلبوا لهذه المهمة يجلسون على السرير ، ويجلس اصحاب العشيرة المتضررة على الارض ويجلس رجال ( الفريضة ) في الجهة المقابلة ويتقابل الطرفان وتطرح القضية ، وبعد دراسة كافة الامور يصدر قراره على الوجه التالي الذي يصبح ملزما وكانه صادر من محكمة قانونية :
 1 ـ قرر طرد الشاب الذي اختطف شقيقة رجل البو غنام وفصله من العشيرة وجميع العشائر ثم تضمينه فصل فجرية امرأة ( نسافة الكلمة ) تعطى الى رجال البو غنام وتضمينه ايضا فصل مبلغ نقدي يعطى الى عشيرة البنت الاولى لكونه المسبب في هروب شقيقة رجل البو غنام .
 2 ـ استحصال مبلغ نقدي وامرأة فصل فجرية ( نسافة الكلمة ) تؤخذ من الشاب الذي اوعد واخلف وتعطى الى عشيرة البنت الاولى لنكايته بها وخذلانه لها في بادىء الامر .
 3 ـ موافقة جميع الاطراف على الطلب الذي تقدم به الفريضة ( سلمان بن غيلان ) بزواج البنت المتروكة في دار رجل البو غنام الى ذلك الرجل الذي بقيت بعهدته وهو رجل البو غنام وطلاقها من الاول .
 4 ـ الطلب من رجل البو غنام وعشيرته الموافقة على قبول زواج شقيقتهم الى الشاب الذي اختطفها وعدم الاعتداء عليهما واعتبار هذا الزواج قضية شرعية .
 وقرر اخيرا استحصال موافقة جميع القبائل المتخاصمة على اعطاء
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 147 ـ
 ( كبارة ) الى رجل البو غنام لقاء الحفاظ على البنت التي تركت في داره لنزاهته وحسن ضيافته ، وفي النهاية وافق الجميع على ذلك القرار الذي تمت جلسته في مضيف الفريضة وبالتقاليد البسيطة وكتبت القرارات من قبل الكتاب وتمت المصادقة عليها امام الحاضرين من كبار الاقطاعيين والسادة ونفذت جميع تلك القرارات التي صدرت من قبل رجل الفريضة .
 وصفوة القول فان ذلك جزء من القوانين المتعلقة بالعرف العشائري الذي ساد المنطقة ، واستجابة لمتطلبات البيئة التي يحتمي بها العديد من الاسر الفلاحية كما لا توجد هناك اي انظمة او قوانين تمكنهم من استبدال هذا النظام وخصوصا في المراحل الزمنية المنصرمة .
 وعلى اية حال فان نظام العرف العشائري يعد جزءا مهما لنظام ( الادارة الذاتية ) (1) .

**************************************************************
(1) ان الحديث المذكور روي لنا من قبل المرحوم ( شريف الرس ) الذي كان يسكن في مدينة الثورة والمتوفى عام 2076 وايده ايضا المرحوم ملا جاسم الحلفي الذي عاصر جاسم بن محمد وسمع هذه الاحاديث ، وتوفي ايضا عام 1988 .

اهل الريف في جنوب العراق  ـ 151 ـ
الفصل السادس

رحلة بين الانهر والاهوار

 يصعب على المرء الذي لم يتخيل جمال الريف وحياة القرية في جنوب العراق وما يسودها من الفرح والحبور ، فمن المعروف تماما ان ريف العمارة يمتاز بالعديد من الانهر والاهوار والبساتين المنتشرة في كل من المجر ، وآل ازيرج ، والمشرح والكحلاء ، وهي بساتين النخيل والكروم والتين الممتدة على ضفاف النهر وتصبح متدلية من البداية حتى النهاية ، فعند وصول الزائر الى تلك الانهر يرى الاشجار الكثيفة ، ويصبح مبهورا لما يشاهده كل يوم من جمال الطبيعة ، ولم تكن بساتين الريف في هذه المنطقة لتشكل وحدها مبعثا للارتياح النفسي ، فهناك بساتين ( السيد نور بن السيد محمد ) عند ملتقى ( نهر العديل ) ، و ( بساتين عبد النبي ) ، و ( بستان دخيل ) في ( نهر العديل ) نفسه والبساتين الواقعة في نهر ( ابو زمور ) ، والبساتين الممتدة على طول ( نهر الاعيوج ) ، و ( بساتين المشرح ) ، وكذلك البساتين الموجودة على ضفاف ( نهر العسيكي ) وفي( نهر ام الطوس ) ، وقرب ( مقاطعات الاكرح ) مثل بستان ( السيد ابراهيم ) ، والبساتين الواقعة في نهر ( آل ازيرج ) ونهر ( المجر الكبير ) ، وقد جسدت بوجودها واقعا اجتماعيا وزراعيا هاما ، ومن خلال مشاهدة تلك البساتين الواسعة في الريف يمكننا القول ان تلك المقاطعات احرزت جانبا مهما في استكمال الرؤية الواضحة لجمال الريف اضف الى ذلك سحر الريف المتمثل في جمال الاهوار ، ففي تلك المناطق نشاهد هنا وهناك مسميات عديدة للاهوار المنتشرة مثل ( هور الدين ) ، و( هور ابو خضاف ) ، و ( هور الصحين ) ، و( هور السناف ) ، و ( هور الجكة ) الذي يفصل اراضي البو محمد عن اراضي السواعد وهور الحويزة والاهوار الاخرى ، والتي جعلها الفلاحون
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 152 ـ

 ممرات مائية لهم في حالات الصيد وغيرها ولم يقتصر وجود تلك الاهوار على كونها اهوارا فحسب بل انها كانت مركزا سياحيا هاما لجميع المقاطعات المجاورة وفيها يتحدد جمال الطبيعة الخلاب الذي يرفد الحياة بنسيمه العذب ومياهه الزرقاء الصافية التي تجوب فيها الاسماك القادمة من اماكن بعيدة ، واسراب الطيور ، كما تفوح الزهور المختلفة بعطرها النفيس من كل جانب ومكان ، ففي اعماق الهور نرى المجاميع الكبيرة من الاسماك وهي تجوب المنعطفات والخلجان وتبحث عن غذائها في عمق الطبيعة الامنة .
 ففي كثير من الاحيان يرى الصيادون تلك الاسماك بالعين المجردة ، وتصبح حالة الانعكاسات الضوئية لحجم الاسماك منظرا خلابا يسر الناظرين .
 وعند الغروب يختفي قرص الشمس الوردي الخافت خلف وريقات البردي والقصب ويشكل منظرا رائعا لجمال الطبيعة الخلاب ، كما يضفي عليها معنى حقيقيا لرمز الطبيعة والنقاوة الصادقة لذلك العطاء العظيم ، فلا توجد
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 153 ـ
 هناك امسيات اعظم وافضل من تلك الامسيات الهادئة مع ذؤابات البردي والقصب ، ووسط هذه التاملات التي لا تسمع فيها غير زقزقة الطيور واسراب الاسماك العائمة لا يفتر منظر الطبيعة عن تلك الصور الاّ جوانب بسيطة من ذلك العطاء العظيم فهناك الكهوف التي رسمتها الطبيعة في داخل الاهوار وفيها يشاهد المرء المسالك والمنعطفات التي توصل الى اماكن عديدة وكانها قد اضفت عليها اعمالا هندسية بديعة مثلما نراه في الشوارع والمنعطفات الموجودة في مدننا لكنها اوجدت ، فهي منحة تلقائية في آن واحد ولها مهارات هندسية تسمح بمرور الصيادين والسكان المحليين الذين يهتدون الى اماكن سكناهم في داخل الاهوار من البيوت العائمة وقد نظموا حياتهم تنظيما ( بيئيا ) بسيطا يعتمدون فيه على ما يحصلون عليه من بيع المواشي والجاموس الذي زاد اهتمامهم بتربيته بشكل واسع ، ويعتمد الكثير منهم على صيد الاسماك والطيور وتسويقها الى مناطق اليابسة للمقاطعات المجاورة في اراضي البو محمد والسواعد فهذه الممرات والمنعطفات اصبحت تساعدهم على ايصال تلك المنتجات ، اما العلاقات الانتاجية الموجودة في داخل تلك

اهل الريف في جنوب العراق  ـ 154 ـ
 المناطق ، فقد اصبحت طبيعية وهي التي كانت ترسم اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ، فالاهوار كانت ملكا شائعا لعموم السكان سواء كان ذلك من مناطق اليابسة ، او السكان المحليين فليس باستطاعة السكان المحليين منع الافراد الاخرين الذين يقومون باعمال الصيد تحديد تلك المناطق الخاصة بهم ، انها ملك الجميع ، لذلك فان حالات الصراع لم تكن موجودة ، فهناك البراءة والنقاوة الواضحة على نفوس السكان فمن خصائص الفرد الريفي انه لا يضمر العداء للزائرين ، فحينما يدخلون الاهوار يحبونهم ويكرمون الضيف حيث لا تسمح لهم تقاليدهم بغير تلك العادات اذ انها حالة مالوفة لدى جميع السكان ، وفي تلك المناطق يعتمد الصيادون على صيد الاسماك من داخل ( الكواهين ) او ( الجفور) وكذلك على عميات صيد ( السراجة ) وهي اشبه بالكهوف التي تقع بالجبال اما في الاهوار فانها تقع في عمق الممرات حيث تطمئن الاسماك في داخل الكهوف لوجود المياه الباردة اثناء الصيف ، اما في الشتاء فكان صيد الطيور شائعا في مناطق الاهوار في هور الدين والاهوار الاخرى اما الصيد الاخر للاسماك فهو ياتي عن طريق السراجة ، والسراجة عملية الحصول على شعلة النار من داخل زجاجة مملوءة بالنفط سدت فوهتها العليا بكمية ( التمر ) وبداخلها شريط من لباب البردي وتبقى مشتعلة طول الليل ومعلقة في مقدمة الزورق ، وعند رؤية الاسماك لهذه الشعلة الوهاجة يجتمع حولها جميع الاسماك ، ومن ثم يتم الاسراع بصيدها ، وبهذه الطريقة كانت تتم طريقة صيد الاسماك .
 وطوال الحقبة الزمنية من تاريخ الريف اصبحت الاهوار تساعد السكان المحليين في تزويد المواشي بمادتها الغذائية المعروفة من القصب والبردي الذي اعتمد السكان في تشييد بيوتهم على هذه المادة بعد تجفيفها اثناء موسم الصيف .
 وتشدني الى هناك ذكريات ممتعة عن الاهوار وعن الواقع الاجتماعي المرتبط بحياة السكان فكانت هناك انظمة وتقاليد موروثة في الريف ، وهي حالات السفرات المتبادلة فيما بين المدارس الابتدائية المنتشرة في عموم
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 155 ـ
 مقاطعات السواعد والبو محمد ، ومناطق آل ازيرج والمجر وغيرها ، والتي تدخل ضمن الواقع الاجتماعي هناك .
 ففي عام 2045 تقريبا قررت مدرسة حاتم الطائي الريفية في مقاطعات العديل التوجه الى زيارة مدرسة الساعدية قرب ناحية الحلفاية ، فقبلت الدعوة وطلب الاستاذ عبد النبي خلف العيدي مع بقية المدرسين الاخرين وهم الاستاذ بابل والاستاذ فاضل وآخرين التهيؤ الى تلك السفرة .
 وطبيعي ان مقاطعات ابو محمد تفصلها ( اهوار الجكة ) عن مقاطعات السوعد ، واخيرا تم التهيؤ الى هناك ، وتوغلت الزوارق في ذلك الهور قاصدين مدرسة الساعدية وكان معظم الطلاب يشدهم الحلم الواسع لمعرفة اسرار الهور .
 لقد كان العدد كبيرا جدا وبينهم العديد من ابناء الفلاحين وابناء الملاكين وهم حمود عريبي وغضبان عريبي مع اولاد ضمد ومنشد وعزت ومشتت وابناء الفلاحين ، واستمرت الزوارق تقطع اشواطا طويلة من الوقت حتى وصولنا ( هور الجكة ) ذات المنعطفات العديدة ، وكنا نشاهد من الممرات العديد من ( الخنازير ) واسراب الطيور ، والاسماك العائمة وكان معظم الطلاب لا يميزون ( الخنزير ) من غيره من الماشية وخصوصا الجاموس لكونه حيوانا خشنا ومتوحشا ويعيش في بيئة خاصة كالاهوار ، ولم يخرج منا الاّ نادرا بحثا عن القوت في شتلات الرز وقت الحصاد ، ودخلنا في عمق الطبيعة وكاننا في عالم اخر غير العالم الذي كنا فيه في ارض اليابسة ، هناك جسور عائمة ، وطررق المسالك التي ستوصلنا الى هناك لكن الاشخاص الذي اوكلت اليهم مهمة ايصالنا كانوا يعرفون تلك الممرات ، وعلى كل حال فقد استمرت هذه الزوارق بين الممرات المائية وكنا مبهورين بذلك المنظر الرائع الخلاب ونحن في وسط شجيرات البردي والقصب ، واخيرا وصلنا الى المدرسة المطلوبة .
 ولدى وصولنا وجدنا انفسنا في وسط الاستقبال المهيب من كبار شيوخ السواعد من بيت ( زامل ) و ( الكورشة ) وعلى رأسهم المرحوم ( الشيخ محمد الموسى ) الملقب بابو تريكات و ( الشيخ شبل الثامر ) مع بقية الرؤساء الاخرين
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 156 ـ

 وهم يرتدون الزي العربي الانيق ، وكان من بين الحاضرين ايضا لفيف من المدرسين والطلاب من مدرسة الساعدية .
 وبعد برهة من الزمن تقدم الطالب ( جمعة عيسى ) وقام بإلقاء الخطبة التي اعدها الاستاذ ( عبد النبي ) وكانت خطبة رائعة من حيث الاسلوب والعبارات الجيدة كما انها كانت تحمل معاني جيدة تعبرعن معنى هذه الزيارة ، وفي النهاية صفق الجميع تصفيقا رائعا ، ثم قرر الشيخ ( محمد
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 157 ـ
 الموسى ) ان يكون معظم طلاب مدرسة حاتم ومدرسيها ضيوفا عليه لفترة زمنية غير محددة ولكن ذلك لم يحظ بقبول بقية الرؤساء وعندها تمت الموافقة على استضافة نصف العدد من مدرسة حاتم الطائي مع جميع مدرسيها لدى الشيخ محمد الموسى ، اما النصف الاخر فقد كان في ضيافة الشيوخ الاخرين ، ولدى وصولنا الى دار الشيخ محمد الموسى اقيمت وليمة عشاء كبرى في مضيفه الواسع ثم استمرت بعد ذلك فعاليات عديدة كالتمثيل والغناء وعلمنا ان الحياة اليومية الاعتيادية التي رسمتها لهم هذه البيئة كانت تمارس بشكل دوري يوميا ومن دون كلل فكل شيء موجود ومهيأ في مضيف محمد الموسى ، وكذلك علمنا ايضا ان معظم هذه العادات والتقاليد متشابهة في مضيف ( شبل الثامر ) و ( عزيز شياع ) والتي لا تجد مثيلها عند رؤساء البو محمد حيث لا يوجد هنالك اشارات تؤكد مثل هذه الحالات الاّ لدى مضيف الشيخ فالح الصيهود و ( جاسم بن محمد بن عريبي ) ، وعلى كل حال فقد لاحظنا ان هنالك اشخاصا مهيئين لخدمة الزائرين ليلا ونهارا وواجباتهم معروفة ، وكل منهم يعرف الدور الذي اوكل اليه ، وتعد هذه وغيرها من الحالات المأوفة في الريف لكونها امتداد للاصالة الريفية الخالصة على مر الايام ، ومكثنا يوما او يومين ونحن في اسعد اللحظات ، ثم سألنا عن معنى ( ابو تريكات ) فكان الجواب يدل على وجود مركز للإضاءة تعلق فيه يوميا عند بوابة مدخل المضيف وفي مكان عال جدا يكون العلامة الدالة على الاشخاص الوافدين ليلا من الاماكن المتعددة لكي يهتدوا فيما بعد الى مضيف الشيخ ( محمد الموسى ) وعلى هذا الاساس سمي محمد الموسى ( ابو تريكات ) لكرمه ونهجه ومعنى هذه الاصالة التي يحضى بها دون سواه .
 وفي صباح اليوم التالي زارنا ( الشيخ محمد الموسى ) وطلب من المختصين بمرافقة الضيوف لزيارة بعض المناطق السكنية ( الاسر الفلاحية ) الواقعة على ضفاف الانهر المنتشرة بين الروافد الفرعية والرئيسية وهي مستغلة بالكثافة السكانية واعداد هائلة من الانهر ( والطيور الداجنة والجاموس ) تحيط بهذه المناطق السكنية ، ثم وصلنا الى بعض الاهوار القريبة وبعد الانتهاء من تجوالنا عدنا الى اماكننا في اراضي البو محمد ونحن مبهورين لكرم الضيافة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 158 ـ
 والاعجاب الكبير للمكانة التي كان يحظى بها رؤساء قبيلة السواعد ، اضافة الى ما كنا نكنه من الاعجاب الاخر الذي كان يمثل بعظمة الطبيعة الساحرة ويتمثل في جمال الاهوار والحياة الطبيعية التي يحياها الناس ، ويعتبر تقديم الاطعمة الكثيرة لطلاب المدارس في السفرات جزءا من الواقع الاجتماعي الذي كان يسير عليه اهل الريف ، وعلى هذا الاساس فكانت الاهوار جزءا مهما من عظمة الريف ، ففي الريف تصبح الاهوار هي العامل الاقتصادي الهام حيث الحصول على الاسماك والطيور والصيد المستمر وكذلك الاستفادة من القصب والبردي الذي يستعمله السكان في تشييد المساكن وارسال الحصران الى المناطق الاخرى من العراق ، اما وريقات البردي الاخضر ووريقات القصب الطرية فكانت تستعمل كغذاء للماشية وخصوصا الجاموس ، وفي موضع الصيهود كانت المجاميع الكبيرة من الفلاحين تتوغل في باطن الاهوار لقطف اوراق البردي وتجفيفه ثم نقله الى مناطق اليابسة لغرض عمل السدود للانهر الكبيرة والفرعية ولمنع تسرب المياه .
 وكما يتضح فان الاهوار في الجنوب اماكن للمستوطنين من السكان الذين يعتمدون على تربية الجاموس في حياتهم المعيشية في تلك المناطق رغم ظروف الطقس الحار في الصيف ، فان الاهوار تعد جزء متمم لحياة السكان في تلك المناطق .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 161 ـ
الفصل السابع

اهم الشخصيات الاجتماعية في الريف

 1 ـ فالح الصيهود
 2 ـ جاسم محمد عريبي
 3 ـ محمد الموسى ( ابو تريكات )
 4 ـ سلمان بن غيلان
 5 ـ مطلق السلمان

 نعود في هذا الحديث الى ذكر بعض الشخصيات التي حظيت بمكانة اجتماعية هامة في الريف وحينما نتعرف على تلك الذكريات التاريخية فما ذلك الاّ مساهمة في الحفاظ على التراث التاريخي الذي ساد تلك المنطقة سواء كان ذلك لمجموعة صغيرة منهم او كبيرة ، ومن بين اهم الشخصيات الريفية الشيخ فالح الصيهود ، وجاسم بن محمد عريبي ، ومحمد ابو تريكات ، وسلمان بن غيلان ، لقد ترك المجتمع الريفي بصماته في كافة نواحي الحياة الاجتماعية والزراعية والثقافية حيث يظهر هناك تاثير ريفي فعلي او ما يبدو انه فعلي ، في المجال الاجتماعي ، كما يتضح ذلك في العثور على عادات وتقاليد اهل الريف ، وفي ظاهرة التحضر والمهارات الفنية في الزراعة وفي الوضع الاقتصادي المتبادل ، والتقدير انه سوف لا يعرف بعض القراء لأي درجة تكيفت الحياة الريفية وارتبطت ببعض الحالات الانسانية والفكرية ، كل ذلك يحتم علينا ضرورة تقديم خلفية للصورة عند استعراض الجوانب الهامة التي تعبر عن الحلول النموذجية لوضع الريف ، لا سيما اذا تمت المقارنة لمستوى تاريخ الريف بعمومية شاملة ، في الاعوام المنصرمة اي للسنوات من 2020 ـ 2058 وما قبلها كان ريف العمارة لافتا للنظر دوما ويثير اهتمام بعض المقاطعات المجاورة له ، كما افلح بعض الاشخاص بترك ذكريات هامة مثلما توجد ايضا حكايات عن الاهرامات والكنوز المطمورة ، وقد استطعنا بواسطة بذل تلك الجهود معرفة اسماء بعض الشخصيات الذين كانوا ينعتون بالشيوخ والشخصيات الاخرى ودراستهم وتحليل شخصياتهم ، ومعرفة مواقف كل منهم ضمن اطار زمني محدد ، كل هذه الامور تساعدنا في كشف الفروقات
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 162 ـ

 الزمنية والتبدلات الاجتماعية التي تحدث في البلدان بين حين واخر ، بحيث انها كانت تزود السكان بمجالات عديدة تؤثر في ديمومة الاستيطان ، كما لا توجد حضارة معينة تقدم مادة شاملة ومعلومات وافرة عن تاريخ افتقارها مالم تدرس الماضي ، وبالاضافة الى ذلك فقد وجدت لدينا ملامح عن احاديث كثيرة احتفظت بوقائع قيمة عن اهداف بعض الاشخاص الذين اثروا تاثيرا كثيرا
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 163 ـ

  في الريف ، بحيث توضح لنا القصص والخطابات الشيء الكثير عن اعمالهم وسيرهم وتفاعلهم مع الفلاحين في الامور الزراعية والانسانية ، ان محتوى وعلاقة تلك الاحاديث متشابهة بين جميع المقاطعات المجاورة ، وقد غذيت هذه بتيار التقليد الموروث الى حد ما ولم تخضع لتعليم المدارس لانها كانت تتداول سنويا ، وكانت ايضا ذات طبيعة متميزة بلغة الزمان والمكان
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 164 ـ
 ولمستويات مختلفة باساليب متنوعة وفيها استمرارية التقليد لكونها جاءت بعملية اختيارية خاصة اكثر منها عن طريق ضغوط فكرية ، ومن خلال التقليد الموروث اصبحت على مر السنين هي الصفة الملازمة لحياة الاستيطان في هذه المناطق ، ان التدريب الفكري الطويل في الريف انجب قراء ومحدثين مما ادى الى تراكم عدد من هؤلاء الاشخاص امثال فالح الصيهود ، ومحمد ابو تريكات ، و مطلق السلمان ، وجاسم بن محمد ، وسلمان بن غيلان ، ومستشاريهم ، امثال ملا كريم ، وملا لازم وكان عصر ملا كريم قد اوجد ذروة في الادب والمعرفة التامة بالخصائص الاقتصادية والادبية ، وكانت مقاطعات محمد عريبي ( 95% ) جميعها مدونة في سجلات ملا كريم اضافة الى شغفهم في قراءة الادب والتاريخ ، وبقي هؤلاء الاشخاص رمزا وسراجا في واقع الحياة الاجتماعية للريف ، مما جعل الكثير من شيوخ المنطقة يعتمدون عليهم ، وكان ملا خصاف وملا علي بن دعيل الدراجي ، وملا جاسم الحلفي ، وملا عبد الله وفانوس ، وملا عيسى من بينهم ، لقد اوجدت تفصيلات شخصية ومتطلبات عصر الريف اهتماما خاصا في تكوين بعض المكتبات للمعني منهم ، وهذا الطريق تمخض عن وجود عدد كبير من الملالي والكتاب موزعين في انحاء الريف ، ولن نتمكن في هذا البحث من التحدث عن الكثير منهم لكننا نكتفي بالقاء الضوء على بعض الشخصيات الهامة في الريف ونذكر منهم الشيخ فالح الصيهود .

فالح الصيهود
 عند الكتابة عن الشيخ فالح الصيهود يلزمني ان اعبر عن الاراء الشخصية التي سمعتها من المرحوم الشيخ كاظم الشيخ كاظم الشراني ، والشيخ عيسى ومن درعم بن عبد الكريم صيهود وبعض معاصريه والشيء الكثير الذي يمكن ان يؤرخ عن حياته لكننا لم نلم بصورة وافية عن مجمل حياته بقدر استطاعتنا المعرفة عن باقي الاشخاص في الريف نظرا لعدم وجود مصادر مكتوبة عن ذلك الرجل لكي تحدثنا عنه بالقدر الذي يتيح لنا معرفة ما نصبوا اليه ، فليس في حياة الشيخ فالح الصيهود شيء من الازمات او الغموض والعقد اذ كانت حياته عادية خالية
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 165 ـ

 من الحوادث الغريبة مقارنة بالشيوخ الاخرين ، فقد كان يملك دماغا من اعظم الادمغة التي حظيت بها المقاطعات الريفية المجاورة ، كما لم نحصل على تاريخ معين لولادته ، وعرف عنه انه انفق حياته كلها في هدوء ودعة ولم