تنعكس عليه حياة والده صيهود الذي كان يمتلك نزعات انتقامية ضد الفلاحين ، لذلك فليس ممكنا ذكر ( فالح الصيهود ) من غير الاشارة الى تاثيراته المباشرة في الاسر الفلاحية في منطقته والتي تعطي محتوياتها واهدافها الاجتماعية نظرة كبيرة باتجاه الفلاحين منذ ذلك العصر ، ولهذا فمن الضروري ان يضع المرء في مخيلته ان هذه الاهداف لم تظهر اية علامة مؤثرة مباشرة بممارسات الفلاحين في مراحلهم السابقة ولان محتوياتها عبارة عن تعبير ادبي تقليدي يخص مسؤوليات اجتماعية لفترة زمنية محددة ، حيث لا يمكن معرفة حتى التناقضات الحاصلة بين ظروف موجودة ومرغوب فيها ، واخيرا فان هذه التقاليد تمثل قانون هاما للوضع الاجتماعي وما يتعلق في استمرارية العقلية والروحية للفترة الزمنية المحددة فقد عاشت مع بعض التقاليد الاجتماعية والاقتصادية تبدلات ولو ان عملية التوثيق تضعنا في موقف صعب للغاية لقياس طبيعة تلك التبدلات ، فان مؤثرات عديدة قد وضحت اتجاه التبدلات ومن بين هذه التبدلات الدور الاجتماعي المتزايد لبعض الاشخاص ودور كل منهم في حركة المجتمع الريفي ، وبالرغم من التاثير المتناقض للسلطة الاجتماعية الاقطاعية واضفاء الاولوية الاقتصادية للسكان مع اختفاء بعض الاصلاحات الاجتماعية فان عصر ( فالح الصيهود ) قد طغى على بعض الجوانب الطبقية للافراد الذين هم بحوزته وذلك لما يحظى به من مكانة اجتماعية بين نفوس الفلاحين ، لذلك يجب تفحص الطبيعة المحكمة لاسلوب اداري ضمن تسلسل الجحياة الاجتماعية والتاريخية والاعمال الاخرى التي نتعرف من خلالها على اعماله ومكانته في وسطه آنذاك .
 فبعد عودته من منفاه الاخير من اراضي عربستان اخذت المخاوف تدب الى قلب محمد العريبي فضلا عنه كون الشيخ فالح هو احد اقربائه لكنه استقر اخيرا في ملتقى ( نهر الطليعة ) ولم يتوقع بعض الملاكين هذا الاجراء بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى سنة 2018 وقد شيد قصرا فخما عند ملتقى ذلك ذلك النهر خصص القسم الاكبر فيه لاستضافة الناس واماكن للراحة والجلوس مع الفلاحين ودعيت بـ ( ديوانية فالح ) التي كانت تضم العديد من الكتب القيمة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 167 ـ
 والمفيدة وبالرغم من تفويض امر الزراعة في هذه المقاطعات لأولاده والوكلاء والمأمورين نجده قريبا من الجو الزراعي ويراقب عن كثب تحقيق النتائج الزراعية وفق الاساليب التقليدية .
 وفيما يتعلق بالخلفية الثقافية والادبية فانه لم يتخرج من مدرسة ثانوية او جامعية لقد تتلمذ في بادىء الامر على يد رجل يدعى ( ملا عبد الله ) وتعلم منه القراءة والكتابة عن طريق القرآن الكريم وهي الفترة الزمنية التي كانت سائدة في الريف حيث عدم وجود المدارس التعليمية آنذاك وبمرور الزمن اتخذ له منهجا خاصا ميّزه عن باقي الملاكين لحبه للادب والشعر الامر الذي مكنه من امتلاك العديد من الكتب الشعرية والتاريخية لدراستها وتتبعها بدقة ، وقد اجمع حوله العديد من اهل الدراية والمعرفة من القصاصين والشعراء حتى اصبح الفرد يتقبل وجوده كرجل كريم ، كما طور اسلوب حياته بتبادل الحكايات والاحاديث مع الفلاحين ، ويروى عنه انه كان شغوفا بمطالعة كتب ( نهج البلاغة ) وكتب الواقدي وحدثني الشيخ ( كاظم الشراني ) المؤرخ والقصاص للشيخ فالح ونديمه ايضا وقد رافقه المرحوم ( السيد يوسف البطاط ) عند زيارتهم لي قبل وفاتهم عام 1963 ان الشيخ فالح كان يعشق الاحاديث وقصص الف ليلة وليلة وغيرها ، كما كان يراقب بنفسه اعمال السدود التي كانت لها اهمية اقتصادية فائقة في نجاح العمليات الزراعية ، فكان يعطيها اولوية خاصة لان هذه السدود كانت تعد من اهم الانجازات الفنية الرائعة لان القيام بها كان يتطلب ايادي فلاحية كثيرة واعمالا شاقة جدا ، وقد يصل الامر لإنجاحها وانجازها الى حالة القسوة ضد الفلاحين في بعض المناطق الاخرى التي يديرها الاقطاعيون اما حضور الشيخ فالح وتوجيهاته فكانت لا تتم بالطرق القسرية بل كان حضوره قرب السد المطلوب يعد مساهمة فعالة في نجاح الزراعة وثبات الفلاحين ، ففي الموعد المقرر يذهب بنفسه للمشاركة في ذلك العمل الجبار ويعمل وليمة كبيرة للفلاحين بعد انجاز السد المطلوب ، ولا يقتصر الامر على هذه الاعمال التي كان يقوم بها ايضا فقد وضعه الفلاحون بمثابة الاب الروحي ويقسمون براسه وهي الكلمة الدارجة التي يرددها
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 168 ـ
 الفلاحون ( بخت فالح ) ، ويروى عنه ايضا ان الكثير من النسوة كن يجلبن اطفالهن الرضع ، الذين يولدون حديثا الى مضيف الشيخ فالح لتسمية المولود وعند مشاهدته يطلب الشيخ فالح فك الاحزمة التي تحيط بجسم الطفل ( اكماط ) ويلقبه بأسم معين وعلى مر الزمن اعتادت هذه الاسر الفلاحية ان تجعل من هذه الحالة تقليدا اجتماعيا مألوفا رافق حياتهم سنين طوالا لهذا الوفاء الصادر منه ، وهناك بعض تقاليد تدفع ببعض الفلاحين الى طلب المساعدة من الشيخ فالح لمن يستعصي عليه امرالزواج ولإعطائه المبالغ اللازمة ، وفي كثير من الاحيان كان يقف الى جانب الفلاحين المظلومين من قبل السراكيل الذين يستدعيهم ويوبخهم على اعمالهم الضارة ضد الفلاحين ، كما كان يصاحب العديد من اصحاب الخبرة والدراية امثال ( ملا خصاف ) وغيره وهم الذين لهم خبرات واسعة في حقول السياسة والاقتصاد ، اذ ان اعتماده على هؤلاء كونه واسع الاطلاع بسبب منفاه الاخير في اسطنبول مع الشيخ عريبي وملا علي الحاج دعيل والحاج بهار ، وسلمان بن غيلان ، وحدثني ايضا الشيخ كاظم عن مآثر اخرى للشيخ فالح مفادها ان احد محافظي العمارة الذي كانوا يدعونه سابقا بكلمة ( المتصرف ) وبصحبته مديرالشرطة وضابط تجنيد ناحية الكحلاء ومدير النفوس جاءوا وهم يحملون معهم سجلات رسمية ومن بينهم رجل اداري آخر ، وكان الشيخ فالح لا يسأل عن سبب تلك الزيارة الاّ حينما يغادر الضيوف ، وعلى كل حال كانت داره يزورها العديد من الناس عند ملتقى ( نهر الطليعة ) والتي تصل اليها الكهرباء بواسطة ماكنة ديزل منصوبة قرب الدار وهي تكفي لتزويد جميع اماكن الشيخ فالح في ذلك الوقت اي في الاعوام بين 1920 و 1940 ومن عادات الشيخ فالح انه كان يضطجع على سرير كبير مفروش بأجود الفرش ويجلس على السرير في راحة تامة لكونه رجلا ممتلىء الشخصية وصحته لا تساعد على الجلوس ومع ذلك فانه رجل ذو ذكاء حاد ومتفائل ، ويقول الشيخ كاظم : اجد في نفسي الكفاءة التامة حين اجلس بجانبه وأقص عليه القصص والاحاديث الجديدة اضافة الى سماعه من احد العلماء الذين يفدون اليه من النجف لاستلام الجرايات المخصصة لهم
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 169 ـ
 سنويا ، وهكذا بدأت اقص عليهم القصص والاحاديث في تلك الليلة وفجأة نظرت الى المتصرف وهو يمسك ورقة وقلما ويكتب رؤوس اقلام ، وبعد لحظات يقدم العشاء من كل لون وفي كل يوم وبعد الانتهاء بدأت بالاحاديث كالمعتاد وفي ساعة متاخرة من الليل هجع الشيخ فالح الى النوم ، وفي تلك اللحظات توقف الحديث القصصي عند منامه وطلب المحافظ مني ان ازوده بهذه المصادر الممتعة واين مكان وجودها فأجبته ان هذه الاحاديث تلقائية ارويها على السليقة ومن سماع الدراج تعلمتها من خلال حياة الريف ثم ان احاديثي هذه توصلني الى الحالة التي ارى فيها الشيخ فالح قد نام نوما عميقا ، وفي صباح اليوم التالي جرت احاديث بين المتصرف وبين الشيخ فالح كان مفادها ان زيارتهم جاءت خصيصا لتسجيل الفلاحين في سجلات رسمية ، وعند سماعه هذا منهم غضب وارتجف لمعنى السجلات الموضوعة لتثبيت الاسماء في سجلات ثم تكلم معهم بأسلوب مقنع مفاده ان تثبيت الفلاحين في سجلات معناه تدمير الريف وقتل الزراعة .
 وقال للمحافظ والاداريين الوافدين : انني مقتنع من ان الانتاج الزراعي سوف يتاخر ويتدهور من دون الفلاحين ، وحاول اقناعهم مرارا وطلب منهم فيما بعد تأجيل ذلك ثم ودعهم وقفلوا عائدين محملين باكياس الرز العنبر مع السمن الحيواني وغيرها ، وتعكس هذه الامور جانبا هاما من صفات الانسان ذي التجربة الفكرية الواسعة ولكونه يعلم ان غياب الفلاحين عن الزراعة معناه خلو الارض من الايادي الفنية ومن ثم تعطيل العمل ، وفيما يتعلق بعلاقته الاجتماعية مع ابناء المنطقة المحيطة به فانه كان واحدا من ابرز اصدقاء الشيخ غضبان البنية وله علاقات حميمة معه وكذلك مع مشايخ بني طرف في عربستان امثال الشيخ سرتيب والشيخ عوفي واولاد الشيخ منيشد ( والشيخ خزعل الكعبي ) ومع الشيخ محمد عريبي والشيخ محمد الموسى ، وشبل الثامر ، والشيخ عزيز بن شياع ، اما بالنسبة لعلاقته مع الشيخ محمد عريبي فقد زوج احدى بناته الجميلات ( طليعة الى الشيخ جاسم بن محمد ) ، وزوج ابنته طرفيه ( طرفيه ) الى حاتم الطاهر ، ويروى عنه انه تزوج امرأة من قبيلة السواعد ، وزوج ولده الشيخ مجبل من الشابة ( صدامة ) احدى بنات الشيخ محمد عريبي .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 170 ـ
 ولعدم وجود مصادر تاريخية معينة تبين تاريخ وفاته بالضبط فانه يعتقد ان عام 2040 هو التاريخ الاقرب لوفاته الذي حصلت بسبب ارتفاع الضغط المفاجىء ، وعند وفاته بكى عليه الكثير من السكان وبقيت ذكراه خالدة في اذهان معظم الاسر الفلاحية التي استوطنت معه وكانه حاكم ولاية ، وعدت وفاته خسارة فادحة لكونه قد شيد مملكة مصغرة في الريف يعيش في ظلها الناس بسعادة وامان ، مما جعل معظم الفلاحين يفضلون الهروب من المقاطعات المجاورة والتوجه نحو اراضيه ، وترك من الابناء اعدادا كبيرة توارثوا فيما بعد وفاته الاشراف التام على جميع المقاطعات وهم خريبط الفالح ، وابناه الفالح ، ودواي ، ومجبل الفالح ، وجيجان الفالح ، وحمدان بن فالح ، وعجيمي بن فالح ، وخزعل بن فالح ، واخرون ومن النساء اللواتي فوضهن على اموره ( عفرة ) ، وله نساء عديدات ، كما يروى عنه انه كان قوي البنية ويفضل شرب الحليب الطازج من الجاموس يوميا وخصص رجل يدعى ( مغتاظ ) يسقي الشيخ فالح الصيهود الحليب الطازج يوميا وبكميات كثيرة .
 وفي كثير من الاحيان كان يحضر ولائم يقيمها بنفسه للفلاحين الذين يقومون باعمال ( السد ) ويجمع فيها انواع متعددة من المواد الغذائية كالاسماك الكبيرة ، والطيور ، والدجاج الطازج ، ويشارك الفلاحون جميعا بهذه الوليمة .
 كما عرف عنه انه كان يخصص اماكن للراحة عند ملتقى ( مقاطعات المعيل ) ، ومكان اخر وسط بساتين ( نهر الاعيوج ) ويطلب من اولاده احضار الولائم بشكل دوري ، وفي هذه الاماكن يحضر الشيخ فالح وتقدم امامه جميع الافراح والنكات وغيرها ولا يمانع في مشاركة اي انسان يحضر هذه الولائم ، هكذا كان فالح الصيهود وهكذا كانت الفترة الزمنية لتاريخ الريف التي عاصرت الشيخ محمد الموسى الملقب بابو تريكات الذي يعد بحق بمنزلة امثال الشيخ فالح الصيهود وغيرهم ، وفي مجلسه المخصص بملتقى نهر الطلعة يتحدث اليه الشعراء والادباء امثال الشيخ كاظم الملقب بالشراني وملا خصاف ، وملا عيسى وغيرهم .
 ويعرف عن فالح الصيهود انه كان يرغب في سماع القصص الادبية
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 171 ـ
 والتاريخية ، وفي كثير من المناسبات كان يساعد الفقراء من الفلاحين في اعطاء المساعدات لهم ويزوج البعض منهم .
  ولا يقتصر وجوده كرجل اقطاعي فقط ، بل انه كثيرا ما كان يذهب الى بغداد والبصرة ومحافظة العمارة للاتصال بالجهات الادارية فيما يتعلق بامور الزراعة واطلاق سراح الموقوفين من ابناء منطقته حينما تقتضي الضرورة .
 وهكذا ترك فالح الصيهود بصماته على بقعة هامة من بقاع الريف ما زال البعض يتذكرها حتى الان .

الشيخ جاسم بن محمد عريبي :
 نتحدث في هذا الموضوع عن شخصية ريفية اخرى اسهمت اسهاما كبيرا في دفع عجلة الانتاج الزراعي الى الامام بسبب ما قدمته من انجازات واسعة ، وياتي حدسثنا عن هذه الشخصية الاجتماعية في مرحلة تاريخية من عمر الريف ليس من اجل ابراز اهمية هؤلاء في كونهم اقطاعيين او ابناء اقطاعيين ، بل لان الواقع التاريخي لعصرنا الحاضر يحدثنا باسهاب عن موضوع الادارة الذاتية التي كانت تمثل مجمل القوانين الموضوعية التي تحيط بالنظام الريفي العام ، وهذا مما يدلل على ان المجتمع الريفي كان يخضع الى قوانين كما الطبيعة ايضا ، وعلى هذا الاساس فاننا حينما نتحدث عن ( عباس بن محمد ) فاننا نهدف الى اظهار حقيقة واقع الريف ضمن مسار الظروف التاريخية المنصرمة وحقيقة واقعه الاجتماعي وظروفه التقليدية .
 وجاسم بن محمد عريبي ابن وادي الخليفة هو الابن الاكبر ( للشيخ محمد عريبي ) والدته ( فنر بنت يسر ) احدى زوجات محمد عريبي الثلاث تنة وسعدة شقيقة محمد الموسى ، التي انجبت له ولدا يدعى ( شياع ) وزوجته ( موحة ام خيون ) وفي طفولته ترعرع مع ابناء المنطقة وتعلم القراءة والكتابة في مدارس الكتاتيب واتقنها بصورة جيدة ، ومن خلال تجواله مع والده ومع اخواله ( بيت ميسر ) تعلم الكثير من حياة الناس ثم اصبح فيما بعد ( وكيل عام ) على مقاطعات ( الزبير ) الواقعة على امتداد نهر الكحلاء اي في المنطقة الواقعة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 172 ـ
 شرقي دار والده محمد عريبي التي وضع فيها مضخة ماء في الاعوام ما بين 2034 ـ 2041 تقريبا اي قبل نزوحه الى مقاطعاته في منطقة الاكرح والمسراح .

حياته الشخصية
 التصق في بداية حياته بعلاقة حب مع الشابة ( بهية ) بنت مري من عشيرة السودان وأحبها حبا كثيرا وتزوج منها فيما بعد اي قبل نزوحه الى مقاطعات المسراح ، وفي هذه الفترة تزوج من ( خالدية ) بنت ( عصمان ) بن يسر وانجبت له عدة اولاد هم حطاب وكريم وفالح ، واخيرا تزوج من ( طليعة ) بنت فالح الصيهود ، وعاش في هذه المقاطعات التابعة لنهر الاكرح والمسراح الذي يعد واحدا من الفروع التابعة لنهر ام الطوس حيث دامت فترة وجوده وكيلا عاما مدة من الزمن بعد ان حل محل السراكيل وهم ، ثامر وعزيز اولاد كوطي ، وخلال فترة وجوده في هذه المقاطعة التف حوله العديد من الفلاحين الذين اشتهروا في زراعة القمح والشعير وتربية الابقار بسبب تعامله الانساني مع هؤلاء الفلاحين .

سيرته الذاتية
 يعرف من خلال سيرته انه ربط سياسته بالأخلاق ربطا محكما ، وبفضل ذلك الترابط اصبح قريبا من احاسيس الفلاحين الذين كانوا تحت زعامته ، ويروي عنه بعض المحدثين انه كان يعامل الفلاحين معاملة حسنة ويستمع الى شكواهم واحاسيسهم دون الاعتماد مثل غيره على الاساليب القمعية ضد الفلاحين حيث كان يقف الى جانبهم وفي حل المعضلات التي تتعلق بحياتهم سواء ما صغر منها او ما كبر ، فكان ينظر الى عموم الفلاحين الذين يعملون معه على انهم افراد صالحون ويقاسون في ضوء انسانيتهم لانه يرى في ذلك حصيلة التوازن بطريقة الفطرة بين الفعل المدرك والمشاعر الحقيقية مما ادى بالتالي الى استقطاب معظم الفلاحين نحو اراضيه وطلب العيش والاستقرار معه كما فعل معظم الفلاحين الذين استوطنوا معه قرب المبازل لعدم وجود
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 173 ـ

صورة الشيخ جاسم بن محمد عريبي
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 174 ـ
 اماكن خالية تؤويهم ، ومن هنا كان لابد ان تحل وجوه كثيرة للنشاط الاقتصادي بفعل التعامل الانساني الذي يزيد من اهمية تطوير العلاقات الانتاجية في الزراعة وغيرها ، لان معظم الاعمال الزراعية كانت كانت تجري في ظروف غير قسرية نظرا للرغبة الحقيقية التي تدفع الفلاحين نحو تلك الاهداف ، لذلك فقد اهتم معظم الفلاحين بزراعة عموم الاراضي زراعة جيدة ، وفي عهده انتعش الوضع الاقتصادي للاسر الفلاحية واخذت الافراح تعم المنطقة التي يقطن فيها ، ويؤكد بعض معاصريه انه امر بطرد المأمورين والوكلاء السابقين كافة الذين كانوا يضطهدون الفلاحين في تلك المقاطعات لعدم تعاملهم مع الفلاحين بالطريقة التي يتعامل بها ، وغالبا ما كان يراه البعض يستعمل الشدة الاّ في حالات الضرورة حتى عرف عنه انه كان يذهب الى اماكن بعض الاشخاص الذين ينعتون ( بالحساوية ـ والبربرة ـ والحياك ـ والصابئة ) والذين كانوا يعدون بنظر اهل الريف سابقا بانهم من الطبقات الادنى ويستمع الى آرائهم ويحثهم على تحقيق اهدافهم في زيادة الانتاج ، ويرى ان الغاية الاسمى للحياة هي تحقيق سعادة الفلاحين وسعادة الافراد وتوفير السعادة الروحية والمادية لهم ، وفي كثير من المناسبات كان يقول : لا بد لي ان اهتم بهم وارعى مصالحهم ، فكانت هذه الاسر تشكل نسبة كبيرة تلتف حول رئاسته وكانها دويلة من الدويلات المصغرة اسوة بباقي المقاطعات الاخرى المجاورة التي تخضع الى حكم الاشخاص ولكن بالطريقة الاعتيادية بالنسبة لصيغة التعامل مع الافراد .
 فهناك مقاطعة تخضع الى حالات من التعسف والاضطهاد وهناك مقاطعة خالية من اي نوع من ذلك الاضطهاد ، وطبيعي ان ذلك يتعلق بموضوع ازدهار الاقتصاد الريفي وحالات التفاعل مع العلاقات الانتاجية الطبيعية التي يفرضها الواجب الوطني والتوجه الديمقراطي ويؤكد بعض المعاصرين له الذين افادونا ببعض الاحاديث ان الشيخ جاسم كان يقول ان الفلاحين ما اشتركوا في تطوير هذه الزراعة الاّ لمصالحنا المشتركة جميعا ، وان جلوسي مع الطبقات الادنى والتحدث معهم ما هو الاّ من اجل اخراج حالة الذعر من بين نفوسهم ، هكذا
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 175 ـ
 ينفرد مثل هذا الرجل في تفهم حالة الفلاحين وهو بهذه الخلفية الثقافية التي مكنته من ان يتجاوز حدود طرحه وهو واحد من اكبر الاقطاعيين في المنطقة ، لذلك فان ( الشيخ جاسم ) كان يختلف عن سواه في تقييمه للاخرين ، فالبعض منهم يرى ان القسوة والامور القسرية تصبح هي البديل .
 اما هو فيرى ان الاخلاق لن تنفصل عن الديمقراطية ، ونجح في مسعاه حتى احبه الفلاحون حبا كبيرا ، فكان مجلسه يضم جميع الافراد وكبار السن ويحفون به في الشتاء والصيف .
 واسطاع بمرور الزمن تنسيق حياته تنسيقا يساير ذلك القانون الطبيعي الذي هو اسمى من رغبات الانسان حيث الاخوة والمحبة .
 والواقع ان مصادر التفكير الوطني لديه تكمن في معلوماته وخبراته من جيرانه ومن الناس الذين عاصروه في فترة طفولته حيث كانت نشاته في احضان اخواله ( بيت يسر ) القبيلة التي هي نم بين اعرق القبائل شرفا ، كما ان زياراته المتكررة لكل من دول الخليج العربي وغيرها لربما هي التي مكنته من مكانته هذه وبهذا النهج الذي اختص به في حياته ، كما عرف عنه انه تعرف على الملك غازي وتاثر به ، وبذلك فان شخصيته وحكمته تكمن في تشريعاته ، والاّ فكيف يتسنى ( للملك غازي ) ان يفتتح جسرا في العمارة الاّ بحضور الشيخ جاسم ؟ ، ولذلك فانه يرى ان الافراد مندمجون بهذه المقاطعة في تلك الحقبة ، فهناك فصل بين الفرد وحكومته المصغرة في الريف ، ولكل منهما حقوقه وواجباته .
 ;فكان يرى من خلال البيئة ان وجوده هناك هو تطوير طبيعي لحياة الافراد ، والفكرة التي يعرفها منذ الطفولة هي فكرة السيادة على تلك المقاطعات ولكنها يجب ان تحظى بعلاقة مميزة مع المجتمع الفلاحي ، وهكذا كان ينظر الى هذه الحالة بتلك النظرة البسيطة في الريف مما نجم عن ذلك التفاعل خلق حالة التجانس مع الفلاحين بصورة واسعة .
 كما يروى عنه انه كان يتجول لوحده في احدى المناطق وكان ممتطيا جواده وقد غير زيه ووصل الى احد الفلاحين المسنين الذين يحرثون الارض وهي ارض غير خصبة ويتعذر انتاج المحصول فيها لملوحتها ، فسلم عليه ثم
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 176 ـ
 سأله لماذا تحرث هذه الارض التي هي غير صالحة للزراعة ؟ ، فأجابه الفلاح : هذه قسمتي لاني لا املك ارضا صالحة فعندها ، ترجل من حصانه ثم اعطاه مبلغا كبيرا من المال يكفي لفترة وطلب منه تركها ثم عرفه بنفسه فقبّله الرجل بعد ان تاكد له انه جاسم ، ثم طمأنه وقال له سوف نعطيك ارضا زراعية غير هذه الارض.
 ;لذلك فهناك اعتبارات اخرى يمكن التحدث عنها والتي تتعلق بحياته ، فلقد كانت لديه هوايات كثيرة من بينها حبه لتربية الخيول الجيدة والرهان عليها ، وكان يستهويه الغناء ويأخذ منه مأخذا كبيرا وهو بعيد عن قسوة الفلاحين واضطهادهم وفي مناسبات عديدة كان يصاحب مشاهير المغنين ويقربهم اليه ويكرمهم ويصرف عليهم الجريات ، ومن مشاهير المغنين الذين احبهم هو ( السيد فالح ) ابن خالته الذي يمتاز غناؤه بالمحمداوية والمغني الاخر خاله ( محمد بن ميسر ) وصديقه الاخر ( حميد الهيلجي ) الذي يجيد غناء المحمداوية ( والبستة ) والمغني الاخر ( عبد الحسين وشقيقه عبد الحسن ) من عشيرلة بيت ( بانة ) وكثيرا ما كان يصطحب هؤلاء المغنين الى بعض الاماكن لأِحياء الجلسات الغنائية الخاصة .
 ويروى عنه ايضا انه كان شغوفا بتربية الكلاب ومصارعتها امام الحشود الكبيرة من الفلاحين وذات يوم اخبره بعض اصدقائه بوجود ( كلب ) قوي البنية لدى احد الفلاحين يتحدى ( كلب الشيخ جاسم ) وطبيعي ان كلب الشيخ جاسم كان جيد التدريب وله خبرة طويلة بمصارعة الكلاب ، وهذا لا يثير اهتمامه ابدا بقدر ما بحاجة الى رؤية ذلك التحدي ومشاهدة حلبة المصارعة ، وعلى كل حال فقد اجتمع الحشد من الناس و جاء الفلاح ومعه كلبه المصارع الذي ظهر لاول مرة وهو يتحدى ( كلب ) الشيخ جاسم قوي البنية الذي اع صيته في المنطقة ولم يبق امامه اي واحد من الكلاب الاّ وهزمه اشد هزيمة بحيث اصبح على مر الايام هو المسيطر على معظم الكلاب في المنطقة ، واخيرا التقى الفريقان في الساحة المقررة ، ومن خلال المبارزة الطويلة تغلب كلب الفلاح على كلب الشيخ جاسم وصرعه عدة مرات ثم اشتد النزال واخيرا تمت
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 177 ـ
 هزيمة كلب الشيخ جاسم ، وبعد الانتهاء نظر الجميع الى الشيخ جاسم لمعرفة ماذا سيكون رد الفعل على هذا التحدي الذي تغلب فيه كلب الفلاح على كلب الشيخ جاسم ، غير ان النتيجة جاءت على عكس ما كان متوقعا .. لقد كانت النهاية هي تكريم الفلاح تكريما جيدا وتشجيعه لنجاحه في ذلك التدريب والتغلب على كلب الشيخ جاسم ولم يغضب لذلك .
 وعلى كل حال فان معظم هذه الحالات وغيرها كانت خصائص اجتماعية للعقلانية التي كان يراها البعض في حياة الشيخ جاسم ، وهي النظرة الى الامور وفق حجمها في الممارسات اليومية والتي يطغى عليها الواقع المحلي وعلى الحياة الريفية في تلك البيئات ، ولهذا فان معظم الذين تحدثوا عنه لا يعدوا ان يكون حديثهم حالة مالوفة عن بعض الاشخاص الذين استوطنوا في الريف وانفردوا بهذه الخصائص ، فهو لم يكن فيلسوفا ولا كاتبا ولا عالما انه واحد من الرجال الذين احبهم سكان الريف امثال محمد الموسى ، وفالح الصيهود ، وسلمان بن غيلان ، والشيخ مطلق السلمان والشيخ محمد عريبي ، ومجيد الخليفة الذي ساهم في دفع عجلة الانتاج الزراعي ومساعدة الفلاحين .
 ومن المفيد ان نتحدث عن هؤلاء الاشخاص الذين ساهموا في حل المعضلات للأسر الفلاحية المحيطة بهم مما جعل البعض من هذه الاسر ان تتفوق في اعمال الانتاج الزراعي بفعل التاثيرات الانسانية التي كانت تزيد من فاعليتهم في مجال العمل الزراعي ، فحتى المضايف الخاصة بهم لم يكن عليها حواجز لمنع دخول الفلاحين والتردد عليها بين الحين والاخر ، ونتيجة لتلك الاعتبارات والمزايا التي انفرد بها ( جاسم ) في تلك المقاطعات والاحاديث التي يرويها عنه الناس مثل مصاحبة الملك غازي عند افتتاح احد الجسور في محافظة العمارة والصداقة التي كانت تربطه مع ملوك البحرين وغيرهم ، كلها جعلته يحظى بميزة خاصة واتساع مكانته ، لكن وجوده فيما بعد اصبح يشكل خطورة على الاشخاص الذين كانوا يضمرون له العداء سرا ، اذ يروى ان الشيخ محمد عريبي طلب من جاسم ترك مكانه والذهاب الى المقاطعات الاخرى ومن المعروف في الريف ان الاوامر التي ترد من الاباء كانت لا ترفض ، وفعلا
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 178 ـ
 فقد وافق على ذلك ، وكانت العادة المألوفة في الريف ان الاشخاص الذين ينقلون من اماكنهم يجلبون معهم مسقفاتهم وبالنسبة للشيخ جاسم فكان بحاجة لتغيير جميع ممتلكاته ( مثل المضيف ) والبيوت المشيدة ، لان معظم المضايف كانت تبنى بأيادي فتية مهرة وهم اصحاب خبرة في تشييد المضايف ، ومع ذلك فانه لم يفلح بقلع المضيف وبقية المسقفات ونقلها الى المكان الجديد بسبب كثرة الحشود الواسعة من الفلاحين الذين منعوه وهم يبكون بجوار المضيف ، وفضلا عن اعتزازه بتلك الهندسة الفنية الرائعة فقد تقرر عليه الذهاب الى المكان الجديد ، واكتفى بنقل محتويات الدار مؤخرا ، ولدى وصوله هناك قام بتشييد مضيف له مع دار كاملة ، وجمع حوله جميع الفلاحين الموجودين في المكان الجديد وتحدث معهم مثلما كان يتحدث مع الفلاحين الذين تركهم في المقاطعات السابقة .
 وبعد ايام قلائل فوجىء بوجود اعداد هائلة من الفلاحين السابقين يهربون الى مقاطعاته الجديدة ودهش كثيرا واصبح في حيرة من امره ، فهل يرفض هذه الاعداد ام يقبلها ؟ وبالرغم من الحديث المكشوف الذي تحدث به امامهم مثل صعوبة حصولهم على اراض زراعية كافية تمكنهم من اعالة عوائلهم واستقرارهم معه حاليا غير انهم اجابوه بانهم سيكونون سعداء للبقاء معه حتى لو كانوا دون ارض ، واخيرا فقد اصبح فيما بعد في حيرة من امر هؤلاء الناس وتمكن اخيرا وبصعوبة بالغة من ايجاد اراض لهم حتى ولو كانت تعطي غلة قليلة ، وهكذا فان مثل هذه الامور تؤكد لنا كيف كانت سعة الاراضي الواقعة هناك والتي كانت لا تستوعب اعدادا فلاحية كهذه ، لكن حسن التعامل الذي كان يبديه نحو هذه الاسر التي فلت الاحتماء به في تلك المقاطعات الجديدة يشكل امرا غريبا حتى انه جرى تناقل هذه الانباء في جميع المقاطعات ، وبعد مضي اربع سنوات تقريبا توفي ( جاسم بن محمد ) في مستشفى ( أسبيتار ) في البصرة على اثر مرض الزائدة الدودية ، وعدت وفاته بانسبة لعموم الاسر الفلاحية واصدقائه وجميع المقربين اليه خسارة كبيرة ، ولم تتخلص زوجة والده ( فتنة ) نم الاتهام الذي وجه اليها من جميع الناس الذين يعرفون الشيخ جاسم ، وبقي ذلك الاعتقاد سنوات طويلة حسبما تناقلته الالسن ، وحتى الشيخ
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 179 ـ
 محمد عريبي نفسه كان يعتقد بذلك ولم يتقرب اليها ويقابلها ردحا من الزمن ، وقد ارسلت اليه العديد من الوسطاء ( مثل السيد يوسف والسيد سروط ) الاّ ان ذلك لم يجد نفعا وظل امتناع الشيخ محمد عريبي عن المصالحة مع ( فتنة ) حسب الاقوال المتداولة حينها والتي لم تات من مصادر موثوقة ، وبوفاته حزن عليه الكثير من الناس ولبسوا عليه الحداد شهورا واياما طويلة وبكى عليه امام والده اعداد هائلة من الفلاحين من جميع المقاطعات حتى ان الشعراء انشدوه بأعظم قصائدهم وغنى عليه المغنون بأغاني الحزن والاسف وكان من بينهم خاله ( محمد بن يسر ) وابن خالته نديمه المغني الشهير ( السيد فالح ) الذي عرف بركبانيته ركبانية ( جاسم ) التي كان يرتلها في جميع المناسبات وكان قد امتنع عن الغناء تماما في جميع المناسبات الاّ في هذه الركبانية .
 وقد التقينا ببعض الاشخاص الذين عاصروا الشيخ جاسم والسيد فالح زهم كريز بن حميمة وشلال شقيقه فقد افادونا بان السيد فالح كان قد غنى هذه الركبانية في وسط نهر الاكرح وعند وصوله دار جاسم السابقة سمعه الفلاحون الذين عاصروا الشيخ جاسم ولشدة تاثرهم بهذه الركبانية رموا انفسهم في وسط النهر في الشتاء القارس ، ولعل ( جاسم بن محمد ) قام بالبحث المستمر عن الممكنات في سياق الواقع من اجل طموح الانسان الى وضع افضل والى وجود تاريخ له معنى الاستمرارية في حساب المدرسة النفسية التي كانت تخضع الى نظام الواقع المحلي في المناطق الريفية ، هذا ولم نقرأ الاّ بعض الكلمات التي كان الافراد يرددونها في خماسية وفاة ( جاسم ) وفيها كلمة ( أمسعيدة ) التي هي ناحية الكحلاء حاليا .
 ها يا أمسعيدة اتصيح جاسم وين ريس العشيرة
 هز العراق وبجاه ابيوم الكون صاحب الغيرة
 ومن بين الاشعار الاخرى التي القيت امام الحشد الكبير من الفلاحين وهم يحملون البيارق عند وفاته :
نـايم الـمدلول حـلوة iiنـومته      أمـسلهم  أعـيونه وناشر كذلته
وجاسم مات يا غريب اذكر هلك
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 180 ـ
 ومن بين الاشعار التي القيت عند وفاته هذه الابيات :
قــصـر الـمـاس يــا جـسـام      يــا  أسـلـيمان ايـبـطل iiالـغدر
ابوك محمد وجدك الباشا بالكتب مذكور
 وهكذا بكت عليه الناس وبكى عليه الكثير ممن احبوه لانه ترك بصمات خلال وجوده وحبه للفلاحين الذين ما زالو يتحدثون عنه حتى وقتنا الراهن .

3 ـ سلمان بن غيلان
 نستهل حديثنا عن واحد من بين ابرز الشخصيات التي اسهمت في ديمومة الحياة الريفية الا وهو ( سلمان بن غيلان ) بن خاوي بن رزيف احد رؤساء قبائل ( البو محمد ) والرئيس العام لقبيلة ( البو علي ) وحينما نتحدث عنه ليس من اجل ابراز اهميته كرئيس قبيلة فقط لكن لانه ياتي من حيث اهميته في بيوت ومعرفة بعض القوانين العشائرية التي طبقت على معظم الاسر الفلاحية في ذلك الزمان .
 تحدثنا سابقا في الفصل المخصص عن للادارة الذاتية وعلى الاسس التي سادت حياة الريف ، ودورها في عملية الاستقرار والاستيطان ، ولتدعم فاعلية ذلك القضاء الذي كان يعمل به الكثير من الفلاحين في المدن والريف ، وبذلك نتوجه لمعرفة من هو ( سلمان بن غيلان ) ؟ انه واحد من بين الاشخاص الذين نشأوا في وسط الريف .

حياته الشخصية
 ولد سلمان بن غيلان في مقاطعة الجندال في ( قضاء المجر الكبير ) وتوفي عن عمر يناهز المائة عام وتزوج اربع زوجات ، وله بنات وذكور هم الحاج حمود بن سلمان ، وحيدر السلمان ، والحاج محمد السلمان ، وكريم بن سلمان وله ايضا مصاهرات عديدة مع رؤساء القبائل مثل عريبي بن وادي ، وخليفة وصيهود ، والشيخ فالح الصيهود ، ومحمد الموسى ابو تريكات ، وشبل الثامر كان يمتلك الموهبة والتواضع كذلك ، فان معظم الذين عاصروه
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 181 ـ
 يعرفون عنه الكثير وحياته كلها كانت حلقات متصلة من المعرفة التي لا ينبغي لها ان تتوقف عند حد معين حتى ان معظم الاشخاص الذين عرفوا برجال ( الفراضة ) في الريف لا يمكنهم ان يصلوا الى ما وصل اليه ذلك الرجل من الحكمة والمعرفة في امر القضاء العشائري الامر الذي مكنه من رسم حدود معرفته وجعلها فترات مرحلية ، وهو لم يتعلم من الفلاحين ومن الحياة فقط ، انه حالة مستخلصة من تملك الموهبة والقدرة الخاصة المتميزة لرجل قدير في اصدار القرارات الريفية ، ويعرف الجميع في تلك المناطق الجنوبية والمناطق المجاورة انه يمتاز بجهد ثري في ميادين الفراضة والعدالة ، وكانه نسيج وحده له آراؤه وتصوراته حينما فوضه المجتمع الريفي للقيام بدور القاضي المحنك ، وحينما كان يقوم باصدار الاحكام كنت تراه واسع الافق بعيدا عن التعصب ويغلب عليه الربط بين خواص الريف والتفوق العقلي ، وبموجب ذلك استطاع ان يمارس ادواره في اصدار الاحكام بما يستدعي منه توضيح الحق من الباطل ، كما كانت احكامه مقبولة من جميع الاطراف المتخاصمين حتى عند احتدام الصراع بين القبائل ايضا ، دون ان يدع تلك الاطراف تأخذ عليه مأخذا خاصا وهذا ما يؤكد اهمية استخدام العقل باقصى حالاته ثم يعبر عنه في وسائل ومفاهيم الاقناع القادرة على جعلهم راضين عن معرفة اين هو الحق ، ويعرف عنه معظم الناس الذين عاصروه انه كان رجلا كريما ويستضيف العديد من الاشخاص في مضيفه الواسع دون مقابل ، فهذه هي خصائص الاصالة التي جاءت عن طريق الخير الذي ينشده الرجال الذين يدعون الى ذلك ، فهل هو طبيب نفساني ؟ ولكن حتى الطبيب النفساني لا يرتضي اعطاء الوصفة دون مقابل ، وعلى كل حال وبأي الاعتبارات يمكننا ان نضع امثال هؤلاء الرجال الذين تركوا لنا تراثا انسانيا خالدا ما زال الكثير يتحدث عنهم حتى يومنا هذا ؟ فقد روى لنا الكثيرون من معاصريه انه كان يصاب بالاعياء والتعب الشديد عند عودته الى مسكنه من حضور الجلسات الطويلة التي تقام في الريف عند حالات القضاء ومن دون مقابل .
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 185 ـ
الفصل الثامن

الهجرة من الريف الى المدينة

 يدلنا واقعنا دلالة واضحة على ان من بين المطالب الرئيسية التي تواجهنا فيما يتعلق بالزراعة ، لم يكن النقص بالجرارت او الآلات الزراعية او خصوبة الارض وحسب ، بل اننا بحاجة الى معرفة واقع الهجرة من الريف الى المدينة والارضية التي يجب ان يقاس عليها تطبيق النظام الزراعي ومعرفة حياة السكان للفترات السابقة من عمر الريف حتى عام 2069 ، وكيفية تمكز الفلاحين في معظم المدن العراقية بهذه الاعداد الشرية الهائلة ، فهل هذا يكمن في تمردهم على واقعهم ؟ وهل هي معركتهم في وسطهم او خارج وسطهم ؟ او حالة المدن لاستيعاب تلك الاعداد الضخمة من الناس ؟ وحينما ندرك ذلك ستكون اسباب هذا النزوح موضوعا شائكا ومعقدا للعوامل التي شوهدتها الظروف السياسية والاجتماعية على حد سواء للاحداث التي حصلت منذ عام 2058 ـ 2069 لقد بحثنا عزيزي القارىء في المواضع السالفة خلال المراحل التاريخية التي مر بها الريف العراقي ، كما اوضحنا ايضا العلاقة فيما بين الملاكين والفلاحين بصورة واضحة في ذلك النظام المغلق الذي كان يرتكز عليه نظام الريف في الزراعة التقليدية ونظام الاجتماعي ، اذ لا يمكن فصل ذلك عن الواقع المحلي والاجتماعي الذي كان يهيمن على الحياة بجميع اشكالها .
 لذلك فان البحث في هذا المجال والغوص في اعماقه يصبح فكرا ايجابيا ، وهذه الفكرة هي التي تولد الحقيقة وتؤثر فيها وتؤدي الى نتائج فعلية لدى كل من يرغب في معرفتها التاريخية ، لكونها تزيد من اهتمامنا بالمشكلة العصرية التي تواجه الانسان ، وعلى هذا الاساس فان موضوع هجرة الفلاحين
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 186 ـ
 
 يتطلب بحثا وافيا في جميع مراحلهم التاريخية وظروفهم الاقتصادية التي اقترنت ايضا بالظروف الاجتماعية ، ولهذا فان البحث عن اسبابها يتطلب قدرا كافيا من مقومات المعرفة والاكتشاف العام ،لاننا جميعا نواجه كأفراد ازمة المجتمع العام في حياته وفي قضية تطوره ، فموقعها العام والخاص وصمودها وحاضرها المحيط بها ربما لا يوجد ذلك القارىء الذي لا يمتلك من الوقت ما يمكنه من الاطلاع على حياة الريف وعن الزراعة ويعدها كوسيلة من وسائل الادراك الوجداني للحياة ويتذوق ما يكتب عن الريف ويكون قادرا على التفرغ ليعرف ما في النفس البشرية وما يحيط بها من العلاقات الانسانية ويتعرف على نقطة البدء لطبيعة حدوث الهجرة ، وحينما نجد ذلك علينا ان نعرف مقدار حجمها وثقلها الذي قذفت به بتلك الاعداد منذ امد بعيد خلال السنوات الماضية بعد ان اصبحت جميع الاراضي الواقعة ضمن الضواحي والاقضية المحيطة بمحافظة ميسان شبه خالية من الفلاحين .
 كثيرا ما نسمع ونقرأ بين حين وآخر ان الحديث عنها كان يكتب بصورة موجزة وفي صيغ غير الصيغ العلمية التي تعالج وتبحث واقع الهجرة من الريف الى المدينة ، لذلك فقد استطعنا ان نقف على اسبابها .













 ولكي نعطي للقارىء فهما جديدا ومتكاملا عن هذه الظاهرة، نظرا لكونها تهمنا وتهم عصرنا الذي نحن فيه ، ودراستها تعد من الدراسات الهامة واذا كانت هي كذلك فعلينا ان ندرك هل هي ضرورة تاريخية ؟ واذا كانت تهمنا فعلا وان نفهمها فهما حقيقيا بسبب تاثيراتها في حياتنا وتقدمنا ، فلا بد ان
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 187 ـ
 نعرف مسبباتها وظروف مكانها وزمانها الذي اصبح مرهونا بطبيعة فهمنا للعصر الذي نحن فيه .
اولاً ـ
 بحثنا في احد المواضيع السابقة عن حجم السكان في ريف العمارة وكل الاقضية والنواحي المجاورة ، فكان الحجم واسعا وهائلا ويفوق جميع الاسر الفلاحية في بعض المناطق الريفية من القطر بحيث ادى الى تغطية معظم المناطق والمقاطعات هناك على الرغم من قلة الاراضي الزراعية التي اصبحت لا تتناسب وحجم السكان ، كما كان لكل مقاطعة نمط خاص في طبيعة العلاقات الانتاجية ، ومع مرور الزمن صاحب ذلك عمليات جذب للسكان في المناطق الزراعية المجاورة التابعة الى الشيخ ( محمد عريبي ) بسبب جفاف الارض وتوطين الفلاحين في اراض جديدة صالحة للزراعة وخصوصا الاراضي القريبة من المياه مع وجود شبكات واسعة من المبازل ، وهذا ما حصل فعلا في استيطان اشقائه جميعا في اراضي نهر العديل التي تدعى ابو الحمري والصيفجي وغيرها ، الامر الذي سهل العيش على تلك الاراضي ومنح الفلاحين حياة افضل بسبب زيادة مداخيلهم المتأتية من صيد الاسماك والطيور وتربية الماشية وبعد ان هجر معظم الفلاحين من الاراضي السابقة وهي مقاطعات مربييّ ، وحمور ، والهبشية ، وحميدة ، وبمرور الزمن استوطن الكثير من الفلاحين هناك من عام 1931 ـ 1950 وانتعشت الحياة ، ونتيجة لتطور اذهان بعض الفلاحين للذهاب نحو البصرة والعمارة رغبة منهم للاشتغال في بعض الاماكن كعمال يطلق عليهم اسم ( الكولية ) ، وكان آباء معظم الذين نزحوا لا يملكون اراضي زراعية كافية حيث ان معظم الاسر الفلاحية كانت تقطن فوق ضفاف المبازل نتيجة الاعداد الضخمة التي كانت تعيش هناك ، ومع بداية هذا النزوح البسيط الذي اقتصر في بادىء الامر على فلاحي العمارة الذين توجهوا نحو البصرة وكل المناطق السكنية التي كانت تدعى ( شط الترك ) ( وماركيل ) و ( الاريف ) واصبحت هذه الفئات تبيع قوة عملها في اعمال ( الكولية ) وباعداد كبيرة ، وطبيعي ان معظم هذه الاعداد من الفلاحين اتخذوا لانفسهم اعرافا عشائرية اسوة بما كان يجري التعامل به في الريف سابقا اي
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 188 ـ
 قبل نزوحهم نحو المدن ، وخلال تلك المراحل الزمنية اخذت حياة المدن تزدهر بعض الشيء والريف يتاخر ، وخلال الاعوام من 1930 وحتى عام 1958 بدأت بعض الاسر الفلاحية النزوح الى بغداد واستقر معظم الفلاحين في كل مناطق الشاكرية والعاصمة والميرزة وغيرها في بيوت الصرائف ، وكنتيجة لهذا الانشطار البسيط الذي حصل في بداية الامر والذي تزامن معه ايضا نزوح واسع وهائل نحو اراضي العمارة من المناطق العربية المجاورة ( من مناطق عربستان ) نظرا للمعاناة التي احاقت بالسكان المحليين من جانب الحكومة في عربستان ، لان معظم هذه الاسر كان لديها التقاليد والانتماءات القبلية المتشابهة نفسها التي كانت للقبائل العربية الموجودة في الريف مثل قبائل المحيسن والسواعد وبني طرف وبني كعب وبني لام وجنانة ( كنانة ) وغيرها من القبائل الصغيرة ، لان معظم هذه القبائل كانت تشكل نسبة كبيرة من العرب موزعة في كل من نهر ( كارون ونهر الكرخة ) والفروع المرتبطة بالانهر الكبيرة التي كان يربو عدد سكانها على ( 2 ) مليون نسمة تقريبا كانت تخضع تحت ادارة الدولة الفارسية بعد احلال معاهدة ارض روم الثانية سنة ( 1874 ) على المحمرة وجزيرة حضر بعد ان كانت امارة تابعة للعراق منذ ذلك التاريخ ، وحتى اواخر الحرب العالمية الاولى عام 1914 فان الشيخ خزعل الكعبي وبقية رؤساء القبائل وهم الشيخ منشد والشيخ عوفي والشيخ مزعل والشيخ سرتيب ويونس العاصي ورؤساء قبائل السواعد من الكورشة وغيرهم يقدمون الكودة الى الدولة الفارسية والتي هي اشبه بنظام ( الميري ) المتبع بجنوب العراق ، وازدهرت اراضي العمارة بفعل تلك العوامل وبموجب ذلك النزوح استطاعت اعداد كبيرة من الاسر الفلاحية التوجه نحو ريف العمارة من اجل عيشهم وحمايتهم الحقوقية ، وبالرغم من وجود حاجز الا انه كان خط مواصلات فيما بين السكان طيلة تاريخ طويل ، فالممرات التي تكونت كانت لغرض ايجاد بعض الصلات لانها كانت غير قوية ، فقد كانت تصل عن طريق هذه الممرات بعض الانواع الكثيرة من ( المواد التجارية ) لكلا البلدين ، ففي بعض المناطق من الاهوار كانت هذه الاتصالات غير منتظمة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 189 ـ
 لاسباب تعود لظروف بيئية وقبلية ، وهذه الاتصالات التي تمت فيما بين الجنوب كانت فعلا منتظمة وذات تاثير فعال ، وتقدم لنا بعض الادلة عاملا مهما على تزاور السكان بين المنطقتين لكونهم قبائل عربية وقد اصبح تاثيرهم واضحا في جوانب متعددة ومن ثم استقرارهم فيما بعد كفلاحين في معظم الاراضي الريفية ومن خلال ذلك فانه من الطبيعي ان يزداد حجم الريف ازديادا كبيرا ، والذي زاد من اهمية ذلك هو ( سد نهر الكرخة ) بعد تضايق السكان بسبب المعارضات التي حصلت ضد ممثلهم ، بعد ان كانت مياه ( نهر الكرخة ) ( ومياه كارون ) اكثر قدرة على تزويد السكان بالمياه لغرض نجاح الزراعة ، واصبح هناك هجرة معاكسة نحو الجنوب نتيجة تزايد السكان في المنطقة مما جعل الحكومة المركزية في العراق تقوم بانشاء مدارس ابتدائية في الريف ، فقد تم انشاء مدرسة كبيرة في ناحية الحلفاوية سميت بمدرسة الساعدية ودرسة الحمدية عام 1920 تقريبا ومدرسة العدل الريفية ومدرسة حاتم الطائي ومدرسة العباسية ومدرسة الجاسمية ومدرسة في نهر المعيل ومدارس اخرى لغرض تدريس ابناء الفلاحين ، غير ان معظم الذين تم تخريجهم لم يحصلوا على العمل المطلوب فتحولوا الى المدارس الزراعية التي تفيدهم في انجاح اعمالهم الزراعية في المنطقة ، وتم انشاء مدارس ثانوية زراعية تمكنهم من الحصول على معارف علمية تساعدهم في مجال الاعمال الزراعية ، غير ان معظم هؤلاء الطلاب وجدوا الابواب مغلقة امامهم ، فاتجهت افكارهم نحو هجرة الريف والتوجه نحو المدن للانخراط الى سلك الجيش والشرطة ، ومع مرور الايام دبت ظاهرة هجرات متواصلة نحو المدن من بقية المناطق الزراعية من قبل الفلاحين الذين لا يملكون ارضا زراعية وحتى الذين كانوا يملكون ارضا فانهم كانوا جميعا تواقين الى ترك الاراضي والتوجه نحو المدن لكونهم يفتقرون الى زراعة محاصيل زراعية اخرى او الاكثار من تربية المواشي وغيرها ، لذلك فلو نظرنا الى واقع الريف في الجنوب حتى ايامنا الحالية نجد التخلف الاجتماعي والاقتصادي بكل وضوح على تلك الاسر الفلاحية فلا يوجد هنالك مواصلات بالمعنى الكامل ، ولعدم
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 190 ـ
 وجود خطوط كهربائية في الريف العراقي وخصوصا الجنوب ما زال متاخرا ، فمعظم الفلاحين كانوا وما زالوا يعتمدون ( الزراعة البدائية ) ولا يهتمون بتطوير الزراعة والتهيؤ الى زراعة ( العروة الثانية ) مثل الذرة الصفراء والبيضاء والقطن والسمسم مثل بقية الدول المتطورة التي تبدأ فيها مثل تلك الزراعات بعد الانتهاء من زراعة القمح والرز .

ثانياً ـ ثورة 14 تموز 2058 ـ والاصلاح الزراعي
 كان الريف العراقي قبل تلك الاعوام معزولا تماما ، فالسلطة كانت بيد الاقطاع الذي اصبح القوة المهيمنة على حياة الفلاحين ، والتمسك بتقاليد القبيلة والاطاعة لها ونشر افكارها في نفوس الناس كان واضحا ، اما دور الحكومة المركزية آنذاك فكان غير بارز فهي لا تقوم بأي خدمات تذكر غير انشاء بعض المدارس الابتدائية التي مهما خرجت من الطلاب فانها تصبح غير لازمة فيما بعد ، اما السدود الموجودة على الانهر فكانت مشيدة من القصب والبردي وتحت اشراف شيوخ المنطقة ، وهي كانت تنشأ وتهيأ من قبل الفلاحين انفسهم ، والتي كانت تعرف بنظام ( الحمل) ، اما الانهر الفرعية التي كانت بحاجة الى ( بناء جسور) لغرض ايصال الفلاحين والمحاصيل الزراعية فيما بين المناطق المجاورة فكانت تشيد بواسطة ( جذوع النخيل ) ، اما الذهاب الى الاسواق فكان عن طريق الزوارق البسيطة ( المشاحيف ) وكل هذه الامور مجتمعة تفصح عن ان معظم الخدمات كانت معدومة لسنوات طويلة من عمر الريف ، اضف الى ذلك استدعاء ابناء الفلاحين الى اداء الخدمة الالزامية وهذا كان لا يتم ايضا الاّ بموافقة الاقطاعيين سابقا ، اما في الآونة الاخيرة فاصبح امر الخدمة الالزامية بشكل كيفي ، اما الامراض السارية وغير السارية التي كانت تصيب الفلاحين فانها كانت تعالج بالطرق البدائية نظرا لعدم وجود مستوصفات خصصت لذلك الغرض في مناطق الريف .
 وصفوة القول ان ابن الريف كان يرى انه غريب عن عالم المدينة ، وان معظم الفلاحين يرون انفسهم عالما منعزلا بالنسبة لما يحصل في المدن
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 191 ـ
 للأعوام التي سبقت عام 1958 وحتى عام 1969 ، وعلى هذا الاساس فغالبا ما كنا نشاهد الفلاح الريفي لا يستقر في مكان معين ، فهو ذو مزاج نفسي حاد ، يكره القبول بواقع الظروف البيئية التي نشأ عليها في بلد زراعي وليس صناعي ، يزرع في المنطقة الفلانية الاخرى فعند ذهابه سرا كان لا يخسر غير داره المشيدة من الحصران والقصب والبردي .
 فكثيرا ما كانت هذه المناطق الجنوبية تحتل مكانا بارزا في عدد السكان بسبب الزيادة التي تضم العديد من الاسر الفلاحية على ضفاف الانهر والمبازل وهي تعيش تحت وطأة الفقر ، فالواقع الطبقي لعموم السكان كان واضحا وهو يبرز من خلال مداخيلهم الاقتصادية والعلاقات الانتاجية التي هي محاصيل زراعية بسيطة من الرز والقمح ، ومع ذلك فان ما يميز ثبوت هذه الاسر في تلك المناطق هو حالة التكيف مع تلك المعاناة وهي سبب قبولهم في ذلك البقاء ، وهذا كله كان بفضل العوامل البيئية التي اقترنت بظروفهم الاجتماعية على مر الزمان .
 ولتوجيه حديثنا نقول : انه عند قيام ثورة 14 تموز عام 1958 كان لا بد ان تستكمل مهمات الثروة الوطنية ومهمات الاصلاح الزراعي بميلاد عصر جديد ينظم الحياة الزراعية للفلاحين وبعلاقات جديدة ، حيث كان العراق بلدا له تبعية سياسية واقتصادية للاستعمار آنذاك وله حكومة محلية واستقلال غير
 
 متكامل ، كما كان بلدا شبه اقطاعي بسبب بقاء ادوات الانتاج فيه بيد الاقطاعيين وملاكي الاراضي الذين تحدثنا عنهم في موضوع ( الادارة الذاتية )
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 192 ـ
 كما لم يكن العراق بلدا زراعيا متقدما كباقي الدول الصناعية ، فحصته من الزراعة في الدخل القومي العام لا تتجاوز ( 80 ) مليون دينار من اصل ( 489 ) مليون دينار وهذه النسبة تمثل 16% فقط من الدخل القومي ، حيث ان الجزء الاساسي من الدخل القومي يأتي من الصناعة وليس من الزراعة ، لان العراق كان بلدا مستوردا للمواد الغذائية خلال الاعوام التي تلت اي حتى عام 1969 وعلى هذا الاساس فان الثورة في عام 1958 كانت نتيجة حتمية لما كان يعانيه المجتمع العراقي بكافة قواه الشعبية ، حيث بدأ انتشار الوعي بين الجماهير ولم يتم حل العديد من التناقضات الموروثة آنذاك بأسلوب علمي وشامل ، فلا بد ان تكون ثورة تموز 1958 ثورة وطنية تقوم بحل التناقضات الواسعة في الريف بين الاقطاع وجماهير الفلاحين وبسبب التاييد المطلق من جانب الفلاحين للثورة في الجنوب اضطر عدد غير قليل من الاقطاعيين في مقاطعات الجنوب الى الهرب والتوجه نحو المدن كبغداد والبصرة والاحتماء باجهزة الدولة ، وفي معظم انحاء الريف استولى الفلاحون على اراضي الاقطاعيين والسراكيل واستحوذوا على الاراضي الزراعية حسب امكانيتهم ، ولم يكن بامكان الاقطاعيين الذين فضلوا البقاء ابداء ادنى اي اعتراضات على اجراءات الفلاحين هذه .
 وفي ضروف كهذه فان الثورة كانت تخفي وراءها امورا هامة وهي التناقضات الاساسية بين طبقة القيادة التي فجرت الثورة وبين المساهمين في الثورة ، حيث لم يصبح في الثورة بعدئذ اي ممثل حقيقي للفلاحين ويفهم طبيعة الريف خصوصا في جنوب العراق ، وفي الاشهر القليلة اللاحقة خشيت البرجوازية من احتمال سير الثورة بخط يتلائم وطبيعتها المرسومة نحو اهدافها الديمقراطية فقد غيرت مسار الثورة وتقرب منها كبار الاقطاعيين لشل حركة الفلاحين .
 ان شل حركة الفلاحين الداعية الى الاستيلاء على الاراضي الزراعية اضطر معظم الفلاحين مؤخرا لعد السيطرة على الامور الزراعية كالانهر والمبازل وادامة الاراضي والمضخات التي تركها الاقطاعيون بسبب ملاحقة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 193 ـ
 ومطاردة العناصر الوطنية لهم بعد انحراف ثورة 14 تموز 1958 والقاء القبض عليهم من قبل الاداريين ورجال الشرطة وزجهم في السجون ثم الابعاد ، وبدأت التناقضات تنشط بين الاقطاعيين والفلاحون حيث ضن الفلاحين ان الثورة في بدايتها هي ثورة وطنية مشابهة لباقي الثورات الوطنية التي حدثت في معظم بلدان العالم ، لكن التناقضات برزت بين الاقطاعيين والفلاحون فيما بعد ، ولم تبدر اي اشارة او تنويه من جانب السلطة المركزية لايقاف تلك التناقضات ، فصعدت عداءها المتوالي لصد نشاطات الفلاحين الداعي ، الى حل معظم التناقضات السياسية والاجتماعية واحلال العناصر الوطنية بدلا من الاقطاعيين للوقوف على تنظيم السدود وعدم تسرب المياه نحو الاهوار .
 وبعد توالي الاحداث فقدت السيطرة الفعلية على سدود الانهار والقنوات وعهد بها فيما بعد لادارة الجمعيات الفلاحية والى اشخاص بعيدين كل البعد عن ادارة الجمعيات حيث كان معظم هؤلاء الاشخاص لا يهتمون بالشؤون الزراعية وكان غرضهم الابتزاز والرشاوى والتحري عن الفلاحين بمساعدة ( ضباط الشرطة ) في النواحي والاقضية ، وقد اشتغل مفوضو شرطة النواحي والاقضية بالمشاجرات التي تحصل بين الفلاحين انفسهم في تلك المقاطعات ، فكان المتاخصمون يجلبون الى الناحية ويزج بهم في السجون ويتم ارغامهم على اداء الخدمة الالزامية او دفع الغرامة بصورة غير علنية ، وبذلك اهملت الدولة حقيقة الترابط في مسألة العلاقة بين الفلاحين من جهة والظروف والقانون الموضوعي للعملية الاجتماعية من جهة ثانية ، وبفضل الظروف هذه حدث الانشطار التام الذي نجم عنه هجرة الفلاحين بصورة واسعة وتم ترك الارض والتوجه نحو بغداد والبصرة .
 وطريقة الهجرة من الريف الى المدينة ليست هي الطريقة الامثل حيث لا بد ان يكون هنالك نظام يحدد العلاقات الانتاجية للريف في عهد الثورة فلكل نظام اجتماعي وسياسي قوانينه العامة التي ستكون هي المعبر الحقيقي عن خصائصه النوعية ، ويتميز عن غيره من الانظمة الاجتماعية الاخرى في ( اسلوب عمله ) والمقصود بذلك هو نظام العلاقات المتشابكة داخل النظام الاجتماعي
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 194 ـ
 والتي ذكرنا عنها انها كانت كلاً واحدً مربوطاً ربطاً داخلياً ومتشابكاً حيث تكون القوانين الاقتصادية والسياسية المتفاعلة مع بعضها ( حلقات ) للنظام ككل اذ لا يمكن لحالة معينة من قوى الانتاج ان تقود عملية انتاج ملائمة ، او بتعبير آخر قيام علاقات انتج جديدة خاضعة لنظام قسري يشرف عليه اناس من اختصاصهم معرفة ما يتعلق بالريف وواقعه وصلته بعملية وسائل الانتاج الجديدة اي من علاقات اقطاعية الى علاقات جديدة في النظام الجديد ، كما يجري في الدول الرأسمالية او الدول الاشتراكية مثل روسيا او الصين .
 او كما يجري في النمسا او فرنسا ، نظام الجمعيات التعاونية ، او في النظم الزراعية في بريطانيا او ايطاليا وغيرها من البلدان .  كان يجب ان تدرس متطلبات الحالة الجديدة لتطوير الفلاحين وفق اسلوب قوى الانتاج الجديدة ، وهذا التكيف في وسط الريف مع العنصر الاساسي ( نمط الانتاج ) هو الذي يحفظ التوازن الداخلي للنظام ، ومعرفة ذلك التكيف فيما بين العلاقات الجديدة ضمن خط السير المرسوم وموقع القوى الفلاحية المنتجة وليس في عرقلة تطوير قوى الانتاج لسبب او لآخر والذي اصبح من شأنه جعل الارض خالية من السكان واصبحت جميع الانهر الرئيسية والفرعية من دون تجديد وصيانة ، فاصبحت المياه تذهب بسرعة نحو الاهوار ودون اي عائق يقف في طريقها كما كان في العهود السابقة اي قبل وضع السدود التي شرحنا عنها في المواضيع السابقة ، حيث كانت معمولة بحسابات دقيقة ومنظمة تفتح وتغلق حسب اتفاق الاطراف وهم مشايخ بيت ( عريبي ) وابناء فالح الصيهود في نهر الكحلاء والمعيل ونهر الصفيجي والشلفة والشراية وغيرها من مناطق المجر وآل ازيرج كما اصبحت فيما بعد معظم الاراضي مسرحا للصوص والذين يجوبون المناطق ليلا بحثا عن السلب والنهب وغيرها ، الامر الذي جعل معظم ما تبقى من الفلاحين يذهبون الى المدن للالتحاق باخوانهم الفلاحين الذين سبقوهم في النزوح خلال السنوات المنصرمة من عام 1958 حتى عام 1966 على وجه الخصوص ، اذا فان الظرف الذي كان موجودا في ريف الجنوب في ظل الاقطاعيين يعد ظرفا مهما بالنسبة لحالة
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 195 ـ
 الاسر الفلاحية هناك ، لانها كانت شرائح غير منظمة لكي تكون قادرة على ادارة الريف ، صحيح ان هنالك استغلالا وفائض قيمة عن ما ينتج من المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية ، لكن قبول خيارات الناس ونظام البيئة وديمومة العمل كانت لا تتم فعلا الاّ بهذه العلاقات الانتاجية فيما بين الفلاحين وارباب العمل وهم هنا الملاكون ، فلو اخذنا على سبيل المثال ان هناك نهرا واحدا يدعى نهر العديل فيه العديد من الفلاحين موزعين على بعض المقاطعات التابعة الى اشقاء محمد عريبي الذي يتراوح عددهم حوالي عشرة وكان نصيبهم من حصة الزراعة حوالي 15 ـ 20 تغار سنويا من ( الشلب ) وكان سعر التغار الواحد يساوي 40 دينارا آنذاك ، وهذه مداخيل سنوية للملاكين من ضمنها مصاريف لابنائهم وبيوتهم ومصاريف اخرى ، فهل يقارن هذا بالثروة التي كان يحصل عليها اصحاب المصانع وبعض الحرفيين في القطاع الخاص سابقا او لاحقا ؟ لماذا ؟ لان الانتاجية الزراعية كانت محدودة ومقتصرة على زراعة الرز والقليل من زراعة القمح ، وعلى هذا الاساس فكيف يتطور مثل هذا النظام الذي حافظ على ديمومة الزراعة التقليدية بهذه الصيغة من غير ان يقفز قفزة سريعة مفاجئة للانتقال نحو حالة طرد الاقطاعيين دون ايجاد البدائل المهمة لدى الفلاحين سواء كان ذلك عن طريق زعماء جدد او جمعيات فلاحية لادارة شؤون الفلاحين وايجاد صيغ قانونية تنظم حياة هذه الاسر الفلاحية لان الملاكين هم انفسهم السلطة التشريعية والتنفيذية في تلك البقاع ولديهم قوانين وقضاة وتصبح قراراتهم ملزمة للفلاحين الذين يخرقون القوانين .

ثالثاً ـ النزوح المعاكس
 لقد استطعنا بواسطة بذل بعض الجهود والتطورات الفكرية ومن خلال التجربة والمعايشة الميدانية لحياة الريف العراقي في الجنوب وخصوصا في مناطق العمارة لكل من نهر المشرح وفروعه ونهر العسيكي وام ( الطوس ) التابع الى قبائل العسيكي ( البو محمد ) وكذلك مع معرفة المقدرات الشخصية والمواقف السياسية وخصوصا في مناطق ( عربستان ) ضمن اطار هذا الحديث وفي زمن محدد حتى عن الفترة الزمنية السابقة اصبحت هي المعول عليها بشكل
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 196 ـ

 كبير ، ولدينا في الوقت الحاضر عدد من الادلة عن الاسباب التي سنوردها ونحن ما زلنا نتحدث عن الهجرة ، وسوف تساعدنا هذه المعلومات على معرفة التبدلات الاجتماعية والسياسية بحيث انها تزودنا بمجالات البحث غير المعروفة لدى الباحثين في هذا الجانب ، حيث لا توجد حضارة قديمة او حضارة حديثة تقدم مادة شاملة ومعلومات وافرة عن تاريخ اقتصادها ما لم يدرس الواقع الاجتماعي والسياسي في هذا الشأن ، ان محتوى وعلاقة هذا الجانب من جوانب الهجرة من الريف الى المدينة له اهمية اذا امعنا النظر في دقة الموازنة التي تتحدث في هذا الموضوع ، ان لدينا بعض الادلة التي تؤكد علاقة الريف العراقي مع الاسر الفلاحية المستوطنة في ( عربستان ) بالمقارنة مع سلسلة من عناصر التآخي والمصير المشترك والاعراف منذ ازمنة قديمة ومن دون فجوة سواء كان ذلك في نظام الملبس او الزراعة او الري وحتى الاعراف والحياة الاجتماعية وفي حالات الزواج والاديان وانظمة تشييد البيوت ، ولغض اتمام هذه الصورة فقد يظهر التاريخ ان تخطيط القوارب والاسلوب الذي صنعت به وان الصراع الازلي الحاصل بين الهدف الابداعي وبين صفات المادة التي كانت تصنع لكي تكون
اهل الريف في جنوب العراق  ـ 197 ـ

 ذات اشكال تشابه للقوارب التي كانت موجودة لدى الاسر الفلاحية في جنوب العراق ، وكذلك التشابه في تخطيط البيوت المتشابهة لهم .
 وفي هذه السلسلة الطويلة من التفاعلات ظهرت في الريف العربي لعربستان ما بعد الحرب العالمية الاولى وما قبلها تطلعات قومية مهمة وتبدلات سياسية في تركيب الواقع الاجتماعي ايضا ، والتطلع نحو العراق بعد وصوله الى مرحلة التحرر القومي من نير الاستعمار العثماني وحصوله على الاستقلال عام 2021 تبلورت في عربستان تحولات فكرية وسياسية واسعة لانبثاق الوعي القومي ، مما جعل المنطقة في حالة اضطراب مستمر ، وقد عمدت السلطة الايرانية الحاكمة الى تشديد الخناق على القبائل العربية المتعددة مثل قبائل جنانة والمحيسن وبني طرف والسواعد والحلاف والحيادر والسواري والقبائل الاخرى المعروفة لدى النظام ، وادركت ان الثقل الاعظم الذي يقود هذه الدعوات هي قبيلة بني طرف ورؤساؤهم واشتد هذا الاضطهاد