اتصل بنا مؤمنــــة البطاقات انتصار الدم مساجد البصرة واحة الصائم المرجعية الدينية الرئيسية

  سورة التوبة 17 التمثيل السابع عشر

  ( وَالذّين اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُوَْمِنينَ وإِرْصاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ الحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَومٍ أَحقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهّرين * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللهِوَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدي القَومَ الظّالِمين ). (1)
  تفسير الآيات
  "الضرار": هو إيجاد الضرر عن عناد.
  "الاِرصاد" بمعنى الاِعداد.
  "البنيان" مصدر بنى.
  و "التقوى" خصلة من الطاعة يحترز بها عن العقوبة، والواو فيه مبدلة من الياء لاَنّها من وقيت.
  "شفا": شفا البئر وغيره، جُرفُه، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك.


------------------------------------

(1 ) التوبة:107ـ 109.

  الأمثال في القرآن _ 144 _

  "الجرف" جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء،وتجرفه السيول فيبقى واهياً.
  قال الراغب: يقال للمكان الذي يأكله السيل فيجرفه، أي يذهب به، جرف هار البناء وتهوّر : إذا سقط، نحو: إنهار، ذكر المفسرون انّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء، وبعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم، فأتاهم وصلى فيه، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غُنْم بن عوف، فقالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد وكانوا اثني عشر رجلاً، وقيل خمسة عشر رجلاً، منهم: ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، ونبتل بن الحرث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء، فلمّا فرغوا منه، أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتجهّز إلى تبوك.
  فقالوا: يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) :"إنّي على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه"، فلمّـا انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد.
  إنّ الآية تشير إلى الفرق الشاسع بين من بنى بنياناً على أساس محكم، ومن بناه على شفا جرف، فالاَوّل يبقى عبر العصور ويحتفظ بكيانه في الحوادث المدمرة، بخلاف الثاني فانّه سوف ينهار لا محالة بأدنى ضربة ، فالموَمن هو الذي يعقد إيمانه على قاعدة محكمة وهو الحقّ الذي هو تقوى الله ورضوانه، بخلاف المنافق فانّه يبني إيمانه على أضعف القواعد

  الأمثال في القرآن _ 145 _

  وأرخاها وأقلّها بناءً وهو الباطل، فإيمان الموَمن و دينه من مصاديق قوله: ( أَفَمَنْ أسَّس بُنيانه على تقوى من الله ورضوان )ولكن دين المنافق كمن ( أسّس بنيانه على شفا جرف هار )فلا محالة ينهار به في نار جهنم.

  الأمثال في القرآن _146 _

  سورة يونس 18 التمثيل الثامن عشر

  ( إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النَّاسُ والاََنْعَامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الاََرْضُ زُخْرُفَهَا وَ ازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْهَا أَتاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأن لَمْ تَغْنَ بالاَمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُون * واللهُ يَدعُو إلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ). (1)
  تفسير الآيات
  قوله: ( فاخَتلَطَ بهِ نَبات الاََرض )فلو قلنا بأنّ الباء للمصاحبة، يكون معناه أي اختلط مع ذلك الماء نبات الاَرض، لاَنّ المطر ينفد في خلل النبات، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد انّه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض حيث إنّ الماء صار سبباً لرشده والتفاف بعضه ببعض.
  قوله: ( ازّيّنت )أصله تزينت، فادغمت التاء بالزاى وسكِّنت الزاي فاجلبت لها ألف الوصل، فقوله: ( أخذت الاََرْضُ زُخرفها وازَّيّنت )تعبير رائع حيث جعلت


------------------------------------

(1 ) يونس:24ـ 25.

  الأمثال في القرآن _ 147 _

  الاَرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كلّ لون فاكتستها وتزينّت بغيرها من ألوان الزين، قوله: ( قادرون عليها )، أي متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها، قوله: ( أتاها أمرنا )كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها "حصيداً" شبيهاً بما يحصد من الزرع في استأصاله، قوله: ( كأن لم تغن )بمنزلة قوله: كأن لم ينبت زرعها، قوله: ( دار السلام )فهو من أوصاف الجنة، لاَنّ أهلها سالمون من كل مكروه، بخلاف المقام فانّها دار البلاء، هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية، وأمّا تفسيرها الجملي، فنقول:
  نفترض أرضاً خصبة رابية صالحة لغرس الاَشجار وزرع النبات وقد قام صاحبها باستثمارها من خلال غرس كلّ ما ينبت فيها، فلم يزل يتعاهدها بمياه الاَمطار والسواقي، فغدت روضة غنّاء مكتظة بأشجار ونباتات متنوعة، وصارت الاَرض كأنّها عروس تزيّنت وتبرجت، وأهلها مزهوّون بها يظنّون انّها بجهدهم ازدهرت، وبإرادتهم تزيّنت وانّهم أصحاب الاَمر لا ينازعهم فيها منازع. فيعقدون عليها آمالاً طويلة، ولكن في خضم هذه المراودات يباغتهم أمره سبحانه ليلاً أو نهاراً فيجعل الطري يابساً، كأنّه لم يكن هناك أي جنة ولا روضة.
  هذا هو المشبه به والله سبحانه يمثل الدنيا بهذا المثل، وهو انّ الاِنسان ربما يغتر بالدنيا ويعوّل الكثير من الآمال عليها مع سرعة زوالها وفنائها، وعدم ثباتها واستقرارها.

  الأمثال في القرآن _ 148 _

  يقول موَيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم:
  ترجو البقاء بدار لا ثبات لهافهل سمعت بظل غير منتقل وقد أسماها سبحانه متاع الحياة الدنيا في مقابل الآخرة التي أسماها بدار السلام في الآية التالية، وقال: ( الله يدعو إلى دار السلام ).
  ثمّ إنّه يبدو من كلام الطبرسي انّ هذا التمثيل من قبيل التمثيل المفرد، فذكر أقوالاً:
  أحدها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع.
  وثانيها : إنّه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزوال عن الجبائي وأبي مسلم.
  وثالثها: إنّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بحياة مقدَّرة على هذه الاَوصاف. (1)

  والحقّ أنّه من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث يعبر عن عدم الاعتماد والاطمئنان بالدنيا بما جاء في المثل، وإنّما اللائق بالاعتماد هو دار السلام الذي هو سلام على الاِطلاق وليس فيها أي مكروه ، وقد قيّد سبحانه في الآية دار السلام، بقوله: ( عند ربّهم ) للدلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك، ويأتي قريب من هذا المثل في سورة الكهف، أعني :قوله:


------------------------------------

(1 ) مجمع البيان:3|102.

  الأمثال في القرآن _ 149 _

  ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ على كُلّ شَىْءٍ مُقْتَدراً ). (1)

  وسيوافيك بيانها في محلها ، ويقرب من هذا ما في سورة الحديد، قال سبحانه:
  ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْو وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ في الاََمْوالِ وَالاََولادِ كَمَثلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيج فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلاّ مَتاعُ الغُرُور ). (2)


------------------------------------

(1 ) الكهف:45.
(2 ) الحديد:20.


  الأمثال في القرآن _ 150 _

  سورة هود 19 التمثيل التاسع عشر

  ( إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَأَخْبتُوا إِلى رَبّهِمْ أُولئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُون * مَثَلُ الفَريقَين كَالاََعْمى وَالاََصَمّ وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُون ). (1)

  تفسير الآيات
  يصوّر سبحانه الكافر كالاَعمى والاَصم، والموَمن بالبصيروالسميع، ثمّ ينفي التسوية بينهما ـ كما هو معلوم ـ غير انّ هذا التمثيل يستقي مما وصف به سبحانه كلا الفريقين بأوصاف خاصة.
  فقال في حقّ الكافر: ( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُون ). (2) والمراد كان لهم أسماعاً وأبصاراً ولكنّهم لم يكونوا يستخدمونها في سماع الآيات وروَية الحقائق، فنفي الاستطاعة كناية عن عدم استخدام الاَسماع، كما أنّ نفى الاَبصار كناية عنه، ثمّ إنّه سبحانه وصف الموَمن في الآية التالية بأوصاف ثلاثة:


------------------------------------

(1 ) هود:23ـ 24.
(2 ) هود:20.


  الأمثال في القرآن _151 _

 أ: الاِيمان بالله .
  ب: العمل الصالح.
  ج: التسليم إلى الله حيث قال: ( وأخبتوا إلى ربّهم ).
  فالموَمن الصالح ثمرة من شجرة الاِيمان كما انّ التسليم والانقياد والخضوع والاطمئنان لما وعد الله من آثاره أيضاً، فالموَمن هو الذي يسمع آياته ويبصرها في سبيل ترسيخ الاِيمان في قلبه واثماره، ثمّ إنّه مثّل الكافر و الموَمن بالتمثيل التالي، وقال: ( مَثَلُ الفَريقَين كَالاََعْمى والاََصم وَالبَصير وَالسَّميع هَلْ يَسْتَويان مَثلاً أَفَلا تَذَكَّرُون ).
  أي مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع. ومثل فريق الكافرين كالاَعمى والاَصم، لاَنّ الموَمن ينتفع بحواسه بأعمالها في معرفة المنعم وصفاته وأفعاله، والكافر لا ينتفع بها فصارت بمنزلة المعدومة، ثمّ إنّه وصف الوضع بين الاَعمى والاَصم كما وصفها بين البصير والسميع، وذلك لاِفادة تعدّد التشبيه بمعنى:
  أنّ حال الكافر كحال الاَعمى، وحال الكافر أيضاً كحال الاَصم، كما أنّ حال الموَمن كالبصير، وحاله أيضاً كالسميع، وحاصل الكلام: انّه لا يستوى البصير والسميع مع الاَعمى والاَصم، والموَمن والكافر أيضاً لا يستويان.

  سورة الرعد 20 التمثيل العشرون

  ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَىءٍ إِلاّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الماءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَمَا دُعاءُ الكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ ). (1)

  تفسير الآية
  تقدم الظرف في قوله: ( لَهُ دَعْوَةُ الحَقّ) لاَجل إفادة الحصر، ويوَيّده ما بعده من نفي الدعوة عن غيره، كما أنّ إضافة الدعوة إلى الحقّ من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، أي الدعوة الحقّة له ، لاَنّ الدعوة عبارة عن توجيه نظر المدعو إلى الداعي، والاِجابة عبارة عن إقبال المدعو إليه، وكلا الاَمرين يختصان بالله عزّ اسمه. وأمّا غيره فلا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ـ وعند ذاك ـ كيف يمكن أن يجيب دعوة الداعي. فالنتيجة انّ الدعوة الحقّة التي تستعقبها الاِجابة هي لله تبارك و تعالى، فهو حي لا يموت، ومريد غير مكره، قادر على كلّ شيء، غني عمّن سواه.


------------------------------------

(1 ) الرعد:14.

  الأمثال في القرآن _ 153 _

  وبذلك يعلم أنّ الدعوة على قسمين : دعوة حقّة ودعوة باطلة، فالحقّة لله ودعوة غيره دعوة باطلة، أمّا لاَنّه لا يسمع ولا يريد، أو يسمع ولا يقدر. و أشار إلى القسم الباطل بقوله: ( وَالّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجيبُونَ لَهُمْ بِشَىءٍ )، وقد عرفت وجه عدم الاستجابة، ثمّ إنّه سبحانه استثنى صورة واحدة من عدم الاستجابة، لكنّه استثناء صوري وهو في الحقيقة تأكيد لعدم الاستجابة، وقال: ( إِلاّ كَباسِط كَفَيّه إِلى الماء لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ )، فدعوة الاَصنام والاَوثان وطلب الحاجة منهم، أشبه بحال الظمآن البعيد من الماء كالجالس على حافة البئر والباسط كفه داخل البئر ليبلغ الماء فاه، مع البون البعيد بينه و بين الماء.
  قال الطبرسي: هذا مثل ضربه الله لكلّ من عبد غير الله ودعاه رجاء أن ينفعه، فانّ مثله كمثل رجل بسط كفيه إلى الماء من مكان بعيد ليتناوله ويسكن به غلته، وذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة بينهما، فكذلك ما كان يعبده المشركون من الاَصنام لا يصل نفعها إليهم ولا يستجيب دعاءهم. (1)

  وربما تفسّر الآية بوجه آخر، ويقال: لا يستجيبون إلاّ استجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. (2) والظاهر رجحان الوجه الاَوّل، لاَنّ الآلهة بين جماد لا يشعر أو ملك أو


------------------------------------

(1 ) مجمع البيان:3|284.
(2 ) الكشاف:2|162.


  الأمثال في القرآن _ 154 _

  جن أو روح يشعر ولكن لا يملك شيئاً، فهذا الوجه يختص بما إذا كان الاِله جماداً لا غير، ثمّ إنّه سبحانه يقول في ذيل الآية : ( وَما دُعاء الكافرينَ إلاّ في ضَلالٍ )، فانّ الضلال عبارة عن الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب، ودعاء غيره خروج عن الطريق الموصل إلى المطلوب، لاَنّ الغاية من الدعاء هو إيجاد التوجّه ثمّ الاِجابة، فالآلهة الكاذبة إمّا فاقدة للتوجّه، وإمّا غير قادرة على الاستجابة، فأي ضلال أوضح من ذلك.

  الأمثال في القرآن _ 155 _

  سورة الرعد 21 التمثيل الواحد والعشرون

  ( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْربُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الاََرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الاََمْثالَ ). (1)

  تفسير الآية
  "الوادي": سفح الجبل العظيم، المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، ولعل منه اشتقاق الدية، لاَنّه جمع المال العظيم الذي يوَدى عن القتيل، "القدر": اقتران الشيء بغيره دون زيادة أو نقصان، فإذاكانا متساويين فهو القدر، والقدْر والقَدَرْ لغتان مثل الشَّبْر والشَّبَر، والاحتمال: رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل، و"الزبد": هو خبث الغليان ومنه زبد القدر وزبد السيل، و"الجفاء" ممدوداً يقال: أجفأت القدر بزبدها، إذا ألقَتْ زبدها، و"الاِيقاد": إلقاء الحطب في النار.


------------------------------------

(1 ) الرعد:17.

  الأمثال في القرآن _ 156 _

  "والمتاع" ما تمتّع به.
  و"الحق" في اللغة هو الاَمر الثابت ويقابله الباطل، فالاَوّل بمفهومه الواسع يشمل كلّ موجود أو ناموس ثابت لا يطرأ عليه التحول والتبدل حتى أنّ القوانين الرياضية والهندسية وكثير من المفاهيم الطبيعية إذا كانت على درجة كبيرة من الثبات فهي حقّ لا غبار عليها.
  و "المكث": الكون في المكان عبر الزمان، إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الآية تمثل للحق والباطل مثلاً واحداً يستبطن تمثيلات متعددة:
  الاَوّل: انّ السيل المتدفق من أعالي الجبال الجاري في الوديان يحمل معه في سيره زبداً رابياً عليه، فالحقّ كماء السيل والباطل الزبد الطافح عليه.
  الثاني: انّ المعادن والفلزات المذابة في القدر إذا أوقدت عليها النار، تذاب ويعلو عليها الخبث، فالغاية من الاِذابة هو فصل المعادن والفلزات النفيسة عن خبثها وزبدها، وعندئذٍ فالحقّ كالذهب والفضة والمعادن النفيسة والباطل كخبثهاوزبدها الطافح.
  الثالث: انّ ما له دوام و بقاء ومكث وينتفع به الناس كالماء وما يتخذ للحلية أو المتاع يمثّل الحق، وما ليس كذلك كزبد السيل وخبث القدر الذي يذهب جفاءً يمثّل الباطل، وأمّا التفصيل فإليك توضيح الآية:
  ( أَنْزَلَ مِنَ السماء ماءً فَسالَتْ أَودِيَة) الواقعة في محل الاَمطار المختلفة في

  الأمثال في القرآن _ 157 _

  السعة والضيق، والكبر والصغر ( بقدرها) أي كلّ يأخذ بقدره، ففيضه سبحانه عام لا يحدد وإنّما التحديد في الآخذ، فكلّ يأخذ بقدره وحده، فقدر النبات يختلف عن قدر الحيوان، وهو عن الاِنسان، فكلّ ما يفاض عليه الوجود إنّما هو بقدر قابليته، كما أنّ السيل المنحدر من أعالي الجبال مطلق غير محدد، ولكن يستوعب كل وادٍ من ماء السيل بقدر قابليته وظرفيته.
  ( فَاحْتَمَل السَّيْلُ زَبداً رابِياً) أي طافياً عالياً فوق الماء. إلى هنا تمّت الاِشارة إلى التمثيل الاَوّل، ثمّ إنّ الزبد لا ينحصر بالسيل الجارف بل يوجد طافياً على سطح أنواع الفلزات والمعادن المذابة التي تصاغ منها الحلي للزينة والاَمتعة، كما قال سبحانه ( ومِمّا يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله )، إلى هنا تمّت الاِشارة إلى التمثيل الثاني، كما قال: ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحقّ وَالباطل) أي كذلك يوصف الحقّ والباطل ليأخذ طريقه بين الناس، ثمّ أشار إلى التمثيل الثالث وهو انّ من سمات الحق بقاءه وانتفاع الناس به ( فَأمّا الزبد فيذهب جفاءً ) حيث إنّ زبد السيل وزبد ما يوقدون عليه ينطفىَ بعد مدة قصيرة كأن لم يكن شيئاً مذكوراً فيذهب جفاءً باطلاً متلاشياً، ( وَأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الاَرض ) فانّ الماء الخالص أو المعادن الخالصة التي فيها انتفاع الناس يمكث في الاَرض.
  ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الاََمْثال ) وقد مرّ في المقدمات معنى ضرب المثل، وقلنا انّ المراد هو وصف حال المشبه وبيانه. هذا ما يرجع إلى تفسير ظاهر الآية، لكن الآية من غرر الآيات القرآنية

  الأمثال في القرآن _ 158 _

  التي تبحث عن طبيعة الحقّ والباطل وتكونهما وكيفية ظهورهما والآثار المترتبة عليهما، ولا بأس بالاِشارة إلى ما يمكن الاستفادة من الآية.
  1. انّ الاِيمان والكفرمن أظهر مصاديق الحق والباطل، ففي ظل الاِيمان بالله تبارك و تعالى حياة للمجتمع وإحياء للعدل، والعواطف الاِنسانية، فالاَُمّة التي لم تنل حظها من الاِيمان يسودها الظلم والاَنانية وانفراط الاَواصر الاِنسانية التي تعصف بالمجتمع الاِنسانى إلى الهاوية.
  2. انّ الزبد أشبه بالحجاب الذي يستر وجه الحقّ مدة قصيرة، فسرعان ما يزول وينطفىَ ويظهر وجه الحقيقة أي الماء و الفلزات النافعة.
  فهكذا الباطل ربما يستر وجه الحقيقة من خلال الدعايات المغرضة، ولكنّه لا يمكث طويلاً فيزول كما يزول الزبد، يقول سبحانه: ( وَقُلْ جَاءَ الحَقّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ). (1)
وقال تعالى: ( وَيَمْحُ اللهُ الباطِلَ وَيُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ ). (2)
  3. انّ الماء والفلزات منبع البركات والخيرات له، والزبد خبث لا ينتفع منه، فهكذا الحق والباطل، فما هو الحقّ كالاِيمان و العدل ينتفع به الناس، وأمّا الباطل كالكفر والظلم لا ينتفع منه الناس.
  4. انّ الماء فيض مادي يفيضه الله سبحانه إلى السماء على الوديان والصحارى، فكل يأخذ بمقدار سعته، فالوادي الكبير يستوعب ماء كثيراً بخلاف الوادي الصغير فلا يستوعب سوى قليلاًمن الماء وهكذا الحال في الاَرواح والنفوس فكل نفس تنال حظها من المعارف الاِلهية حسب قابليتها، فهناك نفس


------------------------------------

(1 ) الاِسراء:81.
(2 ) الشورى:24.


  الأمثال في القرآن _ 159 _

 كعرش الرحمن ونفس أُخرى من الضيق بمكان يقول سبحانه: ( ولَقَدْ خَلَقكُمْ أَطواراً )، وفي الحديث النبوي : "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة". (1)
وقال أمير الموَمنين (عليه السلام) لكميل: "إنّ هذه القلوب أوعية وخيرها أوعاها".(2) فالمعارف الاِلهية كالسيل المتدفق والقلوب كالاَودية المختلفة.
  ويمكن أن يكون قوله ( بقدرها ) إشارة إلى نكتة أُخرى، وهي انّ الماء المتدفق هو ماء الحياة الذي ينبت به الزرع والاَشجار المثمرة في الاَراضي الخصبة. دون الاَراضي السبخة التي لا ينبت فيها إلاّ الاَشواك.
  5. انّ الماء يمكث في الاَرض وينفذ في أعماقها ويبقى عبر القرون حتى ينتفع به الناس من خلال استخراجه، فهكذا الحقّ فهو ثابت لا يزول، ودائم لا يضمحل، على طرف النقيض من الباطل، فللحق دولة وللباطل جولة.
  6. انّ الباطل ينجلي بأشكال مختلفة، كما أنّ الزبد يطفو فوق الماء والمعدن المذاب بأنحاء مختلفة، فالحقّ واحد وله وجه واحد،أمّا الباطل فله وجوه مختلفة حسب بعده من الحقّ وتضادّه معه.
  7. انّ الباطل في وجوده رهن وجود الحقّ، فلولا الماء لما كان هناك زبد، فالآراء والعقائد الباطلة تستمد مقوماتها من العقائد الحقّة من خلال إيجاد تحريف في أركانها و تزييفها، فلو لم يكن للحقّ دولة لما كان للباطل جولة، وإليه يشير سبحانه: ( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ).


------------------------------------

(1 ) بحار الاَنوار:4|405.
(2 ) نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 127.


  الأمثال في القرآن _ 160 _

  8. انّ في تشبيه الحقّ بالماء والباطل بالزبد إشارة لطيفة إلى أنّ الباطل كالزبد، فكما أنّه ينعقد في الماء الذي له هيجان واضطراب والذي لا يجري على منوال هادىَ، فهكذا الباطل إنّما يظهر في الاَوضاع المضطربة التي لا يسودها أي نظام أو قانون.
  9. انّ حركة الباطل وإن كانت موَقتة إنّما هي في ظل حركة الحقّ ونفوذه في القلوب، فالباطل يركب أمواج الحق بغية الوصول إلى أهدافه، كما أنّ الزبد يركب أمواج الماء ليحتفظ بوجوده.
  10. انّ الباطل بما انّه ليس له حظ في الحقيقة ، فلو خلص من الحقيقة فليس بإمكانه أن يظهر نفسه، ولو في فترة قصيرة، ولكنّه يتوسم من خلال مزجه بالحقّ حتى يمكن له الظهور في المجتمع، ولذلك فالزبد يتكون من أجزاء مائية، فلو خلص منها لبطل، فهكذا الباطل في الآراء والعقائد.
  قال أمير الموَمنين علي (عليه السلام) :
  "فلو انّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، و لو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين،ولكن يوَخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى". (1)

   x x x
  ثمّ إنّ بعض من كتب في أمثال القرآن جعل قوله سبحانه : ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّهُا تِلْكَ عُقْبَى الّذينَ اتَّقَوا


------------------------------------

(1 ) نهج البلاغة، الخطبة 49.

  الأمثال في القرآن _ 161 _

  وَعُقْبَى الْكافِرينَ النّارُ ). (1)
من الاَمثال، ولكن الظاهر انّه ليس من باب التمثيل، لاَنّه فرع وجود مشبه ومشبه به مع أنّ الآية هي بصدد بيان جزاء المتقين والكافرين، فقال: إنّ جزاء المتقين هو انّهم يسكنون الجنة التي تجري من تحتها الاَنهار وأُكلها وظلها دائم، وهذا بخلاف الكافرين فانّ عقباهم النار، وليست هاهنا أُمور أربعة بل لا تتجاوز الاثنين، وعلى ذلك فيكون المثل بمعنى الوصف، أي حال الجنة ووصفها التي وعد المتقون هو هذا.
نعم ذكر الطبرسي وجهاً ربما يصح به عدّ الآية مثلاً، فلاحظ. (2)


------------------------------------

(1 ) الرعد:35.

(2 ) مجمع البيان:3|296.


  الأمثال في القرآن _ 162 _

  سورة إبراهيم 22 التمثيل الثاني والعشرون

  ( مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَىءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيد ). (1)

  تفسير الآية
 "العصف" :شدة الريح، يوم عاصف أي شديد الريح ،وإنّما جعل العصف صفة لليوم مع أنّه صفة للريح لاَجل المبالغة، وكأنّ عصف الريح صار بمنزلة جعل اليوم عاصفاً، كما يقال: ليل غائم ويوم ماطر.
  انّه سبحانه يشبّه عمل الكافرين في عدم الانتفاع به برماد في مهب الريح العاصف، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق، فكذلك هوَلاء الكفار لا يقدرون مما كسبوا على شيء فلا ينتفعون بأعمالهم البتة.
  وقال سبحانه في آية أُخرى: ( وَقَدِمْنَا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ). (2)
  والمراد من أعمالهم ما يعد صالحاً في نظر العرف كصلة الاَرحام وعتق


------------------------------------

(1 ) إبراهيم:18.
(2 ) الفرقان:23.


  الأمثال في القرآن _ 163 _

  الرقاب وفداء الاَُسارى وإغاثة الملهوفين، لاَنّهم بنوا أعمالهم على غير معرفة الله والاِيمان به فلا يستحقون شيئاً عليه، وأمّا الاَعمال التي تعد من المعاصي الموبقة، فهي خارجة عن مصبّ الآية لوضوح حكمها.والآية دليل على أنّ الكافر لا يثاب بأعماله الصالحة يوم القيامة إذا أتى بها لغير وجه الله ، نعم لو أتى بها طلباً لرضاه ورضوانه فلا غرو في أن يثاب به ويكون سبباً لتخفيف العذاب.

  الأمثال في القرآن _ 164 _

  سورة إبراهيم 23 التمثيل الثالث والعشرون

  ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَة أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُوَْتي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رِبّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الاََمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ). (1)

  تفسير الآيات
 انّه سبحانه تبارك و تعالى مثل للحق و الباطل، أو الكفر والاِيمان بتمثيلات مختلفة، وقد جاء التمثيل في هذه الآية بأنّ مثل الاِيمان كشجرة لها الصفات التالية:
  أ: انّها طيبة: أي طاهرة ونظيفة في مقابل الخبيثة، فانّ الشجر على قسمين: منها ما هو طيب الثمار كالتين والنخل والزيتون وغيرها، ومنها ما هو خبيث الثمار كالحنظل.
  ب: أصلها ثابت، أي لها جذور راسخة في أعماق الاَرض لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الاَمواج العاتية.
  ج: فرعها في السماء، أي لها أغصان مرتفعة، فهي بجذورها الراسخة تحتفظ بأصلها وبفروعها في السماء و تنتفع من نور الشمس والهواء والماء.


------------------------------------

(1 ) إبراهيم:24ـ 25.

  الأمثال في القرآن _165 _

 وهذه الفروع والاَغصان من الكثرة بحيث لا يزاحم أحدها الآخر، كما أنّها لا تتلوث بما على سطح الاَرض.
  د: ( تعطى أُكلها كل حين ) أي في كلّ فصل وزمان، لا بمعنى كلّ يوم وكل شهرحتى يقال بأنّه ليس على وجه البسيطة شجرة مثمرة من هذا النوع. وبعبارة أُخرى: انّ مثل هذه الشجرة لا تبخس في عطائها، بل هي دائمة الاَثمار في كل وقت وقّته الله لاثمارها.
  هذا حال المشبه به، وأمّا حال المشبه، فقد اختلفت كلمتهم إلى أقوال لا يدعمها الدليل، والظاهر انّ المراد من المشبه هو الاعتقاد الحقّ الثابت، أعني التوحيد والعدل وما يلازمهما من القول بالمعاد.
  فهذه عقيدة ثابتة طيبة لا يشوبها شيء من الشرك والضلال ولها ثمارها في الحياتين.
  والذي يدل على ذلك هو انّه سبحانه ذكر في الآية التالية، قوله : ( يُثَبّتُ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ ) (1)
، وهذا القول الثابت عبارة عن العقيدة الصالحة التي تمثلها كلمة التوحيد والشهادة بالمعاد وغيرهما، قال السيد الطباطبائي:
  القول بالوحدانية والاستقامة عليه، هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغير وزوال وبطلان، وهو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق، و له فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيا بها الموَمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الاِنسانى


------------------------------------

(1 ) إبراهيم:27.

  الأمثال في القرآن _ 166 _

  حق عمارته، وهي التي تلائم سير النظام الكونى الذي أدى إلى ظهور الاِنسان بوجوده المنظور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح. (1)
ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله: ( وَيَضْرِبُ اللهُ الاََمْثال للنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون )، أي ليرجعوا إلى فطرتهم فيتحقّقوا من أنّ السعادة رهن الاعتقاد الصحيح المثمر في الحياتين.
  وبذلك يعلم انّ ما ذكره بعض المفسرين بأنّ المراد كلمة التوحيد لا يخالف ما ذكرنا، لاَنّ المراد هو التمثل بكلمة التوحيد لا التلفظ بها وحده حتى أنّ قوله سبحانه: ( إِنَّ الّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوفٌ عََلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون) (2) تلا يراد منه التحقّق بقوله ( ربّنا الله) لا التلفظ بها، وقد أشار سبحانه إلى العقيدة الصحيحة، بقوله: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ )(3)
  فالكلم الطيّب هو العقيدة، والعمل الصالح يرفع تلك العقيدة، وبذلك يعلم أنّ كلّ عقيدة صحيحةلها جذور في القلوب، ولها فروع وأغصان في حياة الاِنسان ولهذه الفروع ثمار، فالاعتقاد بالواجب العادل الحكيم المعيد للاِنسان بعد الموت يورث التثبت في الحياة والاجتناب عن الظلم والعبث والفساد إلى غير ذلك من العقائد الصالحة التي لها فروع، إلى هنا تمّ المثل الاَوّل للموَمن والكافر أو للاِيمان والكفر.


------------------------------------

(1 ) الميزان:12|52.
(2 ) الاَحقاف:13.
(3 ) فاطر:10.


  الأمثال في القرآن _ 167 _

  وربما يقال: الرجال العظام من الموَمنين هم كلمة الله الطيبة، وحياتهم أصل البركة، ودعوتهم توجب الحركة، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم... وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية، ولكن سياق الآيات لا يوَيده، لاَنّه سبحانه يفسر الكلمة الطيبة بما عرفت، أعني قوله: ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ). والمراد من القول الثابت هو الكلمة الطيبة ، وقلب الموَمن هو الاَرض الطيبة التي ترسخ فيها جذور تلك الشجرة.

  الأمثال في القرآن _168 _

  سورة إبراهيم 24 التمثيل الرابع والعشرون

  ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ منْ فَوْقِ الاََرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار ). (1)

  تفسير الآية
  مثّل سبحانه تبارك وتعالى للعقيدة الصالحة بالمثل السابق ومقتضى الحال أن يمثل للعقيدة الباطلة بضد المثل السابق، فهي على طرف النقيض مما ذكر في الآية السابقة، وإليك البيان:
  فالكفر كشجرة لها هذه الاَوصاف:
  أ: انّها خبيثة مقابلة الطيبة، أي لا يطيب ثمارها كشجرة الحنظل.
  ب: ( اجتثت من فوق الاَرض) في مقابل قوله ( أصلها ثابت) وحقيقة الاجتثاث هي اقتلاع الشيء من أصله ، أي اقتطعت واستؤصلت واقتلعت جذورها من الاَرض.
  ج: ( ما لها من قرار) أي ليس لتلك الشجرة من ثبات، فالريح تنسفها وتذهب بها، وبالتالي ليس لها فروع وأغصان أو ثمار.


------------------------------------

(1 ) إبراهيم:26.

  الأمثال في القرآن _169 _

  هذا هو المشبه به، وأمّا المشبه فهو عبارة عن العقيدة الضالة الكافرة التي لا تعتمد على برهان ولا دليل، يزعزعها أدنى شبهة وشك، فينطبق صدر الآية التالية على التمثيل الاَوّل، وذيله على التمثيل التالى، أعني: قوله: ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) هذا هو المنطبق على التمثيل الاَوّل وأمّا المنطبق على التمثيل الثاني فهو قوله: ( وَيُضِلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) أي يضل أهل الكتاب بحرمانهم من الهداية، وذلك لاَجل قصورهم في الاستفادة عن الهداية العامة التي هي متوفرة لكل إنسان، أعني: الفطرة ودعوة الاَنبياء. وقوله: ( يفعل الله ما يشاء) بمعنى انّه تعلّقت مشيئته بتثبيت الموَمنين وتأييدهم وإضلال الظالمين وخذلانهم، ولم تكن مشيئته عبثاً وإنّما نابعة من حكمة بالغة.

  الأمثال في القرآن _ 170 _

  سورة إبراهيم 25 التمثيل الخامس والعشرون

  ( وَأَنذِرِ النّاسَ يَوم يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الّذينَ ظَلَمُوا رَبّنَا أَخّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ *وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الاََمْثالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولَ مِنْهُ الجِبال ). (1)

  تفسير الآيات
  إنّ الآية تمثل حال قوم شاهدوا نزول جزء من العذاب والبلاء فعادوا يظهرون الندم على أعمالهم البغيضة ويطلبون الاِمهال حتى يتلافوا ما فاتهم من الاِيمان والعمل الصالح، كما يحكي عنه سبحانه، ويقول: ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ) أي مشاهدة نزول العذاب في الدنيا بشهادة استمهالهم، كما في قوله تعالى: ( فَيَقول الذين ظلموا ربّنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل )، فيرد دعوتهم بأنّ هذا الطلب ليس طلباً صادقاًوإنّما ألجأهم إليه روَية


------------------------------------

(1 ) إبراهيم:44ـ 46.

  الأمثال في القرآن _ 171 _

 العذاب.
  فيخاطبهم سبحانه بقوله: ( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ). وعلى ما ذكرنا يكون مفاد الآية : حلفتم قبل نزول العذاب بأنّه ليس لكم زوال من الراحة إلى العذاب، وظننتم انّكم بما تمتلكون من القوة والسطوة أُمّة خالدة مالكة لزمام الاَُمور، فلماذا تستمهلون؟ ثمّ يخاطبهم بجواب آخر وهو قوله: ( وَسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الاَمثال ) أي سكنتم ديار من كذب الرسل فأهلكهم الله وعرفتم ما نزل بهم من البلاء و الهلاك والعذاب كقوم عاد وثمود، وضربنا لكم الاَمثال وأخبرناكم بأحوال الماضين لتعتبروا فلم تتعظوا.
  وعلى ذلك فالمشبه به هو حال الاَُمم الهالكة بأفعالهم الظالمة. والمشبه هو الاَُمم اللاحقة لهم الذين رأوا العذاب فاستمهلوا الاَجل وندموا ولات حين مناص.
  النحل 26 التمثيل السادس والعشرون

  ( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمٍ تَاللهِ لَتُسئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ * وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَه وَلَهُمْ ما يَشْتَهون * وإِذا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاَُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم * يَتوارَى مِنَ القَومِ مِنْ سُوءِ ما بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُون * لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَة مثلُ السَّوءِ وَللهِ المَثَلُ الاََعلى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ) . (1)

  تفسير الآيات
  إنّ الله سبحانه هو الواجب الغني عن كل من سواه، قال سبحانه: ( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد ) (2) فلا يصحّ وصفه بما يستشمُّ منه الفقر والحاجة، لكن المشركين غير العارفين بالله كانوا يصفونه بصفات فيها وصمة الفقر والحاجة، و قد حكاها سبحانه في غير واحد من الآيات، فقال: ( وَجَعَلُوا للهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاََنْعامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَمَا كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللهِ وَمَا كانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ سَاءَ ما يَحْكُمُون ). (3)


------------------------------------

(1 ) النحل:56ـ60.
(2 ) فاطر: 15.
(3 ) الاَنعام:136.


  الأمثال في القرآن _173 _

  فقد أخطأوا في أمرين:
  أ: فرز نصيب لله من الحرث والاَنعام ،وكأنّه سبحانه فقير يجعلون له نصيباً ممّا يحرثون و يربّون من أنعامهم.
  ب: الجور في التقسيم و القضاء، فيعطون ما لله إلى الشركاء دون العكس، وما هذا إلاّ لجهلهم بمنزلته سبحانه وأسمائه وصفاته.
وقد أشار إلى ما جاء تفصيله في سورة الاَنعام على وجه موجز في المقام، وقال: ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفتَرُون )، ونظير ما سبق انّهم كانوا يبغضون البنات ويجعلونها لله ، ويحبون البنين ويجعلونهم لاَنفسهم، وإليه يشير سبحانه بقوله: ( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَناتِ سُبحانهُ وَلَهُم ما يَشتَهُون ) والمراد من الموصول في ( ما يشتهون ) هو البنون، وبذلك تبيّن معنى قوله سبحانه: ( لِلّذِينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوء ) أي انّ المشركين المنكرين للآخرة يصفونه سبحانه بصفات السوء التي يستقبحها العقل ويذمّها، وقد عرفت كيفية وصفهم له فوصفوه عند التحليل بالفقر والحاجة والنقص والاِمكان، والله سبحانه هو الغني المطلق، فهو أعلى من أن يوصف بأمثال السوء، ولكن الموحّد يصفه بالكمال كالحياة والعلم والقدرةوالعزّة والعظمة والكبرياء، والله سبحانه عند الموَمنين ( هُوَ الْمَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ الْمُوَْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الجَبّارُ الْمتَكَبّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبَارِىَُ الْمُصَوّرُ لَهُ الاََسْماءُ الْحُسْنى ) (1)
و يقول سبحانه: ( وَلَهُ المَثَلُ الاََعلى


------------------------------------

(1) الحشر:23ـ 24.

  الأمثال في القرآن _ 174 _

  فِي السَّموات وَالاََرض ) (1)
وقال: ( لَهُ الاََسماءُ الحُسْنى ). (2) ومنه يظهر جواب سوَال طرحه الطبرسي في "مجمع البيان" ، وقال: كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه ( وَلله المثل الاَعلى ) وقوله: ( فَلاَ تَضْرِبُوا للهِ الاََمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون ). (3)
  والجواب انّ المراد من ضرب الاَمثال هو وصفه بما يدل على فقره وحاجته أو تشبيهه بأُمور مادية، وقد تقدم انّ المشركين جعلوا له نصيباً من الحرث والاَنعام، كما جعلوا الملائكة بناتاً له، يقول سبحانه: ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الّذينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمن اناثاً ) ، (4) ويقول سبحانه: ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنّة نَسباً ). (5) إلى غير ذلك من الصفات التي يتنزه عنها سبحانه، فهذا النوع من التمثيل أمر محظور، وهو المراد من قوله ( فَلا تَضْرِبُوا لله الاََمْثال ). وأمّا التمثيل لله سبحانه بما يناسبه كالعزّةوالكبرياء والعلم والقدرة إلى غير ذلك، فقد أجاب عليه القرآن ولم ير فيه منعاً وحظراً، بشهادة انّه سبحانه بعد هذا الحظر أتى بتمثيلين لنفسه، كما سيتضح في التمثيل الآتى.
  وربما يذكر في الجواب بأنّ الاَمثال في الآية جمع "المِثْل" بمعنى "الند"، فوزان قوله ( لا تضربوا لله الاَمثال ) كوزان قوله : ( فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً ) (6)، ولكنّه معنى بعيد، فانّ المثل بفتح العين يستعمل مع الضرب، دون المثل بسكون


------------------------------------

(1 ) الروم:27.
(2 ) طه:8.
(3 ) النحل:74.
(4 ) الزخرف:19.
(5 ) الصافات:158.
(6 ) البقرة:22.


  الأمثال في القرآن _ 175 _

  العين بمعنى الند فلم يشاهد اقترانه بكلمة الضرب.
  ويقرب ممّا ذكرنا كلام الشيخ الطبرسي حيث يقول:
  إنّ المراد بالاَمثال الاَشباه، أي لا تشبّهوا الله بشىء، و المراد بالمثل الاَعلى هنا الوصف الاَعلى الذي هو كونه قديماً قادراً عالماًحياً ليس كمثله شيء.
  وقيل إنّ المراد بقوله: ( المثل الاَعلى ) : المثل المضروب بالحق، وبقوله: ( فلا تضربوا لله الاَمثال ) : الاَمثال المضروبة بالباطل. (1)
وفي الختام نودُّ أن نشير إلى نكتة، وهي انّ عدّ قوله سبحانه ( للّذين لا يوَمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الاَعلى وهو العزيز الحكيم ) من قبيل الاَمثال القرآنية لا يخلو من غموض، لاَنّ الآية بصدد بيان نفي وصفه بصفات قبيحة سيئة دون وصفه بصفات عليا فأين التمثيل؟ إلاّ أن يقال: إنّ التشبيه ينتزع من مجموع ما وصف به المشركون، حيث شبّهوه بإنسان له حاجة ماسّة إلى الزرع والاَنعام وله بنات ونسبة مع الجن إلى غير ذلك من أمثال السوء، فالآية بصدد ردّ هذا النوع من التمثيل، وفي الحقيقة سلب التمثيل، أو سوق الموَمن إلى وصفه سبحانه بالاَسماء الحسنى والصفات العليا.


------------------------------------

(1 ) مجمع البيان:3|367.

  الأمثال في القرآن _ 176 _

  النحل 27 التمثيل السابع و العشرون

  ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالاََرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ *فَلا تَضْرِبُوا للهِ الاََمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَىْءٍ وَمن رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَستَوون الحمدُ للهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون ). (1)

  تفسير الآيات
  ندّد سبحانه بعمل المشركين الذين يعبدون غير الله سبحانه، بأنّ معبوداتهم لا تملك لهم رزقاً ولا نفعاً ولا ضراً، فكيف يعبدونها مع أنّها أشبه بجماد لا يرجى منها الخير والشر، وإنّما العبادة للاِله الرازق المعطى المجيب للدعوة ؟ هذا هو المفهوم من الآية الاَُولى.
  ثمّ إنّه سبحانه يمثّل لمعبود المشركين والمعبود الحق بالتمثيل التالي: افرض مملوكاً لا يقدر على شيء ولا يملك شيئاً حتى نفسه، فهو بتمام معنى الكلمة مظهر الفقر والحاجة، ومالكاً يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه، فيتصرف في ماله كيف شاء وينعم كيف شاء. فهل هذان متساويان؟ كلاّ.


------------------------------------

(1 ) النحل:73ـ 75.

  الأمثال في القرآن _ 177 _

  وعلى ضوء ذلك تمثّل معبوداتهم الكاذبة مثل العبد الرق المملوك غير المالك لشىء، ومثله سبحانه كمثل المالك للنعمة الباذل لها المتصرف فيها كيف شاء. وذلك لاَنّ صفة الوجود الاِمكاني ـ أي ما سوى الله ـ نفس الفقر والحاجة لا يملك شيئاً ولا يستطيع على شيء، وأمّا الله سبحانه فهو المحمود بكلّ حمد والمنعم لكلّ شيء، فهو المالك للخلق والرزق والرحمة والمغفرة والاِحسان والاِنعام، فله كلّ ثناء جميل، فهو الربّ ودونه هو المربوب، فأيّهما يصلح للخضوع والعبادة؟ ويدل على ما ذكرنا انّه سبحانه حصر الحمد لنفسه، وقال: الحمد لله أي لا لغيره، فالحمد والثناء ليس إلاّ لله سبحانه، و مع ذلك نرى صحة حمد الآخرين بأفعالهم المحمودة الاختيارية، فنحمد المعطي بعطائه والمعلم لتعليمه والوالد لما يقوم به في تربية أولاده.
  وكيفية الجمع انّ حمد هوَلاء تحميد مجازى، لاَنّ ما بذله المنعم أو المعلم أو الوالد لم يكن مالكاً له، وإنّما يملكه سبحانه فهو أقدرهم على هذه الاَعمال، فحمد هوَلاء يرجع إلى حمده وثنائه سبحانه، ولذلك صح أن نقول: إنّ الحمد منحصر بالله لا بغيره.ولذلك يقول سبحانه في تلك الآية: ( وَالحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرهُمْ لا يَعْلَمُون ) أي الشكر لله على نعمه، يقول الطبرسي: وفيه إشارة إلى أنّ النعم كلّها منه. (1)


------------------------------------

(1 ) مجمع البيان:3|375.

  الأمثال في القرآن _ 178 _

  النحل 28 التمثيل الثامن والعشرون

  ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَىءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَينَمَا يُوَجّههُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقيم ). (1)

  تفسير الآية
  كان التمثيل السابق يبيّن موقف الآلهة الكاذبة بالنسبة إلى العبادة والخضوع وموقفه تبارك و تعالى حيالها، ولكن هذا التمثيل جاء لبيان موقف عبدة الاَصنام والمشركين وموقف الموَمنين والصادقين، فيشبّه الاَوّل بالعبد الاَبكم الذي لا يقدر على شيء، ويشبّه الآخر بإنسان حرّ يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم. نفترض عبداً رِقاً له هذه الصفات :
  أ: أبكم لا ينطق وبالطبع لا يسمع لما في الملازمة بين البكم وعدم السماع، بل الاَوّل نتيجة الثاني، فإذا عطل جهاز السمع يسري العطل إلى اللسان أيضاً، لاَنّه إذا فقد السمع فليس بمقدوره أن يتعلم اللغة.
ب: عاجز لا يقدر على شيء، ولو قلنا بإطلاق هذا القيد فهو أيضاً لا


------------------------------------

(1 ) النحل:76.

  الأمثال في القرآن _ 179 _

  يبصر، إذ لو أبصر لا يصح في حقّه انّه لا يقدر على شيء.
  ج: ( كَلّ على مولاه ) : أي ثقل ووبال على وليّه الذي يتولّى أمره.
  د: ( أَينما يُوجّهه لا يَأْتِ بِخَير ) لعدم استطاعته أن يجلب الخير، فلا ينفع مولاه، فلو أرسل إلى أمر لا يرجع بخير.
  فهذا الرق الفاقد لكلّ كمال لا يرجى نفعه ولا يرجع بخير. وهناك إنسان حرٌّ له الوصفان التاليان :
  أ: يأمر بالعدل.
 ب: وهو على صراط مستقيم.
  أمّا الاَوّل، فهو حاك عن كونه ذا لسان ناطق، وإرادة قوية، وشهامة عالية يريد إصلاح المجتمع، فمثل هذا يكون مجمعاً لصفات عليا، فليس هو أبكمَ ولا جباناً ولا ضعيفاً ولا غير مدرك لما يصلح الاَُمة والمجتمع. فلو كان يأمر بالعدل فهو لعلمه به فيكون معتدلاً في حياته وعبادته ومعاشرته التي هي رمز الحياة.
  وأمّا الثاني: أي كونه على صراط مستقيم، أي يتمتع بسيرة صالحة ودين قويم. فهذا المثل يبيّن موقف الموَمن والكافر من الهداية الاِلهية، وقد أشار سبحانه إلى مغزى هذا التمثيل في آية أُخرى، وقال: ( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلى الحَقِّ أحَقُّ أن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّي إلاّ أن يُهَدى فَما لكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون ). (1)
هذا التفسير مبني على أنّ التمثيل بصدد بيان موقف الكافر والموَمن غير انّ هناك احتمالاً آخر، وهو انّ التمثيل تأكيد للتمثيل السابق وهو تبيين موقف الآلهة الكاذبة و الاِله الحق.


------------------------------------

(1 ) يونس:35.

  الأمثال في القرآن _180 _

  النحل 29 التمثيل التاسع والعشرون

  ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الاََ يْمَانَ بَعْدَ تَوكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُون * وَلا تَكُونُوا كالّتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوةٍ أَنكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمّةٌ هِي أَرْبى مِنْ أُمّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيّننَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون ). (1)

  تفسير الآيات
  التوكيد: التشديد، يقال أوكدها عقدك، أي شدّك، وهي لغة أهل الحجاز و"الاَنكاث": الاَنقاض، وكلّ شيء نقض بعد الفتح، فقد انكاث حبلاً كان أو غزلاً.
  و"الدخل"ما أُدخل في الشيء على فساد، وربما يطلق على الخديعة، وإنّمااستعمل لفظ الدخل في نقض العهد، لاَنّه داخل القلب على ترك البقاء، وقد نقل عن أبي عبيدة، انّه قال: كلّ أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل، وكلّ ما دخله عيب فهو مدخول. هذا ما يرجع إلى تفسير لغات الآية وجملها.


------------------------------------

(1 ) النحل:91 ـ 92.

  الأمثال في القرآن _181 _

  وأمّا شأن نزولها فقد نقل عن الكلبي أنّها امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار، ثمّ تأمرهنَّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها، واسمها "ريطة" بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة، وكانت تسمّى فرقاء مكة، (1)
إنّ لزوم العمل بالميثاق من الاَُمور الفطرية التي جُبل عليها الاِنسان، ولذلك نرى أنّ الوالد إذا وعد ولده شيئاً، ولم يف به فسوف يعترض عليه الولد، وهذا كاشف انّ لزوم العمل بالمواثيق والعهود أمر فطر عليه الاِنسان، ولذلك صار العمل بالميثاق من المحاسن الاَخلاقية التي اتّفق عليها كافة العقلاء. وقد تضافرت الآيات على لزوم العمل به خصوصاً إذا كان العهد لله ، قال سبحانه: ( وَأَوفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَكانَ مَسْوَولاً ) (2)
  وقال تعالى: ( وَالّذِينَ هُمْ لاََماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُون ). (3) وفي آية ثالثة: ( وَأَوفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ). (4) وفيما نحن فيه يأمر بشىء وينهى عن آخر.
  أ: فيقول ( أَوفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) فيأمر بالوفاء بعهد الله ، أي العهود التي يقطعها الناس مع الله تعالى. ومثله العهد الذي يعهده مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأئمة المسلمين، فكلّ ذلك عهود إلهية وبيعة في طريق طاعة الله سبحانه.


------------------------------------

(1 ) الميزان:12|335.
(2 ) الاِسراء:34.
(3 ) الموَمنون:8.
(4 ) البقرة:40.


  الأمثال في القرآن _ 182 _

  ب: ( وَلا تَنْقُضُوا الاََ يْمان بَعْد تَوكيدها ) فالاَيمان جمع يمين. فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين، والظاهر اختصاص الاَُولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى، كما إذا قال: عاهدت الله لاَفعلنّه، أو عاهدت الله أن لا أفعله. وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الاِنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله .
  وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يوَكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه. ثمّ إنّه قيّد الاَيمان بقوله: بعد توكيدها، وذلك لاَنّ الاَيمان على قسمين: قسم يطلق عليه لقب اليمين،بلا عزم في القلب وتأكيد له، كقول الاِنسان حسب العادة والله وبالله .
  والقسم الآخر هو اليمين الموَكد، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين، يقول سبحانه: ( لاَ يُوََاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُوََاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الاََ يْمان ). (1)
ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد، بقوله: ( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.
  فالحالف إذا قال: والله لاَفعلنّ كذا، أو لاَتركنّ كذا، فقد علّق ما حلف عليه نوعاًمن التعليق على الله سبحانه، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه


------------------------------------

(1 ) المائدة:89.

  الأمثال في القرآن _ 183 _

  اليمين، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يوَدبه، ففي نكث اليمين، إهانة وإزراء بساحة العزة، ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً، قال: ( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها و بيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر، ثمّ تنقض ما غزلته، وقد عرفت في قوله بـ"الحمقاء" فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.
  ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً، يقول سبحانه: ( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أُمّة هي أربى من أُمّة ) فقوله "أربى" من الربا بمعنى الزيادة، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه، كما يقول سبحانه: ( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ).
أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لاِماطة الحق، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال و من هوا لمهتدي. (1)



------------------------------------

(1 ) الميزان:12|336.

  الأمثال في القرآن _184 _

  النحل 30 التمثيل الثلاثون

  ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ). (1)

  تفسير الآيات
  "رغد" عيش رغد ورغيد: طيّب واسع، قال تعالى: ( وكلا منها رغداً ). يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث:
  أ: آمنة: أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الاَموال، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.
  ب: مطمئنة: أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار، فترك الاَوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه، فالاطمئنان رهن الاَمن.


------------------------------------

(1 ) النحل:112ـ113.

  الأمثال في القرآن _ 185 _

  ج: ( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان )، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى، والدليل على ذلك، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب: ( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ). (1)
والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.
  وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.
  هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية، ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أُخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية، أعنيبعث الرسول إليها، كماأشار إليه في الآية الثانية، بقوله: ( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ).
  وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها، أمّا النعمة المعنوية، أعني: الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم، روى العياشي، عن حفص بن سالم، عن الاِمام الصادق (عليه السلام ) ، أنّه قال: "إنّ قوماً في بني إسرائيل توَتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها


------------------------------------

(1 ) يوسف:82.

  الأمثال في القرآن _ 186 _

  ويأكلونها، وهو قول الله : ( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ). (1)
وفي رواية أُخرى عن زيد الشحّام، عن الصادق (عليه السلام ) قال: كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها، قال: فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم، ثم قال: إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا، فقال بعضهم لبعض: لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.
  قال (عليه السلام ) : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى: ( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ). (2)
  وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله . حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية، فكلّ ذلك كفران لنعم الله ، ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية، وأشار


------------------------------------

(1 ) تفسير نور الثقلين:3|91، حديث 247.
(2 ) تفسير نور الثقلين: 3|92، حديث 248.


  الأمثال في القرآن _ 187 _

  إليها بآيتين:
  الاَُولى: ( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ).
  الثانية: ( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ).
  فلنرجع إلى الآية الاَُولى، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم، وهناك سوَال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الاَُولى بين الذوق واللباس، فقال: ( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم، بأن يقول: "فأذاقها الله طعم الجوع"، ومقتضى اللفظ الثاني أعني: اللباس، أن يقول: "فكساهم الله لباس الجوع" فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين؟ والجواب: انّ للاِتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً، أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الاَطراف كإحاطة اللباس بالملبوس، ولذلك قال: ( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل "الجوع والخوف" لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس. وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع، لاَنّ الاِنسان يذوق الطعام ،وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش و الخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته، فقال: ( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ).
  هذا ما يرجع إلى تفسير الآية، و أمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

  الأمثال في القرآن _ 188 _

  نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة، لاَنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) فكفروا به وبالغوا في إيذائه، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء، قال المفسرون: عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.
  وأمّا الخوف، فهو انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم، ويوَيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله: ( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَىْءٍ ). (1)
ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.
  أمّا أوّلاً: فلاَنَّ الآية استخدمت الاَفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الاَزمنة الغابرة.
  وثانياً: لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة، وان كان يذكره بعض المفسرين.
  وثالثاً: انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم،والسورة مكية إلاّ آيات قليلة، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف، لتكون أحوال تلك الاَُمم عبرة للمشركين من أهل مكة و ما والاها.


------------------------------------

(1 ) القصص:57.

  الأمثال في القرآن _ 189 _

  الاِسراء 31 التمثيل الواحد والثلاثون

  ( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً *إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ). (1)

  تفسير الآيات
  "الغلُّ" :ما يقيَّد به، فيجعل الاَعضاء وسطه، وجمعه أغلال، ومعنى قوله: ( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.
  "الحسرة": الغم على ما فاته والندم عليه، وعلى ذلك يكون محسوراً، عطف تفسير لقوله "ملوماً" ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.
  أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، والاَمر بالاقتصاد الذي هو بين الاِسراف والتقتير، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والاِمساك، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء، وهذا كناية عن الاِسراف، فيبقى الثالث وهو


------------------------------------

(1 ) الاِسراء:29ـ30.

  الأمثال في القرآن _ 190 _

  المفهوم من الآية وإن لم يكن منطوقاً، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء، فقد تضمّنته آية أُخرى في سورة الفرقان، وهي: ( وَالّذينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ). (1)
وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها ، روى الطبرى أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وقالت: قل له: إنّ أُمّي تستكسيك درعاً، فإن قال: حتى يأتينا شيء.، فقل له: انّها تستكسيك قميصك.
  فأتاه، فقال ما قالت له، فنزع قميصه فدفعه إليه، فنزلت الآية، ويقال انّه (عليه السلام ) بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار، وقالوا:إنّ محمداً اشتغل بالنوم و اللهو عن الصلاة ( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه. (2) روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الاَحول، قال: تلا أبو عبد الله هذه الآية: ( وَالّذينَ إِذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ). قال: فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده، فقال: هذا الاِقتار الذي ذكره الله في كتابه، ثمّ قبض قبضة أُخرى، فأرخى كفه كلها، ثمّ قال: هذا الاِسراف، ثمّ قبض قبضة أُخرى فأرخى بعضها، وقال: هذا القوام. (3)


------------------------------------

(1 ) الفرقان:67.
(2 ) مجمع البيان: 3|412.
(3 ) البرهان في تفسير القرآن: 3|173.


  الأمثال في القرآن _ 191 _

  هذا ما يرجع إلى تفسير الآية، وهذا الدستور الاِلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم و انّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به، فالشمس ترسل 450 ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الاَرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الاَشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما، حتى أنّ الاَشجار والاَزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الاَشعة. إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الاِنسانية.
  ولكن الاِسلام حدّد الاِنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط، فمنع عن الشح، كما منع عن الاِسراف في البذل.
  وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شوَون حياة الاِنسان، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله: ( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الاََصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ). (1)
بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الاِنسانية، فمن جانب يصرح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّ عنوان صحيفة الموَمن حبّ على بن أبى طالب (عليه السلام). (2) ومن جانب آخر يقول الاِمام على (عليه السلام ) : "هلك فىَّ اثنان :محب غال، ومبغض قال". (3)


------------------------------------

(1 ) لقمان: 19.
(2 ) حلية الاَولياء:1|86.
(3 ) بحار الاَنوار: 34|307.


  الأمثال في القرآن _ 192 _

  فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الاَصل الاَساس في الاِسلام، ولعله بذلك سميت الاَُمة الاِسلامية بالاَُمة الوسط، قال سبحانه: ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ). (1)
وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام ) حول الاعتدال نأتي بنصها: دخل الاِمام على العلاء بن زياد الحارثى و هو من أصحابه يعوده، فلمّا رأي سعة داره، قال:
  "ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟ بلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرَّحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة".
  فقال له العلاء: يا أمير الموَمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال: "وماله؟" قال: لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال: "عليّ به". فلمّا جاء قال:
  "يا عديّ نفسك: لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحلّ لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك".
قال: يا أمير الموَمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! قال: "ويحك، إنّي لست كأنت، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل (الحق) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره!" (2)


------------------------------------

(1) البقرة:143.
(2 ) نهج البلاغة، الخطبة 209.


  الأمثال في القرآن _ 193 _

  الكهف 32 التمثيل الثاني والثلاثون

  ( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لاََحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ). (1)

  تفسير الآيات
  "الحفُّ" من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به، وحفاف الشيء جانباه


------------------------------------

(1 ) الكهف:32ـ43.

  الأمثال في القرآن _ 194 _

  كأنّهما أطافا به، فقوله في الآية ( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما، وقوله: ( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.
"حسباناً": أصل الحسبان السهام التي ترمى، الحسبان ما يحاسب عليه، فيجازى بحسبه فيكون النار   والريح من مصاديقه، وفي الحديث انّه قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في الريح : "اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً".
  "الصعيد" يقال لوجه الاَرض "زلق" أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد، كما في قوله سبحانه: ( فتركه صلداً ) (1)
هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.
  وأمّا تفسيرها، فهو تمثيل للموَمن و الكافر بالله و المنكر للحياة الاَُخروية، فالاَوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة، والثاني يركن إلى الدنيا و يطمئن بها، ويتبين ذلك بالتمثيل التالى:
  قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم و أنصارهم على فقراء المسلمين، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الاِنسان لربه وإطاعته لمولاه، وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه و هوالموَمن منهما فتقرب إلى الله بالاِحسان والصدقة، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير، وقال: ( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً )، وما هذا إلاّ لاَنّه كان يملك جنتين من


------------------------------------

(1 ) البقرة: 264.

  الأمثال في القرآن _ 195 _

  أعناب ونخل مطيفاً بهما و بين الجنتين زرع وافر، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أُكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء و راح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.
  وكان كلما يدخل جنته يقول: ما أظن أن تفنى هذه الجنة و هذه الثمار ـ أي تبقى أبداًـ وأخذ يكذب بالساعة، ويقول: ما أحسب القيامة آتية، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة، فلئن بعثت يومذاك، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم، و هذا دليل على كرامتي عليه.
  هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً، و عند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة، و يقول: كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة، ثمّ رجلاً سوياً، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة؟ وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة، بل إنكار للمعاد، فكأنّه يلازم إنكار الربّ ، فإن افتخرت أنت بالمال، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً. ثمّ ذكّره بسوء العاقبة، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك و تعالى، ثمّ أشار إلى نفسه، وقال: أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو أن

  الأمثال في القرآن _196 _

  يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الاَرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله ، قالها أخوه و هو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.
  فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الاَموال في عمارة جنتيه، وأخذ يندم على شركه، ويقول: يا ليتني لم أكن مشركاً بربى، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر، هذه حصيلة التمثيل، وقد بيّنه سبحانه على وجه الاِيجاز، بقوله: ( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ).(1)

  وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أُخرى، وقال: ( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ *يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ *أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإِنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ). (2) إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل، و أمّا تفسير مفردات الآية وجملها، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً، ومع ذلك نفسرها على وجه الاِيجاز.


------------------------------------

(1 ) الكهف:46.
(2 ) الصافات: 51ـ55.


  الأمثال في القرآن _ 197 _

(   واضرب لهم ) أي للكفار مع الموَمنين ( مثلاً رجلين جعلنا لاَحدهما) أي للكافر ( جنتين ) أي بستانين ( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل ( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به ( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها ( لم تظلم ) تنقص ( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما ( و كان له ) مع الجنتين ( ثمر فقال لصاحبه ) الموَمن ( وهو يحاوره ) يفاخره ( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة ( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها. ( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر ( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم ( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك ( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً ( قال له صاحبه و هو يحاوره ) يجادله ( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لاَنّ آدم خلق منه ( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك ( رجلاً ). أمّا أنا فأقول ( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها ( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ). ( إن ترن أنا أقل منك مالاً و ولداً فعسى ربي أن يوَتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) و صواعق ( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم ( أو يصبح ماوَها غوراً ) بمعنى غائراً ( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها ( وأُحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت ( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً ( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته ( وهي خاوية ) ساقطة ( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم ( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه ( لم أُشرك بربي أحداً و لم تكن له فئة ) جماعة ( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و ( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه ( هنالك ) أي يوم القيامة ( الولاية ) الملك ( لله الحقّ ). (1)



------------------------------------

(1 )السيوطى: تفسير الجلالين: تفسير سورة الكهف.

  الأمثال في القرآن _ 198 _

  الكهف 33 التمثيل الثالث والثلاثون

  ( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ). (1)

 تفسير الآيات
  "الهشيم": ما يكسر و يحطم في يبس النبات، و"الذر" و التذرية: تطيير الريح الاَشياء الخفيفة في كلّ جهة.
  تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر، ولاَجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الاَراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها، فعندئذٍ تبتدىَ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة، فربما يتخيل الاِنسان بقاءها ودوامها، فإذا بالاَعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الاَطراف، فهذا النوع من


------------------------------------

(1 ) الكهف:45.

  الأمثال في القرآن _ 199 _

  الحياة والموت يتكرر على طول السنة ويشاهده الاِنسان بأُمّ عينه، دون أن يعتبر بها، فهذا ما صيغ لاَجله التمثيل.
  يقول سبحانه: ( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الاَرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض، يروق الاِنسان منظره، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة، وهذا ما يعبر عنه القرآن، بقوله : ( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات ( و كان الله على كلّ شيء مقتدراً ).
  ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والاَزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها، فهكذا الاَموال والبنون، وإنّما هي زينة للحياة الدنيا، فإذا كان الاَصل موَقتاً زائلاً، فما ظنّك بزينته، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا، فالاعتماد على الاَمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً، قال سبحانه: ( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا )، نعم ، الخلود للاَعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الاَُخروية، قال سبحانه: ( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا )، (1)
ثمّ إنّه سبحانه يوَكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية. (2)


------------------------------------

(1 ) مريم:76.
(2 ) انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس 25، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد، الآية 20.


  الأمثال في القرآن _200 _

  ايقاظ ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله : ( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الاِنسان أكثر شيء جدلاً ). (1)
والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يوَكد على ذكر نماذج من الاَمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.
  ومعنى قوله: ( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لاَجل الاِشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الاِنسان من جهات مختلفة و مع ذلك ( وَكانَ الاِنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شىء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.


------------------------------------

(1 ) الكهف:54.

  الأمثال في القرآن _ 201 _

  الحج 34 التمثيل الرابع و الثلاثون

  ( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ). (1)

  تفسير الآيات
  كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية، ويعربون عن عقيدتهم، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه، و قد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات، قال سبحانه: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالاََرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ). (2) ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والاَرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة، يقول سبحانه: ( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (3) والآية وإن كانت


------------------------------------

(1) الحج:73ـ74.
(2 ) الزخرف:9.
(3 ) يوسف:39.


  الأمثال في القرآن _ 202 _

  تفصح عن عقيدة المشركين في عهد يوسف إلاّ أنّها تماثل إلى حد كبير عقيدة المشركين في مكة، بشهادة انّ الآية نزلت للتنديد بهم والحطِّ من عقيدتهم الفاسدة، وهناك آيات أُخرى تكشف عن شركهم في الربوبية :
  يقول سبحانه: ( وَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلهةً لَعلَّهُمْ يُنْصَرُون ) (1)
فقد كانوا يعبدون آلهتهم في سبيل نصرتهم في ساحات الوغى، قال سبحانه: ( وَ اتّخذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلهةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ). (2) فكان الهدف من الخضوع لدى الآلهة هو طلب العزّ منهم في مختلف المجالات، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أنّ مشركي عصر الرسول لم يكونوا موحدين في الربوبية، وإن كانوا كذلك في مجال الخالقية.
  وهناك آيات كثيرة تصف الاَصنام والاَوثان بأنّها لا تملك كشف الضرّ، كما لا تملك النفع والضرّ، ولا النصر في الحرب، ولا العزة في الحياة ،كل ذلك يدل على أنّ المشركين كانوا يعتقدون أنّ في آلهتهم قوة وسلطاناً يكشف عنهم الضرّ ويجلب إليهم النفع، وهذه عبارة أُخرى عن تدبيرهم للحياة الاِنسانية، يقول سبحانه: ( قُلِ ادْعُوا الّذينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّر عَنْكُمْ وَلا تحْوِيلاً ). (3) وقال تعالى: ( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرّك ).(4) وقال تعالى: ( إِن تَدَعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ ) (5) إلى غير ذلك من الآيات التي تبطل تدبير الآلهة المزيفة.


------------------------------------

(1 ) يَس:74.
(2 ) مريم:81.
(3 ) الاِسراء:56.
(4) يونس:106.
(5 ) فاطر:14.


  الأمثال في القرآن _ 203 _

  إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه سبحانه ضرب في المقام أمثالاً أبطل بها ربوبية الاَصنام، بالبيان التالى:
  أمّا الذباب، فهو عندهم أضعف الحيوانات وأوهنها، ومع ذلك فآلهتهم عاجزون عن خلق الذباب، وإن سلب الذباب منهم شيئاً لا يستطيعون استنقاذه منه ، فقد روي أنّ العرب كانوا يطلون الاَصنام بالزعفران و روَوسها بالعسل ويغلقون عليها الاَبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، يقول سبحانه : ( يا أَيُّها الناس ضربَ مثل فاستمعوا له انَّ الذينَ تَدعُون مِنْ دُونِ الله ) أي يعبدونه والدعاء هنا بمعنى العبادة، كما في قوله سبحانه: ( وَقالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِين ) (1)
فدعاوَه سبحانه عين عبادته كما أنّ دعاء الآلهة المزيّفة ـ بما انّها أرباب عند الداعي ـ عبادة لها.
  ( لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ) مع صغره وضعفه ( وان يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه ) كما عرفت من أنّ الذباب ربما يأكل العسل الموجود على روَوس الاَصنام، ( ضعف الطالب والمطلوب ) وفيها احتمالات:
  الاَوّل: انّ المراد من الطالب و المطلوب هو العابد و المعبود، فالاِنسان ضعيف كما هو واضح، وقال سبحانه: ( وَخلق الاِنْسان ضعيفاً ) والمطلوب، أعني: الاَصنام مثله لاَنّه جماد لا يقدر على شيء.


------------------------------------

(1) غافر:60.

  الأمثال في القرآن _ 204 _

  الثاني: ويحتمل أن يكون المراد من الطالب هو الذباب الذي يطلب ما طليت به الاَصنام، والمطلوب هي الاَصنام التي تريد استنقاذ ما سلب منها.
  الثالث: المراد من الطالب الآلهة فانّـهـم يطلبون خلق الذباب فلا يقدرون على استنقاذ ما سلبهم، والمطلوب الذباب حيث يطلب للاستنقاذ منه، والغاية من التمثيل بيان ضعف الآلهة لتنزيلها منزلة أضعف الحيوانات في الشعور والقدرة.
  ثمّ إنّه سبحانه يعود ليبين منشأ إعراضهم عن عبادة الله وانكبابهم على عبادة الآلهة، بقوله: ( ما قَدَرُوا الله حقّ قدره انّ اللهَ لقوىّ عَزيز ) أي ما نزلوه المنزلة التي يستحقها ولم يعاملوه بما يليق به، فلذلك أعرضوا عن عبادة الخالق وانصرفوا إلى عبادة المخلوق الذي لا ينفع ولا يضر، فلو كان هوَلاء عارفين بالله وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، لاعترفوا بأنّه لا خالق ولا رب سواه، وعلى ضوء ذلك لا معبود سواه، ولكن لم يقدروا الله بما يليق به، فلذلك شاركوه أضعف المخلوقات وأذلّهم، مع أنّه سبحانه ( هو القويُّ العَزيز ) بخلاف الآلهة فانّهم الضعفاء والاَذلاّء.

  الأمثال في القرآن _ 205 _

  النور 35 التمثيل الخامس والثلاثون

  ( اللهُ نُورُ السَّمواتِ وَالاََرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكوة فِيها مِصْباحٌ المِصْباحٌ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوكَبٌ دُرِيّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرة مُبارَكةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الاََمْثالَ لِلنّاسِ وَاللهُ بِكُلّ شَىْءٍ عَلِيم ). (1)

  تفسير الآية
  المشكاة: كوّة غير نافذة، وتُتخذ في جدار البيت لوضع بعض الاَثاث ومنها المصباح وغيره، وربما تكون الكوّة مشرفة على ساحة الدار وتجعل بينها زجاجة، لتحفظ المصباح من الرياح، ولتضيء الساحة والغرفة معاً.
  ومنه حافظة المصباح، وهي ما تصنع على شكل مخروطي توضع على المصباح لتحفظه من الرياح، وفي أعلاها ثقب يخرج منه الدخان، "المصباح" : السراج، وهو آلة يتألف من أُمور أربعة:
  أ: وعاء للزيت، ب: فتيل يشتعل بالزيت، ج: زجاجة منصوبة عليه، د: آلة التحكم بالفتيل.


------------------------------------

(1 ) النور:35.

  الأمثال في القرآن _206 _

  ثمّ إنّ أفخر أنواع الزيوت هو المأخوذ من شجرة الزيتون المغروسة في مكان تشرق عليه الشمس من كل الجوانب حيث تكون في غاية الصفاء وسريعة الاشتعال، بخلاف المغروسة في جانب الشرق أو جانب الغرب، فانّها لا تتعرض للشمس إلاّ في أوقات معينة . قال العلاّمة الطباطبائي:
  والمراد بكون الشجرة لا شرقية ولا غربية، انّها ليست نابتة في الجانب الشرقي، ولا في الجانب الغربي حتى تقع الشمس عليها في أحد طرفي النهار، ويضيء الظل عليها في الطرف الآخر، فلا تنضج ثمرتها، فلا يصفو الدهن المأخوذ منها، فلا تجود الاِضاءة. (1)
إلى هنا تمَّ ما يرجع إلى مفردات الآية، فعلى ذلك فالمشبه به عبارة عن مشكاة فيها مصباح و عليها زجاجة، يوقد المصباح من زيت شجرة الزيتون المغروسة المتعرضة للشمس طول النهار على وجه يكاد زيتها يضىء و لو لم تمسسه نار، لاَنّ الزيت إذا كان خالصاً صافياً يرى من بعيد كأنّ له شعاعاً فإذا مسّتْهُ النار ازداد ضوءاً على ضوء.
  فالمشبه به هو النور المشرق من زجاجة مصباح، موقد من زيت جيد صافٍ موضوع على مشكاة، فانّ نور المصباح تجمعه المشكاة وتعكسه فيزداد إشراقاً. وأمّا قوله في آخر الآية: ( نور على نور ) بمعنى تضاعف النور وأنّ نور الزجاجة مستمد من نور المصباح في إنارتها.
 قال العلاّمة الطباطبائي:


------------------------------------

(1 ) الميزان: 15|124.

  الأمثال في القرآن _ 207 _

  فأخذ المشكاة، لاَجل الدلالة على اجتماع النور في بطن المشكاة وانعكاسه إلى جوِّ البيت، واعتبار كون الدهن من شجرة زيتونة لا شرقية ولا غربية للدلالة على صفاء الدهن و جودته الموَثر في صفاء النور المشرق عن اشتعاله، وجودة الضياءعلى ما يدل عليه كون زيته يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار. واعتبار كون النور على النور للدلالة على تضاعف النور أو كون نور الزجاجة مستمد من نور المصباح. (1)
هذا هو حال المشبه به، و إنّّما الكلام في المشبه أو الممثل له، فقد طبقت كلّ طائفة ذلك الممثل على ما ترومه، وإليك الاَقوال:
  القول الاَوّل: المشبه به هداية الله ، إذ قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية وفي الزجاجة مصباح يتّقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء.
  وأمّا عدم تشبيهها بضوء الشمس مع أنّه أبلغ، فلاَجل انّ المراد وصف الضوء الكامل وسط الظلمة، لاَنّ الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنّما هي الشبهات التي هي كالظلمات، وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات. القول الثاني: المراد من النور: القرآن، و يدل عليه قوله تعالى: ( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبين ). (2)


------------------------------------

(1 ) لميزان: 15|125.
(2 ) المائدة:15.


  الأمثال في القرآن _208 _

  القول الثالث: المراد هو الرسول، لاَنّه المرشد، ولاَنّه تعالى قال في وصفه: ( وسِراجاً مُنِيراً ). (1)
ولعلّ مرجع القولين الاَخيرين هو الاَوّل، لاَنّ القرآن والرسول من شعب هداية الله سبحانه.
  القول الرابع: إنّ المراد ما في قلب الموَمنين من معرفة الشرائع، ويدل عليه انّه تعالى وصف الاِيمان بأنّه نور والكفر بأنّه ظلمة، فقال: ( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للاِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبّهِ ). (2) وقال تعالى: ( لِتُخْرِجَ الناسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّور ) (3). وحاصله انّ إيمان الموَمن قد بلغ في الصفاء عن الشبهات و الامتياز عن ظلمات الضلالات مبلغ السراج المذكور.
  وعلى هذا فالتمثيل مفرداً وهو تشبيه الهداية وما يقرب منها بنور السراج، ولا يجب أن يكون في مقابل كل ما للمشبه به من الاَُمور موجود في المشبه بخلاف الوجه التالى.
  القول الخامس: إنّ المراد هو القوى المدركة ومراتبها الخمس، وهي: القوة الحسّاسة، القوة الخيالية، القوة العقلية، القوة الفكرية، القوة القدسية.
  وإليها أشارت الآية الكريمة: ( وَكَذلِكَ أَوحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنتَ تَدري ما الكِتابُ وَلا الاِِيمانُ ولكِن جعلناهُ نُوراً نهدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادنا ).(4) فإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار ، إذ بها تظهر أصناف


------------------------------------

(1 ) الاَحزاب:46.
(2 ) الزمر:22.
(3 ) إبراهيم:1.
(4) الشورى: 52.


  الأمثال في القرآن _209 _

  الموجودات، و هذه المراتب الخمس يمكن تشبيهها بالاَُمور الخمسة التي ذكرها الله تعالى، و هي: المشكاة، والزجاجة، والمصباح، والشجرة، والزيت. وعلى هذا فالتمثيل مركباً نظير القول الآتى:
  القول السادس: إنّ النفس الاِنسانية قابلة للمعارف والاِدراكات المجردة، ثمّ إنّه في أوّل الاَمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف، فهناك تسمى عقلاً هيولانياً، وهي المشكاة.
  وفي المرتبة الثانية يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية. ثم إن أمكنه الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة، وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت، وإن كانت شديدة القوة فهي الزجاجة التي كأنّها الكوكب الدرّي، وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للاَنبياء فهي التي ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ).
  وفي المرتبة الثالثة يكتسب من العلوم الضرورية العلوم النظرية، إلاّ أنّها لا تكون حاضرة بالفعل، ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه، وهذا يسمّى عقلاً بالفعل وهو المصباح.
  وفي المرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف حاصلة بالفعل، وهذا يسمّى عقلاً مستفاداً، وهو نور على نور، لاَنّ الحكمة ملكة نور و حصول ما عليه الملكة نور آخر. ثم إنّ هذه العلوم التي تحصل في الاَرواح البشرية، إنّما تحصل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار.
 القول السابع: إنّه سبحانه شبّه الصدر بالمشكاة، والقلب بالزجاجة، والمعرفة بالمصباح، وهذا المصباح إنّما يوقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة. وإنّما شبّه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم، ولكنّه وصفها

  الأمثال في القرآن _ 210_

  بأنّها لا شرقية ولا غربية لاَنّها روحانية، ووصفهم بقوله: ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) لكثرة علومهم وشدة اطّلاعهم على أسرار ملكوت الله تعالى. القول الثامن: إنّ المراد من ( مثل نوره ) ، أي مثل نور الاِيمان في قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صلب عبد الله ، والزجاجة نظير جسد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، و المصباح نظير الاِيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه.
  القول التاسع: إن"المشكاة" نظير إبراهيم (عليه السلام ) ،والزجاجة نظير إسماعيل (عليه السلام ) ، والمصباح نظير جسد محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، والشجرة النبوة والرسالة.
  القول العاشر: إنّ قوله: ( مثل نوره ) يرجع إلى الموَمن. (1)
إنّ المشبه هو نور الله المشرق على قلوب الموَمنين، والمشبه به النور المشرق من زجاجة، وقوله سبحانه: ( يَهدي الله لنوره من يشاء ) استئناف يعلّل به اختصاص الموَمنين بنور الاِيمان والمعرفة وحرمان غيرهم، ومن المعلوم من السياق انّ المراد بقوله: ( من يشاء ) هم الذين يذكرهم الله سبحانه بقوله بعد هذه الآية : ( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله ) (2) فالمراد بمن يشاء الموَمنون بوصف كمال إيمانهم.والمعنى انّ الله إنّما هدى المتلبسين بكمال الاِيمان إلى نوره دون المتلبسين بالكفر. (3) وقوله : ( يضرب الله الاَمثال للناس والله بكلّ شيء عليم ) إشارة إلى أنّ المثل المضروب تحته طور من العلم، وإنّما اختير المثل لكونه أسهل الطرق لتبين الحقائق والدقائق، ويشترك فيه العالم والعامي فيأخذ منه كلّ ما قسم له، قال تعالى: ( وَتِلْكَ الاََمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاّ العالِمُون ). (4)


------------------------------------

(1 ) تفسير الفخر الرازى: 23|231ـ 235.
(2 ) النور:37.
(3 ) الميزان: 18|125ـ 126.
(4 ) العنكبوت:43


* سورة التوبة 17 التمثيل السابع عشر
* سورة يونس 18 التمثيل الثامن عشر
* سورة هود 19 التمثيل التاسع عشر
* سورة الرعد 20 التمثيل العشرون
* سورة الرعد 21 التمثيل الواحد والعشرون
* سورة إبراهيم 22 التمثيل الثاني والعشرون
* سورة إبراهيم 23 التمثيل الثالث والعشرون
* سورة إبراهيم 24 التمثيل الرابع والعشرون
* سورة إبراهيم 25 التمثيل الخامس والعشرون
* النحل 26 التمثيل السادس والعشرون
* النحل 27 التمثيل السابع و العشرون
* النحل 28 التمثيل الثامن والعشرون
* النحل 29 التمثيل التاسع والعشرون
* النحل 30 التمثيل الثلاثون
* الاِسراء 31 التمثيل الواحد والثلاثون
* الكهف 32 التمثيل الثاني والثلاثون
* الكهف 33 التمثيل الثالث والثلاثون
* الحج 34 التمثيل الرابع و الثلاثون
* النور 35 التمثيل الخامس والثلاثون
Copyright © 2018 bascity Network, All rights reserved
                   BASRAHCITY.NET