• يوم الخروج من مكة
  • لماذا الخروج من مكة أيام الحج
  • لماذا حمل الإمام الحسين عليه السلام النساء والأطفال معه ؟
  • لماذا العراق ؟
  • أحداث الكوفة
  • مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)
  • وصول مسلم (رضي الله عنه) إلى الكوفة
  • النعمان بن بشير
  • مسلم (رضي الله عنه) والمجتمع الكوفي
  • النتائج السياسية لحركة مسلم (رضي الله عنه) في الكوفة
  • عبيد الله بن زياد
  • تولي عبيد الله بن زياد إمارة الكوفة
  • مسلم (رضي الله عنه) والدعوة السرية
  • قتل وحبس رجال المعارضة والتجسس على مسلم (رضي الله عنه)
  • ابن زياد في منزل هانئ بن عروة
  • ابن زياد يعتقل هانئ بن عروة
  • استشهاد عبد الله بن بقطر
  • قيام مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)
  • مسلم (رضي الله عنه) في الكوفة وحيداً
  • مسلم (رضي الله عنه) في دار طوعة
  • الليلة الأخيرة لمسلم (رضي الله عنه)
  • اعتقال مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)
  • استشهاد مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)
  • الكوفة بعد مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)
  • الإمام الحسين عليه السلام في طريق كربلاء
  • الإمام الحسين عليه السلام يعلم بمقتل مسلم (رضي الله عنه)
  • جيش الحر الرياحي يجعجع بالركب الحسيني
  • الإمام الحسين عليه السلام يوضح تكليف الأمة
  • أرض كربلاء
  • خرائط المسير

    يوم الخروج من مكة

      وصلت رسالة مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) إلى الإمام الحسين عليه السلام قبل أن يقتل ويستشهد بسبعةٍ وعشرين يوماً، وفيها الرد الذي انتظره الإمام الحسين عليه السلام قبل التوجه إلى الكوفة مع قيس بن المسهّر، وفيها:
      "أما بعد، فإن الرائد لا يُكذّّّّّب أهله إن جمع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام" وعلى ضوء رسالة مسلم (رضي الله عنه) عقد الإمام عليه السلام عزمه على التوجه إلى الكوفة، وقد كتب إليهم رسالته الثانية:
      "وقد شخصتُ إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجة يوم التروية" وحملها قيس بن المسهّر إلى الكوفة، ولكنه قبض عليه أثناء هذه السفارة في الطريق فمزق الرسالة حتى لا يقرأها عبيد الله بن زياد قبل أن يقتله .

    لماذا الخروج من مكة أيام الحج

      شعر الإمام عليه السلام بسعي السلطة الحثيث لقتله، حتى وإن استباحوا بدمه حرمة البيت العتيق، وبذلك تستطيع السلطة طمس الحقيقة بالإشاعات الكاذبة التي يبثها يزيد بن معاوية، وتكون أهداف رحلة الإمام عليه السلام من المدينة إلى مكة ذهبت سُدى، ودخل الإمام عليه السلام في إحرام العمرة ابتداءً ولم يُحرم للحج، لعلمه بأن الظالمين سوف يصدونه عن إتمام حجه!.
      وتؤكد طبيعة وتاريخ الخطبة الأولى للإمام عليه السلام أن خروجه بالركب الحسيني من مكة لم يكن سراً، والركبُ كان كبير نسبياً خصوصاً بعد التحاق جميع بنو هاشم من المدينة والأنصار والموالين والبصريين، والجميع على أهبة واستعداد لكل احتمال، في وقت لم يكن من مصلحة السلطة مواجهة الإمام عليه السلام مواجهة حربية علنية في مكة أو أطرافها، لأنها تعلم ما له عليه السلام من مكانة سامية وقدسية بالغة في قلوب جموع الحجيج الذين كان لا يزالون آنذاك في مكة .
      وقد حاول عمرو بن سعيد بن العاص منعه من الخروج ابتداءً قائلاً لشرطته:"اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلبوه!"، وهذا يدل على أن خروج الإمام عليه السلام من مكة كان معناه انفلات الثورة الحسينية من طوق الحصار الذي سعت إليه السلطة الأموية في المدينة ابتداءً ثم مكة .
      ولكن مع تفاقم الأمور أمر شرطته بالانسحاب والسماح للإمام عليه السلام بالمغادرة العاجلة خوفاً من انقلاب الأمور لصالح الإمام عليه السلام .
      ولكن من المؤكد أيضاً أن الركب قد خرج ليلاً .

    لماذا حمل الإمام الحسين عليه السلام النساء والأطفال معه ؟

      عند خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكة، جاء إليه أخوه محمد بن الحنفية وأخذ بزمام ناقته، قائلاً له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟! فأجابه الإمام عليه السلام :"بلى"
      قال محمد: فما حداك على الخروج عاجلاً ؟
      فقال الإمام عليه السلام :"أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله بعدما فارقتك، فقال: يا حسين، أخرج فإن الله شاء أن يراك قتيلا!"
      فقال محمد بن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنتَ تخرج على مثل هذه الحال ؟
      فقال الإمام عليه السلام :قد قال لي: إن الله شاء أن يراهن سبايا."
      لقد علل الإمام عليه السلام حمله لأهله ونسائه معه، بأن ذلك تحقيق لمشيئة الله تعالى، وقد أشار إلى ذلك في المدينة مع محاورته لأم سلمة:
      "يا أماه، قد شاء الله عز وجل أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء الله أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين" وأراد الله لهذا الركب النسائي أن يكون المسيرة الإعلامية التبليغية الكبرى من بعد الإمام عليه السلام ، إذ لولاها لما كان يمكن للثورة الحسينية أن تحقق كامل أهدافها في عصرها وفي ما بعدها من العصور.
      إذن فحمل الإمام عليه السلام لودائع النبوة من ضرورات نجاح الثورة الحسينية، وكان لا بدّ أن يقوم بذلك حتى لو لم يكن هناك احتمال لتعرض هذه الودائع النبوية للأذى والسجن إذا بقين في المدينة أو مكة وهذا الاحتمال ورد بقوة ، وكان يوم خرج الإمام عليه السلام من مكة الثامن من ذي الحجة.

    لماذا العراق ؟

      لقد أعلن الإمام عليه السلام لأهل بيته وشيعته عن قصده النهائي في الخروج إلى أرض العراق وهو في المدينة لمّا يخرج عنها بعد، ويُستفاد من هذه الحقيقة على صعيد التحليل التاريخي، إضافة إلى البعد الإعتقادي الحاكي عن أن الإمام عليه السلام كان يعلم بكل تفاصيل ما يجري عليه بعلمٍ إلهي لكونه إماماً. ومع دراسته السياسية الاجتماعية كان يرى أن العراق أفضل أرض يختارها مسرحاً للمواجهة وللمعركة الفاصلة بينه وبين السلطة، فقد كانت الكوفة بمثابة العاصمة الحقيقية للعالم الإسلامي، لما كانت تمثله من مركز الثقل العسكري الأبرز، التي هي المنطلق إلى حروب الفتح والمستقر، وكانت الأحداث التي تقع فيها تلقي بظلالها على العالم الإسلامي كله .

    أحداث الكوفة

      كان الكوفيون يكاتبون الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام باذلين له الطاعة ويدعونه إلى القيام والنهضة ضد السلطة.
       حتى إذا ما بلغهم تسلّم يزيد إمارة المسلمين كاتبوا الإمام عليه السلام وبايعوه، ومن رسائلهم:"إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فأقدم علينا فنحن في مئة ألف، وقد فشى الجور، وعمل فينا بغير كتاب الله وسنة نبيه، ونرجو أن يجمعنا الله بك على الحق، وينفي عنا بك الظلم، فأنت أحق بهذا الأمر من يزيد الذي غصب الأمة فيئها، وشرب الخمر ولعب بالقرود والطنابير، وتلاعب بالدين".
      لكن الصادقين منهم قليل، إذ كان الشلل النفسي ومرض ازدواج الشخصية وحب الدنيا وكراهية الموت قد تفشى في حياتهم، إضافة إلى رسائل المنافقين والذين في قلوبهم مرض والتي أرسلت إلى الإمام عليه السلام لتبايعه مدعين الطاعة له والاستعداد لنصرته ، فأرسل الإمام الحسين عليه السلام سفيره مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) ليهيئ له قاعدة النهضة، حتى إذا ما لمس صدقهم توجه إليه ملبياً دعوتهم .

    مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)

      مسلم بن عقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه)، من أصحاب الإمام علي والحسنين عليه السلام وجنده، تزوج من رقية بنت الإمام علي‏ عليه السلام.
      يذكر أن الإمام علي عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وآله:
      "يا رسول الله إنك لتحب عقيلاً ؟"
      فأجاب النبي صلى الله عليه وآله:
      "حباً له، وحباً لحب أبي طالب له، وأن ولده مقتول في محبة ولدك..."
      وكان مسلم (رضي الله عنه) مثالاً سامياً في الأخلاق الإسلامية، وفي الشجاعة والجرأة والبأس خاصة، وكان من شدة بأسه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت.

    وصول مسلم (رضي الله عنه) إلى الكوفة

      وصل مسلم (رضي الله عنه) إلى الكوفة في 5 شوال، والتزاماً بوصية الإمام الحسين عليه السلام ، كان لا بدّ من نزوله "عند أوثق أهلها"الذي لا يمكن تحديده على وجه اليقين، إلا أن الراجح أنه نزل في دار عوسجة ولعلها هي دار الشهيد مسلم بن عوسجة أو دار والده، وروي أنه نزل في دار المختار.
      والظاهر أن المراد نزوله في الدار التي عرفت فيما بعد بدار المختار.

    النعمان بن بشير

      كان والي الكوفة حين دخلها مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) النعمان بن بشير وهو من (الأنصار)، وله ولأبيه تاريخ أسود في خدمة الحكم الأموي، وقد ظلّ مناوئاً لأهل بيت النبوة عليهم السلام حتى مات .
       وكان النعمان يجاهر ببغض الإمام علي عليه السلام ويسيء القول فيه وحاربه وقاد بعض الحملات الإرهابية على بعض المناطق العراقية الموالية لأهل البيت عليهم السلام .
      ومن أسباب تراخي موقف النعمان إثر دخول مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) إلى الكوفة، تبنيه لسياسة معاوية الذي كان يتحاشى المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام وليس ذلك حباً بالإمام‏ عليه السلام وإنما لدهاء معاوية ، لذا فإن موقف النعمان من الثوار ومن بوادر الثورة إنما اتسم ظاهرياً باللين والتسامح، لأنه كان يرى، إيماناً بنظرة معاوية، أن المواجهة العلنية ليست في صالح الحكم.

    مسلم (رضي الله عنه) والمجتمع الكوفي

      أقبلت الشيعة إلى مسلم (رضي الله عنه) تختلف إليه، فكلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الإمام الحسين عليه السلام وهم يبكون:
      "فقوموا مع ابن عمي وبايعوه وانصروه ولا تخذلوه".
      وتتابعت اجتماعات الشيعة مع مسلم (رضي الله عنه) فبايعه من الناس ثمانية عشر ألفاً، وهم يبكون ويقولون:"والله لنضربن بين يديه بسيوفنا حتى نموت جميعاً".
      وفي الاجتماع الأول لمسلم (رضي الله عنه) مع المبايعين، برزت ظاهرة ثابتة من ظواهر المجتمع الكوفي، وهي ظاهرة وجود القلة من المؤمنين الصادقين المتحررين من الشلل النفسي ومرض الازدواجية وحب الدنيا وكراهية الموت، فعلى الرغم من كثرة المبايعين لم يقم إلا ثلاثة أظهروا لمسلم (رضي الله عنه) استعدادهم التام للتضحية في سبيل الإسلام، ومنهم عابس بن أبي شبيب الذي قال لمسلم (رضي الله عنه) بعد الحمد لله والثناء عليه:"فإني لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرك منهم، والله أحدثك عمَّا أنا موطن نفسي عليه، والله لأجيبنَّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ‏َ معكم عدوكم، ولأضربَّن بسيفي دونكم حتى ألقى الله".
      ثم قام حبيب بن مظاهر (رضي الله عنه) فقال:"رحمك الله، وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه".
      ثم قال سعيد بن عبد الله الحنفي (رضي الله عنه) بمثل ما قال عابس وحبيب.
      أما الظاهرة الثانية التي ظهرت في هذا الاجتماع وهي أكبر وأوضح ظواهر المجتمع الكوفي، وهي الفئة التي تحب الحق وتكره أن تضحي من أجله.
      ولما رأى مسلم (رضي الله عنه) مبايعة الناس، كتب الإمام الحسين‏ عليه السلام الذي علّق عزمه في التوجه إلى الكوفة على تقرير مسلم (رضي الله عنه) ، وطلب إليه القدوم، وبعث الكتاب مع قيس بن مسهّر الصيداوي وأصحبه عابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذباً مولاه .

    النتائج السياسية لحركة مسلم (رضي الله عنه) في الكوفة

      لمّا رأى النعمان بن بشير استقبال أهل الكوفة الكبير لمسلم وحفاوتهم البالغة به، خطب في الناس يحذرهم من إثارة الفتنة والفرقة وشق عصا الأمة.
      وإزاء ذلك كانت جواسيس يزيد ترفع إليه تقاريرها عن ضعف موقف واليها النعمان في مواجهة التحولات الناشئة عن تواجد مسلم (رضي الله عنه) فيها، في وقتٍ كانت الكوفة ظاهرياً، قد سقطت سياسياً وعسكرياً أو تكاد في يد سفير الإمام الحسين عليه السلام ، ولم يبق دون أن يتحقق ذلك إلا أن يأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) بالثورة والتغيير، لكن مسلم (رضي الله عنه) التزم بحدود صلاحيته التي رسمها له الإمام الحسين عليه السلام.
      لم يكد يزيد يعرف بمجريات الكوفة حتى انتابه الذعر الشديد لما تحمله هذه المدينة من تاريخ معارض للحكم الأموي، فأسرَّ له سرجون الرومي بما كاد أن يفعله معاوية قبل أن يدركه الموت، وهو عهد الكوفة لعبيد الله بن زياد، الرجل الذي يستطيع ببطشه أن يلجم ثورة الناس الخائفة أصلاً، وبذلك الكتاب الذي احتفظ به سرجون من معاوية وأبرزه ليزيد ، استطاع يزيد تجاوز كرهه الشديد لعبيد الله بن زياد، وكتب إليه بعهد الكوفة على عجل.
      وإذا كان سرجون صادقاً في نسبة الكتاب إلى معاوية فهو قرينة على تخطيط معاوية لقتل الإمام الحسين عليه السلام ، أما إن كان سرجون قد وضع الكتاب ونسبه إلى معاوية فهو دليل على مدى تدخل الرومي في مصير المسلمين.

    عبيد الله بن زياد

      ولد سنة 20هـ، أمه مرجانة المجوسية، وأبوه زياد بن أبيه الذي بطش أشد البطش بإتباع أهل البيت عليهم السلام بعد أن كان يتعاطف معهم، فانقلب ضدهم إثر استلحاق بني سفيان له، ولاه معاوية على خراسان سنة 54هـ، ثم البصرة سنة 55هـ، كان قبيح السريرة من الأُكّل لا يشبع، فاسقاً ظالماً جباناً. تربى في ظل الاعتزاز بالبيت السفياني وأجج فيه وهم هذا الانتساب نيران حقده الشديد على أهل البيت عليهم السلام.
      وعندما خرج الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة، كتب يزيد لعبيد الله:"إنه بلغني أن حسيناً سار إلى الكوفة وقد أبتلي فيه زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت به من بين العمال، وعنده تعتق أو تعود عبداً". وظلّ عبيد الله يبرر قتله للإمام الحسين عليه السلام بأن يزيد هدده بسحب النسب منه ، لما مات يزيد أغرى عبيد الله بعض البصريين أن يبايعوه ثم جبن عن مواجهة الناس، فاستتر ثم هرب إلى الشام، قُتل على يد إبراهيم بن مالك الأشتر، بضربةٍ قدّه بها نصفين في يوم عاشوراء سنة 67هـ.

    تولي عبيد الله بن زياد إمارة الكوفة

      قُبيل انطلاق عبيد الله إلى الكوفة، عرف عبيد الله بأمر رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى البصريين، والتي يدعوهم فيها للانضمام إليه في قيامه وتأييده، فقتل رسول الإمام عليه السلام سليمان بن رزين، ثم صعد إلى منبر البصرة وقلبه يرتعد خيفة من استجابة أهلها لنداء الإمام عليه السلام ، فألقى خطاباً مليئاً بالتهديد والوعيد، محذراً من الخلاف، معلناً أنه ولّى عليهم عثمان أخيه.
      وأقبل إلى الكوفة ومعه جماعة من أهل بيته في جيش، ودخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو ملثم، فكان لا يمر بجماعة إلا ظنّوا أنه الإمام الحسين عليه السلام فيقومون له ويدعون له ويقولون:"مرحباً بابن رسول الله قدمت خير مقدم"، فما أن دخل القصر علم الناس أنه ابن زياد.
      بعد أن هدأت أنفاس ابن زياد، أمر الناس بالاجتماع في المسجد وقد نودي للصلاة جماعة. فلمّا اجتمع الناس، خرج إليهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال:"أما بعد، فإن أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم و مطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فإنا لمحسنكم و مطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي".
      وطلب إلى العرفاء أن يكتبوا إليه الغرباء من أهل الكوفة، ومن فيهم من طلبة يزيد، وكانت العرافة من وظائف الدولة المعروفة لمعرفة الرعية وتنظيم عطائهم من بيت المال، وقد كان في الكوفة مائة عريف، واعتمدت الدولة على العرفاء بتنظيم السجلات العامة التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال، ولعب العرفاء دوراً مهماً في دفع الناس إلى التفرق عن مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) وإشاعة الإرهاب بينهم، كما كانوا السبب الفعّال في زج الناس لحرب الإمام الحسين عليه السلام .

    مسلم (رضي الله عنه) والدعوة السرية

      بعد قدوم عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، والياً عليها من قبل يزيد وحصول التطورات السريعة المتلاحقة التي أدت إلى ضرورة تحول عمل مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) من حالة العلانية إلى السر، اضطر إلى تغيير مقره، فخرج من الدار التي كان فيها حتى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المرادي.
      وهانئ من أشراف الكوفة وأعيان الشيعة ومن رؤسائها، وشيخُ مراد وزعيمها، وقيل أنه أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وتشرف بصحبته، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ على تستر من عبيد الله وقد تواصوا بالكتمان، وكان هانئ يجمع لمسلم السلاح والرجال .

    قتل وحبس رجال المعارضة والتجسس على مسلم (رضي الله عنه)

      لما اطلع ابن زياد على مكاتبة أهل الكوفة للإمام الحسين‏ عليه السلام ومبايعتهم حبس أربعة آلاف وخمسمائة رجل من التوابين من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وأبطاله الذين جاهدوا معه، منهم إبراهيم بن مالك الأشتر، وعبد الله بن الحارث، وسليمان بن صرد الخزاعي والعديد من الأعيان والأشراف الموالين، وأمر أن يطلب المختار الثقفي وعبد الله بن الحارث فأُتيَ بهما وحبسهما، وقتل ميثم التمّار الذي كان له منزلة خاصة عند أهل البيت عليهم السلام .
      ودس الجواسيس في أزقة وبيوت الكوفة للبحث عن ابن عقيل، ودعا مولى له يقال له معقل، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ليطلب مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) ويلتمس أصحابه، حتى إذا ظفر بواحد منهم أو جماعة أعطاهم المال ليستعينوا بها على حرب عدوهم [أي عبيد الله].
      ففعل معقل ما أُمر به، وجاء إلى المسجد الأعظم وجلس بالقرب من مسلم بن عوسجة الأسدي وهو يصلي بعد أن سمع بعض القوم يشيرون إليه ويقولون انه يبايع الحسين عليه السلام ، فلما فرغ ابن عوسجة من صلاته أخبره معقل أنه من أهل حمص وقد منّ الله عليه بحبّ أهل البيت عليهم السلام وتباكى ثم أعطاه المال قائلاً:"أردتُ بها لقاء رجل من آل البيت عليهم السلام بلغني انه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلم أجد أحداً يدلني عليه، ولا أعرف مكانه، وسمعتُ نفر من المؤمنين يشيرون إليك انك على علاقةٍ به".
      أنكر ابن عوسجة ذلك بادئ الأمر، ولما أبدى معقل تفانيه في حب الإمام الحسين عليه السلام ، أخذ منه مسلم المواثيق المغلظة، وأخبره بأنه سيطلب له الإذن من ابن عقيل لأخذ البيعة، فأُذن له، وأمر مسلم بأخذ الأموال لشراء السلاح، وكان معقل في مجلس مسلم أول الداخلين وآخر الخارجين لنقل الأخبار لابن زياد شيئاً فشيئاً .

    ابن زياد في منزل هانئ بن عروة

      في الوقت الذي كان فيه مسلم في بيت هانئ، مرض شريك ابن الأعور وهو من رجال البصرة شديد الموالاة لأهل البيت‏ عليهم السلام ، وقد أتى الكوفة مع عبيد الله بن زياد، فما مكث إلا جمعة حتى مرض، فنزل دار هانئ بن عروة.
      فأرسل إليه عبيد الله انه آت لعيادته، فقال شريك لمسلم:"إن هذا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاخرج إليه واقتله، ثم اقعد في القصر، ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برئت من وجعي سرتُ إلى البصرة حتى أكفيك أمرها".
      فلما كان من العشاء أتاه عبيد الله فقام مسلم ليدخل، فقال لشريك: لا يفوتنك إذا جلس!
      فقال هانئ بن عروة: لا أحب أن يقتل في داري!
      فجاء عبيد الله وجلس فسأل شريكاً عن مرضه، فأطال، فلمّا رأى شريك أن مسلماً لا يخرج خشي أن يفوته، فأخذ يقول:
      ما الانتظار بسلمى أن تحيوها حيوا سُليمى وحيوا من يحييها فقال ذلك مرتين أو ثلاثاً، فسأل عبيد الله عن شأنه ظاناً أنه يخلط! فقال له هانئاً: نعم، ما زال هذا دأبه قُبيل الصبح حتى ساعته هذه! فانصرف .
      وقيل: إن شريكاً لما ردد الشعر فطن به مهران مولى عبيد الله المقرب والمعتمد، فغمز عبيد الله فوثب، فقال له شريك: أيها الأمير إني أريد أن أوصي إليك، فقال عبيد الله: أعود إليك. وقال له مهران: إنه أراد قتلك، فقال ابن زياد: وكيف مع إكرامي له ؟ وفي بيت هانئ. فقال مهران: هو ما قلت لك .
      فلما قام ابن زياد خرج مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) ، فقال له شريك: ما منعك من قتله .
      قال مسلم:"لكراهية هانئ أن يُقتل في منزله".
      والسبب الاخر أيضاً لعدم قيام مسلم بقتل عبيد الله، هو تمسك أهل البيت عليهم السلام بالحق والصدق ونبذ الغدر والمكر حتى عند الضرورة، ولم يكن يدور ببال أي مراقب انذاك أن بالإمكان طرد عبيد الله بن زياد من الكوفة في أي لحظة، وما حصل كان خارج كل الحسابات في بيان يطول شرحه ، أما شريك فما لبث أن توفى بعد ثلاثة أيام.

    ابن زياد يعتقل هانئ بن عروة

      كان هانئ بن عروة المرادي لفطنته السياسية والاجتماعية يتوقع ما يحذره من عبيد الله بن زياد برغم التستر والخفاء الذي كانت تتم في ظلها اجتماعات مسلم (رضي الله عنه) مع مريديه واتباعه في بيته، وبرغم التواصي بالكتمان، ذلك لأن هانئ كان يعلم أن الهم الأكبر لأبن زياد هو معرفة مكان ومقر مسلم، فتمارض هانئ بعد وفاة شريك وامتنع عن الذهاب إلى القصر، فافتقده ابن زياد، وأرسل بطلبه عمرو بن الحجاج (وهو ممن كاتب الإمام‏ عليه السلام) وله ابنة زوجة لهانئ، وحسان بن خارجة ومحمد بن الأشعث لعيادته وجلبه، فرافقهم هاني‏ء على مضض، وقبيل الوصول إلى القصر أسرّ هانئ لحسان عن قلقه من هذا الطلب، فطمأنه حسان الذي لم يكن يعلم لأي شي‏ء بعث إليه ابن زياد.
      دخل هانئ على عبيد الله وعنده شريح القاضي وبعض القوم، فطالبه عبيد الله بأمر مسلم بن عقيل، فأنكر هانئ معرفته بمكان وجود مسلم، فدعا عبيد الله بمعقل فجاء حتى وقف بين يديه وأخبره كل ما راه في بيت هانئ .
      وجرى نقاش حاد بين هانئ وعبيد الله أدى إلى قيام عبيد الله بضرب هانئاً على وجهه.
      في هذا الوقت عرفت قبيلة مذحج بما جرى على سيدها فجاءت فرسانها وأحاطت بالقصر، مطالبةً بالإفراج عن هانئ، فخرج إليهم عمر بن الحجاج بعد مداولة مع ابن زياد وشريح القاضي، واخبرهم أن سيدهم بخير وان (الأمير) لا يريد به سوءاً وطلب إليهم الانصراف ففعلوا .
      وهنا برز الدور الخياني الكبير لعمر بن الحجاج بهانئ إذ كان هو السبب الأساس في منع إنقاذ هاني‏ءً من الأسر وعدم تعرضه لسوء، وبقي موالياً لعبيد الله حتى بعد قتل هانئ، الذي رماه عبيد الله من أعلى القصر بعد قطع رأسه.

    استشهاد عبد الله بن بقطر

      لما أحسّ مسلم بن عقيل بخذلان أهل الكوفة له، أرسل كتاباً للإمام الحسين عليه السلام مع عبد الله بن بقطر يخبره بما انتهى إليه الأمر من تفرّقٍ وخذلان، ولكن الحصين بن نمير ألقى القبض عليه وهو يخرج من الكوفة، وجاء به إلى عُبيد الله بن زياد الذي أمر بأن يُلقى عن سطح قصر الإمارة.

    قيام مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)

      كان اعتقال هانئ في حسابات ابن زياد الخطوة الثانية الناجحة بعد خطوته الأولى في اختراق الحركة الثورية من داخلها، أما في حسابات مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) فقد مثّل منعطفاً حرجاً وخطيراً اضطره للخروج عن خط السير المرسوم في الأصل، وألجأه إلى قرار استثنائي، إذ أنه أصبح أمام خيارين لا ثالث لهما :
      الأول: البقاء في مواصلة التعبئة والإعداد، على الرغم من عدم القدرة على ذلك، لأن ابن زياد قد اعتقل هانئ الذي هو من أبرز وأقوى وأمنع الشخصيات الكوفية من الناحية القبلية فضلاً عن وجاهته الاجتماعية والدينية ، ما يعني أن أي شخصية أخرى ستحتضن ابن عقيل سيتم اعتقالها.
      الثاني: التحرك قبل استكمال الشرائط، تحت قهر الضرورة والاضطرار، لمواجهة حاسمة مع السلطة المحلية.
      فعقد مسلم لرؤوس الأرباع على القبائل: كندة، مذحج، تميم، وأسد، ومضر، وهمدان، وتداعى الناس واجتمعوا عنده، فأقبل مسلم ومن معه حتى مشارف القصر، وقيل أن العدد كان أربعة الاف، ولكن من وصل القصر مع مسلم ثلاثمائة رجل لا غير!
      حينئذٍ طلب ابن زياد إغلاق باب القصر عليه وعلى من كان معه من أشراف الناس وشرطته وأهل بيته وكانوا بمقدار مئتي رجل، فقاموا على سور القصر يرمون مسلم ومن معه بالمدر والنُشاب.
      و فيما كانت رحى الحرب دائرة أمام القصر بقيادة مسلم ابن عقيل (رضي الله عنه) ، قبع ابن زياد في القصر فيه خائفاً يفكر في الحيلة التي ستنقذه من هذا الموقف.
      فسخّر الأشراف الذين كانوا معه وأمرهم بتخذيل الناس عن نصرة مسلم، فنزل كثير بن شهاب الحارثي لقبيلة مذحج يخوفهم ويحذرهم عقوبة السلطان، ومحمد بن الأشعث لمن أطاعه من قبيلة كندة وحضرموت ورفع راية الأمان لمن جاءه من الناس، وتم اعتقال بعض الوجوه البارزة مثل عبد الأعلى بن يزيد وعمارة بن صلخب داخل القصر.
      علم مسلم (رضي الله عنه) أن مجموعات ابن زياد أخذت تخذّل الناس عنه، وتعتقل المجاهدين المقبلين إليه لنصرته في أزقة الكوفة، وقد دحرت قوات مسلم على قلتها كل المجاميع التي أخرجها ابن زياد لرفع رايات الأمان ولتخذيل الناس، وعادوا جميعهم إلى القصر على عجل.
      وعلى الرغم من أن مسلم (رضي الله عنه) ربح المعركة الأولى حول القصر إلا أنه لم يقتحمه :
      1 ـ لأن القصر كان محصنا بطريقة تمكنه من الصمود لمدة طويلة جداً تتجاوز عدة أشهر كما حصل أيام المختار.
      2 ـ شعور مسلم (رضي الله عنه) بخذلان القوم له من خلال تفرقهم عنه وهو يتوجه إلى القصر، إذ انطلق بأربعة آلاف ووصل بثلاثمائة !
      3 ـ عودة قبيلة مذحج وبقاء هانئ رهينةً في القصر كان له أثر سيئ بعد أن اجتمعت القبيلة لاستنقاذه ثم تخليها عنه، إذ رأى الناس أن أقوى قبيلة في الكوفة لم تستطع فعل شي‏ء لإطلاق سراح سيدها .
      4 ـ عدم قدرة قوات مسلم الموجودة في أطراف الكوفة للالتحاق به، مثل اللواء الذي جاء به المختار)قبل اعتقاله(، ولواء عبد الله بن حارث، إلا بعد تفرق الناس عن مسلم فادعى المختار حينئذٍ بأنه جاء لحماية ابن حريث، عندها أمر ابن زياد باعتقاله وزجه في السجن.
      ولما اطمأن ابن زياد إلى تفرق الجموع عن مسلم (رضي الله عنه) إذ كان الرجل من أهل الكوفة يأتي ابنه وأخاه وابن عمه فيقول:"انصرف فإن الناس يكفونك"، وتجي‏ء المرأة إلى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلق به حتى يرجع، ويقول بعضهم لبعض" ما نصنع بتعجيل الفتنة، غداً تأتينا جموع من جيش الشام، ينبغي أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتى يُصلح الله ذات بينهم". وكان لكلمة (جيش الشام) أو (جند الشام) أثر رهيب في روع جُل أهل الكوفة لما ذاقوه من ويلات ومرارات على يد ذلك الجيش.
      ثم خرج عبد الله ابن زياد وأصحابه إلى المسجد فجلسوا قبيل العتمة، ونادى عمرو بن نافع:"ألا برئت الذمة من رجلٍ من الشرطة و العرفاء والمناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد"، فلم يكن إلا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس فأقام عبيد الله الصلاة ثم خطب بالناس وهدد من يجد عنده مسلم بالقتل ومن جاء به بدية، وأمر حصين بن نمير بالبحث في الدور حتى يجده .

    مسلم (رضي الله عنه) في الكوفة وحيداً

      كان من الطبيعي أن يتخلف الناس في الكوفة عن مسلم (رضي الله عنه) ، ذلك انه لم يكن للشيعة فيها وهم من قبائل شتى خصوصاً في فترة ما بعد الإمام الحسن عليه السلام عميد يرجعون إليه في أمورهم، على الرغم من وجود أشراف ووجهاء متعددون من الشيعة، ولكن كلّ له تأثيره في قبيلته فقط .
      كما أن الوضع الاجتماعي الذي كان يسود الكوفة هو وليد الاضطهاد المرير الذي تعرضوا له فزرع بين الناس على مدى تلك السنين الخوف الشديد من سطوة السلطان وضعف الثقة وقلة الاطمئنان فيما بينهم .
      أمسى ابن عقيل (رضي الله عنه) وصلى المغرب وما معه إلا ثلاثون نفراً في المسجد، فلمّا رأى أنه قد أمسى وما معه إلا أولئك النفر الصفوة، خرج متوجهاً نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب إلا ومعه عشرة، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدله على الطريق.
      ولم يكن تفرق هذه الصفوة فرادى والاختفاء إلا تربصاً بسنوح الفرصة للالتحاق بركب الإمام الحسين عليه السلام القادم إلى العراق، فمسلم هو الذي أمرهم بذلك، إذ أن هذه القلة مؤلفة من صفوة المؤمنين الشجعان الذين وفقوا جميعاً لنيل الشهادة بين يدي الإمام الحسين عليه السلام ، ونذكر منهم، مسلم بن عوسجة، أبا ثمامة الصائدي، عبد الله بن الزبير الكندي، عباس بن جعد الجدلي، عبد الله بن حازم البكري وغيرهم..

    مسلم (رضي الله عنه) في دار طوعة

      مشى مسلم حتى وصل إلى دار طوعة زوجة أسيد الحضرمي، وكانت تنتظر ولدها بلالاً، فطلب إليها مسلم أن تسقيه ماء، فجاءت بالإناء و أسقته ثم دخلت الدار لوضعه، فما أن خرجت ورأت مسلم جالساً على باب الدار قالت له: يا عبد الله ألم تشرب ؟
      قال: بلى.
      قالت: فاذهب إلى اهلك‏.
      فسكت مسلم ثم عادت فقالت مثل ذلك فسكت!
      فقالت له: سبحان الله! يا عبد الله فمر إلى اهلك عافاك الله، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحله لك!!!
      فقام عندئذٍ مسلم وقال: يا أمة الله، مالي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك إلى أجرٍ ومعروف ؟ ولعلي مكافئك به يوم القيامة ؟
      فقالت: يا عبد الله وما ذاك ؟
      فقال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغروني.
      فلما عرفته أدخلته بيتاً غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشَ. ولما جاء ولدها ورآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه سألها عن السبب فتحاشت الإجابة، فلّما ألحّ طلبت إليه أن يكتم بما ستخبره، وأخذت عليه الأيمان فحلف لها، فأخبرته .
      فلما أصبح بلال غدا إلى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث فأخبره بمكان مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) ، ولما عرف ابن زياد أمر ابن حريث أن يبعث معه مائة رجل من قريش، وكره أن يبعث إليه غير قريش خوفاً من العصبية أن تقع!

    الليلة الأخيرة لمسلم (رضي الله عنه)

      كان مسلم بن عقيل قد أبى أن يأكل شيئاً في ليلته الأخيرة، وحرص على أن يُحييها بالعبادة والذكر والتلاوة، فلم يزل قائماً وراكعاً وساجداً يصلي ويدعو ربه حتى الصباح، ولكنه لشدة الإعياء إثر القتال في النهار، أخذته سُنّة من النوم، فرأى في عالم الرؤيا عمه أمير المؤمنين علياً عليه السلام وبشره بسرعة التحاقه بمن مضى منهم في أعلى عليين.
      وجاءت طوعة لمسلم بالماء ليتوضأ عند الفجر.
      قالت: يا مولاي، ما رأيتك رقدت هذه الليلة ؟
      فقال لها: اعلمي إني رقدت رقدةً فرأيت في منامي عمي أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقول: "الوحاء .. الوحاء، العجل ..العجل! وما أظنّ إلا انه آخر أيامي من الدنيا".

    اعتقال مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)

      عند الصباح، سمع مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) وقع حوافر الخيل وزعقات الرجال فعلم انه قد أتي في طلبه، فتقلّد سيفه والقوم يرمون الدار بالحجارة ويلهبون النار في نواحي القصب.
      فتبسم مسلم وقال: "يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس منه محيص ولا عنه محيد!"
      ثم قال لطوعة:
      "أي رحمك الله وجزاك عني خيراً، اعلمي إنما أوتيت من قبل ابنك"
      وفتحت له الباب، ليخرج مسلم (رضي الله عنه) في وجوه القوم كأنه أسد مغضب! فجعل يضاربهم بسيفه حتى قتل منهم جماعة .
      وبلغ ذلك عبيد الله بن زياد، فقال إلى محمد بن الأشعث: سبحان الله يا عبد الله! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به، فأثلم بأصحابك هذه الثلمة!
      فرد محمد بن الأشعث: أيها الأمير أما تعلم أنك بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام!.
      فطلب ابن زياد إلى ابن الأشعث بان يعطي مسلم الأمان ذلك انه لن يقدر على قتاله. فجعل ابن الأشعث يقول لمسلم: ويحك يا ابن عقيل! لا تقتل نفسك، لك الأمان!
      فرد مسلم:
      لا حاجة إلى أمان الغدرة.
      ثم جعل يقاتلهم وهو يقول:
    أقـسمتُ لا أقـتل إلا iiحرا      ولو وجدت الموت كأساً مُراً
      فناداه ابن الاشعث: ويحك يا ابن عقيل، إنك لا تُكذب، ولا تُغر! القوم ليسوا بقاتليك فلا تقتل نفسك!
      فلم يلتفت مسلم إلى كلام ابن الاشعث وجعل يقاتل حتى أثخن بالجراح وضعف عن القتال وتكاثروا عليه فجعلوا يرمونه بالنبل والحجارة .
      فقال مسلم (رضي الله عنه)
      ويلكم، ما لكم ترمونني بالحجارة كما ترمى الكفار؟ وأنا من بيت الأنبياء الأبرار، ويلكم أما ترعون حق رسول الله صلى الله عليه وآله وذريته ؟
      وعاد لقتالهم على ضعفه ففرقهم، فصاح ابن الاشعث بالقوم: ذروه حتى أكلمه بما يريد ، فدنا من مسلم: ويلك يا ابن عقيل، لا تقتل نفسك، أنتَ امن ودمك في عنقي..
      فأجاب مسلم (رضي الله عنه)
      "أتظن يا ابن الاشعث إني أعطي بيدي أبداً وأنا اقدر على القتال، لا والله لا كان ذلك أبداً"
      ثم حمل عليه (رضي الله عنه) فألحقه بأصحابه، وعاد إلى مكانه قائلاً:
      "اللهم إن العطش قد بلغ مني"
      فلم يجسر أحد أن يسقيه الماء، فأقبل ابن الأشعث على أصحابه وقال: ويلكم إن هذا لهو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هو الجزع! احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة..
      فحملوا عليه، وضربه بكير بن حمران الأحمري ضربة على شفته العليا، وردها مسلم إليه بضربة قاتلة، فطعن مسلم (رضي الله عنه) من ورائه وسقط على الأرض فأخذ منه سلاحه وساقوه أسيراً لعبيد الله، فكأنه عند ذلك آيس من نفسه فدمعت عيناه، فقال له عمرو ابن عبيد الله وكان رجلاً حيادياً لا موقف له: إن من يطلب الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبكِ ؟
      فأجابه مسلم (رضي الله عنه)
      "إني والله ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ‏َّّّّ! أبكي لحسين وال الحسين"

    استشهاد مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)

      لما دخل مسلم (رضي الله عنه) على عبيد الله بن زياد قال له الحرس: سلم على الأمير.
      فأجاب مسلم (رضي الله عنه) :
      "اسكت لا أم لك، مالك وللكلام؟ والله ليس هو لي بأمير فأسّلم عليه"
      فقال ابن زياد: لا عليك.. سلمت أو لم تسلم فإنك مقتول..
      فقال مسلم (رضي الله عنه) :
      "إن قتلتني فقد قتل شر منك من كان خيراً مني!"
      ودار جدال طويل بينهما، حتى اتهم عبيد الله مسلماً (رضي الله عنه) بأنه شتت كلمة المسلمين في الكوفة وفرق كلمتهم.
      فأجابه مسلم (رضي الله عنه) :
      "ليس لذلك أتيت هذا البلد، ولكنكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف، وتأمّرتم على الناس من غير رضا، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاها عن المنكر، وندعوهم إلى حكم كتاب الله والسنّة"
      ثم دعا عبيد الله برجلٍ من أهل الشام كان مسلم (رضي الله عنه) قد ضربه على رأسه ضربةً منكرة، وطلب إليه أن يصعد به إلى السطح ليضرب عنقه. فأصعد مسلم (رضي الله عنه) إلى أعلى القصر وهو في ذلك يسبح الله تعالى ويستغفره، ويقول:
      "اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا.."
      فلم يزل كذلك حتى ضرب عنقه ورمي بجسده من أعلى السطح ليكون الشهيد الأول من الهاشميين في النهضة الحسينية، ثم ضرب عنق هانئ بن عروة ورمي بجسده أيضاً من أعلى السطح، ثم قام جلاوزة ابن زياد بسحل الجثتين الشريفتين في السوق، ثم أمر ابن زياد بصلبهما منكسين وعزم أن يوجه رأسيهما إلى يزيد ابن معاوية .
      وانتقم عبيد الله بن زياد من بقية الثوار، فكلما سمع عن رجلٍ كان ملتحقاً بمسلم (رضي الله عنه) كان يطلبه ويضرب عنقه، وزج بالعديد من المجاهدين في السجون.

    الكوفة بعد مسلم بن عقيل (رضي الله عنه)

      كتب ابن زياد تقريره الأمني ليزيد يخبره فيه عن أوضاع الكوفة وفيه؛ أما بعد، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه، وكفاه مؤونة عدوه. أُخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وإني جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتى استخرجتهما وأمكن الله منهما فقدمتهما فضربت أعناقهما، وقد بعث إليك برأسيهما"
      فرد عليه يزيد:"وإنه بلغني أن الحسين بن علي قد توجه نحو العراق، فضع المناظر و المسالح واحترس على الظن وخذ على التهمة، غير ألا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إلي في كل ما يحدث من الخبر".
      فلما بلغ عبيد الله بن زياد إقبال الإمام الحسين عليه السلام من مكة إلى الكوفة، بعث الحصين بن نمير صاحب الشرطة حتى نزل القادسية، وبالغ ابن زياد في إشاعة الرعب والخوف في أوساط أهل الكوفة من خلال إجراءات إرهابية عديدة، تمهيداً لتعبئتهم وتوجيههم إلى قتال الإمام الحسين عليه السلام لعلمه بأن جلّ أهل الكوفة يكرهون التوجه لقتاله، فكان يحكم بالموت على كل من يتخلف أو يرتدع عن الخوض في المعركة.
      تقع معظم أحداث الكوفة أثناء تواجد مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) فيها في إطار الأيام التي كان فيها الإمام الحسين عليه السلام بمكة. ولكن خصوصية هذه الفترة في الكوفة وحساسيتها وتسارع الأحداث فيها، ولأهمية تبيانها بتفاصيلها، كان لا بدّ من فصلها عن حركة الإمام الحسين عليه السلام بمكة، لذا اقتضى التنويه.

    الإمام الحسين عليه السلام في طريق كربلاء

      جدَّ الركب الحسيني في المسير نحو العراق، وكان قد مرّ في طريقه من مكة حتى وصوله إلى كربلاء، بمواقع ومنازل عديدة، بقي الإمام الحسين عليه السلام في بعضها يوماً وليلة، ولبث في بعضها الآخر يوماً، ولم يبق في بعض آخر إلا ساعات قليلة، وتوقف في بعض آخر لأداء الصلاة فقط. وقد التحق به عدد من الموالين أثناء الطريق.
      التقى الإمام الحسين عليه السلام في طريقه من مكة إلى كربلاء بالعديد من الأشخاص، وحدث الكثير من المواقف التي أكد من خلالها أهمية قيامه بوجه يزيد بن معاوية والهدف الواضح من هذا القيام.
      وقيل أن الشاعر الفرزدق وهو همام بن غالب التميمي الحنظلي، كان قد لقي الإمام عليه السلام قبل خروج الركب الحسيني من الحرم إلى أرض الحل، فسلّم على الإمام عليه السلام وسأله:
      أعطاك الله سؤلك، واملك فيما تحب، بأبي أنتَ وأمي يا ابن رسول الله، ما أعجلك على الحج ؟
      فقال الإمام عليه السلام:
      "لو لم أعجل لأخذتُ... أخبرني عن الناس خلفك ؟"
      فأجاب الفرزدق: قلوب الناس معك وسيوفهم عليك، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء..

    الإمام الحسين عليه السلام يعلم بمقتل مسلم (رضي الله عنه)

      كان الركب في الثَّعلبية وهي ثلثا الطريق، لما عدل رجل من أهل الكوفة عن الطريق لما رأى الإمام الحسين عليه السلام ، فقصده الإمام عليه السلام كأنه يريده، ثم تركه ومضى، فاقترب من الرجل رجلان أسديان وسلما عليه، وكان بكير بن المثعبة، فسألاه: أخبرنا عن الناس وراءك ؟ قال: لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، فرأيتهما يجران بأرجلهما في السوق.
      فنظر إليهما الإمام الحسين عليه السلام وقال:
      "لا خير في العيش بعد هؤلاء.. ونظر إلى بني عقيل فقال لهم: ما ترون فقد قتل مسلم ؟"
      فبادر بنو عقيل وقالوا:"والله لا نرجع، أيقتل صاحبنا وننصرف، لا والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق صاحبنا".
      فلما كانت الظهيرة، وضع الإمام الحسين عليه السلام رأسه فرقد، ثم استيقظ فقال:
      "رأيت هاتفاً ،قول انتم تسيرون والمنايا تسرع بكم نحو الجنة"
      فسأله ابنه علي الأكبر:
      "يا أبه. أو لسنا على الحق ؟"
      قال عليه السلام :
      "بلى يا بني والله الذي إليه مرجع العباد"
      فقال علي الأكبر:
      "يا أبه، إذن والله لا نبالي بالموت".
      فأجابه الإمام عليه السلام :
      "جزاك اللّه يا بني خير ما جزى ولداً عن والده"
      وتابع الركب الحسيني المسير حتى وصل إلى زُبالة، وهي قرية عامرة بها أسواق بين واقصة والثعلبية، وهناك وصل مبعوث محمد بن الأشعث ليخبر الإمام باستشهاد مسلم وخذلان أهل الكوفة، وكان مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) قد أوصى عمر بن سعد قبل أن يُقتل بوصاياه، والتي كانت الأخيرة منها: "وأبعث إلى الحسين من يرده، فإني قد كتبت إليه اعلمه أن الناس معه ولا أراه إلا مقبلاً ،"فقال عمر ابن سعد لابن زياد في نفس اللحظة بما أوصاه مسلم (رضي الله عنه)، فقال ابن زياد له: "إنه لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن".
      وأما مبعوث ابن الأشعث فهو إياس بن العثل الطائي شاعر كان في زيارةٍ للكوفة، أعطاهُ ابن الأشعث راحلة مقابل أن يبلّغ الإمام الحسين عليه السلام بأمر مسلم بن عقيل (رضي الله عنه) إذا ما التقاه في الطريق، ففعل إياس ذلك وقد بقي في زُبالة أربع ليالٍ بضيافة الإمام عليه السلام .
      فلما استيقن الإمام عليه السلام من خبر مقتل مسلم، جمع أصحابه وقرأ عليهم كتابه وهو:
      "بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام "
      فتفرق الناس عنه تفرقاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة المنورة ومكة، وإنما كان الذين التحقوا به في الطريق من الأعراب لأنهم ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، وتؤكد المتون التاريخية على أن أهل الأطماع والارتياب تفرقوا عن الإمام في زُبالة.
      لقد أراد الإمام عليه السلام من كلامه السابق أن ينتقي الخُلص الذين سيقومون معه بأداء واجبهم الشرعي، وتلك هي سُنة القادة الربانيين في قيامهم، وهي أنهم يريدون الناصر الرباني ولا يهتمون بكثرة العدد والعدة، وقد واصل الإمام عليه السلام اختبار وامتحان تصميم الباقين معه على الشهادة حتى آخر لحظة .

    جيش الحر الرياحي يجعجع بالركب الحسيني

      وصل الركب إلى منطقة "ذو الحسم"وهو جبل يقع بين شراف وبين منزل بيضة، فلما انتصف النهار كبّر أحد الرجال، فقال الإمام الحسين عليه السلام :
      "الله أكبر، لما كبرت ؟ "
      فقال: رأيتُ نخلاًًً..
      فأجابه قوم: ما رأينا نخلة قط في هذا المكان..
      فسألهم الإمام عليه السلام عن الأمر، فقيل: إنها الخيل..
      فقال الإمام عليه السلام:
      وأنا والله أرى ذلك.. أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد ؟ "
      فقيل له أن يصعد إلى جبل ذو الحسم، فتوجه الركب ناحية الجبل، فما كان بأسرع من أن طلعت الخيل وراءهم، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي الرياحي حتى وقف هو وخيله مقابل الإمام عليه السلام في حر الظهيرة، والإمام عليه السلام وأصحابه معتمّون شاهري السيوف، فلما رآهم الإمام عليه السلام أمر فتيانه بأن يسقوا القوم والخيل، ففعلوا .
      بقي الحر مع الإمام عليه السلام حتى حضرت صلاة الظهر، وبعد رفع الأذان، وقف الإمام عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه وخاطب القوم:
      "أيها الناس، إنها معذرة إلى الله عز وجل وإليكم. إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم: أن أقدم علينا فإنه ليس لنا إمام، لعل الله يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم".
      ثم أقام عليه السلام للصلاة، وسأل الحر:
      "أتصلي بأصحابك ؟ "
      فأجابه الحر: "بل تصلي أنت ونصلي بصلاتكَ".
      فصلى بهم الإمام عليه السلام ، ثم دخل واجتمع في أصحابه وانصرف الحر إلى مكانه، فلما صلى الإمام عليه السلام العصر أمر القوم بالرحيل، وقد خطب في القوم خطبة ثانية:
      "أما بعد أيها الناس، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوانَ، وإن انتم كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به علي رسلكم انصرفت عنكم "
      فقال له الحر بن يزيد: "إنا والله لا ندري ما هذه الكتب التي تذكر ؟ "
      فقال الحسين عليه السلام :
      "يا عقبة بن سمعان، أخرج الخَرجين اللذين فيهما كتبهم إلي. "
      فأخرج عقبة خرجَين مملوئين صحفاً فنشرها بين أيديهم.
      فقال الحر: "فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد "
      فأجابه الإمام عليه السلام :
      "الموت أدنى إليك من ذلك "
      ثم قال لأصحابه:
      "قوموا فاركبوا "
      فركبوا وانتظروا حتى ركبت النساء، فطلب الإمام عليه السلام إلى أصحابه الانصراف فحال الحر وجيشه دون ذلك، فقال الإمام‏ عليه السلام للحر:
      "ثكلتك أمك ما تريد ؟".
      فرد الحر: "أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله، كائناً من كان، ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه. "
      فقال الإمام عليه السلام :
      "فما تريد ؟ "
      قال الحر: "أريد والله أن انطلق بك إلى عبيد الله بن زياد "
      فأجابه الإمام عليه السلام :
      "إذن والله لا اتبعك. "
      فقال الحر: "إذن والله لا أدعك ؟ "
      فترادا القول ثلاث مرات، ولما كثر الكلام بينهما قال الحر: "إني لم أؤمر بقتالك، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة، لتكون بيني وبينك نصفاً، حتى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله إن شئت، فلعل الله إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشي‏ء من أمرك "

    الإمام الحسين عليه السلام يوضح تكليف الأمة

      سار ركب الإمام عليه السلام والحر وجيشه يسير على الطرف الآخر، حتى إذا وصل إلى منطقة البيضة، خطب الإمام عليه السلام إحدى أهم خطبه بأصحابه وجيش الحر، وهي الخطبة التي تضمنت أقوى الأدلة على أن المسلمين جميعاً أمام تكليف عام بوجوب النهوض لمواجهة السلطان الجائر المستحل لحرم الله، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال عليه السلام :
      "أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال "من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسُنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفي‏ء، وأحلّوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيري، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم: أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم..
      فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلكم، فلكم فيّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنُكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من أغترّ بكم، فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته "
      ثم واصل ركب الإمام الحسين عليه السلام المسير وجيش الحر يسايره، فقال الحر للإمام عليه السلام : "يا حسين، إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلتَ لتُقتلنّ، ولئن قوتلتَ لتهلكنّ فيما أرى".
      فأجابه الإمام عليه السلام:
      "أبالموت تخوفني؟. وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟، ما أدري ما أقول لك ؟. ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه حين لقيه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: أين تذهب فإنك مقتول ؟ فقال:
      سأمضي وما بالموت عار على الفتى‏ إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلما واسى الرجال الصالحين بنفسه‏ وفارق مثبوراً يغشّ ويرغما
      فلمّا سمع ذلك منه الحر تنحى عنه وكان يسير بأصحابه في ناحية، والإمام عليه السلام من ناحية أخرى، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات، فإذا بنفر قد اقبلوا من الكوفة وهم: عمرو بن خالد الأسدي الصيداوي ومولاه سعد، مجمع بن عبد الله العائذي وابنه عائذ وجنادة بن الحرث السلماني ومولاه واضح التركي، وغلام لنافع بن هلال الذي التحق بركب الإمام عليه السلام قبلهم ومعه فرس نافع، فلمّا انتهوا إلى الإمام عليه السلام أنشدوا بعض الأبيات التي تُبين زهدهم بالحياة فداءً له، قال عليه السلام :
      "أما والله إني لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا، قتلنا أم ظفرنا "
      فأقبل إليهم الحر بن يزيد فقال: "إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادهم "
      فرد الإمام عليه السلام عليه: "لأمنعهم مما امنع منه نفسي، إنما هؤلاء أنصاري وأعواني، وقد كنت أعطيتني ألا تعرض لي بشي‏ء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد "
      فأجاب الحر: "أجل، ولكن لم يأتوا معك ؟ "
      فأكد الإمام عليه السلام عليه:
      "هم أصحابي، وهم بمنزلة من جاء معي، فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك "
      فكف عنهم الحر.
      وقد سأل الإمام عليه السلام الملتحقين به عن حال الناس وراءهم، فرد عليه مجمع بن عبد الله العائذي: "أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستمال ودهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم ألبٌ واحد عليك. وأما سائر الناس فإن أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك "
      فسألهم عن رسوله قيس بن مسهر، فأخبروه أن ابن زياد امره أن يلعنك وأبيك، فصلى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأبيه، فألقاه ابن زياد من على القصر..
      فتمتم الإمام بالآية الشريفة: "منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً "
      ونجد هنا أن الإمام عليه السلام ، وعلى الرغم من الأخبار التي أنبأته من أكثر من جهة عن خذلان القوم له، إلا أنه أصر على التوجه إلى الكوفة قائلاً:
      "إنه كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف "
      ذلك أنه كان يدرك انه له أنصار بانتظاره، أولئك الأنصار الذين رمى ابن زياد بعضهم في السجون، وقتل البعض الاخر..
      وقد تجلت بشكل مفجع اثار حب الدنيا وكراهية الموت في سبيل الله في لقاء الإمام عليه السلام مع عبيد الله بن الحر الجعفي الذي دعاه الإمام عليه السلام لنصرته، فأجابه: "والله يا ابن بنت رسول الله، لو كان لك بالكوفة أعوان يقاتلون معك لكنتُ أشدهم على عدوك، ولكني رأيتُ شيعتك بالكوفة وقد لزموا منازلهم خوفاً من بني أمية وسيوفهم، فأنشدك الله أن تطلب مني هذه المنزلة، وأنا أواسيك بكل ما أقدر عليه، وهذه فرسي ملجمة، والله ما طلبت عليها شيئاً إلا أذقته حياض الموت، ولا طلبتُ عليها فلحقت، وخذ سيفي هذا فوالله ما ضربت به إلا قطعت".
      فقال له الإمام الحسين عليه السلام:
      "يا ابن الحر ما جئناك لفرسك وسيفك، إنما أتيناك لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شي‏ء من مالك، ولم اكن بالذي اتخذ المضلين عضداً، لأني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول: من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقهم إلا أكبّه الله على وجهه في النار "
      وكان الإمام عليه السلام خلال مسيره يعجل الركوب ويحاول تفريق أصحابه غير أن الحر يردهم بانتظار كتاب عبيد الله بن زياد الذي وصله والركب في نينوى، وفيه: "أما بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقحم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء، في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام "
      فأخذ الحر القوم بالنزول إلى مكان لا ماء فيه، وطلب زهير بن القين من الإمام بقتال الحر وجيشه، فرفض الإمام أن يكون أول من يبدأ القتال.

    أرض كربلاء

      ولمّا وصل الركب إلى كربلاء وقف فرس الإمام عليه السلام فنزل وركب فرساً أخرى فلم تتحرك، فسأل الإمام عليه السلام عن اسم الأرض، فقيل له: ارض الغاضرية.
      فقال عليه السلام :
      "فهل لها اسم آخر ؟ "
      فأجابوه: تسمى نينوى.
      فقال عليه السلام :
      "هل لها اسم غير هذا ؟ "
      قالوا: شاطئ الفرات.
      قال عليه السلام :
      "هل لها اسم آخر ؟ "
      قالوا: تسمى كربلاء..
      فتنفس الصعداء، ثم قال عليه السلام :
      "انزلوا، هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تسفك دماؤنا، هاهنا والله تهتك حريمنا، هاهنا والله قتل رجالنا، هاهنا والله تذبح أطفالنا، هاهنا والله تزار قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله صلى الله عليه وآله ولا خلف لقوله.. "
      وكان يوم وصول الإمام عليه السلام إلى كربلاء في الثاني من شهر محرم الحرام لعام إحدى وستين هجرياً وكان على أغلب الروايات يوم الخميس..
      وقد نصبت خيام الركب الحسيني في البقعة الطاهرة التي لا تزال آثارها باقية إلى اليوم في كربلاء في بقعة بعيدة عن الماء تحيط بها سلسلة ممدودة من تلال و ربوات، وقد ضربت خيمة الإمام وأهل بيته عليهم السلام ثم خيام عشيرته حوله ثم خيام بقية الأنصار، وأحاط الجيش الأموي بمعسكر الإمام عليه السلام حتى أنه لما أطلق ابن سعد السهم الذي أنذر به بداية القتال وأطلق الرماة من جيشه سهامهم لم يبقَ أحد من معسكر الإمام عليه السلام إلا أصابه سهم .

    خرائط المسير







                BASRAHCITY.NET