صوت المرأة في التشريع الاسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والحمد حقّه كما يستحقّه ، والصلاة والسّلام على من اصطفاه بالرسالة ، وزينّة بالعصمة والجلالة ، سيّدنا ومولانا أبي القاسم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وعلى عترته البررة ، السّادة الخيرة ، الذين أكمل الله بهم الإيمان ، وطهّرهم من دنس الشيطان ، وجعلهم رواسي في الأرض أن تميد بنا ، وعلى من تابعهم ، وشايعهم ، واللعنة الدائمة على من نازعهم حقوقهم ، واستخفّ بأمرهم ، حتى قيام يوم الدين و ( قفوهم إنّهم مسؤولون ) .
لقد منَّ الله تعالى على المرأة ورفع شأنها بالإسلام ، وجعل الميزان في سعادة البشرية التقوى ، ولم يجعله القوة والسيطرة ، والاقتدار الجسماني ، فمشى خطّ الرسالة المحمديّة بهذه المشية ، بقيادة المثل الأعلى ، ونور دياجر ظلم الدنيا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم والصفوة الطاهرة ، والعترة المختارة أهل بيته ، وأمناء سرّ الله ، عليهم جميعاً الآف التحية والسلام .
ولازالت هذه المشية متّبعة من قبل علمائنا العاملين ، وقادتنا في أمور الدنيا والدين ، وفيهم فتى زمانه ، والثائر بالصوت الحسيني ، الإمام الخميني ( قدس سره ) مفجّر الثورة الإسلامية في إيران ، والثمر الذي جني من شجرته الطيّبة ، ولي أمر المسلمين ، آية الله السيد علي الخامنئي ـ أطال الله بقاءه ـ
فدخلت المرأة ببركة هممهم وجهودهم ميادين لم تدخلها من قبل ، وأعطيت حقوقها ، فأسُست مراكز علمية لأجل رفع مستواها ، فاستقبلتها بكل رحابة صدر مع المحافظة على وضائفها الشرعيّة والعقلائيّة ، واُعدّت مؤتمرات وجلسات يبحث فيها عن شؤون المرأة ومشاكلها ، بل وحتى أنها نالت حظاً في مجلس الشورى الإسلامي ، وهذا مما يؤكّد اهتمام النظام الاسلامي بالمرأة وشؤوناتها .
ولا أحسب أحداً لم يسمع بما أمر به آية الله العظمى السيد الخامنئي قائد الثورة الإسلامية ـ مدّ ظله ـ من إقامة مؤتمراً تبجيلاً لمقام السيدة نصرت أمين ـ مجتهدة العصر ـ وذلك في مرتين ، الأولى في اصفهان ، والاخرى في قم المقدسة .
ونحن بدورنا ـ دفاعاً عن الشريعة وخصوصاً المذهب الحق ـ ، وبياناً لإهتمام مدرسة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بشؤون المرأة وددنا أن نقوم بجولة سريعة حول مسألة مهمة في حياة المرأة المؤمنة ، مع ما لها من أثر في الحياة الفردية والإجتماعية ، وهي قضية صوت المرأة ـ لذلك شرعت بإذن الله وحوله وقوته في هذا المقال ، وحاولتُ أن أتعرف على الأقوال الفقهيّة لدى علمائنا ـ القدامى والمتأخرين ، وكذلك بعض فقهاء العامة ، ثم أتبعت البحث بذكر بعض التطبيقات العملية المترتبة على تنقيح هذه المسألة ، سائلة المولى القدير ان يتقبّل مني ذلك ، وينظر اليه نظرة قبول .
واستجابة لطلب المشرفيين على هذا الملتقى الثقافي ، وأداءً لبعض حقوق الشهيدة بنت الهدى ( طاب ثراها ) ارتأيت المشاركة في هذا الملتقى عن طريق الكتابة ، فاخترت أحد المواضيع التي تمسّ الحاجة إليها وهو ( صوت المرأة في التشريع الإسلامي ) ، اذ كان من المسائل التي نالت اهتماماً كبيراً في ألسنة أدلة التشريع ، وذلك للآثار المترتّبة عليه ، فحاولت أن أتعرّف على الأقوال الفقهيّة في مسألة صوت المرأة عند المتقدمين والمتأخرين من فقهائنا ، وبعض فقهاء العامة ، ثم أتبع البحث بذكر بعض التطبيقات والآثار العملية المترتبة على تنقيح هذه المسألة ، سائلة المولى القدير أن يوفق اخواتي المؤمنات كافة الى المشاركة في مثل هذه المشاريع التربوية ، والجلسات التثقيفيّة ، وأن يغرس روح التفاعل لديهن مع القضايا العلميّة ، لاسيما التي لها دخل في حياتنا العصرية ، فلا نقضي أعمارنا بمشغلة النفس فإنه قد ورد عن العترة الطاهرة عليهم السلام ما نصّه : « نفسك التي بين جنبيك إن لم تشغلها شغلتك » .
فلنسرع الى مجابهة نفوسنا ، قبل أن تبادرنا ، وتغلبنا ، ولابد أن تكون خطانا ـ سواء في الملتقى أم في غيره ـ قربة لوجه الله تعالى ، لا لأغراض شخصيّة ، و « نيّة المرء خير من عمله » ومن عمل صالحاً من ذكرأ وانثى فإنّ الله يبارك في عمله ويشكر مساعيه ، وهو ولي التوفيق .
صوت المرأة عند المتقدمين
لأهميّة هذه المسألة وحساسيّتها ، شمّر علماؤنا القدامى عن ساعد الجّد ، ونقّحوا هذه المطلب بدقّة ، وكان ما انتهوا إليه أن صاروا على قولين :
الاوّل : حرمة سماع صوت المرأة الأجنبيّة مطلقاً ، سواء مع الريبة أم بدونها .
الثاني : حرمة سماع صوت المرأة بقيد الريبة ، ونظراً إلى اعتبارية هذين القولين نستعرض بعض المتون المصنّفة في كتبهم الفقهيّة ، ونتبعها بالأدلة التي استدلوا بها على ما اختاروه .
القول الأوّل : الحرمة مطلقاً
ذهب إلى هذا القول :
1 ـ المحققّ الحلّي في ( شرائع الإسلام ) بقوله : الأعمى لا يجوز له سماع صوت المرأة الأجنبيّة ، لأنه عورة (1).
ومن الواضح أن المبصر أولى بالحرمة ، كما أشار إليه الشيخ محمد حسن النجفي في ( جواهر الكلام ) شرحاً لهذه العبارة حيث قال : فضلاً عن المبصر (2).
واستظهر الشيخ النراقي من قول المحقّق هذا ـ أن إسماع صوتها الرجل الأجنبي محرّم أيضاً ، لأنه يكون سبباً للوقوع في الحرام ، فيدخل في باب الإعانة على الإثم (3).
2 ـ العلاّمة الحلّي في بعض كتبه كالتحرير ، والقواعد ، والإرشاد.
قال في التحرير : لا يجوز للأعمى سماع صوت المرأة الأجنبيّة (4).
وقال في القواعد : ولا للأعمى سماع صوت الأجنبيّة (5).
وقال في الإرشاد : ولا للأعمى سماع صوت الأجنبيّة (6).
ونسب الشيخ البحراني في الحدائق هذا القول إلى الشهرة ، وانتهى إلى القول بالجواز مع عدم الريبة (7).
ونقل في الجواهر نسبته إلى المشهور بنحو القيل ، وأنّه مقتضى المستفيض في محكيّ الإجماع ، وعلّق عليه قائلاً : ولعلّ مراده ما تقدّم في الصلاة من حرمة الجهر عليها من سماع الأجانب ، فإنّ في ذلك في كشف اللثام وغيره الإتفاق على أنّ صوتها عورة ، ولذا حرم عليها ، بل وبطلت صلاتها ، كما حرّرناه في محلّة (8).
أدلة القائلين بالحرمة مطلقاً :
ومما يعرف من أصحاب هذا القول اعتمادهم على بعض الروايات التي يظهر منها حرمة السماع بالنسبة للرجل ، وحرمة الإسماع بالنسبة للمرأة ، لأنّ صوتها « عيّ وعورة » فيجب ستره .
ولا بدّ من الإشارة الى أدلتهم بنحو موجز :
1 ـ ما رواه الشيخ الصدوق ، بسنده عن الحسين بن زيد ، عن الإمام الصادق عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام ، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث المناهي قال ، « ونهى أن تتكلم المرأة عند غير زوجها ، وغير ذي محرم منها أكثر من خمس كلمات ، مما لابدّ لها منه » (9).
2 ـ ما رواه الشيخ ثقة الإسلام الكليني من موثّقة مسعدة بن صدقة ، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال : « قال أمير المؤمنين عليه السلام ، لاتبدأوا النساء بالسلام ، ولا تدعوهن إلى الطعام ، فإنّ ـ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : النساء عيّ وعورة ، فأستروا عيّهن بالسكوت ، واستروا عوراتهن بالبيوت » (10).
3 ـ موثّقة غياث بن ابراهيم المرويّة في الكافي عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال : « لا تسلّم على المرأة » (11) .
4 ـ ما رواه الشيخ الصدوق في الخصال ، في باب الأربعة ، بسنده عن مسعدة بن صدقة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عليهما السلام قال : « قال رسول الله ( ص ) :
أربعة يمتن القلب : الذنب على الذنب ، وكثرة مناقشة النساء ، ـ يعني محادثتهن ـ ومماراة الأحمق ، يقول وتقول ، ولا يؤول الى خير أبداً ، ومجالسة الموتى ، قيل والموتى ؟ قال : كل غني مترف »(12).
وقد نوقشت جميع هذه الأدلة بأنّها لا تقوى دلالة على تحريم سماع صوت الأجنبيّة مطلقاً ، وحمل بعضها على اختصاص الحرمة في حالتي الجهر بالصلاة والتلبيه ، وحمل البعض الآخر على الكراهة ، كرواية مسعدة (13) مضافاً الى انّها جميعاً معارضة بالأخبار المجوّزة مع عدم الريبة ـ (14)هذا مع غضّ النظر عن الكلام في سند بعضها .
وسيأتي استعراض بعض الروايات المجوّزة ، إن شاء الله تعالى فيما بعد.
القول الثاني : الحرمة مع الريبة
وهو ما ذهب إليه أكثر فقهائنا القدامى ، والمشهور لدى المتأخرين منهم ، والقائلين به :
1 ـ العلاّمة الحلّي في التذكرة بقوله : صوت المرأة عورة ، يحرم استماعه ، مع خوف الفتنة ،لا بدونه (15).
2 ـ الشهيد الثاني في المسالك حيث يقول : وقيل أنّ تحريم سماع صوتها مشروط بالتلذذ ، أوخوف الفتنة لا مطلقاً ، وهو أجود (16).
3 ـ المحقّق الثاني في جامع المقاصد ، في قوله : صوت المرأة عورة ، يحرم استماعه ، مع خوف الفتنة لا بدونه (17).
4 ـ الفاضل الهندي ، في كشف اللثام بقوله : ولا للأعمى ، فضلاً عن المبصر ، سماع صوت الأجنبيّة بتلذذ أو خوف فتنة (18).
5 ـ السيّد علي الطباطبائي في الرياض حيث يقول : وليس للرجل مطلقاً حتى الأعمى سماع صوت الأجنبيّة ، بتلذذ ، أو خوف فتنة إجماعاً ، مضافاً إلى لزوم ـ المنع منه ـ العسر والحرج ، المنفيين عقلاً ، ونقلاً ، وكتاباً ، وسنّة ، فالجواز أقوى (19).
6 ـ الشيخ النراقي في المستند ، حيث يقول : بل إذا كان مهيّجاً للشهوة ، داعياً إلى الفساد ، فكلمّا كان كذلك يحرم ، وإلاّ فلا ، نعم يكره قطعاً (20).
7 ـ الشيخ الأنصاري في كتاب النكاح بقوله : وفي الجميع ـ أي جميع أدلة الحرمة المطلقة ـ نظر ، أما الموثقات ـ فلمكان دلالتهما على تحريم مطلق الكلام ـ معارضتان بما هو أقوى منهما ، من تسليم النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ والوصي ـ عليه السلام ـ على النساء ، وردّهن عليهما ، وتكلّم فاطمة ـ عليها السلام ـ مع كثير من الصحابة ، وذهابها الى المسجد ، وقرائتها الخطبة المذكورة في الاحتجاج ، واحتجاجها على الأول والثاني في قضية فدك (21).
8 ـ الشيخ محمّد حسن النجفي في الجواهر حيث يقول : نعم ينبغي للمتديّنة منهن ، اجتناب اسماع الصوت الذي فيه تهييج السامع ، وتحسينه ، وترقيقه.
وقال في موضع آخر من الجواهر : بل بملاحظة ذلك ـ أي أدلة الجواز ـ يحصل للفقيه القطع بالجواز (22).
9 ـ البحراني في الحدائق بقوله : نعم لا بأس بتخصيص الحكم بما إذا أوجب التلذذ والفتنة (23).
وأما مراجع الدين المتأخرين ، والمعاصرين ، فقد ذهبوا جميعاً إلى هذا القول ، ومنهم :
1 ـ آية الله العظمى السيّد أبو القاسم الخوئي ـ قدسّ سرّة الشريف ـ في منهاج الصالحين ، بقوله : يجوز سماع صوت الأجنبيّة مع عدم التلذذ (24).
2 ـ أية الله العظمى السيّد الإمام الخميني ـ قدّس سرة الشريف ـ في تحرير الوسيلة ، حيث يقول : الأقوى جواز سماع صوت الاجنبيّة ، ما لم يكن تلذذ وريبة ، وكذا يجوز لها إسماع صوتها للأجانب ، إذا لم يكن خوف فتنة ، وإن كان الأحوط الترك في غير مقام الضرورة ، خصوصاً في الشابّة.
وذهب جماعة إلى حرمة السماع ، والإسماع وهو ضعيف ، نعم يحرم عليها المكالمة مع الرجال بكيفيّةٍ مهيّجة ، بترقيق القول ، وتليين الكلام ، وتحسين الصوت ، فيطمع الذي في قلبه مرض (25).
أدلة القائلين بالحرمة المقيّدة
1 ـ قوله تعالى ( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) (26).
قال الشيخ الطوسي في البيان عند تفسيره هذه الأية :
أي لا تليّنّ كلامكنّ للرجال ، بل يكون جزلاً قويّاً ، لئلا يطمع من في قلبه مرض .
قال قتادة : ومعناه من في قلبه نفاق .
وقال عكرمة : من في قلبه شهوة للزنا .
ثم قال لهن ( وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا )(27) ، مستقيماً جميلاً ، بريئاً من الرقّة ، بعيداً من الريبة ، موافقاً للدين والإسلام (28).
2 ـ مارواه الشيخ الكليني ، بسنده عن أبي بصير قال : كنت جالساً عند أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ إذ دخلت عليه أم خالد ، التي قطعها يوسف بن عمر ، تستأذن عليه ، فقال أبو عبداللـه ـ عليـه السـلام ـ : « أيسّرك أن تسمـع كلامهـا ؟ » فقلت : نعم ، قال : فأذن لها وأجلسني على الطنفسة (29) ، ثم دخلت فتكلّمن ، فإذا هي إمرأة بليغة (30).
3 ـ ما رواه الشيخ الكليني ، بسنده عن ربعي بن عبد الله ، عن الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال : « كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ يسلّم على النساء ، ويرددن عليه ، وكان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يسلّم على النساء ، وكان يكره أن يسلّم على الشابّة منهنّ ويقول : أتخوّف أن يعجبني صوتها ، فيدخل علي أكثر مما طلبتُ من الأجر »(31).
4 ـ كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ مع النساء ـ وسؤالهن منه ومن غيره من المعصومين ـ عليهم السلام ـ الأحكام ـ واستشارتهم ـ عليهم السلام ـ في بعض الأمور .
5 ـ كلام الزهراء ـ عيلها السلام ـ مع سلمان ـ وأبي ذر ، والمقداد ، واتيانها بالخطبة الطويله ، المرويّة في الاحتجاج (32) وغيره ، في محضر خلق كيثر ، مع أنّها معصومة بنص ثابت لاريب فيه .
6 ـ كلام بنات الحسين ـ عليه السلام ـ وأخواته بعد استشهاده ، مع الأعادي في حضور الإمام علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ في الكوفة والشام (33) .
إلى غير ذلك مما دلّ على جواز سماع صوت المرأة ، واسماعها الرجل من دون ريبة ، من سيرة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ والطريق الذي عليه العلماء ـ تبعاً لأهل البيت ، عليهم السلام ـ مما يقطع من خلاله الجواز ، بشرط أن لا يشتمل الكلام على فتنه وفساد أو إفساد .
أقوال العامة :
وأما أقوال العامة في هذه المسألة : فقد ذكر الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه ( المفصّل ) استعراضاً لأقوال العامة ، فقال : في أقوال الشافعية : صوت المرأة ليس بعورة .
ومن أقوال الحنابلة : صوت الأجنبيّة ليس بعورة .
ومن أقوال المالكيّة : صوت المرأة ليس بعورة حقيقةً .
ومن أقوال الحنفيّة : صوتها ليس بعورة على القول الراجح (34).
وذكر المحقق الكركي أنّ : بعض الشافعية ذهب إلى أن صوتها ليس بعورة ، لكن يحرم استماعة (35).
وبعد أن استعرض الدكتور زيدان أقوال فقهائه ، نقل قولاّ آخر يذهب إلى أن صوت المرأة عورة ، وذلك عن اللخمي المالكي ، لما جاء في كتاب ( مواهب الجليل بشرح مختصر خليل ) للحطّاب المالكي حيث يقول : قال ابن فرحون : وأما الأذان ـ أي من المرأة ـ فممنوع من حقهنّ ، قاله اللخمي ؛ لأن صوتها عورة .
قلت ـ أي الحطّاب ـ وقوله : لأنّ صوتها عورة اعترضه شيخنا أبو مهدي ، بأن الصواب بأن يقول : لأنّ رفع صوتها عورة (36).
مناقشة الدكتور زيدان :
عند استعراض الدكتور لأقوال فقهاء الجمهور ، ذكر قولاً لأحد فقهائنا ، ونسبه إلى المذهب بأكلمه ، حيث قال :
ولكن ذهب الجعفريّة إلى أن صوت المرأة الأجنبيّة عورة ، فقد جاء في شرائع الإسلام ، في فقه الجعفريّة : الأعمى لا يجوز له سماع صوت المرأة ألأجنبيّة لأنّه عورة (37) .
وهكذا تلاحظ أولاً : الإفتراء الذي يصّرح به هذا المؤلّف ، حيث ينسب هذا القول إلى الجعفرية ، علماً بأن أكثر الجعفرية ذهبت إلى جواز سماع صوت الأجنبيّة من دون فتنة ، ما عدا العلاّمة في بعض كتبه ، ـ كما مرّ ـ والمحققّ في الشرائع.
ومن الواضح أنّ قول المحقّق لا يمثّل رأي المذهب بأجمعه ، حتى ينسب هذا القول إليه .
وهذه النقطة التي ذكرها الدكتور زيدان تشكّل سبباً للإبتعاد عن مدرسة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لكونها عسرة التطبيق ، خصوصاً ـ في الوقت الحاضر ـ الذي لابّد للمرأة فيه من إسماع وسماع صوتها ، مع المحافظة على الحدود الشرعية.
والملاحظ ثانياً :
التأويل الذي أوّل به الحطّاب قول اللخمي المالكي ، مع عدم قرينة في قول اللخمي.
ولو صح مثل هذا التأويل لأوّلنا قول المحقّق ، وحملناه على الحرمة بقيد الريبة ، أو فيما لو رفعت المرأة صوتها ، علماً بأنّ مثل هذه التقييدات لم ترد في كلام المحقّق ، وادعاؤها يحتاج إلى دليل .
بعض التطبيقات والأثار العملية المرتّبة على معرفة حكم صوت المرأة :
وهذه الفقرة الأخيرة ، هي الثمرة من هذه الجولة السريعة ، في متون النصوص المرويّة عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ والأقوال المستفادة منها لدى علمائنا ، فلولا هذه الجهود التي بذلها علماء المذهب لبقيت المرأة رهينة قيود وأغلال تمنعها من مواصلة مسيرتها ، والمساهمة في بناء مجتمع كامل .
ومن التطبيقات المرتبة على هذا البحث :
1 ـ قراءة المرأة القرآن بحيث يسمعها الأجانب ، فقد اتّضح أنّه لا اشكال في ذلك ما لم يترتب عليه فساد وأثر محرّم.
2 ـ قراءة المرأة التعزية بكيّفية يصل من خلالها الصوت الى سماع الرجال ـ غير المحارم ـ وهو ممّا كثر فيه الكلام فزعم كثير ممّن لا علم له الإجتهاد في هذه المسأله ـ مع كونه مقلّداً ـ وقام بإذاعة الحرمة ، ولا يخفى أنّ « من أفتى بغير علم فليتبوأ مقعده من النار » ، كما ورد عن المعصومين الاطهار ـ صلوات الله عليهم أجمعين .
3 ـ تدريس الرجل المرأة ـ مع حفظ الوظائف الشرعية ـ وتدريس المرأة الرجل ـ كما هو حاصل في الدراسات الأكاديمّية الجامعيّة .
4 ـ عمل المرأة خارج المنزل ـ ضمن مراكز إداريّة ، وما يتعلّق بتنمية اقتصاد البلد .
ولكن مع هذا كلّه ، لابّد للمرأة أن لا تضع قدمها على حافة الشريعة ، ودائرتها الضيّقة ، بحيث تميل في الهاوية بأدنى عاصفة تعصفها ، فيجب عليها ـ بل وعلى كلّ انسان ـ يطمح في الكمال والقرب الإلهي أن يلتزم بالشريعة من خلال دائرتها الواسعة ، ويمسك نفسه عن الأعمال التي تحتوي على مبغوضيّه مولويّة ـ وإن لم تصل إلى حد الالزام ـ فلو ترك المكروه لا تأمره نفسه بالمحرم لأنها قد تروّضت على امساك اللجام ، كما ترتاض الجوارح على الحركات العنيفة ، وهذا مما يتّضح جلياً في سيرة أولياء الله تعالى كالسيد المرتضى ، الذي جعل أفعاله المباحة وسيلة تعبّد للحق سبحانه وتعالى حيث رافقها نيّة القربة ، فضلاً عن ترك المكروهات .
وممّا يحصّن المرأة المؤمنة ، ويقوّي ارتباطها بذات العزّة والجلال ، قلّة محادثة الرجال ـ وخصوصاً إن كانت المرأة شابّة ـ والاقتصار على موارد الضرورة ـ وتجنّب الإطالة في السّلام على الرجل ـ وهو المتداول في مجتمعنا ـ حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض ولا يغلب الشيطان على أمرها ، فَيُستر لها من حيث لا تشعر ، ألم تكن هي سهماً من سهام إبليس ، فعليها الآن أن تكون سهماً بيد جنود الرحمن وسبباً في الإنتصار على جنود الشيطان ، ( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ) والله يحب المحسنين ، وهو يتولى الصالحين.
والحمد الله على هداه ، والشكر له على توفيقاته ، والصلاة والسّلام على نجوم أهل الأرض ، وولاة سكان السماء ، محمّد ( ص ) ، وآله أجمعين ـ واللعنة على أعدائهم أجمعين ـ إلى قيام يوم الدين.
مصادر البحث
(1) القرآن الكريم
(2) الاحتجاج : لأحمد بن علي ابن أبي طالب الطبرسي ، نشر مؤسسة الأعلمي ، بيروت 1403 هـ .
(3) الإرشاد : للشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد ، ت 413 هـ ، أفسيت مكتبة بصيرتي ـ قم المقدسة .
(4) إرشاد الأذهان الى احكام الإيمان : للعلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، ت 726 هـ ، تحقيق الشيخ فارس الحسون ، نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدّرسين بقم المقدسة.
(5) تاريخ الطبري : لمحمد بن جرير الطبري ، ت 310 هـ ، دار سويدان ، بيروت.
(6) التبيان : لشيخ الطائفة ، ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، ت 460 هـ ، منشورات مكتبة الأمين ، النجف الأشرف.
(7) تجريد الاحكام : للعلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف ، بن المطهّر ، ت 726 هـ ، نشر مؤسسة آل البيت ـ عليهم السلام ـ قم المقدسة.
(8) تحرير الوسيلة : للإمام الخميني ـ قدس سره ـ ، المكتبة الإسلامية ، قم المقدسة.
(9) تذكرة الفقهاء : للعلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ـ ت 726 هـ ، المكتبة المرتضوية ، قم المقدسة.
(10) جامع المقاصد في شرح القواعد : للمحقق الكركي ، علي بن الحسين بن عبد العالي ، ت ـ 940 هـ ، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت ـ عليهم السلام ـ قم المقدسة.
(11) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام : للشيخ محمد حسن النجفي ، ت 1266 هـ ، دار الكتب الاسلامية طهران .
(12) الحدائق الناظرة في احكام العترة الطاهرة : للشيخ يوسف البحراني ، ت 1186 هـ ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ، بقم المقدسة.
(13) الخصال : للشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، ت 381 ، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ، بقم المقدسّة .
(14) رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل : للسيد على الطباطبائي ، ت 1213 هـ ، نشر مؤسسة آل البيت ـ عليهم السلام ـ قم المقدسة .
(15) سير أعلام النبلاء : لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، ت 748 ، دار الفكر، بيروت .
(16) تحرير الأحكام للمحقّق الحلّي ، أبي القاسم ، نجم الدين ، جعفر بن الحسن ، ت 672 هـ ، دار الأضواء بيروت .
(17) الصحاح لاسماعيل بن حمّاد الجوهري ، ت 393 ، دار العلم للملايين ، بيروت.
(18) قواعد الاحكام في معرفة الحلال والحرام : للعلاّمة الحلّي ، الحسن بن يوسف بن المطهّر ، ت 726 هـ ، منشورات الرضيّ ، قم المقدسة.
(19) الكافي : لثقة الإسلام ، أبي جعفر محمد بن يعقوب ابن اسحاق الكليني الرازي ، ت 329 هـ ، دار الكتب الإسلاميّة.
(20) كتاب النكاح للشيخ الأعظم ، مرتضى الأنصاري ، ت 1281 هـ ، نشر مؤتمر الشيخ الأنصاري ، قم المقدسة.
(21) كشف اللثام لبهاء الدين ، محمد بن الحسن بن محمد الاصفهاني ، المعروف بالفاضل الهندي ، ت 1137 هـ ، نشر المكتبة المرعشيّة ، قم المقدسة.
(22) للسيد علي بن موسى بن جعفر بن طاووس ، ت 664 هـ ، المكتبة الاسلاميّة ، قم المقدسة.
(23) مستند الشيعة في احكام الشريعة : للمولى أحمد بن محمّد مهدي النراقي ، ت 1244 هـ ، نشر المكتبة المرعشيّة ، قم المقدسة.
(24) مسالك الأفهام في شرح شرائع الاسلام :للشهيد الثاني زين الدين بن علي العاملي ، ت 965 هـ ، دار الهدى قم .
(25) المفصّل في أحكام المرأة والبيت المسلم : للدكتور عبدالكريم زيدان ، مؤسسة الرسالة ، بيروت.
(26) من لا يحضره الفقيه : للشيخ الصدوق ، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، ت 381 هـ ، دار الكتاب الاسلامية ، قم المقدسة.
(27) منهاج الصالحين : للسيد الخوئي ، نشر مدينة العلم ، قم المقدسة.
(28) وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة : للشيخ محمد بن الحسن ، الحّر العاملي ، ت 1104 هـ ، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت ـ عليهم السلام ـ قم المقدسة.
الهوامش
(1) شرائع الإسلام 2 : 269.
(2) جواهر الكلام 29 : 97.
(3) مستند الشيعة ، باب النكاح ، المسألة الثالثة.
(4) تحرير الأحكام 2 : 3.
(5) قواعد الأحكام 2 : 3.
(6) إرشاد الأذهان 2 : 5. (7) الحدائق الناظرة : 23 : 66.
(8) جواهر الكلام 29 : 97.
(9) الفقيه 4 : 3|1 ، وسائل الشيعة 20 : 197|2 ، باب 106.
(10) الكافي 5 : 534/1 ، وسائل الشيعة 20 : 234|1 باب 131.
(11) الكافي 5 : 534|2 ، وسائل الشيعة 20 : 234|2 باب 131 .
(12) الخصال : 228|65 ، وسائل الشيعة 20 : 197 ـ 198|3 باب 106 .
(13) جواهر الكلام 29 : 97 .
(14) مستند الشيعة : باب النكاح ، المسألة الثالثة .
(15) التذكرة 2 : 573 .
(16) مسالك الأفهام 1 : 438 .
(17) جامع المقاصد 12 : 43 .
(18) كشف اللثام 1 : 4 .
(19) رياض المسائل 2 : 75 .
(20) مستند الشيعة : باب النكاح ، المسألة الثالثة .
(21) كتاب النكاح : 67 .
(22) جواهر الكلام 29 : 97 .
(23) الحدائق الناظرة 23 : 66 .
(24) منهاج الصالحين ، المعاملات : 260 المسألة (1234).
(25) تحرير الوسيلة 2: 245 ، المسألة (29) .
(26) الأحزاب : 32 .
(27) تكملة الآية : 32 .
(28) التبيّان 8 : 338 .
(29) الطنفسة : البساط الذي فيه خمل دقيق : الصحاح 4 : 82 .
(30) الكافي 8 : 101|71 ، وسائل الشيعة 20 : 197|1 باب 106 .
(31) الكافي 2 : 473|1 و 5 : 535|3 ، وسائل الشيعة 20 : 234 ـ 235|3 باب 131 .
(32) الاحتجاج 1 : 146 .
(33) الإرشاد : 246 ، تاريخ الطبري 6 : 526 ، سير أعلام النبلاء 3 : 204 ، اللهوف : 180. الاحتجاج 2 : 27 .
(34) المفصّل في أحكام المرأة والبيت المسلم 3 : 277.
(35) جامع المقاصد 12 : 44 .
(36) المفصّل في أحكام المرأة والبيت المسلم 3 : 278 ، نقلاً عن ( مواهب الجليل بشرح مختصر خليل ) 1 : 435 .
(37) المفصّل في احكام المرأة والبيت المسلم 3 : 277.
|