منظر من القرنة
موقع من الأرض المخضبة بالخضرة والمغمورة بالمياه والموشحة شواطئها بالنخيل تكاد تحسبها العين قبس من الفردوس ، ارض تقع اليوم على بعد 75 كيلومتر شمال مدينة البصرة ، وكان قد ورد ذكرها في الأساطير وفي الذاكرة الشعبية بأنها مهبط الحياة على الأرض ومكان لقاء ومكوث أدم وحواء فهنا الاقتران ومن هنا بدأت الحياة على الأرض ، وكان الاعتقاد السائد بانها نقطة التقاء النهرين دجلة والفرات حتى حقبة قريبة مضت ، وتوجد اليوم دراسات تحتمل التقاء النهرين في موضع على بعد 5 كيلومتر من جنوبها وبالتحديد في منطقة كرمة علي ، ولفظ القرنة جاء من الاقتران وربما كان هذا يغني دعوى أسطورة اقتران أدم بحواء في هذا المكان.
كان الرومانيون يسمون محل اقتران الفراتين هذا في القرن الأول للميلاد (دقبة أو دجبة Digba) فقد ذكر المؤرخ (لين) في كتابه (المعضلات البابلية) نقلا عن التاريخ الطبيعي (لبلّيني) ما تعريبه : (وفضلا عما ذكر فإن في ما بين النهرين وعلى ضفاف دجلة وقريبا من اقترانه بالفرات موقعا يدعى (دكبه) ، وفي القرن الثاني كان النهران يجتمعان عند مدينة (أفامية) ويمكن أن يرجع تكوين الأرض التي تقع عليها القرنة الى أزمنة تاريخية متاخرة نوعا ما وكان سببه الطمي والغرين المترسب في بحيرات (أهوار) المياه الواردة من الرافدين ، ومن المعلوم أن النهرين كانا يصبان كل على حدة في مياه الخليج عندما كانت اور ميناء وثغر للسومريين على شاطئه في الألف الرابعة قبل الميلاد.
وفي عهد ياقوت الحموي ، أي في القرن الثالث عشر للميلاد كانا يجتمعان في (مطارة) وقد جاء في (معجم البلدان) ذكرها هكذا : (مطارة أيضا من قرى البصرة على ضفة دجلة والفرات في ملتقاهما بين المذار والبصرة ، وذكر (الحاج خليفة) في كتابه (جهانامه) (ان دجلة كانت تلتقي هي والفرات ، في موضع يسمى (الجوازر) ، لان المياه كانت تجزر هناك فيظهر من ذلك أن محل اجتماع الفراتين تسمى بأسماء مختلفة اخرها (القرنة).
و لا يعرف على وجه التحقيق الزمن الذي اكتسب فيه هذا الموضع إسمه الحالي ، كما لايعرف الزمن الذي تأسست فيه هذه القصبة ، وقد قرأنا في رسالة كتبها الشيخ فتح الله الكعبي سنة 1667 م وسماها (زاد المسافر ولهفة المقيم والحاظر) أن القرنة كانت قلعة صغيرة ، فلما تولى البصرة علي باشا بن أفراسياب زاد فيها ، وجعلها قلعة كبيرة فسميت (العلية) على أسمه ، ثم زاد في تشييدها واتقانها حسين باشا ابن علي باشا هذا وجعلها ثلاث قلاع حصينة ، فلما طوي بساط ا ل افراسياب استرجعت هذه القلعة اسمها القديم ، وهو القرنة وكانت سلطة آل افراسياب قد دامت من عام 1596 م الى عام 1667م.
تحضير الشاي في ديوان احدى القرى قرب القرنة
وممن زار القرنة وكتب عنها الرحالة الفرنسي (تافرنيهTavernier) المتوفى عام 1689 وقد أطلق عليها القرنة وهذا يعنى ورود اسمها في القرن السابع عشر ، ثم تبعه في وصفها قليلا الرحالة الدانمركي نيبور عندما زارها العام 1766 م والقرنة اليوم حاضرة عراقية مهمة تقع الى الشمال من البصرة وتخطيط شوارعها بهيئة خطية وباستطالة من الشمال نحو الجنوب وشارعها الرئيس يتجه بنفس الاتجاه وتقع عليه معالم المدينة الحكومية والخدمية والتجارية ، وكان حال المدينة يشكي من الإهمال خلال الحقبة التركية بالرغم من موقعها المهم على النهرين ، حتى غدت صعبة العيش فيها بسبب كثرة البعوض فيها الذي يقلق راحة ساكنيها ، وقد بدا الاهتمام الفعلي بها بعد ثورة تموز عام 1958 م حيث تم إنشاء جسر حديدي في القرنه طوله 310 امتاز ومجموعة من بنايات البنية التحتية والصناعية.
وفي القرنة آثار شجرة قديمة مشهورة عند أهلها باسم (البرهام) يزعم الناس أنها من زمن آدم أبي البشر ، وتحت ظلالها الوارف تم أول لقاءه له مع حواء ويقول آخرون بأنها تعود لحقبة السيد المسيح (ع) فتراهم يشدون الخرق حولها ، ويطلون بالحناء البناية المحيطة بها أملا في أن تقضى حاجاتهم ، قد أصبحت مزارا لبعض السواح الأجانب الذين يهيلهم وقع الأسطورة وهيئة الشجرة المهيب فيتبركون بها ، زاعمين إنها شجرة معرفة الخير والشر في أساطير الرافدين القديمة ، فإذا مر أحدهم بها وقف إلى جانها هنيهة وشرب ما تيسر من المرطبات وانصرف ، ويمكن أن يكون هذا الموضع للجذب السياسي لو أستغل مستقبلا.
وعلى مقربة القرنة تقع على شمالها الغربي (المدينة) ـ بالتصغير كجهينة ـ وهي تشمل قسما من ضفة الفرات اليمنى وقسما من ضفته اليسرى ، ومركزها قرية كبيرة كانت حاضرة الجزائر في السابق ، وكان فيها مقر الأمارة على ر بيعة و الأهوار (البطائح) والجزائر ، أما اليوم فهي مدينة صغيرة كمركز تجاري لقرى الفرات و هور الحمار ، وفي اتجاه دجلة من ناحية الشرق عن القرنة تقع (السويب) ـ بالتصغير أيضا التي تمتد أراضيها على ساحل دجلة الأيسر ، وساحل شط العرب الأيسر ، وهي تحادد الأراضي الإيرانية عن طريق (الحويزة) وهورها ، وتعتبر مركز حضري تتبعه أكثرمن ثلاثين قرية ، ويمتهن أهلها الزراعة ولا يميلون الى التجارة ، ومركز الناحية يقع فوق ربية مرتفعة يسمونها (التل) تقع على مسافة سبعة كيلومترات من شرقي القرنة.
لقد عانت القرنة خلال الحرب بين العراق وإيران خلال سنوات الثمانينات لموقعها القريب من جبهة القتال ، واليوم تأن القرنة ونواحيها من الإهمال والفاقة ودرس معالمها البيئية والحضارية بعدما كانت جنة أدم على الأرض ، والكل يرجوا عودتها وعودة بهاء نخيلها والخضرة والأعناب والبيوت تحت ظلالها الوارفة في عراق المستقبل المورق المزهر.