الاقتصاد السياسي لتجارة البصرة في القرن الثامن عشر
الدكتور ثابت عبد الجبار عبدالله
المقدمة
تميزت مدينة التجار بموقعها الجغرافي والاقتصادي المتميز ، فهي حلقة الوصل بين الشرق الأوسط والمحيط الهندي ، وهذا الموقع المتميز جعلها منطقة جذب ونزاع وسلب ونهب بين مختلف القبائل والأصناف والطوائف ،وغالباً ما تحركه دوافع سياسية واقتصادية وخاصة ما كان يحدث بين الأرمن واليهود .
ولعل اشهرها ما حدث في احدى السنوات حيث عثر على جثة تاجر يهودي في احدى كور الطابوق في البصرة ، وسرعان ما أشارت أصابع الاتهام الى الأرمن ، فتتحول من الخاص الى العام.
فهذه الحادثة التي وقعت في 22 آذار تدل مجرياتها على انها ليست مجرد قتل تاجر يهودي مدعومة طائفته من قبل الوالي العثماني في بغداد والبصرة ، فالجفاء بين باشا بغداد والمقيم الانجليزي في البصرة دليل على ان الجميع لم يكن راضين عن الدور المتزايد لبريطانيا للسيطرة على تجارة البصرة ، وهذا ما دعا د. ثابت عبد الجبار عبدالله في كتابه الموسوم ( الاقتصاد السياسي لتجارة البصرة في القرن الثامن عشر ) دراسة هذه الحادثة وتحليلها بفك العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي كانت في قلب هذه الحادثة .
على مدى فصلين يستعرض المؤلف تاريخ البصرة منذ نشوئها الى نهاية القرن الثامن عشر ، مبينا اهمية موقعها الجغرافي التجاري ألمتميز ، وما حققته من مجد وما أصابها من انحطاط في مختلف اوجه الحياة .
كما يبن طبيعة سكانها ونوع ادارتها ، مؤكدا بأنها تحت ظل الحكم العثماني واصلت تذبذبها بين ان تكون تابعة لولاية بغداد أو ولاية بذاتها لها حقوقها الخاصة .
وفي النهاية تقرر أن تكون ولاية ساليانة أي ولاية براتب ، وعلى حاكمها ان يحول الى اسطنبول مبلغا محددا سلفا من المال ( إرسالية ) يجمع وفق نظام الضرائب المقطوعة (الالتزام ) وكان منصب المتسلم كما يذكر المؤلف مهزوزا دائما ونادرا ما كانت تسمح سلطة بغداد ببقائه في منصبه فترة طويلة .
ومن الطبيعي ان تؤثر هذه التقلبات والاهتزازات على سكان المدينة بتعدد اجناسهم وأديانهم وثقافتهم ( من العرب والأتراك والفرس والهنود والصابئة واليهود والأرمن) وللمضي في دراسة اوضاع سكان البصرة كل حسب مهنته ، يبين كيف احتل اليهود والأرمن مركز الصدارة في التجارة ، ليخلص الى نتيجة مفادها بان بصرة القرن الثامن عشر كانت تتميز بتناقضات كثيرة ، وان موقعها المتميز قد جذب اليها التجار من كل صوب وحدب ، والقوى العديدة المتنافسة داخل المدينة وخارجها تحافظ على جو مشحون باليقظة والخوف والترقب ، وان بعده عن اسطنبول جعلها اكثر عرضة لتصارع المصالح المحلية ، وان سكانها رغم اختلاف اجناسهم يندر ان تصادموا بشكل عنيف ، والكثير من التجار قد جمعوا ثروات طائلة خلال هذا القرن رغم الظروف المناخية والسياسية غير المستقرة ، وعلى التاجر الأكثر نجاحا ان يكون حذرا بين بقية الطوائف ، وعليه دفع الرسوم والضرائب المرتفعة باستمرار ، وفي هذا المسار يمضي المؤلف بإلقاء الضوء على الضرائب والرسوم الكمركية برا وبحرا التي على التجار دفعها رغم ندرة البيانات المعتمدة عن تلك الفترة ، كما يشير الى تفشي الرشوة الهدايا التي يجب
دفعها الى المتسلم.
بعد ان يتناول تلك الجوانب الاقتصادية والإدارية والاجتماعية وفق ما ذكرته المصادر وخاصة كتب الرحالة يحلل تلك المعلومات في الفصل الرابع من الكتاب قبل ان يعود الى حادثة مقتل اليهودي التي اشار اليها في مستهل الكتاب .
فيؤكد بان المجتمع البصري قد تفكك في نهاية القرن الثامن عشر ، فالتقسيم الطائفي والمصالح الاقتصادية المنعزلة بعضها عن بعض والولاءات السياسية المتنازعة مالت نحو التشديد مع انحدار التجارة ، وما كانت تفخر به البصرة من تسامح ديني وتآلف اجتماعي اصبح في تخاصم ونزاع دائم وخاصة بين تجار المدينة ، حيث لعب دورا مهما في شيوع التنظيم العائلي أو الطائفي ، وبروز مصالح سياسية مختلفة ،فالبعض من التجار ساند الانفصال عن بغداد من أجل خفض الارتفاع في الضريبة وآخرين قاوموه آملين بتجارة افضل للتجارة النهرية مع بغداد ، هذا من جهة ومن جهة اخرى ايد البعض من التجار وخاصة الأرمن التغلغل الإنكليزي آملين بالحصول على حماية أفضل ، بينما قاوم اليهود القوى المتنامية للانكليز مما خلق جواً من التوتر السياسي والاقتصادي فادى الى ان تصبح تجارة البصرة في نهاية القرن الثامن عشر ظل لما كانت عليه ، وليس هناك من حادثة على حد ما يذكره المؤلف تكشف طبيعة التدهور والنزاع الطائفي وآثاره البعيدة من حادثة مقتل التاجر اليهودي ، فهذه الحادثة قد دقت الإسفين بين تجار البصرة .
ففيما كان اليهود وقيادتهم المتشددة يواصلون ضغطهم لمعاقبة الأرمن والأرمن بدورهم وضعوا انفسهم تحت حماية المقيم الإنكليزي ( مانستي ) يمضي المؤلف في القاء الضوء في (ص 252 - 256 ) مبينا العوامل الأساسية وراءها ، وبتأكيد المؤلف على هذه الحادثة يدلل على الانقسامات التي مزقت التجار في تلك الفترة ويدلل على التوتر بين النفوذ البريطاني المتعاظم ومحاولات بغداد لفرض سيطرة مركزية أكبر.
|
|
|
|