المبـرد ناقـداً
الأستاذ خالد لفتة باقر
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
يعد المبرد رائداً من رواد النقد الأدبي عند العرب في القرن الثالث الهجري , وكان عالماً من علماء اللغة العربية الأفذاذ , ويتجلى ذلك في كثرة مؤلفاته في العلوم : اللغوية ، والنحوية، والنقدية، والبلاغية، والعروضية فضلاً عن إلمامه بالأخبار والأنساب إلى غير ذلك .
وقد حظي المبرد بمكانة علمية بين العلماء إذ أثنوا عليه , وأشادوا بفضله , منهم : أبوسعيد السيرافي (1) ، وأبو الطيب اللغوي (2) ، وأبوبكر الزبيدي (3) وغير هؤلاء كثيرين .
ولعل أعظم أمر في سيرة المبرد العلمية هو تتلمذه على يد طائفة من العلماء الفضلاء : كأبي حاتم السجستاني , والمازني , وأخذ عن أبي عمر الجرمي ، وأبي إسحاق الزيادي ، والرياشي ، والتوزي كما تلقَّى العلم عنه عدد من العلماء : كأبي إسحاق الزجاج , والصولي , ونفطويه, وابن السراج , والأخفش الأصغر , ودرستوريه , وأبي جعفر النحاس , وغيرهم وفضلاً عن ذلك ، فقد وجدت أن هذا بحاجة إلى إعادة النظر فيه , للكشف عن آرائه النقدية ، تلك التي لم تُعالج بما يتلاءم والمكانة الفذَّة التي يتبوأها هذا الناقد , ولهذا فأخذت نفسي بجمع آرائه النقدية المبثوثة في كتابه (الكامل) ورتبتها بحسب الموضوعات التي تناولها المبرد .
وعلى الرغم من ذلك , فإنَّ أغلب الدراسات التي اتخذت المبرد موضوعاً للبحث لم تهتم بشكل فعال وجدي وشاملٍ في القضايا التي عالجها المبرد في ( الكامل ) , ومن هذه المحاولات , محاولة الدكتور أبوالحسن عبدالله الخطيب الموسومة بالـ (المبرد ودراسة كتابه الكامل ) , فقد وجدت معالجة الجانب النقدي فيها مقتضياً , لم يخصص له الباحث أكثر من عشر صفحات تناول فيها جملة من الأمور تتعلق بمسألة اللفظ والمعنى , والاستعانة , وربط المبرد بين الفن والحياة , وقد اشترط لامتياز النص الأدبي أن يكثر تردد معناه وضربه بين الناس (4) .
ومن هنا تأتي هذه المحاولة لتكتسب شرعيتها في دراسة هذا العالم الكبير , وهي بحالة تحتاج إلى مزيد من التمحيص ، والتدقيق ، والمعالجة , لهذا فقد بينت آراء النقاد السابقين له، ممن اعتمد عليهم في آرائه: كأبي عمرو بن العلاء ، والأصمعي ، والجاحظ ، وابن قتيبة، كما ذكرت أثره على النقاد المعاصرين له واللاحقين به في مختلف العصور وفي جميع الأمصار , كابن المعتز , والصولي ، والآمدي , والقاضي الجرجاني, وأبي هلال العسكري , وابن شهيد ، وابن رشيق , وابن شرف , وابن بسَّام من الأندلسيين .
ومن أجل ذلك ألزمت نفسي باستقصاء جميع آراء المبرد التي احتواها كتابه الكامل , ومعالجتها في هذه الدراسة , ولعل أهم ما ينبغي الإشارة إليه عدة أمور في دراسة المبرد كناقد في كتابه الكامل : أولاهما ناحية ذوقية تتحكم في آدائه النقدية حول النصوص الشعرية .
وثانيتهما : الناحية المنهجية في معالجته مجمل القضايا النقدية , وتتصل هذه بما للمبرد من معارف وعلوم ، وظفها في الحكم النقدي ، بوصفه رئيس المدرسة النحوية في البصرة , والملم بالتراث النقدي قبله ، ولا سيما آراء أساتذته إذ طالع أغلبها فأنهل منها , وانتقد بعضها , وأخذ منها ما ينسجم مع تقاليده العلمية والأخلاقية ، ويتفق مع شرط كتابه ، وهاتان الناحيتـان تتجليان بوضوح فـي كتابه من خلال الأسس التي اعتمدها في نقده ، ولعل ما أقدمت عليه ، وتصديت إليه ، يفي بعض ما لأدبنا الخالد من دين في أعناقنا فكل يعمل بجهد اقتداره , والكمال لله وحده .
ولعل أهم ما وقفت عنده من قضايا نقدية هي : -
ثانياً :موقفه من اللفظ والمعنى :
تشكل قضية اللفظ والمعنى محوراً أساسياً من المحاور التي تحدث عنها النقاد والبلاغييون في هذا العصر , وقد شغلت الفكر النقدي عند العرب منذ أقدم العصور , واحتلت حيزاً واسعاً من اهتمامهم، إذ أولوها عناية كبيرة في مؤلفاتهم , فبعد انتشار موجه الإسراف في فن البديع , أصبحت هذه القضية تمثل الإتجاه العام عند النقاد والبلاغيين ، ومن أوائل النقاد الذين وقفوا على هذه القضية هم: أبو عمرو بن العلاء ، وخلف الأحمر ، والأصمعي الذي كان يرى أن البلاغة ليست ( بخفة اللسان ، ولا كثرة الهذيان , ولكن بإصابة المعنى , والقصد إلى الحاجة , وأن أبلغ الكلام مالم يكن بالقروي المجدَّع, ولا بالبدوي ( المعرَّب ) (5) أما اللفظ فكان الأصمعي فيه يؤثر الجزالة والقوة والفخامة , فعدي بن زيد , وأبي داؤد كما يقول: ( لا تروي العرب أشعارهم ، لأنَّ ألفاظهما ليست بنجدية ) (6) .
ويعد الأصمعي واحداً ممن عني بالمعنى وآثره على اللفظ الغامض , وجودة الشعر عنده تتمثل بمسابقة اللفظ للمعنى , وكان مدار البلاغة عنده بصحة المعنى ، وفصاحة اللفظ، وكان اللغويون والنحويون أشد تمسكاً بعمود الشعر القديم ، وعدم الخروج على المألوف في الطريقة الشعرية , ولهذا فقد استهجنوا استعارات أبي تمام لغرابتها , ولم يستسيغوا تشبيهاته ، لغموضها وتعقيدها الذي تمخَّض عنها أسلوبه المبهم ، لهذا قام النحويون واللغويون بدور بارز في التعقيب على الشعراء ، واستقصاء أخطائهم في النحو واللغة س، ومن ثم تطور الفكر النقدي عند العرب ، وأصبح يعالج قضايا أكثر تعقيداً من ذي قبل , أي في العصر الجاهلي يوم كان النقد يستند إلى الذوق ، ويعتمد على مستوى الانفعال في النص الشعري , فكانت اللفظة المفردة هي مركز اهتمامهم الأساس , دون القيام بالتعليل ، والتفسير لأحكامهم النقدية , وبمرور الوقت ازدادت عناية النقاد بهذه القضية , وانقسم النقاد حولها إلى عدة طوائف منها ما تؤثر اللفظ على المعنى , وأخرى تميل إلى جانب المعنى دون اللفظ , وثالثة كانت توفيقية .
ومن الجدير بالذكر أنًّ الجاحظ يعد من أوائل النقاد الذين لم يفضلوا اللفظ على المعنى , ودرس هذه القضية في كتابه البيان والتبيين دون أن يفرد لها باباً خاصاً , كما هو الحال عند المبرد فالجاحظ كما هو معروف عنه يشيد باللفظ , ويرفع من شأنه , ولا يحطُّ من قدر المعاني , فهي عنده (( مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي )) ، وفي موضع آخر يرى (( أنَّ حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ ؛ لأنَّ المعاني مبسوطة إلى غير غاية, وممتدة إلى غير نهاية , وأسماء المعاني مقصورة معدودة, ومحصلة محدودة )) (7) والذي يفهم من قول الجاحظ أنَّه لايغض من شأن المعاني , وإنما الشأن عنده السبك , إذ يقول : (( وإنما الشعر صناعة وضرب من النسج , وجنس من التصوير (8) 0فالمختار في ذلك ما يكون جامعاً للسهولة , والسلاسة , واللطافة , وجودة الصنعة , أي التأليف الذي هو السياق التركيبي للألفاظ في عبارة أو جملة نافعة , والمقصود بالمدلول أو المعنى : هو ما تدل عليه نتيجة التركيب الأسلوبي للعبارة , ويؤكد الجاحظ على أن الشعر صناعة، أصلها الكلام الذي هو أصوات ، أو رموز موقعها من السمع موقع الصور من الابصار ، فما كان حسن الوقع في السمع ، تأنس الاذن اليه وتنبسط النفس له ، وما كان خلاف ذلك تنبو عنه الاذن وتأباه النفس ، ويمجه الذوق، وأكد البلاغيون على أنَّ يكون اللفظ عذباً , حسن المخرج من اللسان , لا أنْ يكون كزَّاً ، خشناً ، أو وعراً , ولهذا فقد أدَّى بهم الحال إلى تقسيم الألفاظ والمعاني على درجات , فمنها الشريف , ومنها الوضيع , وينبغي أن نذكر هنا ما يقوله بشر بن المعتمر : ( وإيَّاك والتوعُّرَ , فإنَّ التوعُّر يسلمك إلى التعقيد , والعقيد هو الذي يستهلك معانيك , ويشين ألفاظك , ومن أراغ معنى كريماً , فليلتمس له لفظاً كريماً , فإنَّ حق المعنى الشريف اللفظ الشريف , ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدها ويهجنهما) (9) .
ويفصل الجاحظ في ذلك القول في عدة مواضع من كتاب البيان والتبيين دون أنْ يبّوبه , ويستعمل له المصطلح النقدي الخاص به , في مثل قوله : (( وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عامياً , وساقطاً سوقياً , فكذلك لا ينبغي أن يكون غريباً وحشياً , إلاَّ أنْ يكون المتكلم بدوياً أعرابياً , فإنَّ الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس , كما يفهم السوقي رطانة السوقي , وكلام الناس في طبقات , فمن الكلام الجزل والسخيف , والمليح والحسن , والقبيح والسمج , والخفيف والثقيل , وكله عربي , وبكل قد تكلموا, وبكل قد تمادحوا وتعايبوا (10) ، ومن هذا المنطلق , نجد أنَّ الجاحظ كان منحازاً إلى جانب اللفظ , ومرد ذلك , يعود إلى موقفه الإعتزالي الذي يعتمد على الجدل لغرض الإقناع , وهو لم يقصد اللفظة المفردة بقدر ما كان يعني السياق , أو التأليف , أو تركيب العبارات والجمل , فقد جعل الإعجاز قائماً على عملية ( النظم )(11) .
ويأتي أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة ( 213 ـ 276 هـ ) ليكمل دور الجاحظ في الرد على الشعوبية والدفاع عن العرب , ويحذو حذوه في بعض آرائه , مثل تبني النادرة بلفظ أصحابها , وعلى الرغم من ذلك , فقد كان ابن قتيبة متحاملاً على الجاحظ من الناحية المذهبية , ولكنهما كانا متفقين في الموقف النقدي الذي يعتمد على الجودة مقياساً للشعر من دون الإهتمام بالقدم والحداثة ، ثم أنهما يفترقان من ناحية النظر إلى اللفظ والمعنى , فالجاحظ يرفع من شأن اللفظ ، كما أسلفنا ذكره من قبل ، بينما كان ابن قتيبة توفيقياً في نظرته إلى اللفظ والمعنى على حد سواء, فلم يفرق بينهما , أي أنَّه لم يول أحدهما عناية دون الآخر , وهو يرى أنَّ الشعر منه جيد
اللفظ وجيد المعنى , ومنه جيد اللفـظ دون المعنى ، ومنه جيـد المعنى دون اللفـظ , والقسم الأخير لم يكن جيد اللفظ ولا المعنى , وأنَّ البلاغة ، على هذا الأساس ، لا تكون في اللفظ وحده ، ولا في المعنى منفرداً، بل تكون فيهما جميعاً , وقد تنتقصهما جميعاً ، ولما تدبر الشعر وجده أربعة أضرب :
1 ـ ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه .
2 ـ وضرب منه حسن لفظه وحلا فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى.
3 ـ وضرب منه جاد معناه وقصًّرت ألفاظه عنه .
4 ـ وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه (12) .
ويبدو أنَّ ابن قتيبة كان منصفاً في رأيه , إذ لا يرى حسن اللفظ معياراً لجودة الشعر , إذا لم يكن وراءه معنى , وكذلك لا يعتمد بجودة المعنى كمقياس للشعر البليغ , إذا قصرت ألفاظه عن الإجادة , وفقدت الرونق ، والطلاوة , والسلاسة ، والسهولة ، والعذوبة .
وقد يحق لنا الآن أن نقدم أبا العباس المبرد ليطرح علينا موقفه النقدي من مسألة اللفظ والمعنى , فقد عالج الجانب اللفظي في وجوه متعددة , فعلى صعيد المفردة أشار إلى الألفاظ البينة القريبة المفهمة , والحسنة الوصف , الجميلة الرصف , واستشهد بنماذج من أشعار الشعراء الجاهليين والمخضرمين كقول عنترة (13) :
يخبرُك من شهد الوقيعة iiَأنَّني أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم |
وقول زهير بن أبي سلمى :
على مكثريهم رزق ُمن يعتريهم وعند المقلين السماحة ُوالبذلُ |
وقول الحطيئة :
وذاك فتىً إنْ تأته في صنيعةٍ إلى ماله لا تأته ِ بشفيع ِ |
ودعا المبرد إلى تجنب المستكره منها والقبيح , والألفاظ الهجينـة والمعاني البعيـدة ،
وضرب مثلاً لذلك قول الفرزدق المشهور في مدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك (14) .
وما مثلُه في الناس إلا مملكاً أبو أمِّه حيٌّ أبوه iiيقاربُهْ |
لما لجأ الشاعر إلى هذا الإلتواء والشذوذ ، فقد أدى إلى عدم فهم هذا البيت , إلاَّ إذا أعيد ترتيب كلماته ، ووضعها في أماكنها وضعاً طبيعياً على وفق هذا السياق , وعلى ضوء ترتيب المعاني في الذهن كأنْ يقول : وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أم هذا المملك أبو هذا الممدوح , فدلَّ على أنَّه خاله بهذا اللفظ البعيد , وهجَّنه بما أوقع فيه من التقديم والتأخير , حتى كان الشعر لم يجتمع في صدر رجل واحد مع قوله حيث يقول:
تصرَّم مني ودُّ بكر بن iiوائل وما كاد منِّي ودُّهم iiيتصرَّمُ قوارصُ تأتيني ويحتقرونَها وقد يملأ القطرُ الإناءَ iiفيفعمُ |
والذي أفسد الكلام في هذا البيت وهجَّنه لجوء الشاعر إلى التعقيد اللفظي ، على الرغم من فصاحة الألفاظ , ولكن نظم البيت على هذه الصورة من التقديم والتأخير أدى إلى سماجة الأسلوب , وتوعره المفضي إلى القبح , وقد أشار إلى ذلك ابن سنان الخفاجي في سرِّ الفصاحة حيث يقول : ( فمن وضع الألفاظ موضعها , إلا يكون في الكلام تقديم وتأخير ؛ حتى يؤدي ذلك إلى فساد معناه , واعرابه في بعض المواضع , أو سلوك الضرورات ، حتى يفصل فيه بين ما يقبح فصله في لغة العرب , كالصلة والموصول وما أشبههما ولهذا أمثلة : منها قول الفرزدق يمدح إبراهيم بن إسماعيل خال هشام بن عبد الملك في البيت السابق , ففي هذا البيت من التقديم والتأخير ما قد أحال معناه ، و أفسد إعرابه , لأنَّه يقصد وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكاً أبو أمِّه أبوه , يعني هشاماً , لأنَّ أبا أمه أبو الممدوح (15) .
إنَّ النص الأدبي يحقق مكانته من اتصاله بالمتقبل فيما يتركه النص من أثر في الملتقي ، وهو ما اصطلح عليه النقاد أو عبر عنه بعضهم بالـ ( التلذذ الأدبي) (16) ، ومثلما يحدث الأثر الأدبي في المتلقي طرباً يمكن التعبير عنه بعدة حالات : منها إعادة الكلام المسموع , أو هز الرأس , وأداء بعض الحركات والأصوات, كالصفير، والتصفيق , والتهليل , كما هو الحال بالنسبة إلى الجمهور الملتقى للنقائض , أو إشارة الرسول عند سماعه كعب بن زهير(بانت سعاد)، حينما وصل الشاعر إلى قوله :
لا يقعُ الطعنُ إلاَّ في iiنحورهم وما لهم عن حياض ِ الموت تهليلُ |
وقد أشار بعض الدارسين إلى شكل أخر من أشكال التأثر بالنص وأحداث الإنفعال من أثر وقعه في النفس , ذلك هو الضرب بالأرجل, ويستدل على ذلك بهذه الرواية : ( تشاجر الوليد بن عبد الملك ومسلمة أخوه في شعر امرئ القيس والنابغة الذبياني في وصف طول الليل , أيُّهما أجود فرضيا بالشعبي, فأحضر فأنشده الوليد ( للنابغة ) من ( الطويل ) .
كليني لهم ٍّ يا أميمة ُناصبٍ وليلٍ أقاسيه بطي iiالكواكب |
وأنشده مسلمة قول امرئ القيس من ( الطويل ) :
وليلٍ كموج ِالبحر ِأرخى سدولَهُ عليَّ بأنواع ِالهموم ِليبتلي |
قال : فضرب الوليد برجله طرباً. فقال الشعبي: بانت القضية (17) , أنَّ طرب المتقبل إذن مقياس مهم يمكن أنْ يعتمد لإبراز أدبية النص .
ولأثر النص لون أخر من الاستهجان , يحصل هذا عند الإصغاء إلى البيت الشعري , وقد يعود السبب إلى أنَّ للتوعر , والتقديم والتأخيرنتائج سلبية على النفس , فتؤثر فيها من الناحية النفسية ، فيحصل عدم التلذذ بالنص , وبالتالي تنفر منه النفس , ويملُّه القلب , كما هو الحال بالنسبة إلى بيت الفرزدق الذي مر ذكره , على عكس مما انتبه إليه النقاد القدامى من إسراع القلب إلى النص الجيد , ويتجلى ذلك في عدة أشكال منها : ( الطرب ) و ( الارتياح ) يقول الجرجاني ( ت 392 هـ ) في هذا الخصوص : ثم تأمل كيف تجد نفسك عند إنشاده ، وتفقد مما يتداخلك من الارتياح , ويستخفك من الطرب إذا سمعته (18) .
ويؤكد على ذلك في موضع أخر بقوله : ثم أحسست في نفسك عنده هزة , ووجدت طربة, تعلم لها أنَّه انفراد بفضيلة لم ينازع فيها (19) .
وقد عني أبو العباس المبرد بما يحدثه النص الأدبي من انفعال شعوري, ومن الجدير بالذكر, أنْ نشير إلى أنَّ هذا الشكل أو النمط من التعبير عن الشعور كان
محل درس عند النقاد القدامى , إلى حد دعا أبا العباس المبرد ( 286 هـ ) إلى أن يعده وجهاً من وجوه التأثر سماه ( برسم المشاكلة ) . ففي المبحث الذي عقده لنقد الشعر يقول فيه : ( وحُدِّثْتُ أن الكميت بن زيد أنشد نُصيباً ، فاستمع له , فكان فيما أنشده :
وقد رأينا بها حوراً منعمة ً بيضاً تكامل َفيها الدلُّ والشنبُ |
فثنى نصيب خنصره , فقال له الكميت: ما تصنع ؟ فقال : أحصي خطأك ، تباعدت في قولك:( تكاملَ فيها الدلُّ والشنبُ ) ، هلا قلت كما قال ذو الرمة :
لمياء ُفي شفتيها حوةٌ لعسٌ وفي اللثاتِ وفي أنيابها شنبُ |
ولما كان الكلام غير متآلف التركيب , ولا متآزر الألفاظ ، ولم يجر على نسق , بحيث تكون بين اللفظة وأختها مناسبة وانسجام , فلم يحصل له صحة المعنى وسموه , فيمجُّه السمعُ , ويأباه الذوقُ , وينبغي أنْ يحدث الأمر أو ينطبق على الحروف , ليلائم النسيب النسيب ؛ لأنه بين الحروف قرابة ونسب , وبخلاف ذلك يعد عيباً عند العرب عامة، وفي رأي النقاد ، على وجه الخصوص , فقد علق المبرد على الأبيات السابقة، معللاً سبب قبح هذا الكلام ، وهو الناقد الفذ والشاعر العالم , حيث يقول : والذي عابه نصيب من قوله:
( تكامل فيها الدل والشنب ) قبيح جداً وذلك أنَّ الكلام لم يجر على نظم , ولا وقع إلى جانب الكلمة ما يشاكلها، وأول ما يحتاج إليه القول أنْ ينظم على نسق , وأنْ يوضع على رسم المشاكلة (20) , ومن النقاد المتأخرين الذين عبروا عن هذه الظاهرة ابن سنان الخفاجي , فقد حذا حذو المبرد في معالجته هذه الناحية, إذ أكَّد ما ردده أبو العباس المبرد من قبل, فقال ابن سنان : ( ومن الصحة صحة النسق والنظم , وهو أنْ يستمر في المعنى الواحد , وإذا أراد أنْ يستأنف معنى أخر أحسن التخلص إليه , حتى يكون متعلقاً بالأول غير منقطـع عنه (21) ، وكـان المرزوقي ـ فيما بعد ـ يؤكد بـأن
العرب كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته .
ثالثاً : الجانب الدلالي
كان مبحث المبرد فيه يسير في اتجاهين :
ـ معنى المفردة المعجمي .
ـ المعنى التركيبي .
ومع أن المبرد أعاد الوقفة التي وقفها الجاحظ , وابن قتيبة حين عالج موضوع اللفظ والمعنى من حيث الإفراد والتركيب , وأكَّد في الكلام المستحسن على وضوح المعنى وقرب المأخذ , ومن ناحية أخرى , علل سبب القبح في الكلام , كما أشرنا سابقاً، للنماذج التي ذكرها المبرد في الكامل , وتناول المبرد أيضاً جمال اللفظ ، وغرابة المعنى , مع الاختصار المحمود , وأكد أن ( مما يستحسن لفظه , ويستغرب معناه , ويحمد اختصاره، قول أعرابي من بني كلاب :
فمن يك لم يغرض فإنِّي iiوناقتي بحجرٍ إلى أهل الحمى غرضان iiِ تحن فتبدي ما بها من صبابةٍ وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني |
يريد لقضي علي , فأخرجه لفصاحته وعلمه بجوهر الكلام أحسن مخرج (22) , فعلى صعيد الكلام عالج جمالية الرصف وفصاحته , وعذوبة اللفظ وسهولته , وجودة المعنى وجزالتة, ومن ذلك قول الفرزدق :
ومنا الذي اختير الرجال سماحةً وجوداً إذا هب الرياحُ الزعازعُ |
أي منا الرجال ، فهذا الكلام الفصيح .
وفي موضع أخر يصف لنا الشعر الحسن , وهو ما قارب فيه القائل إذا شبَّه , وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة , ونبَّه فيه بفطنته على ما يخفي عن غيره , وساقه برصف قوي , واختصار قريب . . .
فعلق المبرد على البيت الشعري :
أشوقاً ولما تمضي لي غير ليلةٍ رويدَ الهوى حتى تغبَّ iiلياليا |
هذا من أحسن الكلام وأوضحه معنى .
ويستحسن لذي الرمة قوله في مثل هذا المعنى (23) .
أحب المكان القفر من أجلي أنني به أتغنى باسمها غير معجم |
وقد جلى المبرد العلاقة العضوية بين اللفظ والمعنى , مشيراً إلى حسن المعنى وصحته, وقرب مأخذه , وقد أورد قول ميادة لرياح بن عثمان بن حيان المري :
أمـرتك يا رياح بأمر حزم فقلت : هشيمة من أهل نجد |
وعده ( ومما يستحسن إنشاده من الشعر لصحة معناه , وجزالة لفظه , وكثرة تردد ، وضربه من المعاني بين الناس ) (24) وقد أشار ثعلب إلى مثل هذا الرأي أثناء حديثه عن اللفظ الجزل فيقول : ( فأما جزالة اللفظ فما لم يكن بالمعزب المستغلق البدوي , ولا الفساق العامي , ولكن ما أشتد أسره , وسهل لفظه , ونأى واستصعب على غير المطبوعين مرامه ) (25) وقد حذا أبو هلال العسكري حذو المبرد , وثعلب , في النظر إلى سهولة اللفظ , وعدة من السهل الممتنع , فقد علق على بيت العباس بن الأحنف .
إليك أشكو رب ما حل iiبي من صد هذا التائه المعجب |
فهذا شعر حسن المعنى , سهل اللفظ , عذب المستمع , قليل النظير , عزيز التشبيه, ممتع ممتنع , بعيد مع قربه , صعب في سهولته (26) .
ولعل ابن جني لم يستطع أن يجاري المبرد في موقفه عند هذه القضية , بل أنه كان يرى أن الألفاظ هي خدم للمعاني , ولهذا فإن العرب كانت تثقف ألفاظها وتهذبها، وتصقل مبانيها وتحسنها , كما في قوله : ( فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها , وحموا حواشيها وهذبوها , وصقلوا غروبها وأرهفوها , فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ , بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بهـا ، وتشريف منها ، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته وتقديسه , وإنما المبغى بذلك منه الإحتياط للموعى عليه (27) .
اختلفت أذواق الشعراء في المفاضلة بين اللفظ والمعنى , وتعددت مذاهب النقاد
العرب في هذه الظاهرة أو القضية , فمنهم من يؤثر اللفظ على المعنى فيجعله منتهى
غايته , ويجري في ذلك على طريقة العرب الأوائل ، ومنهم من يفضل المعنى على اللفظ فيطلب صحته , ولا يبالي حيث وقع من هجنة اللفظ وقبحه وخشونته, كابن الرومي , وأبي الطيب وما شاكلهما, وكان العسكري من المنحازين إلى جانب اللفظ دون المعنى , إذ أكد ما قد ردده الجاحظ من قبل في قوله : ( سوليس الشأن في إيراد المعاني , لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي , وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه , وحسنه وبهائه , ونزاهته ونقائه , وكثرة طلاوته ومائه , مع صحة السبك والتركيب ، والخلو من أود النظم والتأليف , وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صواباً , ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت (28) .
ويؤكد أبو هلال أن حسن الكلام يتم بسلا سته ونصاعته , وانتقاء الفاظه وإصابة معناه , مع قلة الضرورات وسلامته من أود التأليف ، وخلوه من سماجة التركيب , وهذا دليل على أنّ مدار البلاغة يكون حول تحسين اللفظ مثلما يفعل الخطيب والشاعر على إحكام صنعتهما، والعناية برونق ألفاظهما ، وحسن مطالعهما. وهذا ما يتعلق باللفظ دون المعنى , وذكر حجة أخرى هي(إن الكلام إذا كان لفظه حلواً عذباً ، وسلسلاً سهلاً ، ومعناه وسطاً دخل في جملة الجيد , وجرى مع الرائع النادر , وإذا كان المعنى صواباً , و اللفظ بارداً فاتراً, والفاتر شر من البارد , كان مستهجناً ملفوظاً ومذموماً مردوداً (29) .
ومن النقاد الذين يؤثرون اللفظ على المعنى الناقد القيرواني ابن رشيق إذ يرى أن ( اللفظ جسم وروحه المعنى , وارتباطه به كارتباط الروح بالجسـم , يضعف بضعفه ,
ويقوى بقوته , فإذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ , كان نقصاً للشعر وهجنه عليه , كما يعرض لبعض الأجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك , من غير أن تذهب الروح , وكذلك إن ضعف المعنى واختل بعضه كان اللفظ من ذلك أوفر حظ , كالذي يعرض للأجسام من المرض بمرض الأرواح.
ولا نجد معنى يختل إلا من جهة اللفظ , وجريه فيه على غير الواجب , قياساً على ما قدمت من أدواء الجسوم والأرواح, فإن اختل المعنى كله وفسد, بقي اللفظ مواتاً لا فائدة فيه , وإن كان حسن الطلاوة في السمع , كما أن الميت لم ينقص من شخصه شيء في رأي العين , إلا أنه لا ينتفع به , ولا يفيد فائدة, وكذلك إن اختل اللفظ جملة وتلاشى , لم يصح له معنى , لأنا لا نجد روحاً في غير جسم البتة (30) .
والمهم في هذه القضية هي أن الحسن في الألفاظ قد لا يكفي وحده معياراً للحكم على جودة الشعر , وقبول المتلقي له , إنما ينبغي أن يصبح الحسن مرتبطاً باستغراب معنى مخترعاً لم يسبق إليه أحد من قبل , وقد أطلق النقاد على هذا الضرب من المعاني بـ ( العقم ) ، وقد أورد المبرد لذلك مثلاً من أشعار المحديثين إذ يقول : (ومن التشبيه الجيد قول الحسن بن هاني :
لم يطق حمله السلاح إلى الحر ب فـأوصى المطيق إلا iiيقيما |
فهذا المعنى لم يسبق إليه أحد (31) ، وقد حذا أبو هلال حذو المبرد في النظر إلى هذه المسألة , إلا أنه فرق بين الابتداع والإتباع , ففي الأول لم يكن للشاعر إمام يقتدي به , وأما الثاني فيشمل الضرب التقليدي الذي يحتذى على مثال سبق ورسم فرط .
والذي تعنينا من أراء المبرد النقدية , هي تلك التي كانت في الأغلب يشير فيها إلى صواب المعنى وصحتـه وطرافته, والمهم في هذا الرأي أن معياره النقدي خاضع لمنطلق الأحداث , فمن ذلك تعليقه على قول الفرزدق :
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ولم تكثر القتلى بها حين iiسلت |
وهذا البيت طريف عند أصحاب المعاني , وتأويله لم يشيموا : لم يغمدوا ولم تكثر القتلى أي : لم يغمدوا سيوفهم إلا وقد كثرت القتلى بها حين سلت (32) ، وقد عني أبوالعباس المبرد بما يتركه النص الشعري من أثر في نفس الملتقي , ويستند ذلك إلى
درجـة التذوق , إلى حد أنهـا جاءت لتعلن حكمها على هـذا الأثـر بالإستحسان أو
بخلافة , في مثل قول المبرد : ومن الكلام الحسن والمعنى الواضح قول بعض الشعراء .
اشوقا ولما تمض لي غير ليله رويـد الهوى حتى تغب iiليالياً |
إن تعليل جودة الشعر ينحصر في إصابة الحقيقة , والمقاربة في التشبيه , والبعد عن الغلو والمبالغة والإفراط , إلا أن هذا المعيار يبقى حاضراً عند المبرد , ودليلاً قاطعاً على جودة النص , فقد أورد لذلك قول الشاعر :
فلو أن ما أبقيت مني معلق بـعود ثمام ما تأود iiعودها |
الثمام : نبت ضعيف , واحدته ثمامة , وهذا متجاوز كقول القائل : (( ويمنعها من أن تطير زمامها )) .
وهذا عند المبرد خارج عن الصواب والحقيقة إنه داخل في المحال , وقد أشار المبرد إلى الإفراط الشديد في رسم الصورة , ودعا إلى تجنب المبالغة المفرطة, ويعلق بما يوحي إلى ذلك على البيت السابق, وقد ذكرنا ذلك من قبل , ( وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه، وأحسن منه ما أصاب به الحقيقة , ونبه فيه بفطنته على ما يخفي عن غيره , وساقه برصف قوي واختصار قريب ) (33) .
ومن أطرف القضايا التي تعرض لها المبرد في كتابه الكامل , هو اغتفاره العيب الذي يزيل الحسن من حوله ما يشين مقطعـه , ويستر عواره فلنسمع إليه يقول : ( وقـد يضطر الشاعر المفلق , والخطيب المصقع , والكاتب البليغ , فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكرة , فإن انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره ،
وسترتا من شينه (34) .
وقد سبق أن نوهنا بذكره للألفاظ المستكرهة , والمعاني المستغلقة , ولكن المبرد ـ من ناحية ـ لم يسطع أن يستغل هذا الرأي , وهو اكتشاف العيوب والنقص الأدبي , ومن ناحية ثانية, تنبه المبرد إلى ما في رأيه من قصور ووهن, فنقض رأيه الأول قائلاً : ( إن الكلام القبيح يبدو أشد قبحاً , إذا وقع بين الكلام الجميل من حوله , فليست
المسألة مسألة خفاء وإنما مردها إلى اغتفار القبح من أجل الجمال (35) .
إذا تقدمنا بعد ذلك وعرجنا على آرائه النقدية الأخرى , تلقينا ما لديه من مواقف نقدية إزاء بعض القضايا التي منحها ما تستحق من الشرح والتفسير والتمثيل , تلك هي قضية الموازنة بين الشعر والشعراء .
رابعاً : المفاضلة والموازنة :
نقصد بالمفاضلة في هذا الميدان أن يلجأ شاعران إلى التعبير عن معنى مقصود على وزن مخصوص , وقافية محدودة , ليتسنى للمتقبل إجراء حكم الموازنة والتفضيل , كما حصل في حضرة عبدالملك بن مروان من معارضة بين نصيب وغيره من الشعراء , ليأتي في النهاية الناقد ليفصل الحكم بينهم بما يستدعيه العرف والتقاليد والمألوف في الطريقة الشعرية , أو بما يحتويه النص من حكم ومواعظ , كما كان النص وفياً لعادات القوم كان وقعه أشد , وهذا أمر طبيعي في مجتمع يعد الشعر ديوانه وسجل حياته (36) .
والذي يهمنا من هذه المفاضلة أن المبرد برر جودة النص الشعري بما تضمنه من حكم , ومواعظ وعبر ، على الرغم من اعتماده على ذوقه الفذ, وركونه إلى نفاذ بصيرته بالشعر على وجه الخصوص , وقد استهل المبرد موازنته بقولـه : ( والشيء يذكر بالشيء وإن كان دونـه , فنجري لاحتـواء الباب والمعنى عليهما , وفي شعر حميد هذا ما هو أحكم مما ذكرنا وأوعظ وأحرى أن يمثل به الإشراف وتسود به الصحف وهو قوله :
أرى بصري قد رابني بعد صحةٍ وحـسبك داءً أن تصح وتسلما ولا يـلبث العصران يوم ٌ iiوليلة إذا طـلبا أن يـدركا مـا iiتيمما |
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كفى بالسلامة داء (37) .
إن المفاضلة بهذه الصورة تفضي إلى ( احتواء الأدبية ) إذ إن الحكم النقدي فيها يخضع إلى معايير متعارف عليها , وهو على النقيض ما كان سائداً من أحكام ارتجالية , لم تفسح المجال للتدقيق والتمحيص ، ومما يقرر مادعونا إليه هذه المفاضلة بين الفرزدق
ونصيب في الفخر والمدح .
حضر الفرزدق ونصيب عند سليمان بن عبد الملك , فقال سليمان للفرزدق : إنشدني وإنما أراد أن ينشده مدحاً له فأنشده .
وركـب كـأن الريح تطلب عندهم لـها تـرةُ من جذبها با iiلعصائب سروا يخبطون ا لريح وهي تلفهم الـي شعب الاكوار ذات ا لحقا ئب اذا انـسوا نـارا يـقولون iiليتها وقـد خـصرت أيديهم نار iiغالب |
فأعرض عنه سليمان كالمغضب، فقال نصيب: يا أمـير المؤمنين ألا أنشدك في رويها ما لعله لايتِضِعُ عنها فقال هات : فأنشده :
أقـول لركب صادر ين لقيتهم قـفا ذات أوشال ومولاك iiقارب قفواخبرونى عن سليمان اننى لـمعروفة من أهل ودان iiطالب فعاجوا فاثنوا بالذى أنت iiأهلة ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب |
فهل أن إعراض سليمان عن تفضيله الفرزدق , مرده قصور ذوقه وهو كمتلقي للنص , أم تعليله عدم إجادة الفرزدق في المدح , لعدوله عنه إلى الفخر ، إن هذة المفاضلة تعتمد على وحدة الروي والأثر الذي يحدثة النص في المتقبل , لبيان الفرق بين النصين من حيث الجودة والرداءة , إذن إن الناقد الحصيف يعلل ذلك بما يمليه عليـه ذوقـه الخاص, وما يـراه منسجماً مـع العـادات ومـا تعارف عليه العرب فيقـول : ( وهـذا فـي بـاب المدح حسـن متجـاوز , ومبتدع يسبق إليـه , على أن الشاعر ـ وهو أخو همدان قد قال في عصره في غير المدح ) .
يـمرون بـالدهناء خفافاً عيابهم ويخرجن من دارين بجر iiالحقائب على حين ألهى الناس جل أمورهم فـندلا زريـق المال ندل iiالثعالب |
لقد كان المبرد سباق حلبة النقاد أجمعين في تبلور فكرة الموازنة ، بأن تكون بين الفنيين أو الغرضين المتشابهين , فلا يجوز لنا أن نعقد موازنة بين فن المدح وفن الهجاء , سواء أكانا في عصر واحد أم في عصرين مختلفين , فضلاً عن ذلك أنه لا ينبغي أن تقام مفاضلة بين شاعرين أحدهما جاهلي والأخر في العصر الأموي أو العصر العباسي, وهذه معايير تبلورت فيما بعد وبخاصة عند الآمدي الذي أفاد من
كتب المبرد وأماليه وإنشاداته (38) ، ويبدي المبرد رأيه في تعليقه على الأبيات السابقة إذ يقول:(وليس شعر نصيب هذا الذي ذكرناه في المدح بأجود من قول الفرزدق في الفخر , وإنما يفاضل بين الشيئين إذا تناسبا (39) .
لقد واجه النقاد صعوبة في المفاضلة بين الشعراء في عصر ما قبل الإسلام مثل امرئ القيس والنابغة وزهير والأعشي وبين جرير والفرزدق والأخطل وبشار ومروان وأبي نواس وأبي العتاهية ومسلم في العصر الأموي والعباسي .
ومرد ذلك أن أوجه التشابه بينهم أكثر من أوجه الإختلاف , وقد تجلى ذلك عن مفهوم الطبقة , ومثلما حصل في العصر الأموي من أن المفضل قال : بلغني أن الفرزدق قال:-(امرئ القيس أشعر الناس , وقال جرير:النابغة أشعر الناس .
وقال : الأخطل : الأعشى أشعر الناس.
وقال ذو الرمة : لبيد أشعر الناس. وقال العجاج : زهير أشعر الناس .
وقال
تميم بن مقبل : طرفة أشعر الناس , وقال الكميت بن زيد : عمرو بن كلثـوم أشعر ( الناس ) (40) .
وشبيه بمثل ذلك ما أورده المبرد في الكامل : ( وحدثت أن جريراً كان يقول : وددت أن هذا البيت من شعر هذا العبد كان لي بكذا بيت من شعري : يعني قول نصيب .
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب وقـل إن تـملينا فما ملك iiالقلب |
فهذا نمط من التأثر الذي أحدثه النص في نفس المتلقي أو المتقبل , بحيث دعاه إعجابه بالبيت أن يقيمه بكذا بيت من شعره , لكنه عجز أن يعلل سبب ذلك الإعجاب , وقد يصدرعن الشاعر نفسه ما يستبرد ويمج ، ولم يستسغ معناه .
لقد أبدى المبرد رأيه في بيت لنصيب واستبرد مقطعه واستهجن معناه , ولم يجد له مسلكاً ذلك هو قوله :
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت أو كل بدعدٍ من يهم بها بعدي |
فلم تجد الرواة ولا من يفهم جواهر الكلام له مذهباً , وقد ذكر عبدالملك لجلسائه ذلك فكل عابه , فقال عبد الملك : فلو كان إليكم كيف كنتم سائلين ؟ فقال رجل منهم كنت
أقول :
أهيم بدعد ٍ ما حييت وإن أمت فواحَزنا من ذا يهم بها iiبعدي |
فقال عبدالملك : ماقلت : والله, أسوأ مما قاله , فقيل : كيف كنت قائلاً في ذلك ياأمير المؤمنين؟ فقال كنت أقول :
أهيم بدعد ٍ ما حييت وإن iiأمت فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي |
فقالوا : أنت والله, أشعر الثلاثة ياأمير المؤمنين .
إن أول ما يطالعنا في هذا المقام لهو حصول اتفاق عند المتقبلين على ترجيح شعر عبدالملك بن مروان , وذلك لإنَّه متفق مع تقاليد وأعراف العرب في هذا الوصف , فالشاعران الأولان كانا مقتصرين وتعليـل ذلك أنهما عجزا عن تحقيـق الإنفعال المؤثر في نفوس المتلقين , لمخالفتهما ما هو مألوف في هذا الوصف , ويعود هذا التفضيل في الحكم القاطع إلى المعيار المتعارف عليه , وهو ( المألوف في الطريقة
الشعرية ) .
هذه بعض آراء المبرد النقدية التي ألممنا بها وسيأتي الحديث عن مواقفه الأخرى كقضية الصراع بين القديم والجديد ، والسرقات والضرورات الشعرية ، ومعاني الأغراض الشعرية لاحقاً .
خامساً : الهوامش
(1) اخبار النحويين البصريين : 77 .
(2) مراتب النحويين : 135 .
(3) طبقات النحويين واللغويين : 101 .
(4) المبرد ودراسة كتابه الكامل 446 ـ 447 .
(5) روضة العقلاء : 199 .
(6) الموشح : 66 .
(7) البيان والتبين ، ج 3 / 131 ـ 132 .
(8) الحيوان، ج 3 / 131 .
(9) البيان والتبيين ، ج 1 / 136 .
(10) المصدر نفسه ، 1 / 144 .
(11) تاريخ النقد الأدبي عندالعرب من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري ، ص 18 .
(12) الشعر والشعراء ، 12 ـ 15 .
(13) الكامل في اللغة والأدب ، ج 1 / 27 .
(14) المصدر نفسه ج 1 / 28 .
(15) سر الفصاحة ، 101 ، ينظر كذلك علم المعاني ، 62 .
(16) مفهوم الأدبية في التراث النقدي ، 10 .
(17) مفهوم الأدبية في التراث النقدي ، 10 ـ 11 .
(18) الوساطة بين المتنبي وخصومه : 27 .
(19) المصدر نفسه ، 18 .
(20) الكامل في اللغة والأدب، ج 1 / 160 .
(21) سر الفصاحة ، 259 .
(22) الكامل في اللغة والأدب، ج 1 / 32 .
(23) المصدر نفسه ، ج 1 / 294 ـ 295 .
(24) الكامل في اللغة والأدب، ج 1 / 44 ـ 45 .
(25) قواعد الشعر ، 59 .
(26) كتاب الصناعتين ، 60 .
(27) الخصائص ، ج 1 / 217 .
(28) كتاب الصناعتين ، 55 ـ 57 .
(29) المصدر نفسه ، 58 ـ 59 .
(30) العمدة في صناعة الشعر وآدابه ونقده ، ج 1 / 124 .
(31) الكامل في اللغة والأدب، ج 3 / 140 .
(32) المصدر نفسه ، 1 / 308 .
(33) الكامل في اللغة والأدب، ج 1 / 294 .
(34) المصدر نفسه، ج 1 / 27 .
(35) المصدر نفسه ، ج 1 / 27 ، ينظر كذلك تاريخ النقد الأدبي عندالعرب من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري ، 93 .
(36) مفهوم الأدبية في التراث النقدي ، 15 .
(37) الكامل في اللغة والأدب، ج 3 / 127 ـ 128 .
(38) الموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي ، 84 .
(39) الكامل في اللغة والأدب، ج 1 / 182 ـ 184 .
(40) جمهرة أشعار العرب ، 104 .
|
|
|
|