اتصل بنا
مؤمنــــة
البطاقات
انتصار الدم
مساجد البصرة
واحة الصائم
المرجعية الدينية
الرئيسية
النور 36 التمثيل السادس والثلاثون
( وَالّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَمآنُ ماءً حَتّى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوفّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الحِسَابِ ).
(1)
تفسير الآية
"السراب": ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الاَرض كأنّه ماء يجري، و"القيعة": بمعنى القاع أو جمع قاع، وهو المنبسط المستوي من الاَرض، والظمآن هو العطشان.
يشبه سبحانه أعمال الكفار تارة بالسراب كما في هذه الآية، وأُخرى بالظلمات كما في التمثيل الآتي، ولعلّ المشبه في الاَوّل هو حسناتهم، وفي الثاني قبائح أعمالهم.
وإليك توضيح التمثيل الوارد في الآية:
قال سبحانه: ( وَالّذِينَ كَفَرُوا أَعمالهم ) أي ما يعملون من الطاعات ويقدمون من قرابين وأذكار يتقربون بها إلى آلهتهم، مثلها كـ ( سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ).
------------------------------------
(1 ) النور:39.
الأمثال في القرآن
_212 _
فقد وصف الظمآن بصفات عديدة:
الاَُولى: حسبان السراب ماءً ،كما قال سبحانه: ( كَسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ).
الثانية: إذا وصل إلى السراب لم يجده شيئاً نافعاً، كما قال سبحانه ( حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) وإنّما خصّ الظمآن به مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راءٍ، لاَن المقصود هو مجيء الرائي إلى السراب، ولا يجيئه إلاّ الظمآن ليرتوي ويرفع عطشه.
الثالثة: عند ما يشرف على السراب لا يجد فيه ماءً، ولكن يجد الله سبحانه عنده، كما قال سبحانه: ( وَوَجد الله عنده ).
وهذا خبر عن الظمآن، ولكن المقصود منه في هذه الجملة هو الكافر، والمعنى وجد أمر الله ووجد جزاء الله ، وذلك عند حلول أجله واشرافه على الآخرة.
فالكافر يتصوّر أنّ ما يقدم من قرابين وأذكار سوف ينفعه عند موته و بعده، وسوف تقوم الآلهة بالشفاعة له، ولكن يتجلّـى له خلاف ذلك وانّ الاَمر أمر الله لا أمر غيره فلا يجدون أثراً من ألوهية آلهتهم.
فعند ذلك يجدون جزاء أعمالهم، كما يقول سبحانه: ( فَوَفّاهُمُ اللهُ حسابهم ).
ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله: ( وَاللهُ سريع الحساب ).
وبذلك تبين انّ الآية المباركة لبيان حال الظمآن الحقيقى إلى قوله: ( لم يجده شيئاً )، كما أنّها من قوله ( ووجد... ) يرجع إلى الظمآن لكن بالمعنى المجازي وهو الكافر.
الأمثال في القرآن
_ 213_
وحاصل التمثيل هو انّ الطاعة والعبادة والقربات كلها لله تبارك وتعالى، فمن قدمها إليه و قام بها لاَجله فقد بذر بذرة في أرض خصبة سوف ينتفع بها في لقائه سبحانه، وأمّا من عبد غيره و قدم إليه القربات راجياً الانتفاع به، فهو كرجاء الظمآن الذي يتصوّر السراب ماءً فيجيئه لينتفع به ولكنّه سرعان ما يرجع خائباً، إلى هنا تمَّ ما يشترك فيه الظمآن والكافر، أي المشبه به والمشبه، ولكن المشبه، أعني: الكافر الذي شبه بالظمآن فهو يختص بأُمور أُخرى.
أولاً: انّه عند مجيئه إلى الانتفاع بأعماله يجد الله هو المجازي لا غير.
وثانياً: انّه سبحانه يجزيه بأعماله.
وثالثاً: فيوفيه حسابه.
وما ذلك إلاّ لاَنّ الله سريع الحساب. وعلى ضوء ما ذكرنا فقد أُريد من الظمآن الاسم الظاهر الظمآن الحقيقي، وأُريد من الضمائر الثلاثة في "وجد" "وفّاه " "حسابه" الظمآن المجازي أعني الكافر الخائب.
الأمثال في القرآن
_ 214_
النور 37 التمثيل السابع والثلاثون
( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها وَمَنْ لَمْ يَجعلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ).
(1)
تفسير الآية
"اللجيّ": منسوب إلى اللجّة، وهي في اللغة البحر الواسع العميق، ولكنّه استخدم في لازم معناه وهو تردد أمواجه، فانّ البحر كلما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه، وعلى ذلك فيكون المراد من قوله ( بحرٍ لجيّ ) أي بحر متلاطم.
و "السحاب": عبارة عن الغيوم الممطرة، بخلاف الغيم فهو أعم، وانّمااستخدم كلمة السحاب ليكون سبباً لازدياد الظلم.
هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية، وأمّا المقصود فهو كالتالي، انّه سبحانه شبه في الآية السابقة أعمال الكافرين، لاَجل عدم الانتفاع بها بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، ولكنّه تعالى شبّه أعمالهم في هذه الآية بالظلمة وخلوّها من نور الحق ببحر لجيّ فوقه سحابة سوداء ممطرةويعلو ماءه
------------------------------------
(1 ) النور:40.
الأمثال في القرآن
_215 _
موج فوق موج، فراكب هذا البحر تغمره ظلمة دامسة لا يرى أمامه شيئاً حتى لو أخرج يده فانّه لا يراها مع قربها منه ، هذا هو المشبه به، و أمّا المشبه فالاَعمال التي يقوم بها الكافر باطلة محضة ليس فيها من الحقّ شيء مثل هذا البحر اللجي المحيط به عتمة الظلام الذي ليس فيه نور. ثمّ إنّ الآية تشير إلى ظـلمات ثلاث .
الاَُولى: ظلمة البحر المحجوب من النور.
الثانية: ظلمة الاَمواج المتلاطمة.
الثالثة: السحاب الاَسود الممطر.
فتراكم هذه الظلمات يحجب كلّ نور من الوصول، وهكذا الحال في الكافر ففي أعماله ظلمات ثلاث يمكن بيانها بأنحاء مختلفة:
النحو الاَوّل: ظلمة الاعتقاد، ظلمة القول، ظلمة العمل.
النحو الثاني: ظلمة القلب، ظلمة البصر، ظـلمة السمع.
النحو الثالث: ظلمة الجهل، ظلمة الجهل بالجهل، ظلمة تصوّر الجهل علماً
(1)
.
ويمكن أن تكون هذه الظلمات المتراكمة إشارة إلى أمر آخر وهو إصرار الكافر المتزايد على كفره وقبائح أعماله، ولذلك يصفه سبحانه بقوله: ( ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ).
------------------------------------
(1 ) انظر تفسير الفخر الرازى: 24|8 ـ 9.
الأمثال في القرآن
_ 216_
إيقاظ
ثمّ إنّ بعض الموَلفين في أمثال القرآن ذكروا الآية التالية واعتبروها من الاَمثال، قال سبحانه: ( وَقَالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعام وَيَمْشي فِي الاََسْواقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاََمْثال فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ).
(1)
ولكن الآية رغم ما جاء فيها من لفظ الاَمثال ليست من قبيل التمثيل، وإنّما هي بصدد نقل ما وصف به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في لسان الكفّار ، حيث وصفوه بأنّه يأكل الطعام، ويمشي في الاَسواق، فلا يصلح للرسالة.
ثمّ نقموا منه بأنّا سلمنا انّه رسول، ولكنّه لماذا لا ينزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ليتصل إنذاره بالغيب بتوسط الملك؟ ثمّ نقموا منه أيضاً بأنّه لماذا لم يُلقَ إليه كنز من السماء حتى يصرفه في حوائجه المادية، أو لماذا لا تكون له جنّة يأكل منها، ثمّ في الختام وصفوه بأنّه مسحور.
فقال سبحانه اعتراضاً وتنديداً بوصفهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيجاباً وسلباً بقوله ( انظر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاََمْثال ) أي انظر كيف وصفوك تارة بأنّك تأكل وتمشي في الاَسواق، وأُخرى بعدم اقترانك بملك، وثالثة بالفقر ، ورابعة بكونك مسحوراً بتخيّل انّه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب، وليس هاهنا مشبه ولا مشبه به ولا تمثيل ليبين موقف الرسول، ولاَجل ذلك صرّحنا في المقدمة انّه ليس من الاَمثال القرآنية.
------------------------------------
(1 ) الفرقان:7 ـ 9.
الأمثال في القرآن
_ 217_
العنكبوت 38 التمثيل الثامن والثلاثون
( مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون *إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيم * وَتِلْكَ الاََمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُهَا إِلاّ العالِمُون ).
(1)
تفسير الآيات
ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلاً بالذباب تارة، وبيت العنكبوت أُخرى، أمّا الاَوّل فقد مضى البحث عنه، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت، وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول: لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب، وأُخرى يمثل عمله بالمثل التالي: وهو انّ مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت، لاَنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا
------------------------------------
(1 ) العنكبوت:41 ـ 43.
الأمثال في القرآن
_ 218_
يقدر على الدفع.
ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الاَرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها.
إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء و يصير خيطاً في غاية الدقة، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سمـاً يوقف حركاتها، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها.
(1)
ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت، الذي يتألف من حائط هائل، وسقف مظلٍّ، وباب ونوافذ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب، و من جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لاَدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية، فلو هبّ عليه نسيم هادىَ لمزق النسيج، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق، ولو تراكم عليه الغبار لمزق.
هذا هو حال المشبه به، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع، وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ، لا تخلق ولاترزق، ولا تقدر على استجابة أي طلب. بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالاً من بيت العنكبوت، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً، ولكن الاَصنام والاَوثان لا توفر شيئاً للكافر.
------------------------------------
(1 ) انظر دائرة معارف القرن الرابع عشر:6|772.
الأمثال في القرآن
_ 219_
وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله: ( وَإِنّ أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت لَو كانُوا يَعْلَمُون )، ثمّ إنّ قوله: ( لو كانوا يعلمون ) ليس قيداً لقوله: ( أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت )، لاَنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن، وانّما هو من متمّمات قوله: ( اتخذوا ) أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً، ربما أعرضوا عنها.
ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أُخرى، وقال: ( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يدعُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ) والظاهر انّ "ما" في قوله: ( ما يدعون ) موصولة ، أي انّه يعلم ما يعبد هوَلاء الكفار و ما يتخذونه من دونه أرباباً. ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله. ثمّ قال سبحانه: ( وَتِلْكَ الاََمْثال نَضْرِبها لِلنّاس وما يعقلها إِلاّ العالمون ) أي نذكر تلك الاَمثال، وما يفهمها إلاّ العلماء العاقلون.
الأمثال في القرآن
_220 _
الروم 39 التمثيل التاسع والثلاثون
( وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالاََرْضِ كُلّ لَهُ قانِتُون * وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الاََعْلى فِي السَّموات وَالاََرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً من أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يعْقِلُون ).
(1)
تفسير الآيات
"القانت": هو الخاضع، الطائع، فقوله: ( كلّ له قانتون ) أي خاضعون وطائعون له في الحياة والبقاء والموت والبعث، وبالجملة كلّ ما في الكون مقهور لله سبحانه.
ثمّ إنّ هذه الآيات تتضمن برهاناً على إمكان المعاد وتمثيلاً على بطلان الشرك في العبادة، أمّا البرهان فقوله سبحانه: ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالاََرْض كُلّ لَهُ قانِتُون ) واللام في قوله "وله"للملكية، والمراد منه الملكية التكوينية، كما أنّ قنوطهم وخضوعهم كذلك، ومفاد الآية انّ زمام ما في الكون بيده سبحانه، والكل مستسلمون لمشيئته سبحانه دون فرق بين الصالحين والطالحين، وذلك
------------------------------------
(1 ) الروم:26ـ 28.
الأمثال في القرآن
_221 _
لاَنّه سبحانه هو الخالق الذي يدبر العالم كيفما يشاء، والمربوب مستسلم لربه. ثمّ إنّه سبحانه رتَّب على ذلك مسألة إمكان المعاد، بقوله: ( وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الخَلْق ثُمَّ يُعيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه )، وحاصل البرهان: انّـه سبحانـه قادر على الخلق من العدم ـ كما هو المفروض ـ فالقادر على ذلك قادر على الاِعادة، إذ ليس هو إعادة من العدم، بل إعادة لصورة الاَجزاء المتماسكة وتنظيم المتفرقة، فالخالق من لا شيء أولى من أن يكون خالقاً من شيء. ثمّ إنّ هذه الاَولوية حسب تفكيرنا وروَيتنا، وإلاّ فالاَُمور الممكنة أمام مشيئته سواء، قال على (عليه السلام) :
وما الجليل واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوى والضعيف في خلقه إلاّ سواء.
(1)
ولاَجل توضيح هذا المعنى، قال سبحانه: ( وَلَهُ المَثَلُ الاََعلى فِي السَّمواتِ وَالاََرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكيم ) والمراد من المثل الوصف، والمراد من المثل الاَعلى هو الوصف الاَتم والاَكمل، الذي له سبحانه، فهو علم كله، قدرة كله، حياة كله، ليس لاَوصافه حد.
إلى هنا تمَّ ما ذكره القرآن من البرهان على إمكانية قيام المعاد بحشر الاَجسام، وإليك بيان الاَمر الثاني وهو التنديد بالشرك في العبادة من خلال التمثيل الآتي.
------------------------------------
(1 ) نهج البلاغة: الخطبة 185.
الأمثال في القرآن
_222 _
ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الاِنكاري، وحاصله: هل ترضون لاَنفسكم أن تكون عبيدكم وإماوَكم شركاء لكم في الاَموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هوَلاء العبيد والاِماء ورضاً منهم، كما تخشون الشركاء الاَحرار.
والجواب: لا، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله، فعندئذٍ يقال لكم: كيف تجوزون ذلك على الله ، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.
والحاصل: انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الاَموال، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل، كأن يكون خالقاً أو مدبراً، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.
فالشىء الذي لا ترضونه لاَنفسكم، كيف ترضونه لله سبحانه، و هو ربّ العالمين؟ وإلى ذلك المثل أشار، بقوله:
( ضَرَبَ الله لَكُم مَثلاً مِنْ أَنْفُسكُم ) أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم ( هَل لَكُمْ من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم ) فقوله: ( هل لكم) شروع في المثل المضروب، والاستفهام للاِنكار، وقوله "ما" في ( مما ملكت ) إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد و الاِماء، فقوله: ( من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ) مبين للشركة، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره، أي شركاء فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء، و على ذلك يكون من في شركاء، زائدة.
الأمثال في القرآن
_ 223_
فقوله: ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) بيان للشركة، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الاَحرار، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الاَحرار، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء، ثمّ إنّه يتم الآية، بقوله: ( كَذلك نُفصّل الآيات لقوم يعقلون )، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.
الأمثال في القرآن
_ 224_
فاطر 40 التمثيل الاَربعون
( وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمن كُلّ تَأْكُلُون لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِليةً تَلْبَسُونَها وَتَرى الفُلكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ).
(1)
تفسير الآية
"الفرات": الماء العذب، يقال للواحد والجمع ، قال سبحانه: ( وأَسْقَيناكُمْ ماءً فُراتاً )، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.
"الاَُجاج" : هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.
"مواخر" من مخر، يقال مخرت السفينة مخراً، إذا شقت الماء بجوَجئها مستقبلة له.
فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والاِيمان، أو الكافر والموَمن.
وحاصل التمثيل: انّ الاِيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الاَُجاج.
وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع ، قال سبحانه: ( وَما يَسْتَوى البَحْران هذا عَذبٌ فُراتٌ سائِغٌ شرابهُ وَهذا مِلحٌ أُجاج ) بل انّ الكافر أسوأ
------------------------------------
(1 ) فاطر:12.
الأمثال في القرآن
_225 _
حالاً من البحر الاَُجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين:
أ: يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الاِنسان، كما قال سبحانه: ( وَمن كلٍّ تأكُلون لَحماً طَرياً ).
ب: يستخرج من كلّ منهما اللآليَ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.
إلى هنا تمَّ التمثيل، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لاَجلها السورة، وقال: ( وَتَرى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله لعلّكم تشكرون )، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي، و قال: ( وَما يستوى البحران ) ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب ( وترى الفلك ) وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.
مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل، وقال: ( وَهُوَ الّذي سَخَّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ).
(1)
وبذلك يظهر انّ وزان الآية، وزان قوله سبحانه: ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوُبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهى كَالحِجارة أَو أَشَدُّ قَسوةً وانّ مِنَ الحِجارةِ لَمَا يَتفجّرُ مِنْهُ الاََنْهارُ وَإنّ مِنْها لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإِنّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَما اللهُ بِغافلٍ عَمّا تعْمَلُون ).
(2)
فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم، فهكذا الملح الاَُجاج أفضل من الكافر ، حيث إنّه يفيد.
------------------------------------
(1 ) النحل:14.
(2 ) البقرة: 74.
الأمثال في القرآن
_ 226_
فاطر 41 التمثيل الواحد و الاَربعون
( وَما يَسْتَوِي الاََعْمى وَالبَصِير * وَلا الظُّلُماتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَما يَسْتَوِي الاَحْياءُ وَلاَ الاََمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمعٍ مَنْ فِي الْقُبُور ).
(1)
تفسير الآيات
"الحرور": شدة حرّ الشمس، وقيل: هو السموم.وقال الراغب: الحرور: الريح الحارة.
هذا تمثيل للكافر والموَمن، أمّا الكافر فقد شبّهه بالصفات التالية:
1.الاَعمى، 2. الظلمات، 3. الحرور، 4. الاَموات.
كما شبّه الموَمن بأضدادها التالية:
1. البصير، 2. النور، 3. الظل، 4. الاَحياء.
وما ذلك إلاّ لاَنّ الكافر لاَجل عدم إيمانه بالله سبحانه وصفاته وأفعاله، فهو أعمى البصر تغمره ظلمة دامسة لا يرى ما وراء الدنيا شيئاً، وتحيط به نار ،
------------------------------------
(1 ) فاطر:19ـ 22.
الأمثال في القرآن
_227 _
قال سبحانه: ( انّ جَهَنّم لَمُحيطَةٌ بِالكافِرين )
(1)
وظاهر الآية انّ النار محيطة بهم في هذه الدنيا و إن لم يشعروا بها، كما أنّه ميت لا يسمع نداء الاَنبياء وإن كان حياً يمشي، وهذا بخلاف الموَمن فانّه يبصر بنور الله يغمره نور زاهر. يرى دوام الحياة إلى ما بعد الموت، فهو في ظلّ ظليل رحمته، وانّه يسمع نداء الاَنبياء ويوَمن به.
وبعبارة واضحة: الكافر مجالد مكابر، والموَمن واعٍ متدبر.
------------------------------------
(1 ) التوبة:49.
الأمثال في القرآن
_228 _
يس 42 التمثيل الثاني والاَربعون
( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ * قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ *وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ * قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ * قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ *وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ *وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنّيإِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ * إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ * وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ * إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ * يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ).
(1)
------------------------------------
(1 ) يس:13ـ 30.
الأمثال في القرآن
_229 _
تفسير الآيات
"التعزيز": النصرة مع التعظيم، يقول سبحانه في وصف النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (فَالّذينَ آمَنُوا بهِ وَعَزّروه وَنَصَرُوه )
(1)
"طيّـر ": تطير فلان وإطيّـر ، أصله التفاوَل بالطير، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم ، فقوله ( إِنّا تطيرنا بِكُمْ ) أي تشاءمنا بكم.
وبذلك يظهر معنى قوله: ( إِنّما طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) أي انّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم، أعني: حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم على الباطل.
"الرجم": الرمي بالحجارة.
"الصيحة" :رفع الصوت.
هذا التمثيل تمثيل إخباري يشرح حال قوم بعث الله إليهم الرسل، فكذبوهم وجادلوهم بوجوه واهية، ثمّ أقبل إليهم رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى متابعة الرسل بحجة انّ رسالتهم رسالة حقّة، ولكنّ القوم ما أمهلوه حتى قتلوه، وفي هذه الساعة عمّت الكاذبين الصيحة فأهلكتهم عامة، فإذا هم خامدون، هذا إجمال القصة وأمّا تفصيلها:
فقد ذكر المفسرون انّ المسيح (عليه السلام) بعث إلى قرية انطاكية رسولين من الحواريّين باسم: شمعون ويوحنّا، فدعيا إلى التوحيد وندّدا بالوثنية، وكان القوم وملكهم غارقين في الوثنية.
------------------------------------
(1 ) الاَعراف:158.
الأمثال في القرآن
_ 230_
وناديا أهل القرية بانّا إليكم مرسلون، فواجها تكذيب القوم و ضربهما، فعززهما سبحانه برسول ثالث، واختلف المفسرون في اسم هذا الثالث، ولا يهمنا تعيين اسمه، وربما يقال انّه "بولس". فعند ذلك أخذ القوم بالمكابرة و المجادلة والعناد، محتجين بوجوه واهية:
أ: انّكم بشر مثلنا ولا مزية لكم علينا، و ما تدعون من الرسالة من الرحمن ادّعاء كاذب، فأجابهم الرسل بأنّه سبحانه يعلم انّا لمرسلون إليكم، وليس لنا إلاّ البلاغ كما هو حق الرسل.
ب: انّا نتشاءم بكم، وهذه حجة العاجز التي لا يستطيع أن يحتج بشىء، فيلوذ إلى اتهامهم بالتشاوَم والتطيّر.
ج: التهديد بالرجم إذا أصرّوا على إبلاغ رسالتهم والدعوة إلى التوحيد والنهي عن عبادة الاَوثان، وقد أجاب الرسل بجوابين:
الاَوّل: انّ التشاوَم والتطير معكم، أي أعمالكم وأحوالكم، وابتعادكم عن الحق، وانكبابكم على الباطل هو الذي يجر إليكم الويل والويلات.
الثاني: انكم قوم مسرفون، أي متجاوزون عن الحد.
كان الرسل يحتجون بدلائل ناصعة وهم يردون عليهم بما ذكر، وفي خضمِّ هذه الاَجواء جاء رجل من أقصى المدينة نصر وعزّز قول الرسل ودعوتهم محتجاً بأنّ هوَلاء رسل الحقّ، وذلك للاَُمور التالية:
أوّلاً : انّ دعوتهم غير مرفقة بشيء من طلب المال والجاه والمقام، و هذا دليل على إخلاصهم في الدعوة،وقد تحمّلوا عناء السفر و هم لا يسألون شيئاً.
ثانياً: انّ اللائق بالعبادة من يكون خالقاً أو مدبراً للعالم، ومن بيده مصيره
الأمثال في القرآن
_231 _
في الدنيا والآخرة وليس هو إلاّ الله سبحانه الذي ينفعني، فكيف أترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ شيء، وأتوجه إلى عبادة المخلوق (الآلهة المزيفة) التي لا تستطيع أن تدفع عني ضراً ولا تنفعني شفاعتهم؟! فلو اتخذت إلهاً غيره سبحانه كنت في ضلال مبين، فلمّا تم حجاجه مع القوم و عزز الرسل و بين برهان لزوم اتباعهم، أعلن، وقال: أيّها النّاس: ( إنّي آمنت بربّكم فاسمَعُون ).
ثمّ يظهر من القرائن انّ القوم هجموا عليه و قتلوه، ولكنّه سبحانه جزاه، فأدخله الجنة، وهو فرح مستبشر يودّ لو علم قومه بمصيره عند الله ، فلمّا تبيّن عناد القوم وقتل من احتج عليهم بحجج قوية نزل عذابه سبحانه، فعمَّتهم صيحةواحدة أخمدت حياتهم و صيّرتهم جماداً.
ففي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار الاِنسان الضلالة على الهداية، والباطل على الحقّ، يصح أن يخاطبهم سبحانه، و يقول:
( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يسْتهزءون )، هذه حقيقة القصة استخرجناها بعد الاِمعان في الآيات، وقد أطنب المفسرون في سرد القصة، نقلاً عن مستسلمة أهل الكتاب الذين نشروا الاَساطير بين المسلمين، نظراء وهب بن منبّه، فلا يمكن الاعتماد على كلّ ما جاء فيها.
(1)
ثمّ إنّ في الآيات نكات جديرة بالمطالعة:
الاَُولى: يذكر المفسرون انّ الرسولين لم يكونا مبعوثين من الله مباشرة، وانّما بعثا من قبل المسيح (عليه السلام) . مثل الرسول الثالث، ولما كان بعث المسيح بأمر من الله سبحانه، نسب فعل المسيح إليه سبحانه، وقال: ( إِذْ أرسلنا إليهم اثنين ).
------------------------------------
(1 ) لاحظ مجمع البيان:4|418ـ 420.
الأمثال في القرآن
_ 232_
الثانية: لقد وقفت على أنّ القوم قاموا بالجدال والعناد، فقالوا :ما أنتم إلاّ بشر مثلنا، والجملة تحتمل وجهين:
الوجه الاَوّل: أنتم أيّـهـا الرسل بشر، والبشر لا يكون رسولاً من الله ، و على هذا فالمانع من قبول رسالاتهم كون أصحابها بشراً.
الوجه الثاني: انّ المانع من قبول دعوة الرسالة هي عدم توفر أي مزية في الرسل ترجحهم، ويشعر بذلك قوله: "مثلنا" وإلاّ فلو كان الرسل مزودين بشىء آخر ربما لم يصح لهم جعل المماثلة عذراً للربّ.
الثالثة: انّ القصة تنمُّ عن أنّ منطق القوة كان منطق أهل اللجاج، فالقوم لما عجزوا عن رد برهانهم التجأوا إلى منطق القوة، بقتل دعاة الحق وصلحائه، وقالوا: ( لئن لم تنتهوا لنرجمنَّكم ).
الرابعة: انّ التطير كان سلاح أهل العناد والمكابرة، ولم يزل هذا السلاح بيد العتاة الجاحدين للحق، فيتطيرون بالعابد ، وغير ذلك.
الخامسة: يظهر من صدر الآيات انّ الرسل بعثوا إلى القرية، وقد تطلق غالباً على المجتمعات الكبيرة والصغيرة، ولكن قوله: ( وجاء من أقصى المدينة رجل ) يعرب انّها كانت مدينة ومجتمعاً كبيراً لا صغيراً.
السادسة: انّه سبحانه يصف الرجل الرابع الذي قام بدعم موقف الرسل بأنّه كان من أقصى المدينة، وما هذا إلاّ لاَجل الاِشارة إلى عدم الصلة والتواطىَ بينه وبين الرسل، ولذلك قدّم لفظ أقصى المدينة على الفاعل، أعني: "رجل"، وقال: ( وجاء من أقصى المدينة ).
السابعة: انّ قوله: ( ومالي لا أعبد الذي فطرني ) دليل على أنّ العبادة هي
الأمثال في القرآن
_233 _
الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقية المعبود ومدبريته، وماله من الاَوصاف القريبة من ذلك، ولذلك يرى أنّه يعلل إيمانه وتوحيده، بقوله: ( مالي لا أعبد الذي فطرني ).
كما أنّه يعلل حصر عبادته له وسلبها عن غيره، بعجزهم عن رد ضرّ الرحمن بعدم الجدوى في شفاعتهم.
الثامنة: قلنا أنّ القرائن تشهد بأنّ من قام بالدعوة إلى طريق الرسل من القوم، قتل عند دعوته وجازاه الله سبحانه بأن أدخله الجنة، والمراد من الجنة هو عالم البرزخ لا جنة الخلد التي لا يدخلها الاِنسان إلاّ بعد قيام الساعة، التاسعة: كما أنّ في كلام الرجل المقتول، بقوله: ( يا لَيْت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي ) دليلاً على وجود الصلة بين الحياة البرزخية والمادية، حيث أبلغ بلاغاً إلى قومه، وتمنى أن يقفوا على ما أنعم الله عليه بعد الموت، حيث قال: ( قيل ادخل الجنّة قال يا ليت قومي يعلمون ).
يس 43 التمثيل الثالث والاَربعون
( أَوَ لَمْ يَرَ الاِِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين * وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم ).
(1)
تفسير الآيات
روى المفسرون أنّ أُبي بن خلف، أو العاص بن وائل جاء بعظم بالٍ متفتت، وقال: يا محمد أتزعم انّ الله يبعث هذا، فقال: نعم، فنزلت الآية ( أَوَ لم يَرَ الاِِنْسان ).
فضرب الكافر مثلاً، وقال: كيف يحيي الله هذه العًام البالية؟ وضرب سبحانه مثلاً آخر، و هو انّه يحييها من أنشأها أوّلاً، فمن قدر على إنشائها ابتداءً يقدر على الاِعادة، وهي أسهل من الاِنشاء والابتداء، وقد عرفت أنّ إطلاق لفظ الاَسهلية إنّما هو من منظار الاِنسان، وأمّا الحقّ جلّ و علا فكل الاَشياء أمامه سواء.
قال سبحانه: ( وَضَرَبَ لَنا مثلاً ) أي ضرب مثلاً في إنكار البعث بالعظام
------------------------------------
(1 ) يس:77ـ 79.
الأمثال في القرآن
_ 235_
البالية، واستغرب ممن يقول انّ الله يحيي هذه العظام ونسي خلقه ( قال من يحيي العظام وهي رميم ) ومثل سبحانه بالرد عليه بمثال آخر، وقال: ( قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرة وهو بكلّ خلق عليم ) من الابتداء والاعادة، وقد مرّ هذا المثل بعبارة أُخرى في قوله: ( وَهُوَ الّذِي يَبْدَوَُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ).
(1)
------------------------------------
(1 ) الروم:27.
الأمثال في القرآن
_236 _
الزمر 44 التمثيل الرابع و الاَربعون
( وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون * قُرآناً عَربياً غَيرَ ذي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون * ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُركاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَويانِ مَثلاً الحمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون ).
(1)
تفسير الآيات
"الشكس" :السيء الخلق، يقال: شركاء متشاكسون، أي متشاجرون لشكاسة خلقهم. "سلماً": أي خالصاً لا يملكه إلاّ شخص واحد ولا يخدم إلاّ إياه.
هذه الآيات تمثل حالة الكافر والموَمن، فهناك مشبه ومشبه به.
أمّا المشبّه به، فهو عبارة عن عبد مملوك له شركاء سيئى الخلق متنازعون فيه، فواحد يأمره وآخر ينهاه، و كلّ يريد أن يتفرّد بخدمته، في مقابل عبد مملوك لرجل يطيعه ويخدمه ولا يشرك في خدمته شخصاً آخر، فهذان المملوكان لا يستويان، وأمّا المشبه فحال الكافر هو حال المملوك الذي فيه شركاء متشاكسون،
------------------------------------
(1 ) الزمر:27ـ 29.
الأمثال في القرآن
_237 _
فهو يعبد آلهة مختلفة لكلّ أمره ونهيه وخدمته، ولا يمكن الجمع بين الآراء والاَهواء المختلفة، بخلاف الموَمن فانّه يأتمر بأمر الخالق الحكيم القادر الكريم. وهذا المثل وإن كان مثلاً واضحاً ساذجاً مفهوماً لعامة الناس، ولكن له بطن لا يقف عليه إلاّ أهل التدبر في القرآن، فهو سبحانه بصدد البرهنة على توحيده الذي أشار إليه في قوله: ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُون ).
(1)
وقال سبحانه: ( ءَأَربابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ).
(2)
------------------------------------
(1 ) الاَنبياء:22.
(2 ) يوسف:39.
الأمثال في القرآن
_238 _
الزخرف 45 التمثيل الخامس والاَربعون
( وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الاََوّلِينَ* وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبيٍّ إِلاّ كانوا بِهِ يَسْتَهْزءُون* فَأَهْلَكْنا أَشدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمضى مَثَلُ الاََوّلِين ).
(1)
تفسير الآيات
"البطش": تناول الشيء بصولة، و ربما يراد منه القوة والمنعة، يذكر سبحانه في هذه الآيات الاَُمم الماضية التي بعث الله سبحانه رسله إليهم، فكفروا بأنبيائه وسخروا منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم فأهلكهم الله سبحانه بأنواع العذاب مع مالهم من القوة والنجدة.
هذا هو حال المشبه به، والمشبه عبارة عن مشركي عصر الرسالة الذين كانوا يستهزئون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيوعدهم سبحانه بما مضى على الاَوّلين، بأنّه سبحانه أهلك من هو أشد قوةومنعة من قريش وأتباعهم فليعتبروا بحالهم، يقول سبحانه: ( كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الاََوّلين ) أي الاَُمم الماضية ( وما يأتيهم من نبي إلاّ كانوا به يستهزءُون ) فكانت هذه سيرة الاَُمم الماضية، ولكنه سبحانه لم يضرب عنهم صفحاً فأهلكهم، كما قال: ( فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً ومضى مثل
------------------------------------
(1 ) الزخرف:6ـ 8.
الأمثال في القرآن
_239 _
الاَوّلين ). أي مضى في القرآن ـ في غير موضع منه ـ ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تصير مسير المثل.
وبعبارة أُخرى: انّ كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثلما نزل بالا َُمم الغابرة، فقد ضربنا لهم مثَلَهم، كما قال تعالى: ( وَكُلاً ضَرَبنا لَهُمُ الاََمْثال ).
(1)
إيقاظ ثمّ إنّه ربما عدّ من أمثال القرآن، قوله سبحانه: ( وَإِذا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم ).
(2)
كان المشركون في العصر الجاهلي يعدّون الملائكة إناثاً وبناتاً لله تبارك و تعالى، يقول سبحانه: ( وَجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ) فردّ عليهم بقوله: ( أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون ).
وقال سبحانه: ( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَناتِ سُبحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُون )
(3)
فعلى ذلك فالملائكة عند المشركين بنات الله سبحانه، ثمّ إنّ الآية تحكي عن خصيصة المشركين بأنّـهم إذا رزقوا بناتاً ظلّت وجوههم مسودة يعلوها الغيظ والكظم، قال سبحانه: ( وَإِذا بشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ) أي وصف الله به، وقد عرفت انّهم وصفوه بأنّ الملائكة بنات الله .
------------------------------------
(1) الفرقان:39.
(2 ) الزخرف:17.
(3 ) النحل: 57.
الأمثال في القرآن
_ 240_
( ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم ) فليست الآية من قبيل المثل الاخباري ولا الانشائي، وإنّما هي بمعنى الوصف، أي وصفوه بأنّه صاحب بنات، و هم كاذبون في هذا الوصف، فلا يصح عدّ هذه الآية من آيات الاَمثال.
الأمثال في القرآن
_ 241_
الزخرف 46 التمثيل السادس والاَربعون
( فَاسْتَخَفَّ قوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِين * فَلَمّا آسفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقناهُمْ أَجْمَعِين * فَجَعَلْناهُمْ سلفاً وَمَثَلاً للآخِرِين ).
(1)
تفسير الآيات
"آسفونا": مأخوذ من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه، وقال الراغب: الآسف: الحزن و الغضب معاً، وقد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد، و المراد في الآية هو الغضب، السلف: المتقدم، انّه سبحانه يخبر عن انتقامه من فرعون وقومه، ويقول: فلمّا آسفونا، أي أغضبونا، وذلك بالاِفراط في المعاصي و التجاوز عن الحد، فاستوجبوا العذاب، كما قال سبحانه: ( انتقمنا منهم ) ثمّ بين كيفية الانتقام، وقال: ( فَأَغْرَقناهم أجمعين ) فما نجا منهم أحد ( فجعلناهم سلفاً و مثلاً للآخرين )، أي جعلناهم عبرة وموعظة لمن يأتى من بعدهم حتى يتّعظوا بهم.
فالمشبه به هو قوم فرعون واستئصالهم، والمشبه هو مشركو أهل مكة وكفّارهم، فليأخذوا حال المتقدمين نموذجاً متقدماً لمصيرهم.
------------------------------------
(1 ) الزخرف:54ـ56.
الأمثال في القرآن
_242 _
الزخرف 47 التمثيل السابع والاَربعون
( وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ * وَقالُوا ءالِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون * إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ * وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الاََرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيم ) .
(1)
تفسير الآيات
"الصدّ": بمعنى الانصراف عن الشيء، قال سبحانه: ( يصدّون عنك صدوداً )، ولكن المراد منه في الآية هو ضجة المجادل إذا أحس الانتصار.
"تمترُنَّ" :من المرية وهي التردد بالاَمر.
ذكر المفسرون في سبب نزول الآيات انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قرأ: ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُون * لَوْ كانَ هوَُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلّ فِيها خالِدُونَ * لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ).
(2)
------------------------------------
(1 ) الزخرف:57ـ 61.
(2 ) الاَنبياء:98ـ 100.
الأمثال في القرآن
_ 243_
امتعضت قريش من ذلك امتعاضاً شديداً، فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الاَُمم؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) :" هو لكم و لآلهتكم ولجميع الاَُمم".
فقال: خصمتك و ربّ الكعبة، ألست تزعم انّ عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيراً، وعلى أُمّه، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما، وعزير يعبد، والملائكة يعبدون، فإن كان هوَلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا،
(1)
وإلى فرحهم وضجّتهم، يشير سبحانه بقوله: ( إذا قومك منه يصدّون) حيث زعموا انّهم وجدوا ذريعة للرد عليه وإبطال دعوته، فنزلت الآية إجابة عن جدلهم الواهي، قال سبحانه: ( ولمّا ضرب ابن مريم مثلاً ) أي لما وصف المشركون ابن مريم مثلاً وشبهاً لآلهتهم ( إذا قومك منه يصدون ) أي أحس قومك في هذا التمثيل فرحاً وجذلاً وضحكاً لمّا حاولوا إسكات رسول الله بجدلهم، حيث قالوا في مقام المجادلة: ( وقالوا ءآلهتنا خير أم هو ) يعنون آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب النار كانت آلهتنا هيناً.
وبذلك يعلم انّ المشركين هم الذين ضربوا المثل حيث جعلوا المسيح شبهاً و مثلاً لآلهتهم، ورضوا بأن تكون آلهتهم في النار إذا كان المسيح كذلك ازداد فرح المشركين وظنوا انّهم التجأوا إلى ركن ركين أمام منطق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآيات السابقة إلى القصة على وجه الاِجمال،
------------------------------------
(1 ) الكشاف:3|100.لاحظ سيرة ابن هشام:1|385، وقد ذكرت القصة بتفصيل.
الأمثال في القرآن
_244 _
ويجيب على استدلال ابن الزبعرى.
أوّلاً: انّهم ما أرادوا بهذا التمثيل إلاّ المجادلة والمغالبة لا لطلب الحق، وذلك لاَنّ طبعهم على اللجاج والعناد، يقول سبحانه: ( ما ضربوه لك إِلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون ).
وثانياً: انّهم ما تمسكوا بهذا المثل إلاّ جدلاً وهم يعلمون بطلان دليلهم، إذ ليس كلّ معبود حصب جهنم، بل المعبود الذي دعا الناس إلى عبادته كفرعون لا كالمسيح الذي كان عابداً لله رافضاً للشرك، فاستدلالهم كان مبنياً على الجدل وإنكار الحقيقة، وهذا هو المراد من قوله: ( ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون ).
ولذلك بدأ سبحانه يشرح موقف المسيح وعبادته وتقواه و انّه كان آية من آيات الله سبحانه، وقال: ( إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثلاً لِبَني إِسرائيل )، أي آية من آيات الله لبني إسرائيل، فولادته كانت معجزة، وكلامه في المهد معجزة ثانية وإحياوَه الموتى معجزة ثالثة، فلم يكن يدعو قطُّ إلى عبادة نفسه.
ثمّ إنّه سبحانه من أجل تحجيم شبهة حاجته إلى عبادة الناس، يقول: ( وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَة في الاََرض يخلفُون ) أي يطيعون الله ويعبدونه، فليس الاِصرار على عبادتكم وتوحيدكم إلاّ طلباً لسعادتكم لا لتلبية حاجة الله ، وإلاّ ففي وسعه سبحانه أن يخلقكم ملائكة خاضعين لاَمره، ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى خصيصة من خصائص المسيح، وهي انّ نزوله من السماء في آخر الزمان آية اقتراب الساعة.
الأمثال في القرآن
_ 245_
إلى هنا تم تفسير الآية، وأمّا التمثيل فقد تبين ممّا سبق حيث شبهوا آلهتهم بالمسيح ورضوا بأن تكون مع المسيح في مكان واحد وإن كان هو النار. فالذي يصلح لاَن يكون مثلاً إنّما هو قوله: ( ولما ضرب ابن مريم مثلاً ) وقد عرفت انّ الضارب هو ابن الزبعرى، وأمّا قوله: ( وَجَعَلناه مثلاً لبنى إِسرائيل ) فالمثل فيه بمعنى الآية، إيقاظ:
ربما عُدّت الآية التالية من الاَمثال القرآنية: ( وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ وَآمنُوا بِما نُزّلَ على مُحمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ )
(1)
والظاهر انّ المثل في الآية بمعنى الوصف لا بمعنى التمثيل المصطلح، أي تشبيه شيء بشيء ويعلم ذلك من خلال تفسير الآيات.
تفسير الآيات
"بال" البال: الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال:ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثت به، قال: ( كفّر عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالهُم )، وقال: ( فَما بال القُرونالاَُولى ) أي حالهم وخبرهم، و يعبَّر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الاِنسان، فيقال خطر كذا ببالي.
(2)
------------------------------------
(1 ) محمد:2 ـ 3.
(2 ) مفردات الراغب: 67 مادة بال.
الأمثال في القرآن
_ 246_
إنّ هذه الآيات بشهادة ما تليها تبين حال كفّار قريش و مشركي مكة الذين أشعلوا فتيل الحرب في بدر. فقال: ( انّ الّذين كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ الله ) أي منعوا الآخرين من الاهتداء بهدى الاِسلام، فهوَلاء أضلّ أعمالهم، أي أحبط أعمالهم وجعلها هباءً منثوراً. فلا ينتفعون من صدقاتهم وعطياتهم إشارة إلى غير واحد من صناديد قريش الذين نحروا الاِبل في يوم بدر و قبله، فيقابلهم الموَمنون كما قال: ( وَالّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَآمنوا بِما نزّل على محمّد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ )، فلو انّه سبحانه أضلّ أعمال الكافرين وأحبط ما يقومون به من صدقات، لكنّه سبحانه من جهةأُخرى جعل صالح أعمال الموَمنين كفارة لسيئاتهم وأصلح بالهم، فشتّان ما بين كافر وصادّ عن سبيل الله ، يحبط عمله، وموَمن بالله و بما نزّل على محمد، يكفّر سيئاته بصالح أعماله، ومن هذا التقابل علم مكانة الكافر والموَمن، كما علم نتائج أعمالهما، ثمّ إنّه سبحانه يدلّل على ذلك بأنّ الكافرين يقتفون أثر الباطل ولذلك يضل أعمالهم، وأمّا الموَمنون فيتبعون الحقّ فينتفعون بأعمالهم، وقال: ( ذلك بأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ ).
وفي ختام الآية الثانية، قال: ( كذلِكَ يضرب الله للنّاس أمثالهم ) أي كذلك يبين حال الموَمن والكافر و نتائج أعمالهما و عاقبتهما. وعلى ذلك فالآية ليست من قبيل التمثيل، بل بمعنى الوصف، أي كذلك يصف سبحانه للناس حال الكافر والموَمن و عاقبتهما. فليس هناك أي تشبيه
الأمثال في القرآن
_247 _
وتنزيل، وإنّما الآيات سيقت لبيان الحقيقة، فالآية الا َُولى تشير إلى الكافر و نتيجة عمله، والآية الثانية تشير إلى الموَمن و مصير عمله ،و الآية الثالثة تذكر علة الحكم، وهو انّ الكافر يستقي من الماء العكر حيث يتبع الباطل والموَمن ينهل من ماء عذب فيتبع الحقّ.
الأمثال في القرآن
_148 _
محمد 48 التمثيل الثامن و الاَربعون
( مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَير آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ لِلشّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصفىً وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِوَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمعاءَهُمْ ).
(1)
تفسير الآية
"آسن" يقال: أسن الماء، يأسن: إذا تغير ريحه تغيراً منكراً، وماء غير آسن: أي غير نتن.
"الحميم":الماء الشديد الحرارة.
قوله: "مثل الجنة" أي وصفها وحالها، وهو مبتدأ خبره محذوف، أي جنة فيها أنهار. فلو أردنا أن نجعل الآية من آيات التمثيل فلابدّ من تصور مشبه و هو الجنة الموعودة، ومشبه به وهو جنة الدنيا بما لها من الخصوصيات.
ولكن الظاهر انّ الآية صيغت لبيان حال الجنة ووصفها وسماتها، وهي كالتالي :
------------------------------------
(1 ) محمد:15.
الأمثال في القرآن
_249 _
1. فيها أنهار أربعة وهي عبارة عن:
أ: ( أنهار من ماء غير آسن ) أي الماء الذي لا يتغير طعمه ورائحته ولونه لطول البقاء.
ب: ( أنهار من لبن لم يتغير طعمه )، ولا يعتريها الفساد بمرور الزمان.
ج: أنهار من خمر لذة للشاربين، فتقييد الخمر بكونه لذة للشاربين احتراز عن خمر الدنيا ،و قد وصف القرآن الكريم خمر الجنة في آية أُخرى، وقال: ( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأسٍ مِنْ مَعِين * بَيضاءَ لَذّةٍ للشّارِبينَ * لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُون ).
(1)
فقوله: ( لذّة للشاربين ) أي ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة، فقوله: ( لا فيها غول )، أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها،وقوله: ( ولا هم عنها ينزفون ) أي يسكرون. وبذلك يمتاز خمر الآخرة على خمر الدنيا.
د: أنهار من عسل مصفّى وخالص من الشمع.
وهذه الاَنهار الاَربعة لكلّ غايته و غرضه: فالماء للارتواء، و الثاني للتغذّي، والثالث لبعث النشاط والروح، والرابع لاِيجاد القوة في الاِنسان.
2. وفيها وراء ذلك من كلّ الثمرات، كما قال سبحانه: ( وَلَهُمْ فيها مِنْ كُلّ الثَّمرات ) فالفواكه المتنوعة تحت متناول أيديهم لا عين رأتها و لا أُذن سمعتها ولا خطرت على قلب بشر.
3. وفيها وراء هذه النعم المادية، نعمة معنوية يشير إليها بقوله: ( وَمَغْفِرة مِنْ رَبّهِم ).
------------------------------------
(1 ) الصافات:45ـ 47.
الأمثال في القرآن
_ 250_
وبذلك تبيّن لنا وصف الجنة وحال المتقين فيها، بقي الكلام في تبيين حال أهل الجحيم ومكانهم، فأشار إليه بقوله:
( كمن هُوَ خالِدٌ في النّار ) هذا وصف أهل الجحيم، وأمّا ما يرزقون فهو عبارة عن الماء الحميم لا يشربونه باختيارهم وإنّما يسقون، ولذلك يقول سبحانه : ( وسقوا ماءً حميماً) الذي يقطّع أمعاءهم كما قال: ( فقطّع أمعاءهم )، وعلى كلّ تقدير، فلو قلنا :إنّ الآية تهدف إلى تشبيه جنة الآخرة بجنة الدنيا التي فيها كذا وكذا فهو من قبيل التمثيل، وإلاّ فالآية صيغت لبيان وصف جنة الآخرة وانّ فيها أنهاراً وثماراً ومغفرة.
والظاهر هو الثاني، فالاَولى عدم عدّ هذه الآية من الاَمثال القرآنية وإنّما ذكرناها تبعاً للآخرين.
الأمثال في القرآن
_251 _
الفتح 49 التمثيل التاسع والاَربعون
( هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهيداً * مُحَمّدٌ رَسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الاِِنْجِيلِ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شطأهُ فَآزره فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجراً عَظِيماً ).
(1)
تفسير الآيات
"السيماء": العلامة، فقوله: ( سيماهم في وجوههم )، أي علامة إيمانهم في وجوههم.
شطأ الزرع: فروخ الزرع، وهو ما خرج منه، وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه إشطاء، وهو ما يعبر عنه بالبراعم.
"الاَزر": القوة الشديدة ، آزره أي أعانه وقوّاه، "الغلظة" :ضد الرقة.
------------------------------------
(1 ) الفتح:28 ـ 29.
الأمثال في القرآن
_252 _
"السوق" :قيل هو جمع ساق.
القرآن يتكلم في هاتين الآيتين عن النبي تارة و أصحابه أُخرى:
أمّا الاَوّل فيعرّفه بقوله: ( هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهيداً ) والضمير "ليظهره" يرجع إلى دين الحقّ لا الرسول، لاَنّ الغاية ظهور دين على دين لا ظهور شخص على الدين، والمراد من الظهور هو الغلبة في مجال البرهنةوالانتشار، وقد تحقّق بفضله سبحانه و سوف تزداد رقعة انتشاره فيضرب الاِسلام بجرانه في أرجاء المعمورة، ولا سيما عند قيام الاِمام المهدي المنتظر (عليه السلام) ، يقول سبحانه في هذا الصدد: ( محمّد رسول الله ) أي الرسول الذي سوف يغلب دينه على الدين كله، وقد صرح باسمه في هذه الآية، إلاّ أنّه أجمل في الآية الاَُولى ، و قال: "أرسل رسوله".
إلى هنا تمّ بيان صفات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسماته، و أمّا صفات أصحابه فجاء ذكرهم في التوراة و الاِنجيل، أمّا التوراة فقد جاء فيها وصفهم كالتالي:
1. ( والّذين معه أشداء على الكفّار )، الذين لا يفهمون إلاّ منطق القوة، فلذلك يكونون أشداء عليهم.
2. ( رُحماء بَينهم ) فهم رحماء يعطف بعضهم على بعض ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : مثل الموَمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.
(1)
------------------------------------
(1 ) مسند أحمد بن حنبل: 4|270 و 268 و 274.
الأمثال في القرآن
_ 253_
3. ( تراهم ركّعاً سُجّداً )، هذا الوصف يجسّد ظاهر حالهم و انّهم منهمكون في العبادة، فلذلك يقول: ( تراهم ركعاً سجداً )، أي تراهم في عبادة، التي هي آية التسليم لله سبحانه.
ومع ذلك لا يبتغون لعبادتهم أجراً وإنّما يأملون فضل الله ، كما يقول : ( يبتغون فضلاً من الله ورضواناً )، ولعل القيد الاَخير إشارة إلى أنّ الحافز لاَعمالهم هوكسب رضاه سبحانه، ومن علائمهم الاَُخرى انّ أثر السجود في جباههم، كما يقول : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) فسيماهم ووجوههم تلمح إلى كثرة عبادتهم وسجودهم وخضوعهم لله سبحانه، وهذه الصفات مذكورة أيضاً في الاِنجيل.
إنّ أصحاب محمد لم يزالوا يزيدون باطّراد في العدة والقوة وبذلك يغيظون الكفار، فهم كزرع قوي وغلظ وقام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده، ولم يزالوا في حركة دائبة ونشيطة، فمن جانب يعبدون الله مخلصين له الدين بلا رياء ولا سمعة، و من جانب آخر يجاهدون في سبيل الله بغية نشر الاِسلام ورفع راية التوحيد في أقطار العالم، فعملهم هذا يغيظ الكفار ويسرّ الموَمنين ، قال سبحانه: ( ومثلهم في الاِنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفّار ). فالمجتمع الاِسلامي بإيمانه وعمله وجهاده وحركته الدوَوبة نحو التكامل يثير إعجاب الاَخلاّء وغيظ الاَلدّاء.
ثمّ إنّه سبحانه وعد طائفة خاصة من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) مغفرة وأجراً
الأمثال في القرآن
_254 _
عظيماً، وذلك لاَنّ المنافقين كانوا مندسّين في صفوف أصحابه، فلا يصح وعد المغفرة لكلّ من صحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورآه وعاش معه وقلبه خال من ا لاِيمان ، ولذلك قال سبحانه: ( وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات مِنْهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْراً عظيماً ) فكلمة "منهم" تعرب عن أنّ المغفرة لا تعم جميع الاَصحاب بل هي مختصة بطائفة دون أُخرى، وما ربما يقال من أنّ "من" بيانية لا تبعيضية غير تام، لاَنّ «من» البيانية لا تدخل على الضمير، ويوَيد ذلك قوله: ( وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلى النّفاقِ لاتَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) ،
(1)
والحاصل: انّه لا يمكن القول بشمول أدلة المغفرة والاَجر العظيم لقاطبة من صحب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنّهم على أصناف شتى.
فمن منافق معروف، عرّفه الذكر الحكيم بقوله: ( إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُون ).
(2)
إلى آخر مختفٍ لا يعرفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال سبحانه: ( وَمِنْ أَهْلِ المَدينَة مَرَدُوا علَى النّفاق لا تعلَمهم نَحنُ نَعْلَمهم ) ، إلى ثالث يصفهم الذكر الحكيم بمرضى القلوب، ويقول: ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً ) .
(3)
إلى رابع سمّاعون لنعق كل ناعق فهم كالريشة في مهب الريح يميلون
------------------------------------
(1 ) التوبة:101.
(2 ) المنافقون:1.
(3 ) الاَحزاب:12.
الأمثال في القرآن
_255 _
تارة إلى المسلمين وأُخرى إلى الكافرين، يصفهم سبحانه بقوله ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّ خَبالاً وَلاَوضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمين ) .
(1)
إلى خامس خالط العمل الصالح بالسيّء يصفهم سبحانه بقوله: ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وآخَرَ سَيّئاً ) .
(2)
إلى سادس أشرفوا على الارتداد، عرّفهم الحق سبحانه بقوله: ( وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقّ ظَنَّ الجاهِليةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الاََمْرِ مِنْ شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الاََمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ ) .
(3)
إلى سابع يصفه القرآن فاسقاً، و يقول: ( يا أَيّها الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنُوا أن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِين ) .
(4)
والمراد هو الوليد بن عقبة صحابي سمي فاسقاً، وقال تعالى: ( فَإِنَّ اللهَ لا يَرضَى عَنِ القَوْمِ الفاسِقِين ).
(5)
إلى ثامن يصفهم الذكر الحكيم مسلماً غير موَمن و يصرِّح بعدم دخول الاِيمان في قلوبهم، و يقول: ( قالَتِ الاََعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُوَْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلمّا يَدْخُلِ الاِِيمانُ فِي قُلُوبِكُم ) .
(6)
إلى تاسع أظهروا الاِسلام لاَخذ الصدقة لا غير، وهم الذين يعرفون
------------------------------------
(1 ) التوبة:47.
(2 ) التوبة:102.
(3 ) آل عمران:154.
(4 ) الحجرات:6.
(5 ) التوبة:96.
(6 ) الحجرات:14.
الأمثال في القرآن
_256 _
بالموَلّفة قلوبهم، قال: ( إِنّما الصّدقاتُ لِلْفُقَراءِوَالْمَساكِين وَالعامِلِينَ عَلَيْها وَالمُوَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ) .
(1)
إلى عاشر يفرّون من الزحف فرار الغنم من الذئب، يقول سبحانه: ( يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الّذينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الاََدْبار* وَمَنْ يُوَلِّهْم يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحيِّزاً إِلى فئِةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمأْواهُ جَهَنَّمُ وَبئسَ المَصير ) .
(2)
وكم نطق التاريخ بفرار ثلّة من الصحابة من ساحات الوغى، يقول سبحانه عند ذكر غزوة أُحد: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ )
(3)
، ولم يكن الفرار مختصاً بغزوة أُحد بل عمّ غزوة حنين أيضاً، يقول سبحانه: ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الاََرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِين ).
(4)
هذه إلمامة عابرة بأصناف الصحابة المذكورة في القرآن الكريم، أفيمكن وعد جميع هذه الاَصناف بالمغفرة؟! مضافاً إلى آيات أُخرى تصف أعمالهم.
نعم كان بين الصحابة رجال مخلصون يستدرُّ بهم الغمام، و قد وصفهم سبحانه في غير واحد من الآيات التي لا تنكر، والكلام الحاسم: انّ وعد المغفرة لصنف منهم لا لجميع الاَصناف، كما أنّ عدالتهم كذلك.
------------------------------------
(1 ) التوبة:60.
(2 ) الاَنفال:15ـ 16.
(3 ) آل عمران:153.
(4 ) التوبة:25.
الأمثال في القرآن
_257 _
الحديد 50 التمثيل الخمسون
( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَينَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الاََمْوالِ وَالاََولادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلاّ مَتاعُ الغُرُور ).
(1)
تفسير الآية
"الكفّار": جمع الكافر بمعنى الساتر، والمراد الزارع، ويطلق على الكافر بالله لستره الحق، والمراد في المقام الزارع، لاَنّه يستر حبّه تحت التراب ويغطّيها به، يقول سبحانه : ( كَزَرْعٍ ... يُعْجِبُ الزُّرّاعَ ).
(2)
"هيج": يقال: هاج البقل يهيج، أي أصفرّ، والمراد في قوله: ( ثُمّ يهِيج ) أي ييبس ( فتراه مصفرّاً ) أي إذا قارب اليبس .
و"الحطام" بمعنى كسر الشيء، قال سبحانه: ( لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ ) .
(3)
------------------------------------
(1 ) الحديد:20.
(2 ) الفتح:29.
(3 ) النمل:18.
الأمثال في القرآن
_258 _
فالآية تتضمن أمرين:
الاَمر الاَوّل: ترسيم الحياة الدنيا والمراحل المختلفة التي تمر على الاِنسان:
أ: اللعب، ب: اللهو، ج: الزينة، د: التفاخر، هـ: التكاثر في الاَموال والاَولاد.
والاَمر الثاني: تشبيه الدنيا بداية ونهاية بالنبات الذي يعجب الزارع طراوته ونضارته، ثمّ سرعان ما يتحول إلى عشب يابس تذروه الرياح، ثمّ استنتج من هذا التمثيل: انّ الحياة الدنيا متاع الغرور، أي وسيلة للغرور و المتعة، يغتر بها المخلدون إلى الاَرض يتصورونها غاية قصوى للحياة، ولكنّها في نظر الموَمنين قنطرة للحياة الاَُخرى لا يغترّون بها، بل يتزودّون منها إلى حياتهم الاَُخروية.
هذا هو ترسيم إجمالي لمفهوم الآية، والتمثيل إنّما هو في الشق الثاني منها، فلنرجع إلى تفسير كلّ من الاَمرين، إنّ حياة الاِنسان من لدن ولادته إلى نهاية حياته تتشكل من مراحل خمس:
المرحلة الاَُولى: اللعب
واللعب هو محل منظوم لغرض خيالي كلعب الاَطفال، وهي تقارن حياة الاِنسان منذ نعومة أظفاره وطفولته، ويتخذ ألواناً مختلفة حسب تقدم عمره، وهو أمر محسوس عند الاَطفال.
المرحلة الثانية: اللهو
واللهو ما يشغل الاِنسان عمّا يهمه، وهذه المرحلة تبتديَ حينما يبلغ
الأمثال في القرآن
_ 259_
ويشتد عظمه، فتجد في نفسه ميلاً و نزوعاً إلى الملاهي وغيرها.
المرحلة الثالثة: حب الزينة.
والزينة نظير ارتداء الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية، وجنوحه إلى كل جمال وحسن.
المرحلة الرابعة: التفاخر.
إذا تهيّأ للاِنسان أسباب الزينة يأخذ حينها بالمفاخرة بالاَحساب والاَنساب، وما تحت يديه من الزينة.
المرحلة الخامسة: التكاثر في الاَموال و الاَولاد.
وهذه المرحلة هي المرحلة الخامسة التي يصل فيها الاِنسان إلى مرحلة من العمر يفكر في تكثير الاَموال والاَولاد، ويشيب على ذلك الاِحساس.
ثمّ إنّ تقسيم المراحل التي تمر على الاِنسان إلى خمس، لا يعني انّ كلّ هذه المراحل تمر على الاِنسان بلا استثناء، بل يعني انّها تمر عليه على وجه الاِجمال، غير انّ بعض الناس تتوقف شخصيتهم عند المرحلتين الاَُوليين إلى آخر عمره، فيكون اللعب واللهو أهم مائز في سلوكهم، كما أنّ بعضهم تمر عليه المرحلة الثالثة والرابعة فيحرص على ارتداء الملابس الفاخرة والتفاخر بما لديه من أسباب، روي عن الشيخ البهائى انّ الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب سني عمر الاِنسان ومراحل حياته، فيتولّع أوّلاً باللعب وهو طفل أو مراهق، ثمّ إذا بلغ واشتد عظمه تعلّق باللهو و الملاهي، ثمّ إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة والمراكب البهية والمنازل العالية وتوله للحسن
الأمثال في القرآن
_260 _
والجمال، ثمّ إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالاَحساب والاَنساب، ثمّ إذا شاب سعى في تكثير المال والولد.
(1)
هذا ما يرجع إلى بيان حال الدنيا من حيث المراحل التي تمر بها.
الاَمر الثاني: أي التمثيل الذي يجسد حال الدنيا ويشبهها بأرض خصبة يصيبها مطر غزير، فتزدهر نباتها على وجه يعجب الزرّاع، ولكن سرعان ما تذهب طراوتها وتفارقها فيصيبها الاِصفرار واليبس وتذروها الرياح في كلّ الاَطراف وتصبح كأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً، و عند ذلك تتجلّى الحقيقة أمام الاِنسان وانّه اغتر بطراوة هذه الروضة .
وهكذا حال الدنيا فيغتر الاِنسان بها ويخلد إليها، ولكن سرعان ما تسفر له عن وجهها وتكشف عن لثامها ، وعلى أية حال فالآية تهدف إلى تحقير الدنيا وتعظيم الآخرة.
------------------------------------
(1 ) الميزان:19|164.
الأمثال في القرآن
_ 261_
الحشر 51 التمثيل الواحد و الخمسون
( لاَ يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ* كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم ).
(1)
تفسير الآيات
"الحصن" :جمعه حصون، والقرى المحصنة التي تحيطها القلاع المنيعة التي تمنع من دخول الاَعداء.
البأس والبأساء: الشدة.
الوبال: الاَمر الذي يخاف ضرره.
الآية تصف حال بني النضير من اليهود الذين أجلاهم الرسول وقد تآمروا على قتله، وكيفية الموَامرة مذكورة في كتب التاريخ، فأمرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) بالجلاء وترك الاَموال و قد كانوا امتنعوا من تنفيذ أمر الرسول ، و كان المنافقون يصرّون عليهم بعدم الجلاء وانّهم يناصرونهم عند نشوب حرب بينهم وبين المسلمين، فبقي بنو النضير أياماً قلائل في قلاعهم لا يجلون عنها بغية وصول إمدادات تعزّز قواهم.
------------------------------------
(1 ) الحشر:14ـ15.
الأمثال في القرآن
_262 _
( فالآيات تشرح حالهم بإمعان وتخبر بأنّهم "لا يقاتلونكم" معاشر الموَمنين جميعاً إلاّ في قرى محصنة، أي لا يبرزون لحربكم خوفاً منكم، وإنّما يقاتلونكم متدرّعين بحصونهم، أو "من وراء جدر"، أي يرمونكم من وراء الجدر بالنبل والحجر، ( بأسهم بينهم شديد )، والمراد من البأس هو العداء، أي عداوة بعضهم لبعض شديدة، فليسوا متّفقي القلوب، ولذلك يعقبه بقوله: ( وقلوبهم شتى )، ثمّ يعلل ذلك بقوله: ( ذلك بأنّهم لا يعقلون ) ، ثمّ يمثّل لهم مثلاً، فيقول: إنّ مثلهم في اغترارهم بعددهم وعدّتهم وقوتهم ( كمثل الذين من قبلهم )، و المراد مشركو قريش الذين قتلوا ببدر قبل جلاء بني النضير بستة أشهر، ويحتمل أن يكون المراد قبيلة بني قينقاع حيث نقضوا العهد فأجلاهم رسول الله بعد رجوعه من بدر، فهوَلاء ( ذاقوا وبال أمرهم )، أي عقوبة كفرهم ولهم عذاب أليم.
الى هنا
الأمثال في القرآن
_263 _
الحشر 52 التمثيل الثاني و الخمسون
( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للاِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ) .
(1)
تفسير الآية
هذه الآية أيضاً ناظرة إلى قصة بني النضير، فلمّا تآمروا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بالجلاء، ولكنّ المنافقين وعدوهم بالنصر، فقالوا لهم: ( لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم ) .
ولكن كان ذلك الوعد كاذباً، ولذلك يقول سبحانه: ( والله يشهد انّهم لكاذبون ) وآية كذبهم : ( لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاََدْبارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُون ) .
(2)
ولقد صدق الخبر الخبر ، فأجلاهم الرسول بقوة وشدة، فما ظهر منهم أي نصر وموَازرة و دعم، فكان وعدهم كوعد الشيطان، إذ قال للاِنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين، بمعنى انّه أمره بالكفر ولكنّه تبرّأ منه في النهاية. وهل المخاطب في قوله: "اكفر" مطلق الاِنسان الذي ينخدع بأحابيل
------------------------------------
(1 ) الحشر:16.
(2 ) الحشر:12.
الأمثال في القرآن
_264 _
الشيطان و وعوده الكاذبة ثمّ يتركه و يتبرّأ منه، أو المراد شخص معين؟ وجهان، فلو قلنا بالثاني، فقد وعد الشيطان قريشاً بالنصر في غزوة بدر، كما يحكي عنه سبحانه، و يقول ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنّي أَرى ما لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ العِقابِ ) .
(1)
وهناك قول ثالث، و هو انّ الشيطان وعد عابداً من بني إسرائيل اسمه برصيصا حيث انخدع بالشيطان و كفر، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه. ذكر المفسرون انّ برصيصا عبد الله زماناً من الدهر حتى كان يوَتى بالمجانين يداويهم و يعوّذهم فيبرأون على يده، و انّه أُتِي بامرأة في شرف قد جنّت و كان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتى وقع عليها، فحملت، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها، فأخبره بالذي فعل الراهب و انّه دفنها في مكان كذا، ثمّ أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له، فجعل الرجل يلقى أخاه، فيقول: والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل، فأمر به فصلب، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان، فقال: أنا الذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك، أُخلصك مما أنت فيه؟ قال : نعم، قال: اسجد لي سجدة واحدة، فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة، فقال: اكتفي منك بالاِيماء فأُوحى له بالسجود، فكفر بالله ، وقتل الرجل.
(2)
------------------------------------
(1 ) الاَنفال: 48.
(2 ) مجمع البيان:5|265.
الأمثال في القرآن
_265 _
الحشر 53 التمثيل الثالث و الخمسون
( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الاََمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .
(1)
تفسير الآية
"الخشوع": الضراعة، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح على عكس الضراعة، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح، ويوَيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الاَصوات و الاَبصار، و يقول: ( وخشعت الاَصوات )، ( خاشعة أبصارهم )، ( أبصارهم خاشعة ) . ولو أردنا أن نُعرّفه، فنقول: هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق، و "التصدع": التفرق بعد التلاوَم، إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين:
أحدهما: انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، مع ما له من الغلظة والقسوة
------------------------------------
(1 ) الحشر:21.
الأمثال في القرآن
_266 _
وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل، لتأثّر وتصدّع من خشية الله ، فإذا كان هذا حال الجبل، فالاِنسان أحقّ بأن يخشع لله إذا تلا آياته، فما أقسى قلوب هوَلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون بسماع القرآن واستماعه وتلاوته.
ثانيهما: انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور، و من جملتها الجبال فلها نوع من الاِدراك والشعور، كما قال سبحانه: ( وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاََنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ )،
(1)
فعلى هذا، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى و تصدّع من خشية الله ، غير انّه لم ينزل عليه، وعلى كلا المعنيين، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه شيء بشىء، بل من قبيل وصف القرآن و بيان عظمته بما يحتوى من الحقائق والاَُصول، وإنّها على الوصف التالي: "لو أنزلناه على جبل لصار كذا و كذا"، نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه، وهو انّه سبحانه يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن بالجبل والحجارة، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة، بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الاَنهار أو تهبط من خشية الله ، فلاَجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان بلحاظ المعنى الالتزامي لها.
------------------------------------
(1) البقرة:74.
الأمثال في القرآن
_267 _
الجمعة 54 التمثيل الرابع والخمسون
( مَثَلُ الّذينَ حُمّلُوا التُّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمِين ) .
(1)
تفسير الآية
"الاَسفار":السَّفر : كشف الغطاء، ويختص ذلك بالاَعيان نحو سَفَرَ العمامة عن الرأس، و الخمار عن الوجه، إلى أن قال: والسّفْر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق و جمعه أسفار.
(2)
ذكر المفسرون انّه سبحانه لما قال: إنّه بعثه إلى الاَُميّين أخذت اليهود الآية ذريعة لاِنكار سعة رسالته، وقالوا: إنّه (صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم، فعند ذلك نزلت الآية و شبّهتهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا ينتفع منها، إذ جاء في التوراة نعت الرسول والبشارة بمقدمه والدخول في دينه، مضافاً إلى أنّه يمثل حال من يفهم معاني القرآن ولا يعمل به ويعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، و المراد من قوله ( حُمّلُوا ) أي كلّفوا بالقيام بها، و قيل:
------------------------------------
(1 ) الجمعة:5.
(2 ) مفردات الراغب: مادة "سفر " .
الأمثال في القرآن
_268 _
ليس هو من الحمل على الظهر، وإنّما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ، ولذا قيل للكفيل: الحميل، والمراد والذين ضمنوا أحكام التوراة، ثمّ لم يحملوها، أي لم يأدّوا حقها ولم يحملوها حق حملها، فهوَلاء أشبه بالحمار، كما قال: ( كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسْفاراً ) ، وانتخب الحمار من بين سائر الحيوانات لما فيه من الذل و الحقارة ما ليس في غيره بل والجهل و البلادة، مضافاً إلى المناسبة اللفظية الموجودة بين لفظ الاَسفار والحمار. فعلى كلّ تقدير فالآية تندّد باليهود، وفي الوقت نفسه تحذر عامة المسلمين في أن لا يكون حالهم حال اليهود، في عدم الانتفاع بالكتاب المنزل الذي فيه دواء كلّ داء وشفاء لما في الصدور، وللاَسف الشديد أصبح القرآن بين المسلمين مهجوراً، إذ يتبرك به في العرائس، أو يجعل تعاويذ للاَطفال، أو زينة الرفوف، أو يقرأ في القبور إلى غير ذلك ممّا أبعد المسلمين عن النظر في القرآن بتدبّر ، ثمّ إنّه سبحانه يصف اليهود المكذبة للقرآن و آياته، بقوله: ( بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوم الظالِمين ).
الأمثال في القرآن
_269 _
التحريم 55 التمثيل الخامس والخمسون
( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلين ) .
(1)
تفسير الآية
إنّ إحدى الاَساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الاَخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوىَ الاَخلاق، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الاَنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء الله ، ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) اللّتين اشتركتا في إفشاء سره، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح و لوط، فواجهتا العذاب الاَليم، يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول: ( وَإِذْ أَسَـرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّـا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ
------------------------------------
(1 ) التحريم:10.
الأمثال في القرآن
_270 _
عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبير ).
(1)
وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب:
1. انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً، كما يقول سبحانه: ( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً )، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه و غيره.
2. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته، فحدّثت به زوجة أُخرى، كما يقول سبحانه: ( فلمّا نبّأت به )، و المفسرون اتفقوا على أنّ الاَُولى منهما هي حفصة و الثانية هي عائشة، وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر .
3. انّه سبحانه أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) به، كما يقول سبحانه: ( وأظهره الله عليه) أي أطلعه الله عليه.
4. انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت، و كان (صلى الله عليه وآله وسلم ) قد علم جميع ذلك و لكنّه أخذ بمكارم الاَخلاق، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها، والتغافل من خلق الكرام، و قد ورد في المثل: "مااستقصى كريم قط".
5. لما أخبر رسول الله حفصة بما أظهره الله عليه سألت، وقالت: من أخبرك بهذا؟ فأجاب الرسول: نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه: ( فلمّا
------------------------------------
(1 ) التحريم:3.
الأمثال في القرآن
_271 _
نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير )، وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة، لاَجل ما كسبت قلوبهما من الآثام، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاعلما انّ الله يتولّـى حفظه ونصرته، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه، وصالح الموَمنين وخيارهم يوَيدونه، وبعدهم ملائكة الله من أعوانه، كما يقول سبحانه: ( ان تتوبا فقد صغت قلوبكما ) أي مالت إلى الاِثم، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي، فانّ الله مولاه وجبرئيل و صالح الموَمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.
هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية، حيث إنّ حفظ الاَمانة من واجب الزوجة حيال زوجها، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند الله سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق: إمّا التوبة لاَجل الاِثم، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه، لاَنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح الموَمنين.
وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما.إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد: ما بغت امرأة نبي قط، و إنّما كانت خيانتهما في الدين، قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس: إنّه مجنون، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه، وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الاَربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.
وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب الله ، ولم يقفن
الأمثال في القرآن
_ 272_
على أنّ مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح، قال سبحانه: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ )
(1)
وقال سبحانه مخاطباً بني آدم: ( يا بَنِى آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
(2)
ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع مالم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة، وأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) أمام الله سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.
------------------------------------
(1 ) الموَمنون:101.
(2 )الاَعراف:35.
الأمثال في القرآن
_ 273_
التحريم 56 التمثيل السادس والخمسون
( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا امرأتَ فِرْعَون إِذْ قالَتْ رَبّ ابنِ لى عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنّةِ وَنَجّني مِنْ فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجّني مِنَ الْقَومِ الظّالِمين* وَمَرْيم ابْنَتَ عِمْرانَ الّتي أحصَنَت فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقت بِكَلِماتِ رَبّها وَكُتُبهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتين ) .
(1)
تفسير الآيات
"الحصن" :جمعه حصون وهي القلاع، ويطلق على المرأة العفيفة، لاَنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أُخرى.
القنوت: لزوم الطاعة مع الخضوع، قوله: ( كُلّ لَهُ قانِتُون ) أي خاضعون.
لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أُخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والاِيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، فقد بلغت من الاِيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من الله سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة، فقد آمنت بموسى
------------------------------------
(1 ) التحريم:11ـ12.
الأمثال في القرآن
_274 _
لمّا رأت معاجزه الباهرة ودلائله الساطعة، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون و قد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس، هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا و زخارفها أيّة أهمية، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها: ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين ) ، فقولها: "عندك"، يهدف إلى القرب من رحمة الله ، وقولها: "في الجنة" يبين مكان القرب.
فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائم، ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلاً آخر للموَمنات مريم ابنة عمران، ويصفها بقوله : ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ) ، ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية:
1. ( أحصنت فرجها ) فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها، كما يعرب عنه قوله سبحانه: ( وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً )
(1)
وفي سورة الاَنبياء قوله: ( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا ).
(2)
------------------------------------
(1 ) النساء:156.
(2 ) الاَنبياء:91.
الأمثال في القرآن
_275 _
2. ( فنفخنا فيه من روحنا ) : أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء الله العظام.
وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الاَنبياء، قال سبحانه: ( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِين )، وهناك اختلاف بين الآيتين، فقد جاء الضمير في سورة الاَنبياء موَنثاً فقال: ( فنَفخنا فيها من روحنا ) و في الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً ( فنفخنا فيه من روحنا ) ، وقد ذكر هنا وجه وهو:
إنّ الضمير في سورة الاَنبياء يرجع إلى مريم، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه "فيها" أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس موَنثة، أقول: هذا لا يلائم ظاهر الآية، لاَنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لاَجل صيانة فرجها، فيجب أن يعود الجزاء إليها، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم. 3. ( صدَّقت بكلمات ربّها وكتبه ) : ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة، والكتب: الكتب النازلة، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.
4. ( وكانت من القانتين ) : أي كانت مطيعة لله سبحانه، ومن القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه، وقد جيء بصيغة المذكر تغليباً، يقول
الأمثال في القرآن
_276 _
سبحانه: ( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرّاكِعين ) .
(1)
ونختم البحث بذكر ثلاث روايات:
1. روى الطبري، عن أبي موسى، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد " (صلى الله عليه وآله وسلم ) .
(2)
2. أخرج الحاكم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : "أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن ( قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة" ).
(3)
3. أخرج الطبراني، عن سعد بن جنادة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) : "إنّ الله زوجني في الجنة: مريم بنت عمران، وامرأة فرعون، وأُخت موسى".
------------------------------------
(1 ) آل عمران: 43.
(2 ) مجمع البيان: 5|320.
(3 ) و 4. الدر المنثور :8|229.
الأمثال في القرآن
_277 _
الملك 57 التمثيل السابع والخمسون
( أَمَّنْ هذا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَه بَل لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ* أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْههِ أَهْدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيم ) .
(1)
تفسير الآيات
"لجّ" :من اللجاج: التمادي و العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه. "عُتُوّ": التمرّد.
"النفور":التباعد عن الحقّ.
"مكب": من الكبو، و هو إسقاط الشيء على وجهه، قال سبحانه : ( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم فِي النّار ) . ومنه قوله:"إنّ الجواد قد يكبو" أي قد يسقط، والمراد هنا بقرينة مقابله: ( يمشي سوياً )، أي من يمشي ووجهه إلى الاَرض لا الساقط، وقال الطبرسي: أي منكساً رأسه إلى الاَرض، فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله، وأمّا الآيات فقد جاءت بصيغة السوَال بين الضالين الذين لجّوا في عتو ونفور وظلّوا متمسّكين بالاَوثان والاَصنام ، وبين المهتدين الذين يمشون في
------------------------------------
(1 ) الملك:21ـ22.
الأمثال في القرآن
_278 _
جادة التوحيد ولا يعبدون إلاّ الله القادر على كلّ شيء. فمثل هوَلاء مثل من يمشي على أرض متعرجة غير مستوية يكثر فيها العثار ، وبالتالى يسقط الماشي مكباً على وجهه، ومن يمشي على جادة مستوية مستقيمة ليس فيها عثرات، فيصل إلى هدفه بسهولة، فالاختلاف بين هاتين الطائفتين ليس في كيفية المشي، وإنّما الاختلاف في طريقهم حيث إنّ طرق الكفّار ملتوية متعرجة فيها عقبات كثيرة، وطريق المهتدين مستقيمة لا اعوجاج فيها، فعاقبة المشي في الطريق الاَُوّل هو الانكباب على الاَرض، وعاقبة المشى في الطريق الثاني هو الوصول إلى الهدف، فتأويل الآية : أفمن يمشي على طريق غير مستقيم بل متعرج ملتوٍ مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي على صراط مستقيم بقامة مستقيمة، قال العلاّمة الطباطبائي: والمراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب ونفور من الحقّ، كمن يسلك سبيلاً و هو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر ، فليس هذا السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم، فيرى موضع قدمه و ما يواجهه من الطريق على استقامة، وما يقصده من الغاية، وهوَلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحقّ على علم به، فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به، ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الاَمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك.
(1)
------------------------------------
(1 ) الميزان:19|360ـ 361.
الأمثال في القرآن
_ 279_
خاتمة المطاف
ربما عدّ غير واحد ممّن كتب في أمثال القرآن، الآية التالية منها:
( وَما جَعَلْنا أَصحابَ النّارِ إِلاّ مَلائكةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُم إلاّ فِتْنةً لِلّذينَ كَفَرُوا ليَستَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزدادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرتابَ الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُوَْمِنُونَ وَلِيَقُول الّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكافِرُون ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلّ اللهُ مَن يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَمايَعْلمُ جنودَ رَبّكَ إِلاّ هُوَ وَماهِيَ إِلاّ ذِكرى لِلبَشر ) .
(1)
تفسير الآية
لمّانزل قوله سبحانه ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ* و ما أدراكَ ما سَقَرُ*لا تُبْقِي ولا تَذَرُ* لواحَةٌ للبشرِ* عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) .
(2)
قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم انّ خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم
(3)
الشجعان، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم.
------------------------------------
(1) المدثر:31.
(2 ) المدثر:26ـ 30.
(3 ) الدهم: الجماعة الكثيرة.
الأمثال في القرآن
_ 280_
فقال أبو أسد الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، عشرة على ظهري، وسبعة على بطني، فأكفوني أنتم اثنين، فنزلت هذه الآية: ( وَماجعلنا أصحاب النّار إلاّ ملائكة )، أي جعلنا أصحاب النار ملائكة أقوياء مقتدرون وهم غلاظ شداد، يقابلون المذنبين بقوة، وهم أمامهم ضعفاء عاجزون، ويكفي في قوتهم انّه سبحانه يصف واحداً منهم بقوله: ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ) .
(1)
فالكفّار ما قدروا الله حقّ قدره وما قدروا جنود ربّهم، وظنوا انّ كلّ جندي من جنوده سبحانه يعادل قوة فرد منهم.
ثمّ إنّه سبحانه يذكر الوجوه التالية سبباً لجعل عدتهم تسعة عشر:
1. ( فتنةللذين كفروا ).
2. ( ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب ).
3. ( يزداد الّذين آمنوا إيماناً ) .
4. ( لا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والموَمنون ) .
5. ( وَليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً ) .
وإليك تفسير هذه الفقرات:
أمّا الاَُولى: فيريد انّه سبحانه لم يجعل عدتهم تسعة عشر إلاّ للاِفتتان والاختبار، قال سبحانه: ( واعلموا انّما أموالكم وأولادكم فتنة ) أي يختبر بهم الاِنسان، فجعل عدتهم تسعة عشر يختبر بها الكافر والموَمن، فيزداد الكافر حيرة واستهزاءً ويزداد الموَمن إيماناً وتصديقاً، كما هو حال كلّ ظاهرة تتعلق بعالم الغيب. يقول سبحانه: ( وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ
------------------------------------
(1 ) النجم:5ـ 6.
الأمثال في القرآن
_ 281_
إيماناً فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُون ) .
(1)
ولا تظن انّ عمله سبحانه هذا يوجب تعزيز داعية الكفر، وهو أشبه بالجبر وإضلال الناس ووجه ذلك انّ الاستهزاء والابتعاد عن الحقّ أثر الكفر الذي اختاره على الاِيمان، فهذا هو السبب في أن تكون الآيات الاِلهية موجبة لزيادة الكفر والابتعاد عن الحقّ، والدليل على ذلك انّ هذه الآيات في جانب آخر نور وهدى وموجباً لزيادة الاِيمان و التصديق.
وأمّا الثانية: أي استيقان أهل الكتاب من اليهود والنصارى انّه حقّ وانّ محمّداً رسول صادق حيث أخبر بما في كتبهم من غير قراءة ولا تعلم.
وأمّا الثالثة: وهي ازدياد إيمان الموَمنين، وذلك بتصديق أهل الكتاب، فإذا رأوا تسليم أهل الكتاب و تصديقهم يترسخ الاِيمان في قلوبهم.
وأمّا الرابعة: أعني قوله: ( ولا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والموَمنون )، فهو أشبه بالتأكيد للوجه الثاني والثالث.
وفسره الطبرسي بقوله: وليستيقن من لم يوَمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن آمن به صحة نبوته إذا تدبّروا وتفكّروا.
وأمّا الخامسة:وهي تقوّل الكافرين ومن في قلوبهم مرض بالاعتراض، بقولهم: ماذا أراد الله بهذا الوصف والعدد، وهذه الفقرة ليست من غايات جعل عدتهم تسعة عشر ، وإنّما هي نتيجة تعود إليهم قهراً، ويسمّى ذلك لام العاقبة، كما في قوله سبحانه: ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً )
(2)
ومن
------------------------------------
(1 ) التوبة:124ـ 125.
(2 ) القصص:8.
الأمثال في القرآن
_ 282_
المعلوم انّ فرعون لم يتخذه لتلك الغاية وإنّما اتخذه ليكون ولداً له، كما في قول امرأته: ( لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُون )
(1)
و لكن ترتبت تلك النتيجة على عملهم شاءوا أم أبوا . وهكذا المقام حيث أخذت الطائفتان أي الذين في قلوبهم مرض والكافرين بالاستهزاء، وقالوا: ( ماذا أراد الله بهذا مثلاً ) .
وقد فسر قوله: ( الّذين في قلوبهم مرض ) بالمنافقين، كما فسروا الكافرين بالمتظاهرين بالكفر من المشركين، غير انّ هنا سوَال، و هو انّ السورة مكية ولم تكن هناك ظاهرة النفاق و إنّما بدأت بالمدينة.
ولكن لا دليل على عدم وجود النفاق بمكة، إذ ليس الخوف سبباً منحصراً للنفاق، فهناك علل أُخرى وهي الاِيمان لاَجل العصبية والحميّة أو غير ذلك. يقول العلاّمة الطباطبائي: لا دليل على انتفاء سبب النفاق في جميع من آمن بالنبي بمكة قبل الهجرة وقد نقل عن بعضهم انّه آمن ثمّ رجع أو آمن عن ريب ثمّ صلح.
على أنّه تعالى يقول: ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبّكَ لَيَقُولُنَّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِين* وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقين )
(2)
(3)
ثمّ إنّه سبحانه يختم الآية بقوله: ( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء )، أي الحقائق الناصعة والآيات الواضحة تتلقاها القلوب المختلفة تلقياً
------------------------------------
(1 ) القصص:9.
(2 ) العنكبوت:10ـ11.
(3 ) الميزان:20|90.
الأمثال في القرآن
_283 _
مختلفاً يهتدي بها فريق و يضل بها آخر حسب ما يشاء سبحانه، وليست مشيئته سبحانه خالية عن الملاك والسبب، فهدايته وإضلاله رهن اهتداء الاِنسان من هداياته العامة، فمن استهدى بها تشمله هدايته الثانية، وهي التي وردت في هذه الآية، ومن أعرض عنها فيشمله إضلاله سبحانه بمعنى قطع فيضه عنه.
الآية ليست من الاَمثال
ومع ما بذلنا من الجهد في تفسير الآيات، فالظاهر انّها ليست من قبيل التمثيل لما عرفت من أنّه عبارة عن تشبيه شيء بشيء وإفراغ المعنى المعقول في قالب محسوس لغاية الاِيضاح، ولكن الآيات لا تمتُّ إليه بصلة وإنّما هي بصدد بيان سبب جعل الزبانية تسعة عشر وانّ لها آثاراً خاصة.
وعلى ذلك فقوله سبحانه: ( ماذا أَرادَ الله بِهذا مَثَلاً )، أي ماذا أراد الله به وصفاً، فالمثل في هذه الآية نظير ما ورد في سورة فرقان حيث بعد ما ذكر انّ المشركين وصفوه بأنّه رجل مسحور، قال: ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاََمْثالَ )
(1)
أي انظر كيف وصفوك، فليس مطلق الوصف تمثيلاً.
*
النور 36 التمثيل السادس والثلاثون
*
النور 37 التمثيل السابع والثلاثون
*
العنكبوت 38 التمثيل الثامن والثلاثون
*
الروم 39 التمثيل التاسع والثلاثون
*
فاطر 40 التمثيل الاَربعون
*
فاطر 41 التمثيل الواحد و الاَربعون
*
يس 42 التمثيل الثاني والاَربعون
*
يس 43 التمثيل الثالث والاَربعون
*
الزمر 44 التمثيل الرابع و الاَربعون
*
الزخرف 45 التمثيل الخامس والاَربعون
*
الزخرف 46 التمثيل السادس والاَربعون
*
الزخرف 47 التمثيل السابع والاَربعون
*
محمد 48 التمثيل الثامن و الاَربعون
*
الفتح 49 التمثيل التاسع والاَربعون
*
الحديد 50 التمثيل الخمسون
*
الحشر 51 التمثيل الواحد و الخمسون
*
الحشر 52 التمثيل الثاني و الخمسون
*
الحشر 53 التمثيل الثالث و الخمسون
*
الجمعة 54 التمثيل الرابع والخمسون
*
التحريم 55 التمثيل الخامس والخمسون
*
الملك 57 التمثيل السابع والخمسون
*
خاتمة المطاف
Copyright © 2018 bascity Network, All rights reserved
BASRAHCITY.NET