كانت قد بدأت تتفشى بيننا شديدة عند بعضنا وخفيفة عند الآخريات ، وبعد الظهر بقليل وصلت بعض طلائع الركب وعصرا وصلت وجبة منه . وبعد أن عرفنا باكتمال الهدي كان علينا ان نقصر ونحل احرامنا . وفعلا فقد قصرنا وبذلك تحللنا من شروط الاحرام عدى الطيب والنساء فإن ذلك لا يصح الا بعد طواف الحج .
   ونمنا ليلتنا تلك في منى وذهب مجموعة من الحاج بعد منتصف تلك الليلة نحو مكة المكرمة لاداء طواف الحج ولكن انحراف صحتنا خلال تلك الليلة منعنا عن الالتحاق بهم .. وفي صبيحة اليوم الثاني كان علينا ان نرمي الجمرات الثلاث الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى ... وموقع الجمرات ليس ببعيد عن مخيمنا والطريق الذي يفصل بيننا وبينه واضح المعالم مستقيم الشوارع .
   وهذه من اكبر النعم التي من الله بها علينا .. ولهذا فقد توجهنا صباح اليوم الحادي عشر للرمي وحدنا وكان الرمي مزدحما جدا والناظر اليه عن بعد لا يجد سوى رؤوس مرفوعة وأيد ممتدة وحصى تنهال كالمطر على الجمرات ، منظر رهيب يومي بالكثير .. ووصلنا الى مقربة من الجمرة الصغرى فوقفنا ننتظر لحظة مناسبة نتمكن خلالها ان نلج هذه الجموع نعم هذه الجموع التي جاءت تؤكد على الجانب السلبي من العبادة . فهي عندما طافت حول البيت وسعت بين الصفا

ذكريات على تلال مكة   26

والمروة اكدت على طبيعة مسيرتها في الحياة وانها تنطلق من الله لتعود اليه وذلك هو الجانب الايجابي جانب الطاعة الكاملة والانصياع التام للخالق جل وعلى .. وهنا . هنا ، عليها ان تؤكد على الجانب السلبي من العبادة فهناك رسمت عبادتها كلمات الاطاعة .. الانقياد .. وهنا ترسم عبادتها كلمات رفض المعصية ورمي ما يعكر مسيرة الانقياد .. انه الجانب السلبي ، فلا يكفي في مفهوم التوحيد الخالص ان يعبد الانسان ربه ويعبد معه سواه وليس من علامات العبادة الصادقة ان يطيع الانسان خالقه ثم لا يرفض ما يتعارض مع أمر الخالق ولهذا اشتملت اعمال الحج على الجانبين السلبي والايجابي .. ثم هذا الاصرار على الرمي لايام ثلاثة وبحصوات سبع لكل مرة من المرات . ان هذا الاصرار هو بمثابة التأكيد والتشديد على رفض ما هو باطل ومحاربة كل ما يرمز الى الشر من قريب او بعيد . انها عهود ومواثيق تعبر عنها هذه الحصيات . وترمز اليها هذه الجمرات ولا يفوتنا ملاحظة الانسجام بين عدد اشواط الطواف والسعي وبين عدد الحصى لكل رمية وعدد ادوار الرمي . فالعدد في جميع ذلك لا يتعدى السبعة وهذه حكمة نتمكن ان نفهم بها الموازنة التي ينبغي ان يحتفظ بها الانسان في نفسه . نعم الموازنة بين مستوى تقبل المعروف ومستوى رفض المنكر : انه تشريع كامل متجانس النواحي والاطراف ولكن مما يدمي القلب ان نجد اكثر متلقي هذا التشريع غير واعين لحكمته وشموله الواسع .

ذكريات على تلال مكة   27

لو كانت هذه الايدي التي تمتد لترمي هذا النصب الحجري .. لو كانت تمتد دائما وابدا لترمي كل ما يرمز الى معصية الخالق اذن لما كان للشر مقر على الارض . ولكن ..
   ووجدنا اخيرا منفذا تغلغلنا خلاله مقتربات نحو الجمرة ومن رحمة الله وعنايته بنا ان تمكنا من الوصول الى أقرب نقطة حيث أدينا واجبنا بسهولة وعدنا بسهولة ايضا . وكذلك كان الحال في رمي الجمرتين فالحمد لله رب العالمين ..
   وبقينا ننتظر لكي نعود الى مكة لاداء طواف الحج وبما ان المبيت واجب في منى فكان علينا أحد أمرين .. اما ان نذهب عصراً ونعود قبل منتصف الليل وأما أن ننتظر حلول منتصف الليل ثم نخرج بعد ذلك وقد اخترنا الشق الثاني فنمنا في بداية الليل ساعة او ساعتين ثم استيقظنا بعد منتصف الليل بقليل فجددنا الطهارة وخرجنا بصحبة شقيق المتعهد وخمس من نساء القافلة ورجلين من رجالهن .. واستأجر لنا صاحبنا سيارة اوصلتنا الى باب الحرم المكي ( باب سعود ) كان الطريق خاليا هادئا تنساب السيارة فيه انسيابا مريحا وكنا نشعر بالغبطة كلما اقتربنا من مكة .. فقد كنا على موعد مع ساعات عبادة وعطاء .. ودخلنا الحرم وكان لهيبته اكبر الاثر في نفوسنا وكأننا ندخله للمرة الاولى .. وهذا من خصائص ذلك الحرم الطاهر فهو لا يفقد في نفوس داخليه هيبته وروعته مهما تكررت الزيارات وتلاحقت المشاهدات .

ذكريات على تلال مكة   28

   وبدأنا نطوف .. وكان طوافنا هذا اسهل من طوافنا الاول بكثير وذلك لقلة الزحام وهدوء الطواف ولهذا فقد ادينا طوافنا بسهولة لم نكن نتوقعها مطلقا وخرجنا من الطواف لنتجه نحو الصلاة . ووقفنا نصلي في أقرب نقطة من مقام نبي الله ابراهيم وبعد ذلك كان علينا ان نذهب نحو المسعى فاسترحنا قليلا ثم سمينا باسم الله وتوجهنا نحو الصفا والمروة وبدأنا نقطع الاشواط هناك جيئة وذهابا .. وكان صاحبنا يحمل بيده علما اخضرا وهو يسير امامنا لكي لا نضل عنه .. ولكن المجال لم يكن يدعو الى ذلك ولم يكن هناك اي خطر للضلال او لم يكن للضلال اي خطر . وعلى كل حال . فقد سرنا داعيات مرة وساكنات اخرى حتى انهينا اشواطنا السبعة والحمد لله فهل انتهت اعمال الحج بهذا يا ترى . كلا فقد كان علينا ان نطوف طواف النساء . ولولا طواف النساء هو طواف حول الكعبة الشريفة فيه من القرب والخشوع الشيء الكثير لولا هذا لكان غير مرغوب فيه لأن وجوبه يأتي بعد ان يكون الحاج قد صرف من الطاقات اكثرها . ولكن الشعور بالقرب من تلك البقعة المباركة لابد وان يتغلب في نفس الحاج على كل تعب ونصب وطفنا طواف النساء .. وكان الطواف قد ازدحم عن طوافنا الاول نسبيا ولكن وعلى كل حال لم يكن بالشكل المتعب جدا ثم ادينا صلاة الطواف الواجبة وبذلك انهينا جميع اعمال الحج .. عدى رمي الجمرات لليوم الثالث ..

ذكريات على تلال مكة   29

اي شعور من الشكر والامتنان لله الواحد القهار يشعره الحاج عندما ينتهي من نطق آخر كلمة في تشهده من الصلاة ؟ لقد أحسست بالضعة والعجز الكامل عن التمكن من شكر الله على هذه النعمة فسجدنا سجدة الشكر .. ولكن شكرنا لله يحتاج الى شكر .. وذهب صاحبنا بعد الصلاة ليأتي لنا بكوز من ماء زمزم فيا لعذوبة ذلك الماء المالح !! عذوبة معنوية تنسي الشارب مرارته الحسية .
   وكنا نحس بمزيد الحاجة الى الماء فشربنا حتى ارتوينا وغسلنا وجوهنا ثم حمدنا الله من جديد .. ولا يسعني هنا الا ان اسجل كلمة شكر لصاحبنا شقيق المتعهد ذلك فقد عاملنا معاملة جيدة ووفر لنا في تلك الساعات جميع ما تمكن عليه من أسباب الراحة فأسأل الله تعالى ان يجزيه عنا خير الجزاء .. وللقارئ ان يتصور مدى حاجتنا في ذلك الوقت الى الراحة وهي لاتتم الا بالعودة نحو منى والطريق كان مهددا بالازدحام كلما قرب انتهاء الليل ولكن كان علينا ان ننتظر فإن احد الحجاج الذي صحبنا في منى كان قد انفصل عنا بالطواف والسعي هو وزوجته وكان علينا ان ننتظره لكي نعود معا .. هكذا قال صاحبنا المتعهد .. وحفاظا على آداب المصاحبة فقد خضعنا للامر الواقع وجلسنا ننتظر . وطالت المدة دون ان يتفضل صاحبنا فيمر علينا مرور الكرام حتى يئس متعهدنا من عودته واعتقد انه قد عاد بزوجته الى منى فخرجنا نسحب اقدامنا في الارض سحبا لشدة التعب والسهر

ذكريات على تلال مكة   30

وهيأ لنا صاحبنا سيارة نقلتنا الى مدخل منى حيث تعذر عليها ان تستمر لكثرة الزحام فنزلنا لنمشي ذلك الطريق الطويل ونحن متعبات مرهقات نعسانات مريضات .. ولكن .. واخيرا وصلنا الى الخيمة والشمس لم تشرق بعد فحمدنا الله على السلامة .. ووجدنا حاجتنا ( زوجة الحاج الفاضل ) تغط في نومة عميقة ثم استيقظت لكي تقول ( لماذا تأخرتم ؟ ) !!
   وكنا في حاجة ماسة الى النوم فنمنا قريرات العين لتمكننا من اداء الواجب بالشكل الصحيح .. واستيقظنا بعد ساعتين لتناول افطارنا وكنا قد استعدنا بعض قوانا والحمد لله .

*   *   *

كان علينا ان نرمي الجمرات لليوم الثالث وبينما كنا نتحدث عن احسن وقت نتمكن فيه من الذهاب اذ بمجموعة من السيدات يدخلن الخيمة عائدات من الجمرات وكل واحدة منهن تنادي بالويل والثبور للازدحام المرير وصعوبة الوصول اليه ، فهذه تقول كدت اختنق ـ وتلك تقول ـ انه موت محقق ـ واخرى تقول ـ انه الهلاك بعينه .. تهويل ومبالغة غير مستحبة أبدا .. وتلفت حولي فوجدت الوجوه وقد علتها مسحة من القلق .. وكأن اخواتي خيل اليهن ان هناك تطورا جديدا قد حدث في نطاق رمي الجمرات .. وان صعوبة المرمى قد تصاعدت الى مستوى الموت والهلاك فاردت ان احسم فترة الانتظار المشوبة بالقلق

ذكريات على تلال مكة   31

ولهذا اقترحت عليهن الذهاب نحو الجمرات .. فجددنا الطهارة لأن من مستحبات الرمي هو أن يكون الرامي حافظا للطهارة ثم توجهنا نحن الخمسة نحو المرمى .. كانت مهمتنا في ذلك اليوم هي أسهل منها في اليومين الماضيين فلم نلحظ من قريب أو بعيد أثر من آثار الهلاك أو الموت أو الاختناق وخرجنا من محوطة الجمرة الكبرى صخبات ضاحكات لأننا بذلك كنا قد أنهينا جميع اعمال الحج .. نعم انهيناها بالاصالة ولم نضطر الى وكالة وانهيناها باطمئنان ولم نتعرض فيها لشك او نسيان .. انتهينا منها واعيات ولم ننصرف عنها جاهلات .. وأخيرا انتهينا منها راغبات في العودة غير برمات لشيء أو ساخطات على أمر من الامور .. ولهذا كنا نضحك .. ولهذا أيضا كنا نحس بالغبطة والسعادة .. فالحمد لله على ما انعم واسدى . وعدنا الى الخيمة وهناك كانت الخيمة اشبه ما تكون بسوق خيري.
   اذ ان مشتريات الايام الثلاث كانت قد انتثرت بين جوانبها ومشتريات تلك الساعات الاخيرة كانت مكدسة تنتظر الشد .. وعلى كل حال فما ان انتهينا من الصلاة والغذاء حتى نادى المنادي بنا ان هيا نحو السيارات للعودة الى مكة .. وسارت بنا السيارة ونحن نودع في ابصارنا وافكارنا هذه المعالم الحبيبة .. فكم هو من الصعوبة بمكان ان ينظر الانسان الى ما يحب نظرة وداع قد لا يكون من ورائه لقاء .. هذا الشعور هو اقسى ما يحسه المفارق فيود لو تزود معه

ذكريات على تلال مكة   32

باكثر مقدار ممكن من الذكريات .. وطلبنا من الله تبارك وتعالى ان يرزقنا العودة ثانيا .. ثم وصلنا الى مكة حيث آوينا الى غرفتنا في العمارة التي كنا ننزل فيها قبل الخروج الى عرفات .. وغرفتنا تلك صغيرة .. ونحن كنا بمجموعتنا سبعة ، وقد عرض علينا المتعهد منذ البداية ان نتنازل عن اثنتين منا أو ثلاث يلتحقن في غرفة ثانية ولكنني وقد عز عليّ التفريق والتميز وصعب عليّ ان افترق مع من صحبتهن منذ بداية الرحلة رفضت ذلك وآثرت ضيق المكان مع الجماعة على سعته مع الفرقة .. ولهذا فقد كنت قد أخرجت أمتعتي الى الفسحة التي تجمع باقي الغرف لكي أوفر شيئا من المكان .. وكنت قد صادفت منذ ساعة ورودنا مكة قبل سفرنا الى عرفات صادفت بعض المتاعب من قبل اهمال بعض رجال القافلة . اذ كان الواحد منهم يصعد في طلب زوجته او امه او اخته ويدخل الشقة بدون استئذان ولا يهمه ان تكون هناك امرأة مارة او ان يكون هناك بابا من أبواب الغرف مفتوحا ولكنني وجدت ان هذا أمر لا يستحب السكوت عليه فطلبت من المتعهد ان يمنع ذلك وخولته ان يوجه الطلب باسمنا اذا كان يخشى من التأثرات .. ولكنه استجاب للامر برحابة صدر ونادى في طابق الرجال قائلا : لا يصح لرجل ان يجتاز باب شقة النساء في الطابق الثاني .. واستجاب الرجال لذلك والحمد لله فكان واحدهم يقف وراء باب الشقة ثم يطرقها مناديا على من يريد من السيدات كان

ذكريات على تلال مكة   33

هذا هو وضع غرفتنا في مكة .. وكانت الشقة تحتوي على حمام واحد ودورتين للمياه .. وليت هذا الحمام لم يكن موجوداً لأنه اصبح مصدر متاعب للجميع وطالما نجمت بسببه الكثير من الخلافات والنزاعات .. أما ماء الشرب فقد كان مالحاً جدا وظني ان المتعهد كان قد عجز عن توفير ماء للشرب لكثرة ما تستهلك النساء منه لغسيل الملابس والاجسام ولهذا كنا نتجرع مرارة الماء وملوحته بصمت .. ما دامت تلك المرارة بسبب من حلاوة العبادة ... واصبح علينا صباح اليوم الثالث عشر ونحن في مكة ومكة بلدة تضفي على من يؤمها جوا من الانطلاق الروحي والانشراح النفسي فهي بجميع معالمها محببة الى النفس قريبة الى الروح وعلى القرب منها غار حراء .. وهو على قمة جبل عظيم هائل الارتفاع واذا اردنا ان نعين موقعه في ذلك الجبل وجدناه ينحدر عن القمة من الجانب الثاني نازلا من الناحية الثانية لكي نجد فتحة الغار الصغير .. هذا الغار الذي انطلقت من بين جدرانه اقدس رسالة عرفها التاريخ فإن احجاره هي تلك الاحجار التي استقبلت ميلاد شريعتنا الخالدة .. حيث دخل اليها محمد بن عبد الله (ص) لكي يعتزل الناس وينصرف الى عبادة الله الواحد القهار ثم خرج عنها وهو حامل لرسالة السماء ... هذه الساعات التي احتضنت محمدا داخل الغار كانت هي الحد الفاصل بين الظلمات والنور بين الحياة والدمار فما اعظمها من ساعات كانت الارض خلالها قد

ذكريات على تلال مكة   34

تفتحت لتستقبل رسالة السماء ويالها من خطوات تلك التي خطاها محمد بن عبد الله (ص) وهو خارج من هذا الغار ليطل على العالم برسالته مضيئا في معانيها مشاعل نور وواضعا من مفاهيمها سفن نجاة .. نعم انه غار حراء حيث شقت في الجبل المؤدي اليه بعض خطوط ملتوية بين صخور واحجار يتمكن الصاعد ان يجد آثارها كلما صعد وحيث يطل الصاعد اليه على مكة بجميع مبانيها ومعالمها فيقف خاشعا امام تصوره لحقيقته الشامخة .. حقيقة ان يكون الاسلام قد انطلق من بين هذه الاحجار الصلبة الجرداء ليهدد كسرى في ايوانه وهرقل في عزته وسلطانه كما وان الزائر في مكة يمكن ان يزور مقابر قريش حيث رقدت ام المؤمنين خديجة وفاطمة بنت اسد ام الامام امير المؤمنين واجداد النبي واعمامه .. ووقفنا عند قبر خديجة الذي لا يكاد يعرف لولا بعض احجار صغيرة فوقه .. وسرح بنا الفكر الى حيث كانت السيدة خديجة تحتضن الرسالة وتتبناها كما احتضنت صاحب الرسالة وتبنته من قبل .. نعم السيدة خديجة هذه التي يعلمنا تاريخها ان للمرأة لو ارادت ان تكون ركيزه في وجود الامم وبانية من بناتها .
   .. ووقفنا على قبرها نتساءل : أين نحن من خديجة ثم لنتساءل أيضا وبعد ان نعرف مدى البون الشاسع الذي يفصلنا عنها نتساءل أترانا مسلمات حقا ؟ وما هي علامات اسلامنا يا ترى ؟ ان الجانب الايجابي وحده لا يكفي لأن يوجد من

ذكريات على تلال مكة   35

الانسان انسانا مسلما حقا لان جميع العبادات المفروضة هي مما ينفع الناس ويحقق لهم المصالح الخاصة والعامة . اما الجانب الذي يحقق للفرد اسلامه ويخوله ان ينتسب الى الاسلام مانحا اياه احقية ذلك الانتساب هو الجانب السلبي من جوانب العبادة .. والجانب السلبي هو ترك ما نهانا الله عنه واجتناب ما أمرنا الله باجتنابه .. فهل نحن مسلمات حقا وكان علينا ان نبقى في مكة مدة ثلاثة ايام ثم نسافر بعدها متوجهين نحو المدينة المنورة ... وفي اليوم المقرر للسفر ذهبنا الى الحرم الشريف لنطوف طواف الوداع .
   وكان المطر ينهمر بغزارة فيغسل جدران الكعبة ويضفي على الموقف بشكل عام هيبة جديدة من نوع فريد وكان الوداع قاسيا جدا لولا بصيص الامل في عودة اللقاء وقديما قيل :
   « ما أضيق العيش لولا فسحة الامل »

*   *   *

   وعدنا من البيت الحرام ونحن نلتفت وراءنا لنلقي آخر نظرة على ما نحب وكأننا مع كل لفتة كنا نجدد عهدا جديدا في الولاء ونؤكد وعدا مسبقا في وحدانية العبودية وخلوص الطاعة .. كانت نظراتنا تلك حكاية عن قلوب عاشت سعادة الروح في القرب وها هي تسير نحو مرارة

ذكريات على تلال مكة   36

الشوق في البعد .. حكاية ارواح وجدت راحتها حيث تسير منطلقة نحو مناها السحيق .. نعم لقد كانت تلك النظرات حكاية عسى ان يحققها الله لقلوب املتها في صدق وارواح اوحتها في اخلاص .. وعدنا الى النزل حيث وجدناه صاخبا ثائرا يشوبه جو من التوتر وتنطلق من احدى زواياه ثورة عارمة ونقمة مدمرة فراعنا الموقف وتساءلنا عن السبب ؟ ثم عرفنا ان بعض الحجاج كانوا قد اقترحوا على المتعهد ان يؤخر لهم نقلا خاصا بهم نحو المدينة وذلك عن طريق سيارة صغيرة مستقلة لكي يتجنبوا مضايقات المطار ويبدو ان هناك بعض المعاكسات الغير مقصودة قد حالت بينهم وبين مواصلة السير وتسبب ذلك في ضياع جوازات السفر العائدة اليهم !. وجلسنا ننتظر إنتهاء هذا الموقف المسرحي ولكن اين جلسنا يا ترى ؟ كان الفراش قد تجمع في ساحة الشقة مقدمة لنقله والامتعة قد رميت فوق بعضها استعدادا لتحميلها في السيارة .. فجلسنا على اطراف سجاجيد !! وأمرنا لله الواحد القهار .. بعد ان عرفنا اننا لا يمكن ان نخرج من مكة الا بعد الحصول على الجوازات الضائعة !! وكان لهذا الصخب واللغط أسوأ الاثر في تلوين انطلاقتنا الروحية التي عشناها في عيون مودعة دامعة وقلوب مشفقة خائفة .. فقد بدأ الماء يسري الينا ونحن نجلس وسط ساحة حرب نبالها الكلمات وقذائفها الدعوات .. وكلما حاولنا رد الغيبة اوتلطيف الموقف زاد الطين بلة حتى كاد ان يصيبنا شيء من ذلك الرشاش !!

ذكريات على تلال مكة   37

فسكتنا وأمرنا لله ولكن وضعنا النفسي كان قد تدهور جدا وبدأت اعصابنا تنذر بالارهاق . واخيرا وبعد ساعات طوال سمعنا بنبأ الحصول على الجوازات المفقودة فألف الحمد لله رب العالمين .. وانطلقنا من الشقة خفافا كأننا طيور طال بها السجن في قفص من حديد وذهبنا الى حيث كانت السيارات .. فصعدنا الى اماكننا فيها .. وسارت بنا على اسم الله وبركاته .. وبذلك غادرنا مكة تلك البقعة الحبيبة .. ولكن شتان بين دخولنا اليها ملبيات وبين خروجنا عنها مرهقات متعبات.

*   *   *

   وقبل أذان الفجر بساعة دعينا الى المضي نحو الطائرة فحمدنا الله على نهاية الانتظار واستقل كل منا مقعده في الطائره النفاثة ( ترايدنت ) وبقينا ننتظر التحليق وكنا نأمل ان نصلي صلاة الفجر في المدينة لان لامدة بين جدة المدينة لا تستغرق اكثر من ثلاثة ارباع الساعة وطال بنا الانتظار والطائرة تأبى ان تقلع عن الارض وعرفنا ان هناك خلل يتطلب الاصلاح .. وبدأ السأم يدب الى نفوسنا ونحن نتابع الساعة خشية ان يتعارض وقت السفر مع وقت الصلاة وكدنا أن نقترح النزول الى أرض المطار لتأدية الصلاة لولا ان مضيف الطائرة أعلن عن عدم التمكن من اصلاح الطائرة وليس علينا الا الهبوط !!!

ذكريات على تلال مكة   38

   فنزلنا وعدنا من جديد نفترش امتعتنا وسط آلاف الحجاج وقضينا النهار بطوله هناك وبعد الغروب بقليل دعينا الى ركوب الطائرة فركبناها وقلوبنا وجلة خشية ان لا تكون قد برأت من عارضها بشكل كامل ولكنها وبعد دقائق اقلعت عن ارض مطار جدة .. وبهذا كنا قد توجهنا نحو المدينة المنورة .
   ووصلنا الى المدينة المنورة وهي تبعد عن جدة حوالي ال (420) كيلو متر ووقفت امام قبر الرسول (ص) ان من ابرز المشاعر التي يعيشها الانسان وهو ماثل امام القبر الشريف هو شعور الخجل والتقصير !! حينما يجد ان عليه ان يقدم حسابا لقائده الذي يقف امامه .. نعم ان عليه ان يقدم حسابا عن الوديعة التي خلفها لديه وهو القائل ( اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا ) فكيف كان احتضانه لهذه الوديعة وما هو مدى تمسكه بهما ؟ وهل تراه وعى مضمون التمسك وعرف انه التمثل والطاعة والاستجابة كما يدعوان اليه ؟ سعيد ذلك الذي يجد نفسه وقد وفى لرسوله باحتضان مخلفاته والتمسك بهما ، نعم سعيد ذلك الانسان ويالها من سعادة هو يقف في بقعة طاهرة قال عنها الرسول (ص) ( بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ) ولكن لمن تتفق هذه السعادة يا ترى ؟؟ سؤال حبذا لو طرحه على نفسه كل زائر لتلك الرحاب وفي المدينة المنورة ايضا زرنا مراقد الائمة الاطهار الحسن المجتبى والامام

ذكريات على تلال مكة   39

زين العابدين وابي جعفر الباقر والمام جعفر الصادق عليهم افضل الصلاة والسلام وكانت زيارتنا لمراقدهم الشريفة من وراء جدار البقيع حيث ان السلطة هناك لا تسمح للمرأة بالدخول الى تلك البقعة الطاهرة !!
   وقد خصصت ساعات محدودة من كل يوم تفتح فيه الابواب لزيارة الرجال فقط .. وفي القرب من المدينة المنورة زرنا مقابر شهداء احد الابرار ومسجد قبا وهو أول مسجد بني في الاسلام ومسجد القبلتين حيث نزل الوحي فيه بتغير القبلة من بيت المقدس نحو الكعبة الشريفة . وغيرها من الاماكن الشريفة وفي صبيحة اليوم الخامس فارقنا المدينة متوجهين نحو العراق وكلنا لسان شكر لله عز وجل على ما وفقنا اليه .
أنغام الرحيل
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ايـهـا الـراحل عـن اوطـانه      لاهـيـا عـنها وعـن اخـوانه
لا  يـبـالي بـجـوى iiتـجنانه      قــاده الـشـوق الـى ايـمانه

ذكريات على تلال مكة   40
سـائرا  نـحو الـنعيم iiالمرتجى      فـي رحـاب الله او قـبر iiالنبي
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ايـها الـراحل سـر نحو iiالنعيم      نـحو وادي زمـزم نحو iiالحطيم
نـحو  بـيت الله والركن iiالعظيم      فـي  رحاب الله ذي العفو الكريم
نـحو  سعي الحق أو نحو iiالصفا      واذكــر  الله بـقـلب iiوجـب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ايـها  الـراحل قف جنب iiالمقام      حـيث ابـراهيم قد صلى iiوصام
ذكريات على تلال مكة   41
ثـم صـل فـي خشوع iiواحترام      واتـجه فـيها الـى رب الانـام
واطـلب  الـعفو من الرب iiالذي      جـعل  الـتوبة عـتق الـمذنب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ايـها الـراحل ان جـئت iiالصفا      فـاسع  لـلمروة تـبغي iiشـرفا
وابـتهل  فـيها بـقلب قـد iiهفا      نـحو عـفو الله اسـمى من iiعفا
ثـم قـصر بـعد سـبع iiوانثنى      شـاكـرا لـلـه نـيل iiالـطلب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ذكريات على تلال مكة   42
ايـها  الـراحل قف جنب iiالمقام      حـيث ابـراهيم قد صلى iiوصام
ثـم صـل فـي خشوع iiواحترام      واتـجه فـيها الـى رب الانـام
واطـلب  الـعفو من الرب iiالذي      جـعل  الـتوبة عـتق الـمذنب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ايـها الـراحل ان جـئت iiالصفا      فـاسع  لـلمروة تـبغي iiشـرفا
وابـتهل  فـيها بـقلب قـد iiهفا      نـحو عـفو الله اسـمى من iiعفا
ثـم قـصر بـعد سـبع iiوانثنى      شـاكـرا لـلـه نـيل iiالـطلب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ذكريات على تلال مكة   43
ايـها الـراحل هـذي iiعـرفات      فـاغتنمها فـرصة قـبل iiالفوات
واشـغـلن سـاعتها بـالدعوات      واغـسل الـذنب بسيل iiالعبرات
جـبـل الـرحـمة فـيها فـأته      رحـمـة  الله بـقـلب iiوجـب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ثـم عـند الـظهر قـفها iiوقـفة      تـائـبا لـلـه فـيـها تـوبـة
واسـكب  الـروح عـليها عبرة      تـغسل الـذنب وتـعطي iiجـنة
لا  يـلقاها سـوى قـلب iiنـقي      واسـتقم  فـيها لـوقت iiالمغرب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ذكريات على تلال مكة   44
ايـهـا الـراحـل ذي iiمـزدلفة      نـحوها فـاطر الدجى في iiعرفه
يـذكـر  الله بـها مـن iiعـرفة      تـائبا  عـن كـل مـا iiاقـترفه
لـيـس  فـيـها ارض iiوسـما      وظــلام وخـشـوع iiمـرهب
فـرصة الـعمر وأغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالأرب
انـهـا  لـيلة سـعد iiوخـشوع      وابـتـهال  ودعــاء iiودمـوع
ومـناجاة الـى وقـت iiالـطلوع      مــا احـيلاها اراض وربـوع
يـستميل  الـقلب فـيها iiراحـة      تـزدهي  مـن كـل زهر iiطيب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ذكريات على تلال مكة   45
ايـها الـراحل قـد نـلت المنى      اذ  تـوجهت الـى ارض iiمـنى
مـسجد  لـلخيف يـعطيك iiالهنا      فـيه  تـنسى كـل جـهد iiوعنا
ايـها الـراحل وارم iiالـجمرات      فـي  حـصا مـعدودة iiلـلطلب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
وتـوجـه  بـعـدها iiلـلـكعبة      طـف وصـل وابـتهل لـلتوبة
ثــم  فـأت لـلصفا iiوالـمروة      واشـكـر الله لـهـذي iiالـنعمة
ثـم طـف فـيها طـوافا iiثـانيا      لـيس مـن جـهد بها أو iiنصب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ذكريات على تلال مكة   46
ايـها الـراحل يـهنيك الوصول      في رحاب القدس في قبر الرسول
فـيه  تـسمو نحو باريها iiالعقول      تـنـمحي الآلام والـهم iiيـزول
يـهـب الارواح امـنا iiورضـا      وهـو يـروي كـل قلب iiمجدب
فـرصة الـعمر وأغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ايـها  الـراحل زر تلك الرحاب      وبـقيعا مـا بـه غـير iiالتراب
فـغدت جـدرانه تحكي iiالخراب      وانـمحت آثـاره فـهي iiيـباب
وبــه أربـعـة يـرجى iiبـهم      نـيـل عـفو الله يـوم iiالـتعب
فـرصة الـعمر واغـلى iiمطلب      تـهب  الانـسان احـلى iiالارب
ذكريات على تلال مكة   47

لن أنثني

قـسـما  وان مـلىء iiالـطريق      بـمـا  يـعـيق الـسير iiقـدما
قـسـما  وان جـهـد iiالـزمان      لـكـي يـثـبط فــي iiعـزما
أو حــاول الـدهـر الـخؤون      بــأن  يـريـش الـيّ iiسـهما
وتـفـاعلت  شـتى iiالـظروف      تـكـيـل  آلامـــا iiوهـمـا
فـتـراكمت سـحـب iiالـهموم      بــأفـق  فـكـري iiفـإدلـهما
لـــن انـثـني عـمـا iiأروم      وان غــدت قـدمـاي iiتـدمى
كـــلا ولــن أدع iiالـجـهاد      فـغـايتي  أعـلـى iiوأسـمـى
انــا  كـنـت أعـلم ان iiدرب      الـحـق بـالاشـواك iiحـافـل
ذكريات على تلال مكة   48
خــال مـن الـريحان iiيـنشر      عــطـره بـيـن iiالـجـداول
لـكنني  اقـدمت أقـفو iiالـسير      فـــي خــطـو iiالاوائــل
فـلـطالما  كــان iiالـمـجاهد      مــفـردا بـيـن iiالـجـحافل
ولـطـالـما نـصـر iiالالــه      جــنـوده  وهــم الـقـلائل
فـالـحق يـخلد فـي iiالـوجود      وكــل مــا يـعـدوه iiزائـل
سـأظل أشـدو بـاسم iiاسـلامي      وأنــكـر  كـــل iiبـاطـل
اسـلامـنا  أنــت iiالـحـبيب      وكــل  صـعب فـيك iiسـهل
ولاجــل دعـوتـك iiالـعزيزة      عـلـقـم  الايـــام iiيـحـلو
لـم  يـعل شـيء فـوق iiاسمك      فــي  الـدنا ، فـالحق iiيـعلو
وتـطـبق  الـدنـيا iiمـبـادئك      الـعـزيـزة وهــي iiعــدل
ذكريات على تلال مكة   49
وسـيـنصر  الـرحـمن iiجـند      الـحـق  مـا سـاروا iiوحـلوا
الـسـيـخلمن  يــن iiالالــه      وكــل  مــا يـعـدوه iiيـبلو
وأظـــل  بـاسـمك دائـمـا      أشــدوا فــلا ألـهو iiوأسـلو
Next