ولم يفت الجدة ما عناه ماهر بكلمته الأخيرة فردت عليه في حجة قائلة : ارجوك أن تسحب كلمتك الأخيرة يا أستاذ ، أن ورقاء شريفة وطاهرة وليست ممن يصادق الرجال ، ثم التفتت إلى ورقاء تقول : قومي واذهبي إلى غرفتك يا ورقاء .
   فنهضت ورقاء وهي مغضبة ثم ودعتهم باقتضاب وذهبت إلى غرفتها حيث جلست على حافة السرير تنتظر انصراف ماهر وهي ترتجف من شدة التأثر .
   أما الجدة فقد بدأت بالاعتذار من ماهر وكأن هذا الموقف من ورقاء دفع ماهر إلى مزيد من الاصرار وقد لبس لذلك لبوس العناد ، وأحس بالرغبة في سحق هذه التي رفضته ورفضت معه ذهبه وعماراته وسياراته ولهذا صمم أن يبدو أمام الجدة كإنسان لين الجانب صبوراً على الأذى فأجابها على كلمات الاعتذار قائلاً : لا عليك يا جدتي أنني سوف أحاول إقناعها بأساليبي الخاصة ، وحاولي أنت مساعدتي أيضاً ، واتصلي بي عند أول بادرة اقتناع .
   قال هذا ثم ودعها وخرج وقد صمم أن ينتقم من ورقاء وأن يقف بالمرصاد لكل من يتقدم لخطبتها فأما أن يدعيها لنفسه وأما أن يشوه سمعتها عنده حتى يضطره أخيراً إلى التنازل له وعند ذلك يرفضها كما رفضته الآن .
   وأما ورقاء فقد بدأت تشعر بالراحة نسبياً لأنها حسمت الموضوع وتخلصت من ماهر ، وقد حاولت أن تنسى

  لقاء في المستشفى   108

المضايقات التي حدثت معتبرة نفسها منتصرة في هذه الجولة ، ولهذا فقد نزلت من غرفتها في صباح اليوم الثاني وهي منشرحة الصدر مشرقة الوجه الشيء الذي استغربت له الجدة وكانت تتوقع أن تجدها في حالة نفسية سيئة ، وكانت ورقاء تتعجل الذهاب إلى معاد لكي تحدثها بما جد في الأمر ، ولكنها عندما ذهبت إليها عصراً وجدتها مشغولة مع حالة مرضية مستعجلة فعادت إلى البيت وإذا بجدتها تستقبلها عند الباب قائلة بصوت خافت : إصعدي إلى غرفتك دون أن يصدر عنك أي صوت .
   فبهتت ورقاء وقالت : لماذا ؟ ما الخبر ؟.
   قالت الجدة : صه إصعدي بسرعة وسوف أصعد إليك فيما بعد ، إياك أن تنزلي قبل أن أناديك .
   فصعدت ورقاء إلى غرفتها وهي في حالة قلق وارتباك فقد أوحى إليها منظر جدتها بوجود أحداث غير مريحة ، وكلما ضربت أخماساً بأسداس لم تتمكن أن تقف عند فرض معقول وتعلقت عيناها بعقارب الساعة تستحثها على المسير ولكنها كانت تأبى أن تتحرك وكأنها تحجرت في مكانها من الصفحة السوداء .
   وبعد أكثر من ساعة سمعت صوت الباب ينغلق ثم صوت جدتها يناديها إلى تحت ، فنزلت على عجل ، فاستقبلها

  لقاء في المستشفى   109

وجه الجدة كئيباً شاحباً فأرعبها ذلك وقالت في فزع : ماذا بك يا جدتي ؟ ماذا حدث بالله عليك ؟
   قالت الجدة : هل تعلمين من كان هنا قبل دقائق ؟
   قالت ورقاء : من أين لي أن أعلم يا جدتي ؟
   قالت : إنه حامد أفندي !!
   فبهتت ورقاء وقالت باستنكار : حامد أفندي ؟ هذا الاقطاعي المعروف ؟
   قالت الجدة : نعم ، هذا الذي شردنا عن أرضنا واستغل خيراتنا .
   قالت ورقاء : وماذا كان يريد ؟
   قالت الجدة : لقد جاء يطالب بحقه في قطعة الأرض التي بحوزته ، وحقه في هذا البيت لأنه رهن عنده بأوراق رسمية ولا توجد أوراق رسمية تثبت سداد الرهان لأنها سرقت من المعمل كما ذكرت لك سابقاً ، وهو يقول : أنه ما صبر علينا إلا انتظاراً لتخرجك من الكلية ولهذا فهو الآن يطالب بحقه وتصفية الحساب إلا إذا ..
   وسكتت الجدة وكأنها لم تجرأ أن تزيد على ذلك شيئاً .
   فقالت ورقاء في لهفة : إلا إذا ماذا يا جدتي ؟
   قالت الجدة : إذا وافقنا على شيء ؟

  لقاء في المستشفى   110

   قالت ورقاء وهي تتلفت حولها في حركة لا اختيارية وكأنها تطلب النجدة ، قالت : إلا إذا وافقنا على أي شيء يا جدتي ؟
   قالت الجدة : على قبول ابنه ناصر صهراً لنا فهو حين ذلك سوف يعيد الينا أرضنا كاملة ويعترف لنا بهذا البيت .
   فأحست ورقاء وكأن صاعقة قد انقضت على رأسها وقالت في هلع : وماذا قلت له يا جدتي ؟
   قالت الجدة : لقد أسعفني الله بجواب أنقذ الموقف مؤقتاً .
   قالت ورقاء : وكيف ؟
   قالت : لقد قلت له بأنك معقودة ولم يكن يسعني غير ذلك كي لا أثير غضبه علينا ولا أدع له مطمحاً فيك بعد اليوم .
   قالت ورقاء : ولكن كيف قلت له هذا وسوف ينكشف بطلانه من بعد ؟
   قالت الجدة : ولهذا أصبح محتماً عليك أن تقبلي بماهر في أسرع وقت ، فإن ماهر مهما كان هو أفضل من ابن حامد أفندي الشاب الماجن السكير .
   فصدرت عن ورقاء آهة جريحة ثم أطرقت برهة رفعت

  لقاء في المستشفى   111

رأسها بعدها وهي تقول : كلا أنني لن أقبل بماهر مهما كان ، دعيه يأخذ منا كل شيء ، أنني أقدم أرضي وبيتي فداء رخيصاً لديني يا جدتي .
   وهنا ثارت الجدة ثورة عاتية واندفعت تلطم وجهها وتدق صدرها ، وتنادي بالويل والثبور وتكيل لورقاء مختلف كلمات السباب وتتهمها بأقسى التهم .
   فحاولت ورقاء تهدئتها ولكنها لم تتمكن من ذلك إلا بعد جهد ثم صعدت إلى غرفتها وارتمت على فراشها وهي في أسوأ حال .

*   *   *

   أصبح صباح اليوم الثاني ولم تنزل ورقاء من غرفتها فحسبت الجدة أنها نائمة ، ولهذا تركتها حتى ساعة عالية من الصباح ثم دخلت اليها لتوقظها وفتحت باب الغرفة ودخلت وانحنت عليها تناديها ، فهالها أن رأت ورقاء غارقة في بحران من الحمى وقد انصبغ وجهها بزرقة قاتمة وأخذت أنفسها تتلاحق لاهثة كاوية ، فنادتها قائلة : ورقاء ! ورقاء .
   ففتحت ورقاء عينها ونظرت إلى جدتها نظرات تائهة .
   فقالت الجدة : ماذا بك يا ورقاء ؟ يا مهندستي الصغيرة ؟
   قالت ورقاء بصوت واهن متقطع : لا أدري .

  لقاء في المستشفى   112

   قالت الجدة : هل أستدعي لك طبيباً ؟
   قالت ورقاء : نعم ، فأنني لست على ما يرام .
   فنزلت الجدة وهي حائرة ماذا تصنع ، ثم خطر لها أن تتصل بماهر وتطلب منه إحظار طبيب ، فاتصلت به في مكتبه وقالت له في لهفة : أرجوك يا أستاذ ماهر ، أنقذ ورقاء فأنها مريضة جداً .
   فجاءها الجواب في برود قائلاً : ماذا بها ؟
   قالت : أنها مريضة وفي حاجة إلى طبيب .
   قال : ولكن الأطباء ليسوا في عيادتهم صباحاً .
   قالت : ولكن فتش فقد يكون هناك طبيب غير موظف .
   قال : ولكنني مشغول وعندي الكثير من المراجعين ، أجلي الموضوع إلى العصر ، وإذا كانت لا تزال في حاجة إلى طبيب فاتصلي بي مرة ثانية .
   فلم يسع الجدة إلا أن تغلق السكة وهي بين اليأس والغضب وصعدت إلى جوار ورقاء وهيأت لها بعض المجربات . ولكن حماها كانت ترتفع ووضعها لا يوحي بأي تحسن حتى حان العصر فأعادت الاتصال بمكتب ماهر فقيل لها أنه غير موجود فقالت في توسل : هل تعلمون أين هو ؟
   قالوا لها : أنه سافر في مهمة له في خارج البلد وسوف

  لقاء في المستشفى   113

لن يعود اليوم . فألقت سماعة التليفون وعادت إلى جوار ورقاء تقرأ لها بعض الأدعية مع بعض آيات من القرآن الكريم وما أن حل الليل حتى أحست أن ورقاء قد فقدت شعورها وأن جسمها قد أخذ يتشنج وقد بدأت تهذي بكلمات غير مفهومة فطار صوابها وعادت إلى التليفون تطلب فيه ماهراً فلم تحصل له على أثر وحاولت أن تحصل على سواه ولكنها لم تتوصل إلى نتيجة ، فخطر لها خاطر أنكرته على نفسها وأهملته وعادت إلى ورقاء فسمعت أنينها يختلط بالهذيان ، ورأت جسمها وهو يتشنج بشكل مرعب ولم يسعها حين ذاك إلا أن تقول : لعنة الله عليّ ، لقد قتلت ابنتي بيدي . ولكن عليّ الآن أن أنقذها بأي شكل ، نعم بأي شكل ، وعادت تنزل إلى جهاز التلفون وأدارت أرقاماً معينة وكأنها كانت تغالب نفسها وتريد أن تحقق أمراً قبل أن تتردد فيه ، وكانت تطلب المستشفى ، الطابق السابع فردت عليها من هناك إحدى الممرضات فقالت لها متوسلة :
   إنني أريد أن أكلم الدكتورة معاد .
   قالت الممرضة : ولكنها فوق في غرفتها ولعلها نائمة .
   قالت الجدة : ناديها أرجوك يا ابنتي فأنني مضطرة إليها .
   قالت الممرضة : أعطيني رقم تليفونك لكي أقول لها أن تتصل بك هي فأن الخط لا يمكن أن يبقى مشغولاً مدة من الزمان .

  لقاء في المستشفى   114

   فأعطتها رقم التليفون وأغلق السكة وصعدت إلى جوار ورقاء ولم تمض دقائق حتى رن جرس الهاتف فأسرعت اليه الجدة ورفعته وهي تقول : ألو ، من ، الدكتورة معاد ؟
   قالت معاد : نعم ، أنني معاد ، ولكن من أنت ؟
   قالت : أنني جدة ورقاء ، ولقد لجأت إليك في خصوص ورقاء ، إنها مريضة ومريضة جداً .
   فردت معاد تقول : ورقاء مريضة ؟ ماذا بها ؟
   قالت الجدة وهي تبكي : لا أدري ، اسرعي اليها وانقذيها . ان ابنتي سوف تموت فارحميها بالله عليك يا معاد .
   قالت معاد : أنني آتية حالاً يا جدتي ، ولكن أين هو بيتكم ؟
   فأعطتها الجدة عنوان البيت وعادت إلى جانب ورقاء وقد تجدد لديها بعض الأمل وأخذت تتابع عقارب الساعة بلهفة وقلق ولم تمض فترة طويلة حتى رن جرس الباب فاندفعت اليه وفتحته لتجد معاد ، ونسيت الجدة في غمرة قلقها على ورقاء كل احقادها ولم تعد تذكر سوى أنها أمام طبيبة سوف تعيد إليها ابنتها ورقاء ولهذا فقد استقبلتها بالترحاب وقادتها إلى غرفة ورقاء .
   فظهر التأثر على معاد وهي تشاهد ورقاء في هذه الحالة

  لقاء في المستشفى   115

ثم طلبت من الجدة أن تعطيها منديلاً لفته حول رأس ورقاء ثم قالت للجدة :
   هل تسمحين لي أن استدعي معي طبيباً يا خالة فإن الحالة شديدة على ما يبدو.
   قالت الجدة : ولكن أين سوف تجدين الطبيب في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟ أرجوك لا تتركيها هكذا .
   قالت معاد : أنه ينتظر في السيارة أمام الباب فهل تسمحين له بالدخول ؟
   قالت الجدة : طبعاً ، طبعاً ، ما دام فيه شفاء ابنتي .
   فنزلت معاد وعادت مع الطبيب ، واشتركا معاً في الفحص والتشخيص وبعد فترة توجهت معاد نحو الجدة قائلة : يبدو أنها مصابة بالحمى القرمزية وهي في حاجة إلى بعض الاسعافات التي لا تتواجد في البيت .
   فبهتت الجدة وقالت : إذن ؟
   قالت معاد إذن فهي في حاجة لأن تنقل إلى المستشفى فهل توافقين ؟؟
   فدعرت الجدة ودقت على صدرها وهي تقول : إذن فهي مريضة جداً يا دكتورة ؟ الويل لي ما أشقاني فقد قتلت ابنتي بيدي .

  لقاء في المستشفى   116

   وعادت معاد تقول : هل تسمحين لنا بنقلها يا جدتي ؟ قولي فإن الأمر مستعجل .
   قالت وهي تنتحب : وهل لي إلا الموافقة ما دامت ضرورية ، وعند ذلك اتصل الطبيب بالمستشفى وطلب سيارة إسعاف وهكذا ، تم نقل ورقاء إلى المستشفى ولم توافق معاد على استصحاب الجدة معهم وتعهدت لها أن تخبرها عن حالها أولاً بأول .
   سهرت معاد وأخوها سناد الذي كان هو الطبيب الذي جاء بصحبتها ، مع ورقاء حتى الصبح وقد أجريت لها فور وصولها كل الاسعافات المطلوبة .
   وفي ساعة متقدمة من الصبح بدأ بعض الهدوء يظهر عليها وإن كانت لا تزال في غيبوبة ولكن هذيانها أخذ يكون جملاً مفهومة ، وكانت معاد تقف إلى جوارها وسناد يجلس على الكرسي الذي في الجهة الثانية حين التقط سمعهما هذه الكلمات التي كانت ترددها ورقاء بين كلمات الهذيان ، كانت تقول :
   « محال أن يكون أبوهما مجرماً ، لقد انكسر الصحن يا جدتي ، ولكن معاد ليست ابنة قاتل ، دعيه يذهب هذا المدعو ماهر ، سخيف ، أرجوك أن ترحمينني يا جدتي ، دعيه يأخذ البيت ، أنا لا أريد ماهر ، ماذا سوف أقول لها ، كيف أرفض أخاها ، ارحميني ، لا تقولي أنها ابنة مجرم ، إنها ملاك ، لماذا

  لقاء في المستشفى   117

قتل أباه أبي ، أنا لم أره إلا مرتين لا أكثر ، كفاك كلاما يا جدتي ، لا أريد ماهر ، لا أريد البيت ، لا أريد ، لا أريد ، لماذا قتل أباه أبي ، لماذا » .
   هنا التفتت معاد نحو أخيها وقد شحب لونها وقالت : هل سمعت ؟
   قال سناد بهدوء : نعم ، ومن هذا يبدو أنها معذورة في رفضها .
   قالت معاد : لقد كنت أخمن شيئا من هذا ولكن ما هو العلاج الآن ؟
   فابتسم سناد وقال : المهم الآن أن تعود إليها صحتها وبعد ذلك يمكن تسوية الأمر .

*   *   *

   مر يومان كانت ورقاء خلالهما تصارع المرض حتى شاء الله تبارك وتعالى أن يساعدها على اجتياز الأزمة ، وكانت معاد جالسة إلى جوارها عندما فتحت عينيها ونظرت حولها لأول مرة نظرة تفهم واستغراب ، حتى استقر نظرها على معاد ، ثم عادت فأغلقت عينيها وكأنها لم تصدق ما ترى أو حسبته حلماً من أحلام الحمى ، فانحنت عليها معاد وقبلت جبينها بحنو وهي تقول : ورقاء كيف أنت يا أختاه ؟
   فعادت ورقاء تفتح عينيها وتنظر إلى معاد غير مصدقة ،

  لقاء في المستشفى   118

ثم قالت بصوت واهن : هل أنت معاد حقاً أم أنني في حلم ؟
   قالت معاد : كلا أنك لست في حلم يا ورقاء فأنا معاد ، والحمد لله الذي منّ علينا بسلامتك يا أختاه .
   فأدارت ورقاء عينيها إلى الجهة الثانية تفتش عن جدتها ثم قالت : وأين جدتي إذن ؟
   قالت : أنها في البيت ، فقد نبت عنها بمرافقتك وسوف أبعث من يأتي بها اليك ما دامت صحتك قد تحسنت والحمد لله .
   قالت ورقاء : ولكن كيف وصلت إلى هنا ؟ وكيف وصلت أنت الي ؟
   فضحكت معاد وقالت : أنت الآن تعبانة وعليك أن تخلدي للراحة وسوف أخبرك غداً بجميع التفاصيل ، وها أنا ذاهبة للاتصال بجدتك .
   قالت ورقاء : كلا لا تذهبي وتتركيني وحدي يا معاد فأنني خائفة .
   قالت معاد : ولماذا الخوف يا ورقاء وأنت الآن بخير ؟
   قالت ورقاء : أنني لا أخاف من الحمى ولكنني أخاف من الناس .

  لقاء في المستشفى   119

   قالت معاد : أنني سوف لن أتأخر عنك أكثر من دقائق إن شاء الله .
   وهنا فتحت الباب ودخلت الجدة مندفعة نحو ورقاء فبادرتها معاد قائلة : أنها بخير يا جدتي وقد سألت عنك قبل لحظات.
   فانحنت الجدة تقبل ورقاء وهي تسكب الدموع ، فسألتها معاد : كيف أتيت وحدك يا جدة ؟
   فظهر الارتباك على الجدة ثم قالت : لقد مر عليّ الطبيب الذي كان معك وجاء بي إلى هنا .
   فردت معاد تقول بشيء من الاعتزاز : إنه أخي سناد ، فهل رأيت كم هو رائع يا جدة ؟
   فاستغربت ورقاء ما سمعت ولم تعلم كيف تفسر الموقف ، ولكنها كانت في حالة لا تسمح لها بالمزيد من الكلام فأخذت يد جدتها بين يديها واستسلمت للنوم .
   احتلت الجدة الكرسي الذي كانت تجلس عليه معاد ، وعادت معاد إلى غرفتها ومهامها بعد أن اطمأنت على صحة ورقاء ، وكانت الجدة المسكينة في حيرة من أمرها وتحديد موقفها من معاد ، وقد حدثت ورقاء بتفاصيل الموقف وكيف أنها اضطرت إلى استدعائها وطلب معونتها بعد أن خذلها

  لقاء في المستشفى   120

ماهر ، وحدثتها بأمانة أيضاً عن الجهود التي بذلت من قبل معاد وأخيها من أجل إنقاذها .
   وقالت لها ورقاء بعد ذلك : أنظري يا جدتي إلى البون الشاسع الذي بين أخلاق ماهر ومعاد .
   قالت الجدة : نعم ، لقد كانت معاد وأخوها مثالاً للشهامة وتجاوز الذات أما ماهر فقد ظهر زيف دعواه ولكن ...
   ثم سكتت الجدة وفهمت ورقاء ما وراء هذا السكوت فسكتت هي بدورها أيضاً وأوكلت الأمور إلى الله الواحد القهار .
   وفي صباح اليوم الثاني جاءت معاد وكانت ورقاء قد تحسنت صحتها وجلست على فراشها . ففرحت معاد بذلك وجلست إلى جوارها على حافة السرير وهي تنظر إليها في سعادة .
   ثم قالت الجدة : إن لدي ساعة من الوقت أتمكن أن أجلس فيها إلى جوار ورقاء فإذا أردت أن ترتاحي خلال هذه الساعة فتفضلي يا جدتي ، فرحبت الجدة بهذا العرض واستلقت على الأريكة وأدارت وجهها نحو الجدار .
   أما ورقاء ، فقد بدأت تشكر معاد على موقفها منها

  لقاء في المستشفى   121

فقالت لها : أن لك عليّ حق الحياتين الفكرية والجسمية يا معاد فكيف لي أن أفي حقك من الشكر يا أختاه .
   قالت معاد : إن هذا واجب كل أخت تجاه أختها يا ورقاء وأنني جد شاكرة لجدتك اتصالها بنا وإلا لكنت ضحية من ضحايا هذه الحمى الحمراء القاسية .
   وهنا قالت ورقاء بتردد : جدتي ، نعم ، إنها راضية منكما يا أختاه .
   قالت معاد : أنك ما زلت تناديني بنداء الأخوة دون أن تعرفي عني كل شيء يا ورقاء .
   فبهتت ورقاء لحظة ثم قالت : ماذا تعنين يا معاد ؟
   قالت معاد : أعني أنك ما زلت تجهلين قصة حياتي .
   قالت ورقاء : وهل لحياتك قصة خاصة ؟
   قالت معاد بصوت لا يخلو من بعض الارتباك : نعم أنها قصة تبدأ منذ كنت أنا وأخي سناد في بطن أمنا .
   فردت ورقاء باستغراب : كنت أنت وأخوك حملين في بطن أمكما ؟ هل أنتما توأمان إذن ؟
   قالت معاد : نعم ، ولم يتقدمني بالدراسة إلا لأنني مرضت في طفولتي وتركت المدرسة ثلاث سنوات .
   قالت ورقاء : آه هكذا إذن ؟

  لقاء في المستشفى   122

   فقالت معاد : ألم تلاحظي الشبه الشديد الموجود بيننا يا ورقاء ؟
   قالت ورقاء بشيء من الخجل : الحقيقة أنني لم أركز النظر في وجهه يا معاد .
   فابتسمت معاد وقالت : وهذا هو المأول منك يا ورقاء .
   قالت ورقاء : والآن . ما هي القصة ؟
   قالت معاد : أنها تتعلق بأبي ! وهنا خفق قلب ورقاء وقالت تتعلق بأبيك ؟
   قالت : نعم ، فقد توفي قبل أن نرى النور بشهر واحد على أثر حادث اصطدام .
   قالت ورقاء بتعجب : مات قبل ولادتكما ؟
   قالت معاد : نعم ، ولهذا فقد ولدنا يتيمين !!
   وهنا تململت الجدة وكأنها رفعت أذنها عن الوسادة لتسمع بشكل أوضح ، وعادت ورقاء تقول في لهفة : أنتما ولدتما يتيمين ؟
   قالت معاد : نعم ، هذا هو الواقع أما الظاهر فهو أننا لم نفقد أبانا إلا قبل سنتين .
   قالت ورقاء : لست فاهمة ماذا تعنين يا أختاه ؟

  لقاء في المستشفى   123

   قالت : إذن إليك فاسمعي القصة من بدايتها لقد كان أبي « حمزة عبد الرزاق الرحباوي » رجلاً فقيراً لا يملك من دنياه شيئاً سوى حسن السيرة واعتدال السلوك وطيب السمعة ، ومن أجل هذا اختارته أمي اليتيمة من الأبوين وقدمته على ابن عمتها الشاب المنحرف الغني ، وقد كانت أمي إلى جانب جمالها تملك رصيداً محترماً من المال ورثته عن أبويها ، وعاشت أمي مع أبي إلى مدة لا تتعدى السنتين وكانت أمي قد بلغت من حملها الشهر الثامن عندما توفى أبي ، وبقيت أمي تعاني آلامها وحيدة إلا من عمتها وابنها الذي سبق أن خطبها من قبل ، وقد قدما لها العمة وابنها الكثير من العناية والرعاية حتى حانت ولادتها ، واستمرت العمة تعنى بها العناية الكاملة إلى أن انقضت أيام العدة ، فعرضت عليها العمة أن تتزوج أبنها لكي يكون لها ولولديها والياً وكفيلاً وامتنعت أمي في البداية ، ولكنهما أصرا عليها وقدم هو لها مختلف العهود والمواثيق على أنه سوف يعتدل في سلوكه ويتفرغ لرعايتها ورعاية ولديها ، ولن تجد منه سوى الحب والحنان ، وبما أنها كانت في حاجة إلى من تستند إليه في تربية ولديها وتعتمد عليه في اعداد مستقبلهما فقد وافقت على الزواج مرغمة وبعد مضي فترة وجيزة علمت أنه قد استخرج شهادة ميلادنا باسمه . وبهذا فقد نسبنا إليه ، فأغضب ذلك أمي وأسخطها وثارت عليه ، ونقمت هذا منه ، واعتبرته تعدياً على حقوقنا ومصالحنا ، وكلما حاول إقناعها بأنه قد أنجز ذلك

  لقاء في المستشفى   124

لمصلحتنا لم تقتنع فأخذتنا وذهبت إلى بيت ابيها المهجور معرضة عنه ساخطة عليه ، فبدأ يبعث إليها بالرسل ويجدد العهود الكاذبة ، ويكتب إليها أرق الكلمات ، حتى عادت مرغمة من جديد .
   ونشأنا نحن لا نعرف لنا أباً سواه ، وطالما عجبنا لقساوته علينا مع ما نشاهده من حنان الأبوة لدى الآخرين .
   قالت ورقاء بألم : أو كان قاسياً عليكما يا معاد ؟
   قالت معاد : نعم وقد نكث بجميع العهود والمواثيق واستولى على أموال أمي فبددها في لهوه ومجونه حتى اعتلت أمي من جراء ذلك وبقيت عليلة حتى توفيت قبل سنوات .
   ولما بلغنا سن الرشد حدثتنا أمنا بحديث أبينا وقدمت لنا برهاناً على صحة ما تقول .
   وهنا بادرت ورقاء تسأل في لهفة : وما هو البرهان يا معاد ؟
   قالت : أنه الرسائل التي كان يكتبها إليها عندما هجرته وفيها يتحدث عن أن نسبتنا إليه من صالحنا وكان يذكر أبانا في رسائله بكل خير ، ثم أنها أرشدتنا إلى أفراد كانوا على علم بنسبنا من قبل ، وهكذا بقينا نعاني مشكلة انتسابنا إليه حاملين معه تبعات أوزاره حتى مات قبل سنتين ، فوجدنا في صندوقه الخاص ورقة مختومة كتب فيها اعترافاً بعدم بنوتنا له

  لقاء في المستشفى   125

مع ذكر اسم أبينا وتقديم الأدلة على ذلك وكأنه خشي أن يورثنا شيئاً من ماله الحرام فبخل به ، كما أننا وجدنا عنده كثيراً من الأوراق تعود للآخرين لم نتمكن أن نستوعبها ، وقد فتحت أمامنا هذه الوصية طريق المطالبة بتصحيح نسبنا مع الرسائل التي لدينا من أمنا مع الشهود الذين سبق وأن ذكرتهم أمنا ، وسوف تظهر النتيجة خلال هذه الأيام إن شاء الله .
   فهل عرفت الآن يا ورقاء من هو أبو سناد ؟
   فردت ورقاء تقول بصوت مبحوح من التأثر : آه نعم ( الآن عرفت أباه ) ثم ألقت برأسها على كتف معاد وهي تقول : والآن عدت إليك يا أختاه .
   فاحتضنتها معاد وقد تندب عيناها بالدموع وهي تقول :
  
( ان الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) .


Next