إلى هنا تنتهي هذه المقدمات ونعود لكي نرى ماذا يقول الالهيون عن هذا الموجد ؟
   قالت ورقاء : انهم يقولون أنه الله تبارك وتعالى .
   قالت معاد : نعم ، أما الماديون فيقولون أنه المادة ونتيجة لحركتها الأزلية ، ونحن هنا يمكننا أن نسأل هؤلاء الذين يوعزون خلق الكون إلى المادة وحركتها الأزلية نسألهم متى بدأت المادة تتنوع نتيجة لحركتها الأزلية كما يقولون ؟ وأنها إذا كانت أزلية فكيف يمكن لنا أن نعرف بدايتها لأن الأزلي ليس له بداية ؟.
   قالت ورقاء : انهم لن يجيبوا على هذا السؤال لعدم تمكنهم من وضع بداية لما يدعونه أزلياً وهو المادة وحركتها .
   قالت معاد : وعندما لا نجد منهم جواباً لعدم تمكنهم من وضع بداية للأزلي نلتفت إلى العلم لنسأله عن عمر الأرض فنجده يقول : أن الأرض انفصلت عن المجموعة الشمسية منذ ألفي مليون عام ، وإن تكامل برودتها استغرق ألف مليون عام حيث أنها بعد ذلك بدأت فيها بوادر تصلح للحياة .
   قالت ورقاء : إذن فإن للحياة بداية محددة.
   قالت معاد : نعم وبعد الاستماع إلى هذه الحقيقة العلمية نعود إلى أزلية الحركة لنقول : أنها إذا كانت أزلية فإن معنى ذلك أن خلقها للأنواع أزلي أيضاً .

  لقاء في المستشفى   78

   وقالت ورقاء باستنكار : إذن كيف أمكن للعلم أن يحدد عمر الكون ؟.
   قالت معاد : إن هذا هو السؤال الذي نريد أن نطرحه عليهم يا ورقاء ، إن كيف أمكن للعلم أن يحدد عمر الكون ؟.
   قالت ورقاء : هبيهم يقولون أن الحركة ليست أزلية وأنها أي الحركة قد دخلت على المادة وأضيفت إليها ؟.
   قالت معاد : عند هذا نعود لنسألهم من الذي أوجد هذه الحركة ؟ هل أن المادة هي التي أوجدتها ؟ ولكن كيف توجدها بدون حركة مسبقة وهم يقولون أن عملية الايجاد والخلق هي نتيجة الحركة في المادة ؟ هذا إذا قالوا أن حركة المادة غير أزلية .
   قالت ورقاء : لنفرض أنهم قالوا أن الحركة أزلية ولكن المادة وقتت لها زمن الخلق ؟
   قالت معاد : هذا أمر غير معقول لأن التوقيت والتحديد لا يصدر إلا عن عاقل والمادة غير عاقلة .
   قالت ورقاء : كيف يمكن لنا أن نثبت كون المادة غير عاقلة ؟
   قالت معاد : لأن العلم أثبت أن المادة تتكون من شحنات كهربائية . ولهذا فهي غير قابلة للتفكير والتعقل ، فلا

  لقاء في المستشفى   79

يبقى بعد هذا إلا أن تكون المادة خاضعة لعلة توقت وجودها وحركتها وهذا هو ما يقوله الالهيون .
   قالت ورقاء : هبيهم يقولون أن تأخر بداية الكون إنما كان بانتظار استكمال المقدمات ، تماماً كالمسافر يتأخر أربع ساعات بعد الظهر يقضيها في تهيئة المقدمات وضبط الحقائب فكذلك كانت المادة وحين استكملت المقدمات نشأت الحياة ؟
   قالت معاد : إذا قالوا هذا فنحن نقول لهم : لماذا إذن لم تكتمل هذه المقدمات في زمن سابق ؟
   قالت ورقاء : هبيهم قالوا أن الكون سوف يجيب على ذلك كما يجيب المسافر إذا سئل لماذا لم تسافر قبل الرابعة فهو يقول أن المقدمات أخذت من وقته أربع ساعات ولو كان قد بدأ بالمقدمات قبل الظهر لسافر قبل الرابعة ، وكذلك الكون فقد فرضت عليه المقدمات فترة زمنية فلم يتح له أن ينشىء الحياة إلا في اللحظة المحدودة وهي قبل ألفي مليون عام ؟
   قالت معاد : ولكن هذا الجواب الذي يقوله المسافر بكل سهولة لا يمكن للكون أن يقوله .
   قالت ورقاء : لماذا ؟.
   قالت : وذلك لأن أي زمن يفترض أن المقدمات بحاجة إليه فهو موجود فعلاً لديه من خلال حركته الأزلية على ما يدعون ، وإنما يصح هذا الجواب من الكون إذا كان قد بدأ

  لقاء في المستشفى   80

حركته وتهيئة المقدمات بنفس الطريقة التي بدأها المسافر ، أي إذا كانت حركته حادثة فإن زمن الحركة يكون محدوداً ، وإذا كان محدوداً فقد يعتذر عن عدم الاسراع بظهور الحياة بأن ظهورها في وقت أسبق كان يتطلب فترة زمنية أبعد .
   قالت ورقاء : شكراً لك يا أختاه ، وبالمناسبة فهل تعلمين أنني أنقم على الزمن أحياناً ؟.
   قالت معاد : أي حين هو هذا الذي تنقمين فيه على جلستنا هذه .
   قالت ورقاء : عندما ينقضي بسرعة كما انقضى علينا في جلستنا هذه .
   فضحكت معاد وتطلعت إلى ساعتها ثم قالت : يبدو أنك قد تأخرت أكثر مما ينبغي والآن هيا بنا لنذهب .
   وقالت ورقاء : لقد شعرت بالراحة في جلستنا هذه بشكل لم استشعره في المستشفى من قبل .
   قالت معاد : سوف آتي بك معي في كل مرة لكي نتخلص هنا ولو إلى فترة قصيرة من أجواء المستشفى الكئيبة .

*   *   *

   عادت ورقاء إلى البيت فاستقبلتها جدتها عند الباب وقالت لها باهتمام : إن عندنا ضيوف فاصعدي إلى غرفتك واصلحي من وضعك وتعالى يا ورقاء .

  لقاء في المستشفى   81

   فاستغربت ورقاء ذلك وقالت باستغراب : ضيوف ... ومن هم يا جدتي ؟
   قالت : أنه الاستاذ ماهر ابن عم أبيك وأمه .
   فردت ورقاء بنفور : وما دخلي أنا بهم ؟
   قالت الجدة : أليس هو ابن عمك يا ورقاء ؟
   قالت : نعم أنه قريبي ولكنه رجل أجنبي من الأفضل لي أن لا أجالسه وأحادثه بدون فائدة .
   قال الجدة : ومن قال لك أن جلوسك معه بدون فائدة ؟ إنه إنسان عظيم .
   فابتسمت ورقاء في تهكم وقالت : ما هو الوجه في عظمته يا جدتي ؟
   قالت : أنه مثقف وفاهم ، وهو واسع الثراء أيضاً .
   فتوجهت ورقاء نحو السلم وهي تقول بلهجة ساخرة : تشرفنا .
   فأمسكت بها الجدة وقالت : لا أدعك تصعدين إلا إذا أعطيتني عهداً بالنزول ، ألم تعاهديني على الاطاعة يا ورقاء ؟.
   ولكن ...
   كلا ، لا تصعدي تعالي وسلمي قبل ذلك فأنا أجدك غير نازلة لو صعدت يا ورقاء .

  لقاء في المستشفى   82

   قالت ورقاء في توسل : دعيني أصعد يا جدتي ، أرجوك .
   قالت : كلا لن أدعك تصعدين لقد قطعت لي عهداً أن تطيعينني في كل شيء ؟ تعالى يا ورقاء .
   قالت ورقاء : شريطة أن تكتفي مني بالسلام فقط ثم أصعد بعده إلى غرفتي .
   قالت الجدة : نعم أنه كاف في الوقت الحاضر . فلم تجد ورقاء بداً في الاستجابة لجدتها فتوجهت إلى غرفة الاستقبال حسماً للنزاع ، وكان الأستاذ ماهر يجلس على الكرسي المواجه للباب وإلى جواره أمه العجوز .
   فدخلت ورقاء وسلمت عليهم بصوت هادىء فنهض الأستاذ ماهر مجيباً لها ومرحباً لها ثم أشار إلى الكرسي الذي بجواره وهو يقول : تفضلي بالجلوس هنا يا ورقاء .
   وهنا ضمت الجدة صوتها إلى صوت ماهر فأردفت تقول : تعالي يا ابنتي واجلسي إلى جوار ابن عمك الأستاذ ماهر حرسه الله .
   ولكن ورقاء لم تتقدم خطوة وإنما قالت بأدب : أن عندي دروساً مهمة عليّ مراجعتها يا جدتي ولهذا فأنا اعتذر عن الجلوس ومع السلامة .
   قالت هذا وخرجت من الغرفة تشايعها نظرات الجدة الغاضبة وتعليقات ماهر الرخيصة . وما أن وصلت إلى غرفتها

  لقاء في المستشفى   83

حتى ألقت برأسها على الوسادة واندفعت تبكي في حرقة وألم ، فلم تكن تعرف كيف يمكنها التخلص من هذا المأزق الجديد ، أنها كانت ومنذ البداية تكره ماهر ولا ترضاه زوجاً لها لضعف شخصيته وميوعته ، أما الآن وقد عرفت من دينها أكثر مما كانت تعرف فقد أصبح من المستحيل أن ترضاه وهو على ما هو عليه من انحراف وتبذل ، وصممت أن تخوضها معركة قوية وصريحة مع الجدة مهما كلفها ذلك من صعاب .
   وبعد مضي ساعة صعدت إليها الجدة وهي بين الشدة واللين وقالت لها : لقد تصرفت اليوم تصرفت الأطفال يا ورقاء فلم يكن من اللائق بك أن تعاملي ابن عمك هذه المعاملة الجافة وهو يحبك ويحترمك وما جاء إلا للتعرف عليك .
   قالت ورقاء : ولكنني لا أريد التعرف على أمثاله يا جدتي . إنه إنسان غير صالح .
   قالت الجدة : انك غلطانة يا ورقاء فهو شاب جميل ومثقف وناجح في عمله وليس لديه سوى أمه العجوز ، تصوري أنه عنده من السيارات الخصوصية ثلاثة .
   قالت ورقاء : ولهذا فهو انسان تافه ، وإلا فما حاجة فرد واحد بثلاث سيارات ؟
   قالت الجدة متجاهلة كلمات ورقاء الأخيرة : أنك تعلمين أنه تقدم لخطبتك قبل ستة أشهر وقد أجلت الموضوع

  لقاء في المستشفى   84

إلى ما بعد تخرجك ، وها هو قد جاء يجدد الخطبة لأنك على أبواب الامتحانات النهائية وهو يقول أنه مستعد لتقديم أغلى مهر مع سيارة مرسيدس خاصة بك .
   فقالت ورقاء : هل أنت جادة في حديثك يا جدتي ؟ هل تحتملين حقاً بأنني أوافق على الاقتران بماهر ؟ وأن آلافه وسياراته سوف تغريني بأن أبيع ديني من أجلها ؟
   قالت الجدة : وما دخل دينك في الموضوع ؟
   قالت ورقاء : ألا تعلمين أنه انسان غير ملتزم حتى بالصلاة ؟.
   قالت الجدة : إن حسابه ليس عليك يا ورقاء . إن له رباً يحاسبه ويعاقبه يا عزيزتي .
   قالت ورقاء : ان الاقتران برجل غير متدين غير وارد في حسابي يا جدتي .
   قالت الجدة : ولكنه انسان محترم ، هبيه غير ملتزم دينياً ولكن عدم التزامه سوف لن يضرك أنت يا ورقاء .
   قالت ورقاء بشيء من العنف : أنك لا تريدين فهم ما أعني يا جدتي ولهذا فأنا أقول لك كلمة واحدة وهي كلا ...
   قالت الجدة : ولكن لديك فترة للتفكير فأنا أخشى أن تندمي على هذا الرفض .

  لقاء في المستشفى   85

   قالت : كوني مطمئنة فأني لن أندم على ذلك .
   قالت الجدة : وإذا لم تحصلي على الرجل الذي نسجته أفكارك يا ورقاء ؟
   قالت : سوف لن أتزوج حين ذاك . ولكنه غير متعذر المنال يا جدتي .
   قالت الجدة : أراك ما زلت طفلة يا ورقاء وإلا فليس من صالحك أبداً أن ترفضي ماهر من أجل قضايا غير مهمة .
   فابتسمت ورقاء بمرارة وقالت : كيف تقولين أنها قضايا غير مهمة يا جدتي ؟ أنني رفضت سناد لأن أباه قاتل أبي أي أن أباه قد أجرم بحق أبي مع أن سناد لم يرتكب أي خطأ في حق أبي أليس كذلك ؟ وماهر هذا هو بشخصه قد أساء لربي وقد أجرم بحقه لكفرانه بالنعم واستهانته بالعذاب وتجنبه للاطاعة ، وديني هو أثمن شيء عندي وأعزّ عليّ من أبي ، فكيف تريدين مني أن أقرن حياتي مع انسان يعاديني عن طريق عداء ديني ؟.
   قالت الجدة بشيء من الضيق : ها أنت ما زلت تذكرين سناد بكل خير ولا أحسبك إلا عازمة عن الزواج بسببه .
   قالت ورقاء : أما أنني أذكره بكل خير فهو لا يستحق مني ذكر السوء يا جدتي ، وأما أنني عازفة عن الزواج بسببه

  لقاء في المستشفى   86

فهذا غير صحيح لأن موضوعه قد انغلق ولعله الآن في طريقه للزواج .
   قالت الجدة : أنني لا أريد أن تذكرينه بالسوء فما وجدنا منه ما يسيء ، وأنا اعترف لك بأنه انسان كامل وأنه خير من ماهر ولكنه ابن قاتل أبيك ، وما هر ابن عمك ، ولولا هذا لما قدمت أحداً عليه ، وعلى كل حال فأنا أرجو أن تراجعي نفسك في موضوع ماهر ولا تسيئي إليّ وإلى ذكرى أبيك في رفضه .

*   *   *

   لم تتمكن ورقاء أن تنام ليلتها تلك ، فقد هزتها هذه الحادثة وأسلمتها للحيرة والقلق ، وفي اليوم الثاني ذهبت إلى معاد فتناست هناك بعض آلامها ، وفكرت أن تحدثها بأمر ماهر ولكنها آثرت أن تستغل الوقت في حديث ذي فائدة فقالت : بودي لو أكملت حديث أمس يا معاد .
   قالت معاد : ولكنني أجدك اليوم غير منشرحة الصدر وأخشى أن يضايقك ذلك .
   قالت ورقاء : كلا فأنني أريد أن أتناسى الألم بين أفكار المعرفة ، فإن من أسعد الساعات عندي ساعة تزيدني علماً .
   قالت معاد : إذن دعينا نبدأ معهم من جديد .
   قالت ورقاء : مع من ؟

  لقاء في المستشفى   87

   قالت : مع هؤلاء الذين يقولون بأزلية المادة ويوعزون الخلق إلى حركتها فنقول لهم : هبوا أننا قلنا معكم بأزلية المادة فكيف نتمكن أن نفسر انتقال المادة من حال إلى حال وإختلافها في النتيجة مع أن المادة في حالتها البسيطة واحدة ؟ أو كيف نفسر اختلاف بعض أجزاء المادة عن البعض ؟.
   قالت ورقاء : ماذا تعنين بانتقال المادة من حال إلى حال ؟.
   قالت معاد : أقصد تحول المادة مثل الهيدروجين يتطور إلى أن يصل إاى اليورانيوم ثم اليورانيوم يتحول بعد اشعاعه إلى عنصر الراديوم ثم يتحول الراديوم إلى عنصر آخر ، وهكذا حتى يصير رصاصاً وهنا يقف التطور .
   قالت ورقاء : ولماذا يقف التطور ؟
   قالت معاد : نعم لماذا يقف التطور ؟ ولماذا يتطور بعض الهيدروجين دون البعض ؟
   قالت ورقاء : انهم يقولون أن التطور هو نتيجة لاحتواء كل عنصر على نقيضه .
   قالت معاد : ولكن إذا كان هذا صحيحاً فهو يعني أن جميع الهيدروجين يحتوي على نقيضه فلماذا لم يتطور بمجموعه حتى تتلاشى مادة الهيدروجين وتتحول بمجموعها إلى اليورانيوم ؟.

  لقاء في المستشفى   88

   فردت ورقاء تقول : نعم لماذا ؟
   قالت معاد : إذن فلا بد من وجود عاقل مؤثر وراء تطور المادة ، إن المادة وكما أثبت العلم تتكون من شحنات كهربائية لا غير ، إذن فهي غير عاقلة فكيف أمكنها أن توجد الخلق بهذا الشكل المنظم المتقن ؟.
   وسكت معاد عند هذا الحد وهي تتطلع إلى وجه ورقاء ، ثم قالت : ماذا بك يا ورقاء ؟
   قالت ورقاء : لا شيء .
   قالت معاد : سواء كان هناك شيء أو لم يكن فأنا أرجو أن تكوني قوية وقوية جداً .
   قالت ورقاء : سوف أكون قوية باذن الله يا أختاه . وها أنا الآن قد ارتحت لجلوسي معك وازددت قوة وثباتاً .
   قالت معاد : ولكنك شاحبة الوجه قليلاً ولهذا فإليك هذا القرص الفوار أشربيه مع نصف كوب ماء .
   فابتسمت ورقاء وقالت : لقد نسيت يا معاد أنك طبيبة أبدان وما عدت أعرف عنك سوى طب الروح والفكر .
   فضحكت معاد وقالت : أنني أعتز بطب الأرواح أكثر من طب الأبدان.

  لقاء في المستشفى   89

   قالت ورقاء : والآن فأن عليّ أن أذهب وسوف لن أتمكن أن آتي إليك غداً لأن دوامي يستمر حتى الغروب .
   قالت معاد : أما بعد غد فسوف تجدينني وحدي هنا إن شاء الله .
   فنهضت ورقاء وهي تقول : إذن إلى اللقاء ، وهكذا افترقنا على أمل اللقاء بعد يومين .

*   *   *

   مر اليوم الثاني دون أن تتحدث الجدة مع ورقاء في موضوع الخطبة ، وكانت ورقاء تبدو حزينة وقد عادت إلى البيت مرهقة وصعدت إلى غرفتها مبكرة ، وفي صباح اليوم الثاني حينما كانت تقف تنتظر الباص وقفت أمامها سيارة مرسيدس فارهة ونزل منها ماهر وهو يقول : صباح الخير يا ورقاء ، فرصة سعيدة أن أتمكن من ايصالك إلى الكلية.
   فلم تغير ورقاء من وقفتها شيئاً وإنما أجابت بهدوء قائلة : كلا أشكرك يا أستاذ .
   قال الماهر : تفضلي واركبي ، ارجوك .
   قالت ورقاء : شكراً فأنني أنتظر .
   قال : هل تنتظرين أحداً ؟
   قالت : كلا بل أنني أنتظر الباص .

  لقاء في المستشفى   90

   فضحك ماهر وقال باستغراب : تنتظرين الباص وتمتنعين عن ركوب سيارة مرسيدس .
   قال هذا بافتخار واعتزاز زاد من احتقار ورقاء له ، فأدارت وجهها ناحية وهي تقول : أرجو أن لا تتعب نفسك بالتأخر فأنني سوف لن أركب .
   قال : إن التعب في سبيلك راحة واعتبري السيارة سيارتك منذ الآن واركبي فيها دون مضايقة .
   وهنا وصل الباص فأسرعت نحوه ورقاء وهي تقول : ها هو الباص قد وصل مع السلامة ، ثم ركبت الباص تاركة ماهر يتطلع إلى السيارة بإعجاب ويستغرب عزوف ورقاء عنها .
   وقد أثرت هذه الحادثة في نفسية ورقاء فذهبت ذلك اليوم إلى معاد وهي في حالة نفسية سيئة وكان موعدها معها في البيت ولهذا ذهبت رأساً إلى هناك فوجدت معاد مشغولة بالتنظيف والترتيب ، فحاولت أن تشاركها العمل ، ولكن معاداً منعتها عن ذلك لأنها لاحظت عليها آثار الشحوب والارهاق ، وما أن انتهت من أعمالها حتى عرضت على ورقاء أن تجلس قليلاً تحت ظلال الأشجار ، فجلست ورقاء جلسة الحائر الكئيب .
   فقالت لها معاد : ما لك يا ورقاء ؟

  لقاء في المستشفى   91

   قالت ورقاء : أنني غير مرتاحة يا معاد .
   قالت معاد : إن هذا واضح عليك يا ورقاء ، ولكن ألم نتفق أن تكوني أقوى من الألم ؟
   قالت ورقاء : أنني قوية أمام المهمات والحمد لله ، ولكن المضايقات البسيطة تتعبني يا أختاه ، فأنا منذ مدة أعيش مع سلسلة احراجات ، إذ قد تقدم لخطبتي ابن عمي ـ أي ابن عم أبي ـ وقد ساندته جدتي إذ أنه في نظرها متكامل الجوانب : شاب جميل وغني ومثقف.
   وسكتت ورقاء عند هذا . فتساءلت معاد باهتمام قائلة : ومتدين ؟
   قالت ورقاء : كلا وهذا هو مصدر المضايقات التي أعانيها لأني وبطبيعة الحال قد رفضته نهائياً ولكن جدتي لا تفتأ تناقش الأمر بالشدة حيناً وباللين أخرى ، وهو ما زال يحاول مضايقتي وفرض وجوده عليّ وهذا هو ما يتعبني نفسياً ويجعلني أعيش في صراع مستمر .
   وهنا عادت معاد تسأل في لهفة أيضاً قائلة : صراع ؟ مع من يا ورقاء ؟
   قالت : صراع مع جدتي ومع مضايقاته هو .
   قالت معاد : لقد خشيت أن يكون الصراع مع نفسك يا أختاه .

  لقاء في المستشفى   92

   قالت ورقاء : كلا فإن الأمر عندي واضح لا يستوجب أي تفكير أو صراع .
   قالت معاد : وهذا هو المأمول منك يا ورقاء ، ان عليك أن تتحملي بعض المضايقات إلى فترة قصيرة تتخلصين في مقابلها من مضايقات طويلة وطويلة جداً .
   قالت ورقاء : تقصدين مضايقات الزواج من رجل غير متدين ؟
   قالت معاد : نعم ، لأن تلك المضايقات تمد جذورها في الحياة الأولى والثانية وتؤثر على المستقبل القريب والبعيد .
   قالت ورقاء : ولكن كيف يمكنني أن أقنع جدتي بوجهة نظري ؟.
   قالت معاد : لا أحسب أنها سوف تقتنع بوجهة نظرك يا ورقاء لأنها تنظر إلى الموضوع بمنظارها الخاص ولهذا عليك أن تستدرجيها عاطفياً حتى تلين وتتنازل عند رغبتك .
   قالت ورقاء : إنها شديدة لا تؤثر فيها العواطف ولكنني سوف أقاوم بأي شكل من الأشكال .
   قالت معاد : ولكن ما الذي يدعوها إلى هذا الاصرار يا ترى ؟ وأي مكسب لها فيه .
   فسكتت ورقاء ولم تعرف كيف تجيب لأنها كانت تخمن

  لقاء في المستشفى   93

أن من أهم أسباب إصرار جدتها هو إبعادها عن معاد ، ولكن هل كان يمكنها أن تقول لمعاد ذلك ، لهذا سكتت وبقيت ساكتة ، فعادت معاد تقول : لا شك أن هناك أسباباً تدعوها إلى هذا الاصرار ، فإن لكل شيء سبباً يا ورقاء .
   وهنا أرادت ورقاء أن تبدل مجرى الحديث فقالت : نعم ونتيجة لهذا ( قاعدة أن لكل شيء سبباً ) يضطر منكرو الله تبارك وتعالى أن ينسبوا الخلق إلى المادة مع عجزها عن ذلك لأنهم لا يتمكنون أن يقولوا أن هذا الخلق وجد بدون سبب .
   قالت معاد : نعم وهذا هو ما يشترك فيه الماديون والالهيون مع اختلاف السبب الذي يؤمنون به .
   قالت ورقاء : وكيف ؟
   قالت معاد : أقصد أننا نحن وهم نؤمن ـ :
   أولاً : بأن الكون مخلوق أي حادث ، وأن هناك مؤثراً تنتهي إليه أسباب الوجود .
   ثانياً : بأن وجود الكون حقيقة لا جدل فيها خلافاً للمثاليين الذين يشككون في وجود كل شيء .
   ثالثاً : هي بإحساس الانسان بأنه يستند في وجوده إلى قوة أثرت في تحقيق هذا الوجود على اختلاف في تأويل هذه القوة .

  لقاء في المستشفى   94

   وهنا قالت ورقاء : وهل أن الماديين يعترفون في كتبهم بهذه الحقائق ؟
   قالت معاد : نعم ومثال ذلك ما جاء في كتاب ( نقد الفكر الديني ) قوله ( في الواقع علينا أن نعترف بكل تواضع بجهلنا حول ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون ).
   قالت ورقاء : إذن فإن هذه حقائق يشترك فيها الماديون والالهيون ؟.
   قالت معاد : نعم ولكن الماديين يرجعون السبب إلى المادة وحركتها ، والالهيون يرجعونه إلى الواحد القهار .
   قالت ورقاء : ولكنهم كيف يدعون أزلية المادة مع ما ثبت من إمكان تغيرها والأزلي لا يمكن له أن يتغير ؟.
   قالت معاد : نعم أن الأزلي لا يمكن له أن يتغير يا ورقاء ، لأن التغيير يحتاج إلى بداية وكل ما يحتاج إلى بداية معرض للنهاية .
   قالت ورقاء : إذن فأن ما أثبتته الفيزياء من أن الذرات مركبة من عدة كهارب ودقائق وأنها من الممكن لها أن تتحلل أو تتجزأ إلى طاقات يثبت عدم أزلية المادة لأن الأزلي لا يقبل التركيب ؟
   قالت معاد : ولكن هل تعلمين لماذا الأزلي لا يقبل التركيب ؟

  لقاء في المستشفى   95

   لأننا حينما نقول أن الأزلي لا يقبل التركيب نقصد أننا لو سألنا عن هذا المركب كيف وجد ، وهل كان مركباً في الأزل ام أن أجزاءه ركبت بالتدريج ، وهل حدث هذا أولاً أم وجدت أجزاؤه قبله ، فماذا سوف يكون الجواب ؟
   قالت ورقاء : هبيهم يقولون أن أجزاءه قد حدثت قبله ؟
   قالت معاد : إذن فأن معنى ذلك أنه حادث وليس أزلياً لأن أجزاءه سبقته في الحدوث وهيأت الأسباب لحدوثه .
   قالت ورقاء : وإذا قالوا أن حدوثه كان مواكباً لحدوث أجزائه أي أنه وأجزاءه حدثا معاً ومرة واحدة ؟
   قالت معاد : عند ذلك نقول لهم : أليس من الممكن أن تتجزأ عنه هذه الأجزاء أو تنفصل عن طريق التحول أو التطور ، كما تحلل الماء إلى الاوكسجين وهايدروجين وكما انتقل الهايدروجين إلى اليورانيوم ، وهذا أمر محتمل الحدوث لأن كل مركب معرض للانحلال ثم للفناء نتيجة تحلل مركباته وعند هذا نعود لنكرر القاعدة الثابتة التي تقول أن كل ما يجوز فناؤه تستحيل أزليته .
   قالت ورقاء : وما هي القاعدة التي تستخلص منها هذه النتيجة ( نتيجة أن ما يجوز فناؤه تستحيل أزليته ؟ ).
   قالت معاد : لأنه إذا كان أزلياً فأن معنى الأزلي هو أن وجوده لم يفتقر إلى علة أو سبب لأنه هوعلة ذاته بمعنى من

  لقاء في المستشفى   96

المعاني ، ولهذا فهو لن يتعرض أيضاً لعلة تحول بينه وبين علة وجوده فتسبب فناءه ، على خلاف الذي يفتقر إلى علة لايجاده ، فهو متى ما افتقد تلك العلة تعرض للفناء ، ولعلك تعلمين أن العلم أثبت أخيراً إمكان تجزئة الذرة .
   قالت ورقاء : إذن فإن الذرات أي المادة التي ينادي بها الماديون ويقولون أنها الأصل الأول للحياة ، هذه الذرات يمكن تجزئتها لأنها مركبة والمركب ليس مستحيل التجزئة ؟
   قالت معاد : وبالتالي فهو ليس أزلياً إذ أنه معرض للفناء عند افتقاد عناصره لأنه محتاج إلى علة لوجوده وتلك العلة هي الحفاظ على أجزائه ، والأزلي لا يحتاج إلى علة لوجوده .
   قالت ورقاء : ثم أليس أن في النظرية العلمية التي ثبتت أخيراً ( نظرية الانتقال الحراري المستمر من طاقة حرارية عالية إلى طاقة حرارية أقل حرارة ) دليل على عدم أزلية الكون ؟.
   قالت معاد : طبعاً لأن مجرد الايمان بوجود تغيير في مستويات الطاقة الحرارية في الكون يجعلنا نعرف أن الكون غير أزلي ، إذ لو كان أزلياً لتساوت الحرارة في كل أجزائه منذ أمد طويل جداً ولتعذرت الحياة نهائياً منذ ملايين السنين.
   وقالت ورقاء : وكذلك في ما أثبته العلم من اتساع الكون ، والنسب التي أعطاها لذلك لدليل على عدم أزلية الكون ، إذ أنه لو كان أزلياً وهو على هذه النسب من الاتساع

  لقاء في المستشفى   97

لأصبحت المسافات بين الكواكب لا نهائية لأنها تتسع منذ الأزل ، إذن فهو مخلوق .
   قالت معاد : وخالقه غير مخلوق وهو أزلي غير معرض للفناء كالمادة ألا وهو الله تبارك وتعالى .
   قالت ورقاء : يؤسفني أن عليّ أن أذهب الآن وسوف انقطع عنك خلال الأسبوع القادم لأن الامتحانات قد بدأت اليوم وأريد أن أتفرع للدراسة .
   قالت معاد : أتمنى لك الموفقية يا أختاه وسوف أنتظرك بعد أسبوع إن شاء الله .

*   *   *

   مرت أيام الامتحانات وقد حاولت ورقاء خلالها أن تتفرع إلى دروسها بشكل تام ، وأبعدت عن أفكارها أحاديث ماهر وتوابعها وفعلاً فقد تمكنت من اجتيازها بتفوق يدل على النجاح وفي آخر يوم عرجت في طريق عودتها على معاد فقيل لها أنها مشغولة ، فتركت لها ورقة تخبرها بانتهاء امتحاناتها وتقول لها أنها سوف تزورها عصر غد ، ثم عادت إلى البيت فاستقبلتها جدتها مشرقة الوجه وقبلتها بحنان وهي تقول : الحمد لله الذي أبقاني حية حتى رأيتك مهندسة .
   فابتسمت ورقاء وقالت : ولكنني لم أحصل على النتيجة بعد يا جدتي .

  لقاء في المستشفى   98

   قالت الجدة : إنها مضمونة النجاح يا عزيزتي .
   قالت ورقاء : أرجو ذلك ، ثم صعدت إلى غرفتها فوجدت هناك باقة زهر كبيرة في إناء من الكريستال الثمين وقد تربعت وسطها علبة بيضاء صغيرة كتبت فوقها هذه الكلمات : ( هديتي لك بمناسبة انتهاء الامتحانات مع وافر حبي ... ماهر ) .
   واستغربت ورقاء هذه الهدية وخمنت أنها هدية لموقف حاسم ، ولهذا فقد نزلت إلى جدتها وقالت بهدوء : من أين جاءت باقة الورد هذه ؟
   قالت الجدة : لقد بعث بها الأستاذ ماهر مع السائق وقال أنه سوف يأتي مع أمه في المساء .
   قالت ورقاء وهي تحاول أن تبدو طبيعية : وهل تعرفين أين يقع بيت هذا الأستاذ ؟
   فاستغربت الجدة هذا السؤال ثم قالت : كلا ، أنا لا أعرف موقع بيته الجديد ، ولكن لماذا تسألين ؟
   قالت : لكي أعيد إليه باقة الزهر هذه .
   قالت الجدة في هلع : تعيدين باقة الزهر ؟ هل أنت مجنونة يا ورقاء ؟ هل رأيت الخاتم الماسي الذي في العلبة ؟
   قالت ورقاء : انني لم أفتح العلبة ولا شغل لي بها ولن أقبل هذه الهدية بأي شكل من الأشكال .

  لقاء في المستشفى   99

   قالت الجدة : لا شك أنك مجنونة يا ورقاء ، ليس هناك انسانة عاقلة تتصرف هذا التصرف المشين ، أنه ابن عمك وخطيبك في الوقت نفسه .
   وهنا أجابت ورقاء بشيء من العنف قائلة : ماذا قلت يا جدتي ؟ من هو خطيبي ؟
   قالت : ماهر .
   قالت : ومتى أصبح خطيبي مع أنني لم أوافق على قبوله أبداً ؟
   قالت الجدة : فكري قبل أن تقطعي بالأمر يا ورقاء ، أنه انسان ممتاز يليق لك من جميع الجهات .
   قالت ورقاء : لقد فكرت بما فيه الكفاية وليس لدي إلا الرفض .
   قالت الجدة : ولكن ماذا تأخذين عليه يا ترى ؟
   قالت ورقاء : أولاً وبالذات كونه غير متدين .
   قالت : يمكنك هدايته بعد ذلك .
   قالت : وإذا لم يهتد ؟
   قالت : دعيه هو شأنه وأنت وشأنك ، أنك لن تنامي معه في قبره يا ورقاء ، تنعمي بخيراته ودعيه يتعذب وحده في النار .

  لقاء في المستشفى   100

   قالت ورقاء : إن هذه لن تكون حياة زوجية بل شركة تجارية استغلالية لا أكثر ولا أقل .
   قالت الجدة : إذن ؟
   قالت ورقاء : إذن سوف لن أوافق .
   قالت الجدة : وهديته ؟
   قالت ورقاء : إن جميع هداياه وسياراته وعماراته لا تساوي عندي شيئاً ما دام هو بشخصه يفتقر إلى الدين ، أعيدي إليه هديته وقولي له أن يفتش عن عروس يليق بها وتليق به .
   قالت الجدة في غضب : أنني لن أقول شيئاً من هذا ، أعيديها أنت إليه إذا أردت .
   وفي المساء حضر ماهر وحده ، فرحبت به الجدة وجلست معه في غرفة الاستقبال ، وكأنها أرادت أن تقول شيئاً تمهد فيه لما قد يصدر عن ورقاء فقالت : أنني أشكرك جداً لهديتك الثمينة يا أستاذ ماهر .
   قال : أنها أقل الواجب تجاه ورقاء ، أرجو أن يكون الخاتم على قياسها ؟
   قالت الجدة : الحقيقة أن ورقاء ما زالت طفلة ولهذا فهي في حاجة إلى تدرج في الترويض .

  لقاء في المستشفى   101

   قال : كيف ؟
   قالت : تصور أنها لم تلبس الخاتم بيدها لحد الآن لأنها تقول بأنها ما زالت تعبانة من الامتحانات .
   قال : إن من حقها أن تستريح فترة ، ونحن لا نريد فعلاً سوى الموافقة المبدئية ثم تقديم نيشان الخطوبة ، وقد اخترت لذلك طقماً ثميناً من الماس وجدته ملائماً لشباب ورقاء وجمالها ، وما أتيت إلا من أجل تحديد الوقت المناسب لتقديمه .
   فارتبكت الجدة وقالت : سوف أتصل أنا بكم لتحديد الوقت المناسب بعد أن أقنعها بالقبول .
   قال ماهر : عجيب أن تكون في حاجة إلى ترويض وإقناع ، إنه أمر طبيعي وبديهي الصلاح ، ولكنها على ما يبدو ما زالت صغيرة .
   فتأثرت الجدة لهذا الاسلوب في الكلام ولكنها استمرت على خط المجاملة ولهذا قالت : صحيح أنها ما زالت صغيرة ولكنها عاقلة وحكيمة والحمد لله ، ولعل لديها وجهة نظر معينة سوف أتمكن من تصحيحها خلال أيام .
   وقبل أن تنتهي الجدة من كلماتها انفتح الباب ودخلت ورقاء وهي تحمل بيدها علبة الخاتم الصغيرة البيضاء ، فخفق

  لقاء في المستشفى   102

قلب الجدة بعنف وغرها الارتباك لما سوى سوف يحدث ، أما ورقاء فقد سلمت وجلست على أقرب كرسي من الباب .
   فنهض ماهر لاستقبالها ورحب بها بحفاوة ، وما أن استقر بها الجلوس حتى التفتت إليه وهي تقول : أنني أشكرك على باقة الزهر التي أرسلتها صباح اليوم يا أستاذ وسوف أتقبلها كتحية طيبة من ابن عم طيب ، أما هذه العلبة فأنا أعتذر عن قبولها لعدم وجود مناسبة لها .
   فبهت ماهر لحظة ثم قال في تلعثم : ماذا تقصدين بهذا يا ترى ؟
   قالت : أقصد بأنك إبن عم أبي فلتبق علاقتنا على هذا المستوى لا أكثر ولا أقل .
   قال : صحيح أنني ابن عم أبيك ولكن أليس من حقي أن أطمع بتعميق هذه العلاقة ؟
   قالت باقتضاب : كلا .
   قال : هل تسمحين لي أن أسأل عن السبب ، لقد لاحظت منك نفوراً منذ البداية فهل قصرت في شيء أو هل أسأت إليك بشيء ؟
   قالت : كلا أنك لم تقصر في حقي ولم تسىء إليّ ولكن رفضي هذا من صالحك وصالحي يا أستاذ.
   قال : كيف عرفت أنه من صالحي يا ورقاء ؟

  لقاء في المستشفى   103

   قالت : لأنني سوف لن أكون القرينة الحقيقية لك يا أستاذ .إن هناك فارق مهم لا يمكننا تجاوزه في الحياة الزوجية فلنكن أبناء عم فقط وهذا يكفي .
   قال : إذا كنت تفكرين بالفارق المادي فأنا لا يهمني ذلك من قريب أو بعيد ، أنني أنسى حينما تصبحين زوجتي بأن هناك فوارق في الحالة المعاشية ، وسوف أضع جميع ما أملك أمامك تتصرفين فيه كما تشائين .
   فزادت هذه الكلمات من غيظ ورقاء ، ولكنها جاهدت أن تسيطر على أعصابها أكثر ولهذا ردت بهدوء قائلة : أنك لم تستوعب فهم ما أردت أن أشير اليه ، فالفارق الذي ذكرته ليس هو الفارق المادي .
   فقاطع حديثها قائلاً : إذن فهو فارق اجتماعي ؟ ولكننا متجانسون فنحن أولاد عم وكل منا يحمل شهادة مهندس .
   فهزت ورقاء رأسها في استنكار وقالت بشيء من الحدة : ألا تريد أن تتركني أكمل حديثي يا أستاذ ؟
   قال : عفواً تفضلي .
   قالت : إن الفارق المهم الذي أعنيه هو الفارق الديني يا أستاذ ، قالت هذا وسكتت تنتظر ردود الفعل .
   فسكت ماهر لحظة ثم تنحنح يداري بذلك ارتباكه . واغتنمت الجدة هذه الفرصة لتدخل في النقاش فقالت :

  لقاء في المستشفى   104

   إن فارق الديني غير مهم فهو لن يجبرك على التغيير من وضعك يا عزيزتي أليس كذلك يا أستاذ ماهر ؟
   وكانت الجدة قد أعطت لماهر بحديثها هذا فرصة لاستعادة وضعه الطبيعي حيث أجاب قائلاً باندفاع : طبعاً ، طبعاً ، فأنا لا أريد أن أمنعها عن شيء تريده هي أبداً وإذا كان هذا هو المانع فقد ارتفع .
   فابتسمت ورقاء في مرارة وقالت : أنني لا أريد أن أطيل الحديث ولكنك تضطرني إلى ذلك الآن دعني أسألك سؤالاً واحداً : ما هو مفهوم الحياة الزوجية عندك ؟.
   فظهرت الحيرة على ماهر لأنه لم يكن قد فكر بمفهوم خاص للحياة الزوجية من قبل ولهذا تردد لحظة ثم قال : حياة زوجية سعيدة !.
   قالت : أنك لم تذكر مفهومها عندك وليس ما ذكرته سوى نتيجة لتحقيق ذلك المفهوم .
   فضحك في بلاهة وقال : إذن فأي مفهوم تريدين ؟
   قالت ورقاء : أنا لا أريد شيئاً ولكن أريد أن أعرف نظرتك عن طبيعة الحياة الزوجية .
   وهنا تدخلت الجدة لتنقذ الموقف من جديد فقالت : دعك من هذا الكلام يا ورقاء ، إنه ابن عم أبيك وهذا يكفي .

  لقاء في المستشفى   105

   فاستدارت ورقاء نحوها وقالت : أرجو أن تفهمي ما أعنيه يا جدتي ، فإذا كان هو لا يريد أن يفهم فافهمي أنت على الأقل ، إن الحياة الزوجية ليست شركة مادية ، أو ندوة اجتماعية . وإنما هي وحدة روح وفكر ومصير وهذا ما لا يمكن أن يتحقق مع اختلاف السلوك وتباين وجهات النظر . وما دمنا لا نستطيع أن نلتقي فكرياً فلن نستطيع أن نلتقي عاطفياً . وعدم الالتقاء العاطفي هو أوضح دليل لفشل الحياة الزوجية ، ولهذا فأنا لا أريد لنفسي ولا أريد له أيضاً أن ترتبط بحياة زوجية فاشلة .
   وسواء فهمت الجدة حديث ورقاء أو لم تفهم فأنها ردت عليها قائلة في إلحاح : إن في إمكان كل منكما أن يبقى على ما هو عليه .
   فتأففت ورقاء وقالت : إن هذا هو ما أعنيه من الفصام الفكري والعاطفي .
   قالت الجدة : أو ليس من الممكن أن تتقارب وجهات النظر بعد الزواج ؟
   قالت ورقاء : كلا يا جدتي لأن ذلك التقارب يستوجب إعطاء تنازلات من الطرفين وأنا غير مستعدة لاعطاء أي تنازلات مهما كانت بسيطة ، إن ديني أهم شيء عندي لأنه هو الذي يحدد مستقبلي في الغد القريب .

  لقاء في المستشفى   106

   وهنا وجد ماهر مجالاً للدخول في النقاش فقال متحذلقاً : عفواً يا ورقاء ولكن أي دخل لدينك في المستقبل ومستقبلك مضمون كمهندسة ميكانيكية سواء كنت متدينة أم لا . كما ضمنت أنا مستقبلي كمهندس معماري مع عدم التزامي بالدين ؟.
   قالت ورقاء : ها أنت لا تريد أن تفهم ما أقول ، أن المستقبل الذي أعنيه هو مستقبلي بعد الموت . وهذا ما لم تضمنه أنت ، وما أريد أن أضمنه أنا مهما استطعت ، أنني أخطط لمستقبلي ذاك أكثر مما أخطط لمستقبلي كمهندسة لأن هذا المستقبل مهما طال فهو محدود الأمد ، أما ذاك المستقبل فهو ما لا نهاية له .
   فرأت شحوب باهت على وجه ماهر وكأن كلمات ورقاء الأخيرة قد اثرت عليه ، ولكن الجدة أرادت حسم النقاش ، فتوجهت نحو ورقاء بلهجة آمرة : إذهبي الآن إلى غرفتك فأن لدينا مجالاً طويلاً لتدبر الأمر .
   ولما لم تتحرك ورقاء ألحت عليها قائلة : قومي واذهبي ، كفاية كلمات صبيانية يا ورقاء .
   وهنا ضحك ماهر ثم قال : أنها معذورة فقد ربيت تربية معقدة منطوية . وأنا أرجو أن أفتح لها بيدي هاتين أبواب الحياة السعيدة . حياة الانطلاق والحرية ، أنها ولا شك واقعة تحت تأثير سيء لعله من صديقة أو صديق .

Next