فترة الركود


  ليتني كنت أعلم   40

   إنها فترة جمود مؤسفة وإن كانت قصيرة الأمد والحمد لله... ولكنني الآن وحينما أجد أن منيتي قد عاجلتني قبل أن أحقق غايتي في مستوى العبادة والعمل في سبيل الله من حقي أن استشعر الندم والحسرة لمرورها فما قيمة حياة الأنسان ما لم تكن ساعاتها موصولة بالعمل من أجل الله يا الله... ما أقسى الجمود وما أمر أن يعمل الانسان على التسويف والتخفيف ؟ ها أنا ذي أحس أن تلك الأيام تعاتبني فتكويني بعتابها أنها تأسى على ساعاتها وهي تخط في صفحة الاعمال بدون عمل ( غير ما وجب من الفرائض ) إنها خجلى إذ تعرض أمام الحاكم العادل وهي زاهدة في ثواب أو متواضعة في التطلع إلى الرضوان ، ولكن ماذا عساي أن أصنع ؟ وما فات لا يعود ، أنا لا أنكر إن كان علي تعويضها فيما بعد ولكن أتراني عرفت أن ساعات الانسان ودقائقه محسوبة ومكتوبة ؟ أتراني أديت لهذه المعرفة حقها ؟ هذا ما لا يعلمه إلا الله عز وجل...

  ليتني كنت أعلم   41



  ليتني كنت أعلم   42

     الانفتاح من جديد


  ليتني كنت أعلم   43

   إن من رحمة الله عليّ أن فترة الجمود تلك لم تكن طويلة فقد حدث ما هزني وبعث فيّ الحياة من جديد ودفعني إلى التعرف على مسؤوليتي بشكل أقوى مما كنت عليه ، وهكذا فان الانسان لا يتبلور ويتكامل إلا بعد المرور بمختلف أشكال التجارب والمحن وفعلاً فأنا أحمد الله إن مررت بمحنة حسستني بأهمية الايمان عندي من جديد وما أحسن قول الشاعر حينما يقول :
لـك الـحمد أن البلايا iiعطاء      وأن الـمصيبات بعض iiالكرم
   إذن ... فنحن لا ينبغي لنا أن ننظر إلى فداحة المحن وقساوتها فقط ، ولكن علينا أن نقيس كل ذلك مع الدروس التي تعطيها والفوائد الروحية والمعنوية التي يجنيها الانسان من ذلك لكي نتمكن من استقبالها بثغر باسم وصدر رحب وعزيمة وإصرار . وأنني لأذكر حادثة خلال هذه المحنة ، أذكرها وقد كنت أذكرها دائماً لعمق ما أثرت عليّ في حينها ، كان

  ليتني كنت أعلم   44

ذلك خلال فترة ضيق قاسية قد تشابكت خيوطها حتى كاد اليأس يتسرب إليّ فانتزعت نفسي من البيت وخرجت إلى الشارع وكأنني كنت أحاول بذلك التحلل ولو إلى قليل من أسلاك المحنة الشائكة التي كانت تحيط بي ولكنني سرعان ما أحسست أنني كنت غلطانة ! فلم تكن المحنة التي أعيشها وليدة البيت لكي تتركني أو أتركها عندما أغادره ، ولهذا وقفت حائرة مخذولة لا أعلم إلى أين أتجه وماذا اعمل ؟ وإذا بصوت اسمعه من بعيد فيشدني إليه ، وإذا بكلماته تجذبني نحوها وكأنني لم أسمعها من قبل : ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا انهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) عند ذاك تنبهت من جديد وأفقت من الاغفاءة الفكرية التي كادت أن تجرني إلى اليأس ، وتذكرت أن الله عز وجل لا يخذل عباده المخلصين ، وان المحن والبلايا ليست سوى بعض طرق التكامل والنضوج ، وهي مثلها للانسان مثل مختبر للتحاليل يظهر حقيقة الانسان ويكشف له ما كان يجهله من نفسه وجوانب الضعف والوهن فيها.
   ومضيت بعد ذلك أقطع مسيرة الحياة بين آلام وآمال ووسط أزهار وأشواك ، وهل يوجد الزهر إلى جوار الشوك ولولا الألم لما وجد الأمل ، ولهذا كنت منسجمة مع تقلب الحوادث وتتابع الأدوار ، لا يغرني نعيمها ولا يحزنني أليمها انتظر سراءها عند الضراء واترقب ضراءها عند السراء وكأنني وإياها كما يقول الشاعر:

  ليتني كنت أعلم   45

تـزيـده  الأيـام إن iiأقـبلت      شــدة خـوف iiلـتصاريفها
كـأنـها فـي وقـع iiاقـبالها      تـسـمعه رنــة iiتـخويفها

   ومرّت السنوات تتتابع وأنا أجد من رحمة الله فوق ما استحق حتى أصبحت أحس نحو نفسي بالصغار أمام ما أجد من عطف الله عليّ ورحمته بوجودي ، فأخذت استصغر عطائي واستكثر ما أجد وكان هذا الشعور هو بداية الألم في حياتي التي نذرتها لله ، فقد أصبحت أحس بعذاب ومرارة. وأصبح قصوري أمام الله عز وجل يتراءى أمامي على شكل تقصير تارة وعلى شكل عجز وتهاون أخرى فتبرمت بما أجد حولي بعد أن حسبت نفسي دخيلة عليه وأخذت أحاول أن أبتعد عن مسرح حياتي بعد أن وجدته أكثر مما استحق ، وهل هناك أقسى من شعور الانسان بالتقصير أمام الله ؟ ولهذا فقد رانت على قلبي غمامة من ألم وحسرة لوثت صفاء روحي وسعادتها في العمل من أجل الله... ولولا أن الله عز وجل رحمني باشراقه من نور كانت تضيء جوانب روحي بضيائها الهادي الوديع لحدث ما لا يحمد عقباه ، فالحمد لله الذي لا يغلق على موحديه أبواب رحمته.

  ليتني كنت أعلم   46



  ليتني كنت أعلم   47

    الساعات الأخيرة


  ليتني كنت أعلم   48

   كنت أريد أن أكتب عن الأيام الاخيرة وارتباطها بالأيام التي قبلها ولكن يبدو أن عليّ الآن أن أكتب عن الساعات الأخيرة لأنها عاجلتني وفرضت وجودها عليّ بشكل لا مفر منه وهل هناك مفر من الموت ؟ ـ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ـ أم هل هناك مهرب من قضاء الله وقدره ألم نسمع الحديث القدسي الذي يقول « من لم يرض بقدري وقضائي فليخرج من أرضي وسمائي » إذن فما على الانسان المؤمن إلا أن يستقبل الموت برضا واقتناع ولسان حاله يقول :
عـنـدي  لـمـا iiتـقـضيه      مـا يرضيك من حسن iiالرضا
   والآن ... أتراني آسفة على الدنيا وفراقها ؟ نعم ، وكلا ... أما نعم فلأن الدنيا هي الطريق الذي يمهد إلى رحمة الله ورضوانه وأنها هي أيام التجربة التي منّ الله بها على عبيده لتكون لهم فترة اختبار فلعلها لو طالت لتمكنت أن أسجل رقماً جديداً وأن أحصل على درجة أعلى ... ثم من أجل قلوب والهة سوف تستشعر الحسرة من بعدي. ولكن أليست هذه هي طبيعة الحياة ؟
   أما كوني غير آسفة على الدنيا فان حالي منها كما يقول الشاعر :
مـا لي إلى الدنيا الدنية iiحاجة      فـليخش  ساحر كيدها iiالنفاث

  ليتني كنت أعلم   49

طـلقتها الـفاً لأحـسم iiداءها      وطلاق من عزم الطلاق ثلاث
وثـباتها مـرهوبة iiوعـداتها      مـكـذوبة وحـبالها iiانـكاث
أنـي لأعـجب للذين iiتمسكوا      بـحبائل  الـدنيا وهي iiرثاث
أتـراهم لـم يعلموا أن iiالتقى      هـو زادنـا وديارنا iiالأجداث

   آه كم يأس الانسان في ساعاته الأخيرة على هفواته وزلاته وكم يود جاهداً لو كان قد افتدى تلك الأخطاء بكل ما يملك ، ما أحلى أن يكون الأنسان رقيباً على نفسه وأن يكون لديه ما يمكنه من دراسة كل أمر قبل الاقدام عليه لكي لا يقف في ساعاته الأخيرة موقف النادم المغبون فان النفس امارة بالسوء إلا ما عصم ربي سبحانك يا رب أنني أحبك بقدر ما أخافك فلا تبعدني منك ولا تقطعني عنك ولا تحرمني برد عوفك ورضاك... سبحانك يا رب أنني الآن أشعر بالراحة كما لم أشعر بها من قبل. أنني سعيدة وأنا أحس بانعتاقي من قيود الدنيا وغلالها وانفكاكي من آلامها وأثقالها وابتعادي عن شرورها وآثامها فاسبغ يا إلهي على القلوب التي أحبتني أبراد الصبر وضاعف لهم الأجر ووفقهم يا رب ليكونوا بعدي صدقة جارية وعلماً ينتفع به الناس لكي لا ينقطع أثري عن الدنيا بوجودهم وهبني من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب.

Next