صفقة خاسرة


  ليتني كنت أعلم   18

   جلس أمامها في وله لكي يقول لها :
      بأنني أحبك إلى درجة العبادة ، وبأنك حياتي التي لا غنًى لي عنها...
   صحيح أنهما كانا في بداية أيام الخطوبة ولكنه كان يؤكد لها أن الحب كالتيار الكهربائي الذي لا تحتاج انطلاقته إلى مزيد من المقدمات !! وكانت تستمع إليه في سعادة وتستشعر لكلمات الاطراء بشيء من الغرور قال :
      أنه يود لو تم العقد في أقرب فرصة فهو لم يعد يجد للحياة معنى بدونها ! وقال أيضاً أنه يعجب كيف أمكن له أن يعيش سنيّ حياته الماضية وهو بعيد عنها فهي قد أصبحت بالنسبة إليه محور السعادة ومنطلق الهناء ! قال أنه سوف يستأجر بيتاً كبيراً فخماً يتماشى مع حجم السعادة التي يحسها ، وقال أيضاً أنهما سوف يقضيان

  ليتني كنت أعلم   19

      شهر العسل في الخارج لأن حياة زوجية تقوم على مثل هذا الرصيد الضخم من الحب لا يناسب استهلالها إلا مصايف باريس !!
   وكان يتحدث باندفعان ويملأ حديثه بكلمات الحب والاعجاب ... وكانت هي سارحة وراء أحلامها التي بدأت تتحقق في شخص هذا الخطيب ... وانتبهت على خصلات من شعرها أخذت تتطاير فوق جبينها فرفعت يدها إلى شعرها تصففه وهي تقول في دلال :
      لكم كنت تتعجل الخروج بشكل لم أتمكن فيه حتى من ترتيب شعري ؟ قال : أن شعرك جميل على أي صورة كان وأنت مرتبة على أي حال من الأحوال.
   فابتسمت في زهو وكأنها أرادت منه المزيد فقالت :
      حتى فستاني الجديد لم تنتظر حتى يصلني من الخياطة.
   قال :
      ألم أقل لك أن هذا لا يهم ؟ أنا لا أهتم بأمثال هذه الأمور ما دام الهدف الحقيقي قد تحقق من حصولي عليك يا عزيزتي.

  ليتني كنت أعلم   20

   قالت في شيء من الحماس :
      أتراك هكذا حقاً ؟
      قال : نعم وأقسم لك بحبي على صحة ما أقول .
      قالت : إذن فأنا سعيدة إذا كنتُ أتمنى أن أحصل على زوج لا تهمه المادة...
      قال : نعم أنني هكذا وسوف تلمسين بنفسك صدق ما أقول ...
   فتشجعت من جوابه وقالت :
      نعم أن المادة هي عرض زائل وأنا لا أحسب لها في حياتي أي حساب ولهذا فقد تنازلت لأبي عن جميع ما كنت قد أدخرته من راتبي حينما وجدته في ضائقة مالية...
   وهنا وعلى خلاف عادته في الاسراع في الجواب سكت برهة ولكنه استعاد نشاطه بسرعة وقال :
      لطيف أن تمدي إلى أبيك يد المساعدة فأن الضائقة المالية قاسية لا تطاق ولهذا فأنا أشك بمقدرتنا على استئجار بيت كبير !!

  ليتني كنت أعلم   21


   قالت :
      المهم في البيت أن يكون مريحاً سواء كان كبيراً أو صغيراً...
   قال :
      نعم وأن تكون فيه وسائل الراحة من ثلاجة ومكيف هواء وغسالة واشباه ذلك ...
   قالت :
      إن هذه حوائج تشترى بشكل تدريجي فنحن نتمكن في البداية أن نكون على شيء من البساطة لأن أبي كما لعلك تعلم لا يتمكن في الوقت الحاضر أن يساهم بشيء يذكر..
   فأطرق برهة وهو يتشاغل بتوقيت ساعته ثم رفع رأسه في شيء من البرود قائلاً :
      إن البساطة لطيفة في كل شيء ولهذا فإن في إمكاننا أن نستغني عن السفر إلى الخارج !!.

  ليتني كنت أعلم   22

   قالت :
      نعم ان هذا هو الاصلح سيما وأنني مرتبطة ببعض السلف والأقساط !!
   وهنا لم يتمالك نفسه فقال بشيء من الحدة :
      إذن فأن راتبك مستهلك على ما يبدو ؟
   قالت :
      تقريباً...
   فتململ في جلسته ثم قال :
      وأنا أيضاً مرتبط بكثير من الديون والسلف ولهذا سوف لن أفكر في أمر الزواج حالياً !!
   ثم نهض وهو يقول :
      أخشى أن لا أتمكن من رؤيتك ثانية ولهذا اتمنى لك كل السعادة وموفقية !.
   قال هذا ثم انصرف وكأنه هارب من وحش مخيف !! وكأن هذه لم تكن قبل قليل حبيبته التي لا يتمكن أن يحيا بدونها ... وتقدم منها الجرسون يطلب دفع الحساب فعرفت أنه خرج حتى دون أن يدفع فحدثت نفسها قائلة وهي

  ليتني كنت أعلم   23

تضحك : لقد كنت أظن هذا ولذلك حشدت له هذه المجموعة من الأكاذيب ، إنه غبي ، فقد فاته أنني كنت اختبره في ذلك وأن رصيدي في المصرف ضخم وأنني غير مرتبطة بأي سلفة ولكن الخير فيما وقع فقد كانت ( صفقة خاسرة ) بالنسبة إلي.

  ليتني كنت أعلم   24


آخر هدية


  ليتني كنت أعلم   25

   كانت تعيش في قلق وانتظار ، فماذا كانت تنتظر يا ترى ؟ بعد أن رحل عنها الحبيب وفارقها القرين ؟ لقد كانت تنتظر هدية ! نعم هدية ارسلها اليها قبل أن يرحل وقبل أن يغلق عينيه الغاليتين عن هذه الحياة ليفتحها من جديد في عالم النور والخلود وهدايا الحبيب حبيبة مهما كانت لأنها التعبير المجسد للعواطف والمثال الناطق عن التجاوب والتقارب ، ولكن هذه الهدية فريدة في بابها لأنها هدية زوج راحل أعدها لكي تصل إلى يد زوجته في وقت يكون هو فيه قد فارق الحياة ... أنها ذخيرة واحدة من مجموع ما أمدها به من ذخائر ثمينة خلال أيام اللقاء ... ولهذا كانت تنتظرها بفارغ صبر ولهذا أيضاً كانت تتساءل عمن عساه يعرف من أمرها شيئاً ... لقد أخبرها بذلك قبل أن يرحل عندما كانت يتدرب على خوض معركة الانتصار معركة الكرامة وأكاليل الغار ولكنه رحل قبل أن يسلمها إياها . نعم أنه رحل وتركها تنتظر عودته سالماً يحمل إليها معه هديته المنتقاة ... ولكنه لم يعد ، نعم أنه لم

  ليتني كنت أعلم   26

يعد وأنّى له أن يعود ؟ إن من يذهب إلى ساحة الحرب وهو مؤمن بقضيته التي يدافع عنها من العسير عليه أن يعود دون أن ينال إحدى الحسنيين :

( فأما حياة تسر الصديق* وأما ممات يغيظ العدا )

   كثيرون أولئك الذين ذهبوا وعادوا للحياة ... ولكن أتراها حياة هذه التي اشتروها بثمن باهظ من الانهزامية والتخاذل والاستسلام ؟ كلا أنها الموت بعينه والله ... وزوجها الراحل ، هذا الشهيد الذي سقط في ( معركة الكرامة ) وهو يدافع عن أرضه المغتصبة ، ودياره المباحة نعم زوجها الذي فارقها قبل أن تطفأ شمعة عرسه وودعها وزهرة زواجهما لم تتفتح بعد ، هذا الحبيب الذي غرس في نفسها من قبل أن الروح الغالية حقاً هي التي ترخص أمام الواجب ولهذا خلفها وهي ما زالت ترفل في ملابس عرسها . وذهب إلى ساحة الجهاد ، هذا الحبيب كان قد وعدها بهدية فما الهفها على استلام تلك الهدية الحبيبة لقد انتظرته طويلاً وهو في مكانه البعيد تتسقط اخباره وتتابع آثاره وتبتهل إلى الله أن يشد أزره ويضاعف صبره وثباته في مجابهة العدو ... ثم ها هي الآن تنتظر هديته بعد أن خاب انتظارها لشخصه الحبيب بعد أن سقط شهيداً في معركة البطولة وملحمة الحق والكرامة ، أفتراها تنسى أنه كان قد وعدها بهدية وأنّى لها أن تنسى ؟

  ليتني كنت أعلم   27

وقد نقشت صورته على صفحات قلبها بخطوط من نور زادها الموت بهاء ورداء ... أنه فارس أحلامها حياً وميّتاً . أنها ما زالت تعيش معه وتعيش من أجله وهي فخورة به سعيدة لذكراه ، إذن فمن حقها أن تنتظر الهدية وتترقبها في شوق وحنين ... ثم وصلتها الهدية بعد فترة من الزمن قصيرة في حساب الأيام طويلة في حساب العواطف والأحداث ... نعم لقد وصلتها الهدية فتطلعت نحوها وهي ما زالت في اليد التي حملتها اليها من بعيد ... تطلعت إليها كما تطلعت إليه من قبل شهور وهي تراه لأول مرة كطيف ملائكي مشرق بالنور ، وعادت بأفكارها إلى تلك اللحظات حيث كانت تتطلع إليه كأمل لحياة زوجية سعيدة وحيث كادت تهتف لولا رادع من حياء ـ أنه أمل حياتي وفارس أحلامي المنتظر ـ نعم إنه كان ولا يزال فارس أحلامها وأمل حياتها حتى ولو أنه ذهب ولن يعود. لأنه ذهب من أجلها هي ، من أجل كل زوجة مظلومة . من أجل كل طفل بائس من أجل كل شاب تائه نعم أنه ذهب من أجل أن يعيد إليها وإلى كل فرد كرامته ووطنه السليب ، ذلك الوطن المقدس الحبيب الذي أصبح نهباً للدخلاء والعملاء والمستعمرين ، أفلا يحق لها أن تبقى تعيش معه ومن أجله كما كانت تعيش من قبل ؟ وامتدت يدها تستلم الهدية وكل ذرة في كيانها تنطلق بالفرحة والحسرة وفتحتها أمامها وأطرقت ملياً تتطلع اليها ببلسم من بلاسمه التي طالما مسح بها على جراح قلبها من قبل فماذا كانت

  ليتني كنت أعلم   28

الهدية يا ترى ؟ كانت لوحة خضراء كتب عليها بحروف بارزة هذه الآية الكريمة :
   ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وألئك هم المهتدون ).
   وعلقتها حيث يمكنها أن تفتح عليها عينيها في كل صباح وحيث تكون آخر ما تبصره عيناها في كل مساء تماماً كما كان هو من قبل ... ثم وقفت أمامها لكي تعاهد الله وتعاهده من جديد بأنها سوف تبقى سائرة على الطريق الذي سار به من قبل حتى تجد أمامها راية الحق وهي ترفرف فوق الأرض المحتلة في فلسطين ، ومتى عصف بها الشوق أو ضج بها الحنين تذكرت الآية المباركة لكي تكتسب منها مزيداً من الإطمئنان...

Next