بسم الله الرحمن الرحيم


      السلام عليك يا حسنات ورحمة الله وبركاته.
      يؤسفني أن أكون قد أبطأت عنك في الكتابة ولكنني كنت خلال هذه الفترة أحاول أن أتخلص من آثار الصدمة التي صُدمتها بك ، بعد أن استلمت رسالتك الصريحة ( على حد تعبيرك ) وحينما عجزت عن التخلص من الصدمة عدت إلى واجبي الديني تجاهك ، وقد وقفت أمام ما كتبتِ عن عدم الحاجة إلى الدين وقفة الحزين ، أفتراك جادة فيما كتبت ؟ أم أنك كنتِ تهزلين ولا أدري أي وضع مؤسف أملى عليك هذه الأفكار ؟ وبما أنك وكما أرى ضحية من ضحايا الخداع والتضليل فأنني أكتب اليك كما يكتب الأخ لأخته ، مستشعراً بالمسؤولية الدينية والاجتماعية تجاهك ، أما ما ذكرتيه في

  امرأتان ورجل   16

      خصوص ارتفاع حاجتنا عن الايمان بالله ، وبالتالي عن الدين ، فاعلمي أن الايمان بالله ـ الذي هو الطريق إلى الدين ـ ليس كما تتوهمين وليد فترة ظلم أو استغلال لأنه وجد قبل أن يوجد الظلم ، وقبل أن يوجد الاختلاف والتباين في الطبقات ، أنه ليس وليد تناقض طبقي كما خيل لك وإلا فأي تناقض طبقي يمكن أن يتصوره الانسان في بداية الخليقة ، حيث كان الغذاء واحد ، والكساء واحد ، وحدود المعرفة واحدة ، والايمان بالله وجد منذ بدء الخليقة ، ومنذ عرف الانسان معنى الوجود ، ولعلك هنا تتساءلين ، كيف يمكن لي أن أدعي هذا وأؤكد عليه ؟ ولكن ألا ترين أن لكل شيء آثاراً وسماتاً ، وآثار الشيء ترسم وجودها على صفحات التاريخ ، والتاريخ يحمل الينا ذلك بوضوح ، وهاك بعض الأمثلة على ذلك ... ففي مصر مثلاً ، كان المصريون من أعرق الأمم التي آمنت بالروح وبالبعث والثواب ، والعقاب ، ولكن على مستوى فهمهم البدائي لكل ذلك ،

  امرأتان ورجل   17

      ورمزوا للروح رموزاً عديدة تارة ( كا ) وتارة زهرة وتارة رمزوا إليه بصورة طائر له زي وجه آدمي ، وصور هذه الرموز وآثارها ما زالت واضحة بين الآثار ، وفي صفحات التاريخ ، ثم عبادتهم البدائية لفتاح ، وما كانوا عليه في تلك الفترة من محاولة التقرب إلى المعاني الروحية كما جاء في احدى صلوات فتاح _ الفؤاد واللسان للمعبودات ومنه يبدأ الفهم والمقال ، فلا ينبعث من ذهن ولا لسان فكر أو قول بين الأرباب أو الناس أو الأحياء أو كل ذي وجود إلا وهو من وحي فتاح _ ثم وبعد ذلك ، وحين تولى اخناتون الملك ، وقد كان معروفاً بالتأمل والتفكير ، بدأ يصحح ( وعلى مدى امكانياته وطاقاته الفكرية ) من طبيعة العبادة كما جاء في صلواته التي يحفظها التاريخ قوله _ ما أكثر خلائقك التي نجهلها ، أنت الأله الأحد الذي لا إله غيره ، خلقت الأرض بمشيئتك ، وتفردت فعمرت الكون بالانسان والحيوان والكبار والصغار _ هذا في مصر ، أما في الهند ، فقد اختلف

  امرأتان ورجل   18

      المؤرخون المختصون بتدوين تاريخ الهند ، اختلفوا في تحديد العصر الذي تمّ فيه التدين لديهم ، والايمان بفكرة وجود إله معبود ، فمنهم من يرده إلى ألف وخمسمائة سنة قبل الميلاد ، ومنهم من يرده إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد ، كما قال ( ماكس موللر ) الذي يعد حجة في اللغات الأوروبية ، قال : أياً كان العصر الذي تمّ فيه جمع الأناشيد المسطورة في ـ الريفيدا ـ فقبل ذلك العصر كان بين الهنود مؤمنون بالله الأحد الذي لا هو بذكر ولا بأنثى ولا تحده أحوال التشخيص وقيود الطبيعة الانسانية ـ وأيضاً يترجم ( موللر ) نشيد نسّاك الهند الذي تغنى به الهنود قبل الميلاد المسيحي بحوالي خمسة قرون يترجمه فنجد فيه ما يلي ـ لم يكن ثمة نهار ولا ليل ولم يكن إلا ( الأحد ) يتنفس حيث لا أنفاس ولا شيء سواه ـ وكذلك في الصين فقد عبدت لديهم الشمس والقمر والكواكب والرياح وأكبر آله عبدوها هي إله السماء وكان اله السماء بالنسبة لهم هو الأله الذي يصرف

  امرأتان ورجل   19

      الأكوان ويدبر الأمور ويرسم لكل انسان مجرى حياته ، وفي فارس كما جاء على لسان زرادشت وهو يسأل هرمز المعبود : ( يا هرمز الرحيم صانع العالم المشهود يا أيها القدس الأقدس أي شيء هو أقوى القوى جميعاً في الملك والملكوت ؟ فيقول هرمز ـ هو اسمي الذي يتجلى في أرواح عليني فهو أقوى القوى في عالم الملكوت ـ كما أنهم كانوا يؤمنون بوجود قنطرة تسمى قنطرة ( شنفادا ) تتوافى إليها أرواح الأبرار والأشرار على السواء بعد خروجها من أجسادها ، فيلقاها هناك ( رشنوه ) ملك العدل و ( ميترا ) رب النور وينصبان لها الميزان ويسألانها عما لديها من الأعذار والشفاعات ثم يفتحان لها باب النعيم أو باب الجحيم ، وفي بابل حيث توجد الحضارة البابلية التي هي أقدم الحضارات تاريخياً ، فان آثار ايمانهم بوجود خالق ما زالت ثابتة عن طريق الآثار ، ومما يذكر منها ( ايا ) اله الماء العذب و ( أنو ) اله السماء و ( مردوخ ) رب الجنود وسيد الحرب ، وفي اليونان حيث الحضارة

  امرأتان ورجل   20

      الاغريقية القديمة كان ( اكسبنوفون ) المولود قبل الميلاد بنحو ستة قرون ، أول من نقل إلى الاغريق فكرة الاله الواحد المنزه عن الاشباه ، فكان ينعي على قومه أنهم يعبدون ارباباً على مثال أبناء الفناء... ثم أننا نتمكن أن نستخلص من التاريخ أن الانسان قد آمن بفكرة الاله الواحد قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون...
      هذه يا حسنات نبذ صغيرة ، ولمحات قصيرة ، تدل وبوضوح على أسبقية فكرة الايمان بالله لكل ما ذكرت من أسباب ، وأنني حينما أذكرها لك لا أريد أن أقول أنها وبجميع أدوارها فكر صحيحة متبلورة ، فهي خاضعة كما ترين لمستوى الانحطاط الفكري لكل جيل تمر فيه ، وهو مشوبة كما ترين أيضاً بطبيعة الأفكار المعاشة في ذلك العصر ، ولهذا نجدها في أغلب حالاتها مغايرة للايمان بالوحدانية المطلقة وإن كانت تدل بوضوح على وجود الايمان بالله ، ولكن بشكل يلائم النضوج الفكري المعاش حين ذلك ، أرجو أن لا أكون قد أطلت عليك ولعلك لو قرأت

  امرأتان ورجل   21

      كتاب الله للعقاد لازدت معرفة بما ذكرت ، ويقيناً بما كتبت ، والله من وراء القصد ، وأتمنى لك كل خير ...
      مصطفى

   انتهت رحاب من قراءة الرسالة ، وباتت ليلتها تلك مؤرقة تفكر فيما كتب مصطفى ، وتحاول أن تطابق بينه وبين ما تعرف لتجد أي المعرفتين أقوى ، وأيهما تستند إلى قواعد اصلب ، وركائز أعمق ، ولم تتمكن أن تتوصل إلى شيء عن طريق الفكر ، فتوجهت نحو طريق العناد ، نعم العناد الذي سيطر عليها دائماً وأبداً ، فنشطت منذ الصباح إلى الكتابة وقبل أن ترى أختها حسنات ، خشية أن تستشعر شيئاً من العواطف التي تقعد بها عن الكتابة ، سيما أنها كانت تجد حسنات في الفترة الاخيرة طويلة الصمت ، قليلة الضحك ، قد لونت صفاء وجهها مسحة من شحوب ، وكانت تعلم أن ذلك من أجل مصطفى ولسبب عدم تسلمها رسالة منه ، وكانت هي يلذ لها احياناً ، ويؤلمها في فترات قليلة عندما كان تأنيب الضمير يلح عليها بشدة ، ولهذا فقد كتبت الجواب قبل أن تبرح الغرفة وسارعت إلى أبراده نفس اليوم ، وقد كتبت إليه تقول :
      عزيزي مصطفى ،       يعز عليّ أن أجدك متألماً لصراحتي وقد

  امرأتان ورجل   22

      كنت أنتظر منك كلاماً رقيقاً ناعماً على غرار كلماتك في الرسالة الأولى ، ولكنك اندفعت وراء إثبات أفكارك تاركاً جانباً إثبات عواطفك ، ولعلك وجدتني غير أهل لها فأهملتها ، وعلى أي حال فإن جوابك عن قدم الايمان بالله لطيف ، والأدلة التاريخية واضحة ، ولكنني لا أزال أقول أن الإيمان بالله ليس إلا وسيلة الضعفاء عند شعورهم بالعجز أمام الأقوياء ، ان هذا الضعيف حينما يجد أنه عاجزاً عن صيانة نفسه ودفع الخطر عنها ، يبدأ يفتش عن قوة وهمية ، تحميه وتذود عنه الخطر ، ومن هنا نشأت فكرة الايمان بالله ، وبالتالي فكرة الدين ، هذا ما أعتقده يا مصطفى وحينما كنا لسنا بضعفاء ، أو حينما كنا نتمكن أن ندفع عن أنفسنا الخطر بمختلف أساليب الوقاية والحماية التي هي متوفرة الآن ، لما كنا هكذا ، فلماذا نعود لنرتبط مع مجهول من أجل أن نستمد منه الطاقة التي لم تعد تعوزنا في هذه العصور ، نعم لماذا يا ترى ؟ ليتك

  امرأتان ورجل   23

      تجيبني إن استطعت ، هذا ولك من تحياتي وأنا في انتظار الجواب.

      حسنات

*   *   *
   بقيت رحاب تنتظر الجواب في لهفة تختلف عن لهفتها السابقة ، فهي الآن تريد أن تسمع الجواب عن سؤالها بعد أن استوعبت الجواب الأول وصدقت فيه ، وكانت قد بدأت تنهش افتضاح أمرها الشيء الذي لم تلتفت إليه من قبل ، فماذا لو عادت أخته من سفرها ؟ وماذا لو كتب لها معاتباً لاختيارها ، وماذا لو استنكرت أخته ذلك ويحثت الموضوع مع حسنات وهي صديقتها المفضلة ، وماذا لو عرف كل شيء ؟ وكانت كلما وصلت في تصوراتها إلى هنا شعرت بالاختناق ، فحاولت أن تبعد عنها هذه التصورات لكي تبقى سائرة في خطواتها إلى آخر الطريق ، ولم تطل بها فترة الانتظار ، فقد استلمت الجواب وتعجلت قراءته في هذه المرة من أجل أن تسمع الجواب عما سألت وقد وجدت فيه ما يلي :

  امرأتان ورجل   24

بسم الله الرحمن الرحيم
عزيتي حسنات
ألف سلام والف تحية

      سرني جوابك لما فيه من انسجام ( نسبي ) مع ما كتبت ، أرجو أن تكون هذه بداية الانسجام الفكري الكامل ، ولكنني عجبت لأمرك وأنت تتصورين أن الايمان بالله نتيجة الضعف لدى الانسان ، ولو صح ما تقولين لكان من المفروض أن نجد الانبياء والدعاة إلى الله هم أضعف البشر في كل دور من الأدوار ، مع أننا نجد أن الانبياء الذين دعوا إلى الله ، وإلى الايمان بالله ، كانوا من القوة بمكان ، فهذا نبي الله نوح مثلاً ، استمر يدعو قومه للايمان بالله تسعمائة وخمسين سنة دون أن يتعب أو يمل ، ثم كيف أنه بنى السفينة بنفسه ، وتحمل خلال البناء شتى أساليب التقريح ، والتفنيد ، والتهديد ، والوعيد ، دون أن يتردد أو يتراجع ، ثم وبعد ذلك حينما طغى الماء على أمر قد قدر ركب

  امرأتان ورجل   25

      السفينة هو وأهل بيته آمناً مطمئناً لم يرهبه الموج الطامي ، ولم يزعزع عواطفه الابن العاصي ، أوليس في هذا دليل على قوة الارادة وثبات الشخصية يا حسنات ؟ ثم هذا نبي الله إبراهيم ، وموقفه الصامد أمام الاعداء ، ورفضه كل مهادنة ومساومة حتى هددوه بالحرق وهو واقف حيث وضع الله أقدامه لا يريم ، ثم يأتي به يشهد النار التي توقد لاحراقه ، وهم يراجعونه بين حين وحين عساه يضعف أو ينهار دون أن تهن له قوة أو ينهار له بناء ، ثم يرمى به من عل إلى النار دون أن تسمع منه كلمة تظلم أو ترحم فتكون النار عليه برداً وسلماً ، فهل هناك دليل على القوة والصلابة أكثر من هذا ؟ أو هل هناك من يتمكن أن ينسب إلى هذا الانسان الضعيف والخمول يا ترى ؟ ونبي الله موسى عليه السلام ، يدخل على فرعون وهو الطاغية الجبار ، وليس معه سوى أخيه ، وكلمة الحق ، فيدعوه إلى الايمان بالله غير عابىء بكل ما تنتظره من أهوال وأهوال ، أو ليس في هذا دليل على

  امرأتان ورجل   26

      القوة والصرامة ؟ ونبي الله عيسى ، وصموده في الدعوة إلى الله ، ونبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) وما لاقاه في سبيل الدعوة إلى الايمان بالله دون أن يتطرق إليه الضعف أو الوهن ، حتى أنه حينما أجمعت قريش على محاربته وطلبت منه أن يترك الدعوة للايمان بالله قال = والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته = وتاريخ الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يشرح من بطولاته كل شيء وإذا شئت ، أو أنني أطلب منك أن تقرأي سيرة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فلعلك تجهلين عنه الشيء الكثير لكي تتمكني أن تعرفي بعد ذلك كيف أن الأنبياء كانوا من أقوى الناس جأشاً ، وأكثرهم صلابة ، وأشجعهم روحاً ، ثم ليتك تقرأين كتاب قصة الايمان فإن فيه متعة وفائدة ... هذا واعلمي أنني على استعداد للجواب عن اي سؤال.

      مصطفى
   بينما كانت رحاب تعيش أيام انتظار للجواب ، واعداد

  امرأتان ورجل   27

للرسالة ، وتأنيب ضمير خفي ، تستنكره وتنكر على نفسها الانقياد اليه ، كانت حسنات تطوي ضلوعها على ألم دفين تستنكره وتنكر على نفسها الانقياد إليه أيضاً ، وطالما حدثتها نفسها بالخيبة ، وطالما أوحت إليها تصوراتها أقسى الايحاءات ، فبماذا كانت تتمكن أن تؤول هذا الموقف المنكمش من خطيبها وزوجها الموعود ، ألم يكن من أدنى مستلزمات اللياقة أن يرسل اليها رسالة ولو صغيرة ؟ ألم يكن من التهذيب في شيء أن يرسل اليها صورته بعد أن علم أنها لا تملك له صورة ؟ وكانت هذه التصورات تلح عليها عنيفة بها تارة ورفيقة أخرى وهي بين كل ذلك لا تريد أن تصدق ما تلمسه من واقع فتحاول أن تنتحل لموقفه هذا شتى الاعذار ، وتبرره بمختلف التبريرات ، لعله مشغول ، أو لعله يخجل من الكتابة ، أو لعله يكتب فلا تصل رسائله ، وكان هذا العذر الأخير هو أحب الأعذار إليها فان مما يسعدها أن تتصوره يكتب إليها كما يكتب غيره ، ويهتم بأمرها ويفكر بها كما تهتم بأمره ، وتفكر فيه ، وهي في كل ذلك تنتظر عودة أخته من السفر بعد انتهاء السنة الدراسية لعلها تعرف منها شيئا عن أخيها ، وكانت تحاول أن تصرف نفسها عن التفكير بكثرة المطالعة والكتابة ، وفي مرة ، وكانت تجلس في غرفتها تقرأ ، دخلت عليها رحاب ، فاستغربت قدومها ولم تعودها ذلك من قبل ، ولهذا فقد رحبت بها واستقبلتها بحفاوة ، فجلست رحاب على طرف السرير ، وكان الارتباك يظهر عليها

  امرأتان ورجل   28

بوضوح ، وكأنها لا تعرف ماذا يجب أن تفعل ، فابتدرتها حسنات قائلة : أراك لم تذهبي إلى وظيفتك اليوم يا رحاب أرجو أن لا تكوني مريضة ؟ فهزت رحاب رأسها في حيرة ثم قالت : الواقع أنني كنت أشعر بصداع شديد ولهذا فقد اتصلت بصديقتي هناك وطلبت منها تقديم إجازة بدلاً عني ، ولكنني الآن أشعر بالسأم فهل عندك كتاب أقرأ فيه ؟.
   فاستغربت حسنات من أختها هذا الطلب ، وأختها تعلم أنها لا تملك الكتب التي تعجبها هي ولكنها لم تشأ أن تصدمها في الجواب فقالت : أمامك كتبي فتشي بينها عما يعجبك يا رحاب...
   فنهضت رحاب وأخذت تفتش بين الكتب وحسنات تتطلع اليها لتعرف أي كتاب سوف تختاره ، وفوجئت عندما وجدتها تخار كتاب قصة الايمان ، وكتاب موكب النور في سيرة الرسول ، وكأن رحاب لم تعرف كيف تتصرف أمام أختها وبماذا تفسر لها رغبتها في مطالعة هذه الكتب ، ولهذا فقد أسرعت بالذهاب إلى غرفتها قبل أن تسأل وتجيب ، أما حسنات فقد شعرت بالفرحة ، فما أحلى أن تعود رحاب أختها إلى حضيرة الايمان لقد أسعدها أن تجد أختها الضائعة السادرة في التيه وقد بدأت تفتش عن معالم الطريق ، أسعدها ذلك وأشغلها عن مشاعر الألم لديها إلى فترة . فقد أخذت تتصور رحاب وقد آمنت والتزمت بتعاليم الاسلام ثم يتقدم

  امرأتان ورجل   29


   إليها خاطب مؤمن صالح مثل مصطفى ... وهنا وقف بها التفكير عند هذا ... مصطفى وكيف هو مصطفى يا ترى ؟ وعادت افكارها القاتمة تلح عليها من جديد فعادت إلى الكتاب الذي بين يديها تستجمع أفكارها بين سطوره من جديد أيضاً.

*   *   *

   اندمجت رحاب مع مطالعة الكتابين ، ولكنها لم تغفل عن الكتابة إلى مصطفى فقد أصبحت تشعر بالحاجة إلى المزيد فكتبت إليه تقول :
   عزيزي مصطفى
      لعلني أبطأت عليك في رسالتي ، ولكن مطالعة الكتابين الذين طلبت مني مطالعتهما قد شغلني إلى حين .. والآن دعني أقول لك بأنك تتحدث بأسلوب لطيف ، ومقنع ( إلى حد ما ) وقد قرأت سيرة الرسول التي أرشدتني اليها ، وعشت معها أياماً حلوة ، وعرفت منها ما لم أكن أعرف عن محمد بن عبدالله ، كما أنني بدأت أقرأ قصة الايمان ، وقد وجدتها تجيبني عن أكثر من سؤال ، كما يراودني ويلح علي ، فقد كنت مثلاً ولا أزال لا

  امرأتان ورجل   30

      افهم كيف يمكن لي أن أعبد رباً لم أره ، ولم تدركه الحواس الخمس التي هي مصدر كل ادراك ! أو ليس في هذه العبادة شيء من التقليد القائم على الوهم ؟ يؤسفني أن أزعك بهذه التساؤلات ، ولكنني أصبحت أشعر بالحاجة لردك عليها ، وهذه الحاجة أخذت تسلمني إلى الكثير من القلق ، فلعل في رسائلك أو في قصة الايمان ما يهبني الاستقرار ، هذا وأرجو لك كل خير وأطلب منك العذر.

      حسنات
*   *   *

   وصلت رسالة رحاب إلى مصطفى وكان ينتظرها ليحدد موقفه منها على مدى ما تحمله أو تشير إليه من تجاوب ، فلو وجدها سلبية بالمرة لسقط عنه الواجب الشرعي تجاهها لعدم احتمال الفائدة ، ولو وجدها تحمل بعض مراتب التجاوب فسوف يستمر واجبه الشرعي تجاهها كانسانة ضالة ، وليس كزوجة ، فهو لم يعد يفكر بها كزوجة وشريكة حياة مع ما هي عليه من وضع منحرف ضال ، ولكنه عندما وجدها قد اقتنعت بما كتب ، وقرأت ما اقترح ، وها هي تسأله من جديد ، وجد أن عليه أن يكتب فكتب إليها ما يلي :

  امرأتان ورجل   31

بسم الله الرحمن الرحيم

      السلام عليك يا حسنات ورحمة الله وبركاته ...
      الحمد لله الذي جعلني أكتب اليك بروح تفاؤلية جديدة ، فقد استبشرت بما كتبتِ ، وقد رحبت بالسؤال الذي وجهتيه إلي ، فهو دليل على رغبتك بالمعرفة ، ولكن جوابي لك في هذه المرة قصير ، بل أنه ليس بجواب ولكنه سؤال ، ولهذا أرجو أن تجيبني عن هذه النقاط :
      1ـ بماذا يختلف الانسان عن الحيوان في الادراك ما دام يتساوى معه في أفعال الحواس ؟
      2ـ هل تؤمنين بالوجود والعدم ؟
      3ـ هل اتفق لك أن قلت عن شيء أنه محال أو مستحيل ؟
      هذه أسئلة قصيرة أرجو أن تجيبي عنها مشكورة هذا ولك مني أصدق الأماني.

      مصطفى


  امرأتان ورجل   32

   استلمت رحاب رسالة مصطفى وهي على لهفة الشوق لمعرفة ما تحمل اليها من جواب ، فوقفت أمام أسئلته حائرة وعز عليها أن لا يتاح لها فهم ما يريد من هذه الأسئلة ، ولهذا فقد لاحظت وجود حسنات في غرفتها فذهبت إليها وهي أكثر ارتباكاً من المرة السابقة لأنها كانت كلما ازدادت وعياً بوجود الله ازدادت إحساساً بتأنيب الضمير والجناية بالنسبة لحسنات ، ولكنها لم تجد طريقاً إلى معرفة أجوبة ما يريده من السؤال إلا بالاستعانة بحسنات ؛ ولهذا فقد ذهبت إليها متجاهلة عوامل الارتباك الموجودة لديها ، فرحبت بها حسنات ، وكانت خلال الفترة الاخيرة قد بدأت تنفتح لرحاب وتتقرب نحوها بعد أن رأتها تهتم بمطالعة الكتب الدينية ، فجلست رحاب وهي في هذه المرة لا تعرف إسماً لكتاب معين ، ولهذا فقد كان عليها أن تطلب من حسنات إرشادها إلى الكتاب المطلوب ، ولم تعرف كيف تبدأ فجلست ساكتة ، فابتدرتها حسنات قائلة : أرجو أن تكوني قد أكملت مطالعة الكتابين يا رحاب ؟ فردت رحاب باقتضاب : نعم. قالت حسنات : وهل أعجبك ما قرأت ياأختاه ؟ فردت رحاب وبنفس الاسلوب المقتضب : نعم. وهنا أحست حسنات أن رحاب تعاني ارتباكاً تريد أن تغطيه بالسكوت ، وأحست أن لديها حاجة ، ولا شك أن حاجتها كتاب فليس لديها مما تحتاجه رحاب سوى الكتب ، ودفعتها العاطفة الأخوية والمسؤولية الدينية إلى مداراة مشاعر رحاب وعدم

  امرأتان ورجل   33

محاسبتها على تقليص الجواب ، ولهذا فقد أردفت تقول بنغمة رقيقة مفعمة بالعواطف : إن جميع كتبي أمامك وأنت مختارة أن تقرأي فيها متى رغبت حتى لو لم أكن موجودة ، والآن ألا تريدين كتاباً يا رحاب ؟ قالت رحاب بصوت متذبذب : نعم أنني أريد ولكنني لا أدري ماذا أريد ! فلم تظهر حسنات أي استغراب ولكنها أجابت بنفس الأسلوب الهادىء الرقيق : كتب تاريخ ؟ كتب علوم ؟ كتب أخلاق ؟ كتب عن الايمان بالله ؟ قولي أي نوع من هذه الكتب تريدين ؟ قالت رحاب : أريد عن الايمان بالله . فحبذت حسنات اختيارها ثم أعطتها كتاب الايمان والعقل ، وكتاب الآخرة والعقل ، من تأليف محمد جواد مغنية ، وأعطتها أيضاً كتاب العلم يدعو إلى الايمان ... فأخذت رحاب الكتب وذهبت إلى غرفتها واستلقت على سريرها تستعيد كلمات حسنات الرقيقة ، وانعطافها نحوها خلال الفترة الأخيرة ، ومساعدتها لها في تنظيم غرفتها وخياطة فستانها ووضع جميع كتبها تحت تصرفها ، ولم يسعها بعد ذلك إلا أن تقول : يا لي من مجرمة ؟ ثم حدثت نفسها قائلة : لماذا لا أترك هذه اللعبة الخطرة ؟ لماذا لا أنسحب عن حياة هذه الفتاة المسكينة ؟ ولكن كلا فلا تسعني العودة قبل أن أبلغ نهاية الشوط ، لأنني أحس بحاجتي لأن أسمع من مصطفى ما يوضح لي هذه الصور الغامضة ، ولو حدث واعترفت بالحقيقة فسوف لن أحمل منه ومن الجميع

  امرأتان ورجل   34

بعد ذلك سوى المزيد من التحقير والتنكيل ... كلا لم يعد يمكنني التراجع...
   وبعد أيام كتبت إلى مصطفى تقول :
   عزيزي مصطفى
      لقد أردت أن أعرف ما تريده من الأسئلة قبل الجواب ، ولهذا فقد حاولت وحاولت وذهبت أفتش عن كتب تبحث في وجود الله عسى أن ترشدني إلى الهدف الذي يستتر وراء كل سؤال ، فأنا لا أريد أن أكون معك كتلميذة صغيرة تملي عليها الأفكار على شكل مفاجأة ، وكلفني ذلك أن أقرأ أكثر من ثلاثة كتب عدى قصة الايمان التي كنت قد انتهيت منها قبل وصول الأسئلة ، ولا أكتمك أنني عندما بدأت أقرأ كانت همتي متوجهة لنقطة واحدة : هي فهم ما تريد قبل أن تقوله أنت ولكن طبيعة الفكرة في الكتب وتناولها لأكثر ما كان يعشعش في ذهني من تساؤلات جعلني اندمج مع القراءة لغاية التفهم والاطلاع ، ولكني ( مع الأسف ) لم أعرف كيف استخلص من

  امرأتان ورجل   35

      مجموعها الأجوبة المتوخاة ، ولهذا أجدني مضطرة لأن أسمع جوابها منك بعد أن أعطيك جوابي عنها وهو :
      أولاً : أما بالنسبة للفرق بين الانسان والحيوان ما دام يحمل نفس ادراكات الحواس الخمس فهو العقل. إذ أن الانسان قادر على التفكير المجرد على العكس من الحيوان.
      ثانياً : أما عن الوجود والعدم فهو أمر لا خلاف فيه فإن كل عقل يدرك بأن هناك وجود وهناك عدم.
      ثالثاً : وأما عن المحال والمستحيل فهو أمر واضح وكثير الوضوح في أغلب الحالات إذ يستحيل علينا مثلاً أن ندخل الجمل في سم الخياط.
      هذه أجوبة ما سئلت فما هو جوابك بعدها يا ترى ؟
      اتمنى لك كل الخير واستميحك العذر.

      حسنات
*   *   *
Next