الفصل الخامس


   دخلت سعاد غرفتها وهي تشعر بانهيار شديد ، فهي تخشى أن تكون نقاء قد لاحظت عليها شيئاً من ارتباك ، أو قرأت على ملامحها ما كان يعتلج في صدرها من انفعالات وهي تتردد في النظر إلى صورة إبراهيم ، ثم وهي تنظرها أخيراً ...
   وألقت بنفسها على السرير ، وأطلقت لفكرها العنان ، فكرت في أنها غامرت بذهابها إلى نقاء... فماذا لو كان إبراهيم قد رجع من سفرته القصيرة ؟ وماذا لو كان قد صادفها هناك ؟ أو ماذا لو كانت نقاء قد لاحظت عليها ما يريب ؟ وذلك يعني أنها لا تتمكن أن تحقق غايتها في الانتقام على الوجه الذي تريد ، فهي قد سحقت كبرياءها ولم تظهر الغيظ من عودة نقاء وعدم انتظارها عند الخياطة مع أنها لم تتأخر كثيراً ، لكي لا تخاصم نقاء ، والخصام معها يعني ابتعادها عنها ، وهي لا تريد أن تبتعد عنها في هذه الظروف ، حتى تنتهي من مؤامراتها الانتقامية ، فهي لا تريد أن تترك نقاء إلا بعد أن تسمم ذهنها بالأفكار التي تعتنقها هي ، والتي

  الفضيلة تنتصر   58

تعلم واثقة أنها أفكار ضالة موبؤة لا تجلب لصاحبها غير الخسران والحرمان ، كانت تريد أن تلقي بينهما نفس السد الذي حال بينها وبين إبراهيم . وأرقت ليلتها وهي تفكر... ولم تخرج في تلك الليلة على خلاف عادتها في باقي الليالي ، وأفاقت في الصباح فاستحمت وارتدت ملابسها ، ثم استدعت خادمتها الخاصة سنية ، وجاءت سنية وهي امرأة شابة لا تتجاوز العقد الثالث من عمرها ، ولا تخلو من لمحة جمال ، وكانت المساحيق والأدهان تعلو وجهها بوفرة ، وقد صففت شعرها على أحدث طريقة ، فحيت سيدتها ووقفت تنتظر ، فصعدت سعادة نظرها فيها وتأملت أناقتها ، ثم سألتها :
   ـ هل إتصل بي أحد في التلفون يا سنية ؟!.
   ـ إن سيدي لم يخرج لحد الآن ، ولذلك فهو يرد على كل نداء.
   ـ وأمس عصراً حينما لم أكن في البيت ألم يطلبني أحد ؟
   ـ كان سيدى في غرفته وكان التلفون معه أيضاً ؟
   ـ أو لم يخرج سيدك أمس أيضاً ؟
   ـ لا ...
   ـ وليلاً يا سنية هل خرج سيدك ؟
   ـ لا ، لم يخرج مطلقاً.
   ـ لعله مريض...

  الفضيلة تنتصر   59

   ـ لا أدري.
   ـ أو لم يزره أحد يا سنية.
   ـ أبداً.
   ـ هل أنت على يقين من ذلك ؟
   ـ ثقي يا سيدتي إني لا أتجسس على سيدي مطلقاً.
   ـ ومتى كلفتك أن تتجسسي عليه .. انصرفي الآن.
   واستدارت سنية لتخرج ، ولكن سعاد استوقفتها قائلة :
   ـ سينة ...! أنا لا أحب منك هذا الافراط في الأناقة ... إن من يراك يظن أنك في حفلة ساهرة ، إذهبي وصففي شعرك بطريقة أقل إثارة ، وخففي من مكياجك الصارخ...
   ـ ولماذا يا سيدتي ؟ أو لست حرة بالتصرف في شعري ووجهي.
   ـ هل رأيت قبل الآن من تعمل تسريحة كتسريحتك هذه ؟ وتعمل مكياجاً صارخاً مثل هذا المكياج في الصبح وفي رابعة النهار ؟
   ـ إنك ـ أنت ـ يا سيدتي تذهبين كل صباح إلى محلات التجميل قبل أن تبدأي جولتك النهارية !!
   ـ أنا سيدة متزوجة والمجتمع يحتم على ذلك.
   ـ لم يتفق لسيدي أن رآك مرة وأنت على زينتك يا سيدتي

  الفضيلة تنتصر   60

إلا في بعض الحفلات ، فهو لا يصل إليك إلا بعد أن تكوني قد أنهكك التعب وأعيتك الأناقة ...!
   ـ أنت لا تفهمين ما تقولين يا سنية ! كيف تجرئين على مخاطبتي بهذه اللهجة ؟ هل أنت سوى مجرد خادمة يمكنني طردك في كل ساعة ؟
   ـ أحقاً أنك تستطيعين طردي في أي ساعة يا سيدتي ؟!
   ـ نعم أو لست سيدة البيت ؟
   ـ فلماذا لا تطردينني إذا يا سيدتي ؟
   ـ أنت تغيظينني كثيراً يا سنية !
   ـ أبداً لا أتعمد إغاظتك يا سيدتي ، ولكن أقول أنك تستطيعين أن تطرديني بسهولة.
   ـ أغربي عن وجهي يا سنية ! كفاك هذراً ووقاحة ، فأنا لا استطيع أن أنظر إليك أكثر من هذا.
   ـ أنت مخيرة في ذلك ، ولكن أنا أحرص دائماً أن أنظر إليك كما نظرت من قبل . ورانت على وجه سعاد صفرة باهتة ، وقدحت عيناها بشرر مخيف ، ولكنها جاهدت نفسها لكي لا تصفع هذه الماثلة أمامها بكل صفاقة ، والمتحدية لها بأسلوب لاذع ، فهي كانت تعلم أنها مشدودة إلى سنية بحبل شائك لا فكاك لها منه ولا خلاص ، ولذلك فقد حاولت أن تسيطر على أعصابها ورققت صوتها وأجابت قائلة : أنت

  الفضيلة تنتصر   61

تعلمين أنك أثيرة لدي يا سنية ، ولكني اليوم ضيقة الصدر ، وأردت أن أنفس عني قليلاً.
   ـ أنا على ثقة من ذلك يا سيدتي ! ولكن أردت أن أنبهك إلى بعض الظروف فقط ، والآن هل تسمحين لي بالانصراف ؟
   ـ طبعاً طبعاً فقد أخرتك كثيراً يا سنية ! وخرجت سنية وهي تتمايل في مشيتها وتتهادى وتابعتها سعاد بعينين تقدحان شرراً وحقداً ، وتمتمت قائلة : يا لها من أفعى سامة تستغل ما تعلمه عني لاهانتي والتنكيل بي ، ولكني جبانة فما الذي أخشاه منها ؟ وماذا عساها أن تقول ! وأي فضيحة سوف تعلنها لو طردتها شر طردة ! لماذا أخاف ! وأي شيء أخشى ، والمجتمع الذي أعيشه يؤكد على إعطاء الحرية الكاملة للمرأة ، وأن المرأة والرجل متساويان في استعمال حريتهما العامة ...؟! نعم ، لماذا أخاف سنية ! وعند من تنوي أن تفضحني ! وجميع من حولي قد أثقلت كواهلهم الآثام ، وزخرت حياتهم بالخطايا والزلات ، نعم لست أخشى أحداً غير محمود ، فهو لا يزال يجهل واقعي الذي أعيشه ، وقد دفعته إلى ما يلهيه عن كل شيء ، وسنية قادرة على إثارته لو أرادت ، ومحمود يعني عندي الشيء الكثير ، فهو الثراء والغنى ، وهو المال الذي يخضع له كل شيء ، ولا يقف أمامه شيء ، ولذلك فإن عليّ أن أوطن نفسي على تحمل هذه العقرب اللعينة ، إنها تتحداني بكلماتها ، وقد عرفت ما كانت تعنيه ، ولم يعتكف

  الفضيلة تنتصر   62

محمود في البيت إلا لأجلها ، وهي كانت تحاول أن تفهمني ذلك بكل صفاقة ، ولكني مشدودة إليها على كل حال ، ليتني كنت قد صرفتها من البيت مع سفر محمود ، إنها كانت غلطتي في الواقع ، ولكنها إنتهت على كل حال ، والان فإن عليّ أن أذهب إلى غرفة محمود...
   ونهضت متثاقلة ، والتفت بردائها الحريري. وذهبت إلى غرفة محمود ، ولم تشأ أن تطرق عليه الباب ، فقد أرادت أن تفاجئه لترى الحالة التي هو عليها ، ففتحت باب الغرفة ، وتطلعت إلى الداخل لترى محمود جالساً يستمع إلى أنغام الموسيقى ، وهو في كمال حيويته ونشاطه ، فدخلت إلى الغرفة وهي تقول : ما شاء الله كنت أظنك مريضاً يا محمود ! ولكنك في أتم الصحة والحمد لله ، وابتسم محمود ابتسامة تهكمية ، ثم قال : أنا اليوم على أحسن حال يا سعاد ... ! فما الذي أوحى إليك إني مريض ؟.
   ـ عدم خروجك من البيت اليوم وأمس ، على خلاف عادتك في باقي الأيام !.
   ـ وما يدريك يا عزيزتي بأني كنت أخرج في كل يوم ، فأنت تخرجين قبل كل خارج وتعودين بعد كل عائد !.
   ـ وهل من المعقول أن تقضي أيامك كلها في البيت ؟
   ـ إن الليالي تكفيني يا سعاد.

  الفضيلة تنتصر   63

   ـ أنت تتحداني بكلامك هذا يا محمود !
   ـ أبداً يا عزيزتي ، ولكني منذ أيام أشعر برغبة ملحة للبقاء في البيت.
   ـ وبأي شيء تقضي أوقاتك يا محمود ؟
   ـ أطالع الكتب وأستمع إلى الأخبار.
   ـ عظيم ، متى أصبحت هكذا يا عزيزتي ؟ بل أين لك الكتب التي تطالعها ؟ وهل هناك خبر عالمي يهتم به شخصك الكريم ؟!.
   ـ أنت تتجنين عليّ يا عزيزتي ! فأنا لست من الغباء بالمقدار الذي تظنين.
   ـ الآن صارحني بالحقيقة يا محمود ، ما الذي قعد بك أمس عن الخروج ؟
   ـ لقد قلت لك يا عزيزتي ، إني منذ أيام لم أخرج طول النهار من البيت غالباً ...
   ـ ولماذا ؟!.
   ـ لدي شؤون مهمة يتحتم عليّ قضاءها هنا يا سعاد !
   ـ وهل أن شؤونك المهمة مقصور قضاؤها على البيت ؟
   ـ نعم نعم بالضبط.
   ـ أتعلم يا محمود بأنك تغيظني كثيراً ..!

  الفضيلة تنتصر   64

   ـ ولماذا يا سعاد ؟. هل أن بقائي في البيت يغيظك إلى هذا الحد ؟!.
   ـ طبعاً ، فأنا أفهم ما تعنيه من بقائك في البيت هذه الأيام ، ولكن أريد منك أن تكون صريحاً على طول الخط ...
   ـ وهل كنت صريحة معي عندما امتنعت من السفر برفقتي إلى حلب في الشهر الماضي ؟..
   وهل قدمت لي حجة معقولة تقضي بتخلفك عنى في دمشق وبقاؤك وحدك هنا لمدة أسبوع ؟
   وتجهم وجه سعاد وهي تستمع إلى زوجها يتحدث ، ثم قالت : أنت تنتقم مني إذن يا محمود ؟
   ـ وهل كان موقفك ذاك حركة عدائية لكي تعتبريني في دور الانتقام ؟ لا ، أنا لا أنتقم ولكني هكذا كنت ، وهكذا سأكون ... أخرج متى يحلو لي ، وأبقى في البيت متى أريد ، إنه بيتي أنا يا سعاد ! لعلك نسيت ذلك.
   ـ ولكن سنية وصيفتي أنا يا محمود..
   ـ ولكن راتبها مني يا سعاد ! وأنا سيدها الواقعي.
   ـ أنا أتمكن أن أطردها وأحرمك منها متى أشاء.
   ـ أبداً أنت لن تفعلي ذلك ، وأنت تعلمين ذلك جيداً.
   ـ ماذا تقصد يا محمود ؟
   ـ لا شيء لا شيء مطلقاً .. فقط إني أقصد أن نضع بيننا هدنة.

  الفضيلة تنتصر   65

   ـ آه أتساوم يا محمود !
   ـ لك أن تسميها ما شئت يا عزيزتي ! مساومة ، هدنة ، تعادل قوى ، فرص متكافئة ، أنت حرة في التسمية كما أنت حرة في كل شيء.
   ـ أنت تسحق أعصابي سحقاً يا محمود ..!
   ـ وأعصابي يا سعاد ؟!
   ـ إنها من حديد...
   ـ ولكنك تتمكنين أن تحطمي الحديد يا سعاد !
   ـ هل حقاً أنا قوية إلى هذا الحد ؟!
   ـ وأكثر بكثير...
   ـ إذن فنحن متكافئان ...
   ـ لا بل أنك أنت المتقدمة في الصراع ، فما أنا إلا نتاج يديك في هذا الضمار.
   ـ من دواعي فخري أن أكون كذلك.
   ـ فافتخري إذن يا سعاد ! والآن أي ريح طيبة دفعتك إلى غرفتي يا عزيزتي.
   ـ أنا لا أصدق أن الحب ساقك إليّ فهل أنت في حاجة إلى مال ؟ أنت لم تدخلي غرفتي منذ زمن طويل ، فاشرحي لي الأسباب التي دعتك إلى هذه الزيارة.
   وهنا أردفت سعاد في دلال قائلة : غير المرغوب فيها طبعاً.
   ـ بل الزيارة التي تقت إليها كثيراً.

  الفضيلة تنتصر   66

   ـ هل أنك لا تزال ترغب في زيارتي يا محمود ؟
   ـ أو تشكين في ذلك يا سعاد ! إن حبي لك هو الذي حملني على الصبر عليك طيلة هذه المدة على أمل أن تمني عليّ بنظرة ، أو تعطفي بلفتة ، وأنا أصارحك ! أني تعيس بهذا الحب ، ولست سعيداً به أبداً ، ولكني أحبك يا سعاد ، ولا أطيق عنك فكاكاً ، وشعرت سعاد أن عليها أن تلبس لبوس الرقة والدماثة ، وأن تحاول أن تستبقي مكانتها في قلب محمود ، وإن كانت تزدريه وتنفر منه ، ولكن سلطان المال كان عندها أقوى من كل عاطفة ، وقد حطمت الحضارة الكاذبة كبرياءها وجردتها من عزتها الأنثوية ، ولذلك فقد صممت على أن تسعى لاستمرار سيطرتها على محمود ، وإن كانت غريمتها الحالية خادمتها سنية ، فهي لا تستطيع أن تعيش يوماً وأحداً بدون أموال محمود ، فطبعت على وجهها ابتسامتها الكاذبة التي كانت تتمكن أن تطبعها حيث تريد ولمن تريد.
   ـ ورققت صوتها ، وأسبغت عليه نغمة عذبة حنوناً ، وقالت في دلال : أنت تظلمني يا محمود ! فإن عندي من الحب أضعاف ما عندك يا عزيزي ، ولكن مشاغل الحياة هي التي تحول بيني وبين الارتواء من معين حبك الغالي ... وأسكرت هذه النغمة محمود ، وأنسته جميع خيانات زوجته ، وأنسته ايضاً رفيقاته وصديقاته وسنية وغيرها من النساء ، ولم يعد يشعر إلا بسعاد وهي تكلمه بنغمة طال به الشوق إليها

  الفضيلة تنتصر   67

وعادت به هذه الكلمات إلى أيام خطوبته منها وقت أن كانت تسكب في أذنيه أعذب آيات الغرام ، ففتح ذراعية لها وهو يقول :
   ـ أنا لا أزال رهن هواك يا سعاد ! فلا غنى لي في حياتي عنك أبداً ، وجاهدت سعاد كثيراً قبل أن تستجيب لذراعيه ، وهي تشعر بحالة تقزز ونفور ، ولكن هو المال والثروة قد ذهبا بعزتها لأنها تعبد المال وتتغنى بالثروة...

Next