الفصل الثاني

   أما سعاد فقد استقلت سيارتها ، وانطلقت بأقصى سرعة ، وكأنها كانت تحاول أن تصب جام غضبها على هذه الآلات المتحركة ، وعندما وصلت الدار توجهت إلى غرفتها دون أن تعرج على الصالون ، لترى زوجها هل رجع أم لا ؟ وألقت بنفسها على الكرسي وهي في حالة انفعال عصيب. وتمتمت قائلة :
   ـ الويل له من عنيد ، ألم يكفه أنه ردني عن نفسه ذلك الرد القاسي حتى جاء لينكث جراحي ، فخطب نقاء ، فهو يظن أن نقاء تنسجم مع مفاهيمه ومثله ، وهي التي لا ميزة لها عليّ إلا لتوهمه أنها فتاة فاضلة ... أنا التي سعيت إليه بنفسي قبل أربع سنوات ، لم يستجب لتوسلاتي بحجة أني طائشة ومنحرفة عن آداب الاسلام ، الاسلام الذي يؤمن بمفاهيمه ، ولكنه سوف يعلم أن نقاء هذه لن تكون غير غانية لعوب ، سوف أعرف كيف أنفث فيها السم الذي تجرعته من قبل ، والذي أدى إلى ما أنا عليه من ضيعة وتفاهة في الحياة ، سوف أسدد نحوها نفس السهم الذي أرداني وحرمني من إبراهيم ،

  الفضيلة تنتصر   26

سهم الحضارة الحديثة ، سوف أجعلها واحدة من آلاف الفتيات المخدوعات اللواتي سرن وراء النفير الأجنبي فتحطمت حياتهن من جراء ذلك ، أو لست واحدة منهن ؟ ... ألم أضطر أخيراً إلى الزواج من هذا الرجل التافه على أمل أن أشبع نهمي إلى المال وأتمتع بما تصبو إليه نفسي من متعه ولهو ؟ ... ألم أخضع لسلطان ماله فتجرعت مجونه وتبذله لكي أبقي على الذهب بين يدي ؟ .. سوف أحرم نقاء من إبراهيم كما حرمني نفسه من قبل. سوف لن أمكنه من الحصول على غايته المنشودة ، فهو كان يسعى خلف زوجة مثالية مسلمة مستقيمة ... وسوف أريه أن ذلك محال ، سوف يعرف أن نقاء لا تختلف عن سعاد لو أتيحت لها الفرصة ، أنه يذهب للحصول على شهادة الدكتوراه في الوقت الذي لم يحصل زوجي حتى على شهادة جامعية أولية. محال أن أدع نقاء تنعم بزوج كإبراهيم ، أنا كنت أعرف أنه رجل عبقري صلب العقيدة ولكنه عنيد رجعي مغرور.
   وهنا شعرت سعاد أن باب غرفتها يفتح ببطىء ، فتطلعت نحوها لترى زوجها محمود وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة تخابث ثم قال :
   لقد ظننتك مريضة يا سعاد وأنت تتجهين إلى غرفتك دون أن تعرجي عليّ ، والان هل لي أن أدخل ؟ ...
   ـ وحاولت سعاد أن تبدو طبيعية ، وهي ترد عليه قائلة :

  الفضيلة تنتصر   27

   ـ كنت أشعر بصداع شديد منعني أن أعرج على الصالون.
   ـ ولكنك الآن في صحة جيدة ، ثم هل أن جلوسك على هذا الكرسي وأنت في كامل ملابسك شيء مريح ؟
     أم أن مجرد رؤيتي بالخصوص كانت تتعبك يا سعاد ؟
   ـ أرجوك يا محمود ... أراك لا تتوانى عن إثارتي في كل مناسبة ، أنا لم أكن أعرف وجودك في البيت.
   ـ شكراً .. ألم تلاحظي وقوف السيارة في الباب ؟!..
   ـ أبداً ... فقد فاتني ذلك.
   ـ لابد أنك كنت في شغل شاغل عن ذلك.
   ـ قلت لك : أنني كنت أشعر بصداع شديد.
   ـ ولكنك الآن على ما يبدو في أحسن صحة والحمد لله ؟
   ـ محمود ... ما لي أراك تأبى إلا أن تغيظني بأية طريقة ؟
   ـ معاذ الله يا سعاد ، فما أنا سوى واحد من عشرات الراكعين على قدميك ، قدميك ، و...
   ـ يكفي يا محمود ، أنا أعرف كلماتك وأقاويلك مقدماً

  الفضيلة تنتصر   28

فلا داعي لتكرارها ، فأنا أصبحت أتمكن أن أخمن ما الذي سوف تتحفني به من حكم وآيات.
   ـ وهل تروقك الحكم يا سعاد ؟ أو هل تتمكني أن تفهمي حكمة واحدة لو كنت حكيماً ؟ إن من حسن طالعك أن ساقني الحظ إليك ، فأنت لا تكوني تصلحي لزوج سواي.
   ـ وأنت ، هل أن هناك امرأة كانت تطيقك غيري وأنت على ما عليه من تفاهة في الحياة ؟ أنت تتكلم عني وتنسى نفسك.
   ـ وكيف ؟ هل أنا سيء إلى هذه الدرجة ؟.
   ـ المهم أن تعرف أني لو لم أكن زوجة ممتازة لما تحملتك يوماً واحداً فليس لديك ما يحببك إلى المرأة.
   ـ فلماذا إذن رضيت بي زوجاً ؟ ولماذا طلبت مني ذلك ودعوتني إليه ؟!.
   ـ يا لك من رجل وضيع ...
   ـ لا بأس يا سعاد ، أنا أعلم أن عندي ما يشدك إليّ ، أنت تعبدين المال وعندي منه الشيء الكثير ، وعندك أيضاً ما يشدني إليك فأنا أعبد اللذة والجمال وعندك

  الفضيلة تنتصر   29

منهما الشيء الكثير ، ثم أني أريد أن أعيش حراً ، فلابد وأن تكون زوجتي حرة أيضاً ، وعلى هذا فإن كلاً منّا مشدود لصاحبه.
   ـ هل انتهيت يا محمود ؟
   ـ لا ... فمنذ يومين لم أتمكن أن أراك لحظة واحدة ، لياليك في الحفلات ... وساعات نهارك في محلات التجميل ... وكأنك قد نسيت أن لك زوجاً وبيتاً ... لا أدري ماذا كنا سنصنع لو كان لدينا طفل ؟
   نطق محمود بكلمته الأخيرة بمرارة وكأنه ينتزعها من فمه انتزاعاً ، ولكن سعاد لم تهمله لكي يكمل هجومها عليها ، فقد وقفت وهي تقول : أرجوك أن تتركني وحدي يا محمود أنا تعبانة ومريضة أيضاً ، ولابد لي أن أنام.
   ـ إذن فأنتِ لا تريدين أن تتناولي معي طعام العشاء.
   ـ لا ، مطلقاً ، إذهب عني يا محمود فإن حالي ليس على ما يرام.
   ـ أهكذا تطردينني يا سعاد ، ماذا لو ذهبت إلى غير رجعة ؟.
   وكادت سعاد أن ترد عليه قائلة : إذهب لا أرجعك الله ... ولكنها سرعان ما تمالكت عواطفها ، فمحمود بالنسبة

  الفضيلة تنتصر   30

لها رصيد ضخم من المال ، فهل يصح أن تتنازل عن هذا الرصيد ؟ أنها لا تحب محمود ، بل أنها تحتقره وتنفر منه ، فهو لا يعدو عن كونه وجوداً تافهاً في الحياة ، لا يملك غير المال ، وحتى أساليب لهوه ومجونه هي التي علمته إياها ودلته عليها ، لكي يتسنى لها أن تعيش معه وهي حرة كما تريد ، ولكن أمواله وبريق الذهب المكدس في صناديقه ، وداره الفخمة الشاهقة ، وسيارته الفارهة ، لم يكن في مقدورها التنازل عن كل هذه الأمور ، ولهذا فقد حاولت أن تطبع على وجهها ابتسامة كانت قد اعتادت أن تأتي بأمثالها متى شاءت ولمن شاءت ، ثم قالت :
   ـ أنت تعلم يا محمود أنك إذا ذهبت عني فلن تطيب لي الحياة بدونك ، ولكن الصداع ـ وفي نفسها تقول الصراع ـ هو الذي يدعوني إلى الانفراد بنفسي والركون إلى الراحة.
   ـ ليتك لم تكوني جميلة ، أو ليتني لم اكن عبداً لملذاتي ، إذن لعرفت كيف أتصرف معك ، وكيف أميت فيك هذا الغرور ، لابد أنك تودين لو تقولين لي : ليتك لم تكن غنياً ، فدعيني أنا أقولها بدلاً عنك : ليتني لم أكن غنياً ، إذن لما وقعت في أحابيلك الشائكة.
   ـ يا عزيزي ! أنت تتجنى عليّ كثيراً فأنا لا أحب فيك إلا شخصك الكريم.

  الفضيلة تنتصر   31

   ـ شكراً .. شكراً. وأخيراً أما زلت تصرين على إقصائي ؟
   ـ إن جل ما أرجوه أن تكون قريباً مني دائماً ولكن الآن أرجوك أن تنصرف فأنا في حاجة إلى النوم.
   ـ هكذا أنت دائماً ، كلماتك معسولة ، وأفعالك جارحة ، وها أنا ذاهب فإطمإني.
   ثم نهض محمود وغادر الغرفة دون أن يلقي عليها كلمة وداع ، وساء سعاد أن يتركها محمود غاضباً ، وخشيت إلى لحظة أن تكون قد فرطت فيه. ولكنها عادت إلى ثقتها بجمالها وباستحواذها عليه فرددت في نفسها قائلة :
   ـ إن هذا لا يهم فهو رهن إشارتي حين الطلب ، لا يكلفني إرضاؤه سوى بسمة واحدة أو كلمة عذبة ، فلأدعه يغضب حتى أنهي فكري من ناحية إبراهيم ، ذلك الرجل العنيد الذي احتقرني وازدراني بحجة المثل والمفاهيم ، والذي استهان بجمالي وفتوتي ولكوني سافرة ، ولكوني على حد تعبيره منحرفة.
   واستلقت في سريرها ، وقد نسيت كل شيء عن محمود ، وخصامها معه ، فلم يكن هذا بالنسبة لها الشيء الجديد ، وقد درجا عليه منذ اليوم الأول لزواجهما ، ولكن أفكارها كانت متجهة إلى ناحية واحدة ، ومتركزة في اتجاه واحد ، وهو

  الفضيلة تنتصر   32

كيفية الانتقام من إبراهيم ، ومن معتقداته وآرائه التي حالت به دونها ، فهي تسعى إلى أن تنتقم من إبراهيم في شخص نقاء ، وأن لا تدع نقاء تفوز به دونها ، أنها لن تترك نقاء تسعد وزوجاً كإبراهيم ، في الوقت الذي تعيش فيه هي مع زوج مثل محمود ، وسهرت سعاد ليلتها تفكر في أحسن طريقة للانتقام.

Next