والمرء هنا يطالعه حشد عظيم من الأدعية القصيرة والطويلة حسب اقتضاء المقام والتي ضمنها القادة المعصومون المفاهيم الكثيرة الصحيحة ، والتلقينات العقائدية الصافية ، والإيماءات التربوية العالية ، وذلك لتهيئة الذهنية لكي تدرك الشريعة ككل مترابط لا تنفصل أجزاؤه عن بعضها وهو يساهم كل المساهمة في عملية الرفد للجو القدسي . والمساهمة هذه تتناسب طردياً مع مقدار التفاعل مع المعاني الحية في الدعاء من قبل الداعي . . . هذا بالإضافة إلى أن الدعاء في نفسه يشبع جوعات ذاتية في الإنسان . والحقيقة هي أن مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) يحفل برصيد عقائدي تربوي أخلاقي ضخم متضمن في الأدعية الواردة عنهم ( عليهم السلام ) في شتى المجالات . ويمكننا أن نعرض ـ بإيجاز ـ نوعية المساهمة التي يقوم بها الدعاء في رفد شعور الصائم على صورة نقاط هي : أ ـ تهيئة الجو الروحي ، والصفاء القلبي الذي يجعل النفس مستعدة تماماً لتقبل عطاء الصوم . ويكون هذا تارة بتوفير الجو الذي تعود فيه الروح إلى طفولتها الصافية فتبكي ، وتتضرّع وتشكو وتعفر الخد وتتململ وتستعطف ، انها حينذاك تعبّر عن ضعفها أمام الجبار الخالق ، وهو الضعف الوحيد ـ كما يعبر أحد الكتاب الكبار ـ الذي يشعر معه المرء بالاعتزاز ، فيقوم الدعاء بتوفير مهمة التعبير عن هذه الحالة . سيدي أنا الصغير الذي ربّيته ، وأنا الجاهل الذي علّمته ، وأنا الطفل الذي هديته ، وأنا الوضيع الذي رفعته ، وأنا الخائف الذي أمنته . إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ، ولا بأمرك مستخف ، ولا لعقوبتك متعرّض ، ولا لوعيدك متهاون . لكن خطيئة عرضت ، وسوّلت لي نفسي ، وغلبني هواي ، وأعانني عليها شقوتي . وتارة اُخرى بالدفع إلى التوبة وتطهير النفس : أدعوك ـ يا سيدي ـ بلسان قد أخرسه ذنبه ، ربّ أناجيك بقلب قد أوبقه جرمه ، أدعوك يا رب راهباً راغباً راجياً خائفاً ، إذا رأيت ـ مولاي ـ ذنوبي فزعت ، وإذا رأيت كرمك طمعت . فإن عفوت فخير راحم ، وإن عذبت فغير ظالم . وما أنا يا رب ؟ وما خطري ؟ هبني بفضلك ، وتصدّق عليّ بعفوك * . ولا يستطيع الحرف أن يعبر عن لحظات العروج النفسي الرفيع . . . في سكنات الليل البهيم ، والسحر الهادئ الصامت حيث تنهال الدموع ، وتتكسر الكلمات على الشفاه ، وتتصاعد الآهات والاعترافات للخالق المنعم ، انها قمة الاستعطاف من العبد في جوّ هو القمة في القرب من المولى : اللهمّ إنّي كلما قد تهيأت ، وتعبّأت ، وقمت الصلاة بين يديك ، وناجيتك ، ألقيت عليّ نعاساً إذا أنا صلّيت ، وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت . ما لي كلما قلت : قد صلحت سريرتي ، وقرب من مجالس التوّابين مجلسي ، عرضت لي بلية أزالت قدمي ، وحالت بيني وبين خدمتك ، سيدي لعلّك عن بابك طردتني ، وعن خدمتك نحّيتني ، أو لعلّك رأيتني مستخفاً بحقّك فأقصيتني ، أو رأيتني معرضاً عنك فقليتني ، أو لعلك وجدتني في مقام الكاذبين فرفضتني ، أو لعلّك رأيتني غير شاكر لنعمائك فحرمتني . . . . ب ـ الاشتراك مع باقي أقسام روافد الشعور في الإشارة إلى ما توحي إليه . ففي مجال القسم الأول نراها تلقن الداعي أن يقول : وقد أوجبت لكلّ ضيف قِرىً وأنا ضيفك فاجعل قراي الجنّة . وبالنسبة للقسم الثاني نجدها تؤكد ما ذكرناه في أغلب المواطن : فهي تربي في الإنسان هذه الإرادة، وتدفعه لطلب العون على النفس دائماً : * وأعنّي على نفسي بما تُعين به الصالحين على أنفسهم ، واختم عملي بأحسنه . وهي تذكّره بالنعمة ، وتدفعه لحمد الله وشكره عليها : إلهي ربّيتني في نعمك وإحسانك صغيراً ، ونوّهت بإسمي كبيراً ، فيا من ربّاني في الدنيا بإحسانه وتفضّله ونعمه ، وأشار لي في الآخرة إلى عفوه وكرمه ، معرفتي يا مولاي دليلي عليك ، وحبّي لك شفيعي إليك. وهي تنمي لديه الحس الأخلاقي بالمواساة والتعاطف ومشاركة الآخرين في عواطفهم ومشاعرهم : اللهمّ أدخل على أهل القبور السرور ، اللهم أغن كلّ فقير ، اللهمّ أشبع كلّ جائع ، اللهمّ اكسُ كلّ عريان ، اللهمّ أقضِ دين كلّ مدين ، اللهمّ فرّج عن كل مكروب . . . . وتجعله يستعين بالله من النواقص : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكسل والفشل والهم والجبن والبخل ، والغفلة والقسوة ، والمسكنة والفقر ، والفاقة وكلّ بلية . وهي تذكر الإنسان بيوم القيامة وأهله بتصوير رائع في دعاء السحر : فما لي لا أبكي . . . أبكي لخروج نفسي . . . أبكي لظلمة قبري . . . أبكي لضيق لحدي . . . أبكي لسؤال منكر ونكير إياي . . . أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري ، أنظر مرّةً عن يميني ، واُخرى عن شمالي ، إذ الخلائق في شأن غير شأني ، لكلّ امرئ يومئذ شأن يغنيه ، وجوه يومئذ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ عليها غبَرَة ترهقها قَتَرة . اللهمّ إني أسألك خشوع الإيمان قبل خشوع الذل في النار . وهي تؤكد في النفس الإخلاص التام : وأبرِئ قلبي من الرياء والشك والسمعة في دينك حتى يكون عملي خالصاً لك . ولا تجعل شيئاً مما أتقرب به في آناء الليل وأطراف النهار رياءً ولا سمعةً ولا شراً ولا بطراً . وهي بتربيتها العقائدية تركز معنى العبودية المطلقة له تعالى : الحمد لله الذي لم يتّخذ صاحبةً ولا ولداً ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذلّ، وكبّره تكبيراً ، الحمد لله بجميع محامده كلّها على جميع نعمه كلّها ، الحمد لله الذي لا مضادّ له في ملكه ، ولا منازع له في أمره ، الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه ، ولا شبيه له في عظمته ، الحمد لله الفاشي في الخلق أمره وحمده الظاهر بالكرم مجده . . . . إلى ما هناك من تأكيدات لا يحصيها هذا الكتيب . ج ـ الإيحاء بالترابط بين الكل الإسلامي فيقول الداعي مثلاً ( وليلة القدر ، وحج بيتك الحرام ، وقتلاً في سبيلك فوفق لنا . . . ) . د ـ الإيحاء بالرجوع إلى الركنين الأساسين اللذين هما منبع كل هداية ، وفرقان كل شيء ، والثقلين اللذين لن يفترقا إلى يوم القيامة وهما ( القرآن والعترة ) وبذلك تتوضح الأسس فتتوضح تبعاً لذلك خطوط البناء . أما القرآن فقد مرّ الحديث عنه ، يتلوه الصائم مرات ومرات ، بوعي كامل وتفاعل تام ، ويتصاعد الوعي حتى يبلغ القمة ليلة القدر ، وهنا يطلب الدعاء من الإنسان أن يرفع القرآن على رأسه بعد أن يقول : * اللهمّ إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه ، وفيه إسمك الأكبر وأسماؤك الحسنى، وما يخاف ويرجى، أن تجعلني من عتقائك من النار . ويبقى يحمل القرآن لينتقل الدعاء إلى التذكير بالركن الثاني فيطلب إليه في هذه الحالة أن يقول : بك يا الله، بمحمد ، بعلي ، بفاطمة . . . . وهكذا إلى باقي الأئمة ( عليهم السلام ) يردد كلّ كلمة عشر مرات في حالة لا يمكن أن توصف من الجلال والخشوع . كما أنا نلاحظ كثرة التركيز على ( الصلاة على محمد وآل محمد ) . وان في هذه العبادة لمعطيات جمّة تدور في إطار شد الاُمة إلى قادتها الحقيقيين ، الذين يعني الانشداد إليهم الانشداد إلى الإسلام الصافي النقي ومنابعه الأصيلة . وأخيراً فان الدعاء يذكر الإنسان الصائم باليوم المنتظر فتراه يدعو وعيونه مركزة على ذلك اليوم الموعود ( يوم المهدي المنتظر ) : اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله ، وتذل بها النفاق وأهله ، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك ، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة . |
|||||||||
|