(شاعر واديب)
الفرزدق
الاستاذ حسين علي أيّوب



  أبو فراس، همّام بن غالب بن صعصعة، التميميّ، ولقّب بالفرزدق ، لغلظ وجهه وشبهه بالرّغيف (1).
  كان صعصعة جدّ الفرزدق يقال له (محيي الموءودات) ، وذلك أنّه كان مرّ برجل من قومه ، وهو يحفر بئراً وامرأته تبكي، فقال لها صعصعة : ما يبكيك ؟ قالت : يريد أن يئد ابنتي هذه، فقال له : ما حملك على هذا ؟ قال : الفقر، قال : أشتريها منك بناقتين يتبعهما أولادهما، تعيشون بألبانها ولا تئد الصّبية ، قال : قد فعلت، فأعطاه الناقتين وجملاً كان تحته فحلاً، وقال في نفسه : إنّ هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب.
  فجعل على نفسه أن لا يسمع بموءودة إلا أفداها، فجاء الإسلام وقدْ فدى ثلاثمائة، وقيل : أربعمائة ، وكان الفرزدق يفتخر بهذه المكرمة ، وفخر بذلك في عدّة قصائد ، منها قصيدته التي أوّلها :
أبـي أحد الغيثين صعصعةُ iiالذي      متى  تُخلف الجوزاء والدّلو يُمطرِ
أجـار بـنات الوائدين ومَن iiيُجر      عـلى الـفقر يُعلم أنّه غير iiمُخْفِرِ
على حين لا تُحيى البنات وإذْ iiهم      عكوفٌ على الأصنام حول المُدوَّرِ
  وفد غالب بن صعصعة على النبيّ صلى الله عليه وآله، فأسلم ، وكان قد وفده أبوه صعصعة على النبيّ صلى الله عليه وآله ، فأخبره بفعله في الموءودات فاستحسنه ، وسأله : هل له في ذلك أجر ؟ قال : نعم (2).   كان والد الفرزدق غالب بن صعصعة يحيى حياة بدويّة، ويملك إبلاً وأنعاماً، فلمّا بُنيت البصرة سنة (14 هـ) نزل جنوبها، واشتهر هناك بكرمه (3) .
  أمّا والدة الفرزدق فهي : أينة بنت قرظة الضبّيّة.
  وزوجته هي : النّوار ابنة أعين بن ضبيعة المجاشعيّ، وكان الإمام عليّ عليه السلام قدْ وجّه أباها إلى البصرة فقتله الخوارج غيلة، وماتتْ النّوار في البصرة مطّلقة منه (4) .
  مكث الفرزدق لا يُولد له، فعيّرتْه أمرأتُه النّوار بذلك، فقال :
قـالت : أراه واحـداً لا أخاً له      يـؤمِّله فـي الوارثينَ iiالأباعدُ
لـعلك  يـوماً أنْ تريني كأنّما      بـنيَّ  حواليَّ الأسودُ iiالحواردُ
فإنّ  تميماً قبل أن يلد iiالحصى      أقام زماناً وهو في النّاس واحدُ
   فولد له بعد ذلك خمسة من الأولاد، وليس لواحد من ولده عقب إلا النّساء (5).
  نشأ الفرزدق على حبّ آل البيت، وعلى الاعتقاد بحقّهم في الخلافة ، ومِن مواقفه الدالّة على ذلك :
  أنّه لقي الحسين بن عليّ عليهما السّلام متوجّهاً إلى الكوفة ، فقال له الحسين عليه السلام : ما وراءك ؟ فقال يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله، أنفس الناس معك ، وأيديهم عليك، قال : ويحك معي وقر بعير من كتبهم يدعونني ويناشدونني الله. فلمّا قتل الحسين عليه السلام ، قال الفرزدق :
  إذا غضبت العرب لابن سيّدها وخيرها فاعلموا أنّه سيدوم عزّها وتبقى هيبتها ، وإن صبرت عليه ولم تتغيّر ، لم يزدها الله إلا ذلاً إلى آخر الدهر ، وأنشد في ذلك (6) :
فإن  أنتمُ لم تثأروا لابن iiخيركم      فألقوا السّلاح واغزلوا بالمغازل
  ومنها : أنّ هشام بن عبد الملك حجّ في حياة أبيه فطاف بالبيت وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه ، فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام ، فنُصب له كرسيّ وجلس عليه ينظرُ إلى النّاس ، ومعه جماعة من أعيان الشّام. فبينما هو كذلك؛ إذ أقبل الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام ، فطاف بالبيت. فلمّا انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلمه ، فقال رجل من أهل الشّام لهشام : مَن هذا الذي هابه النّاس هذه الهيبة ؟ فقال هشام : لا أعرف ، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام ، وكان الفرزدق حاضراً ، فقال : أنا أعرفه، ثمّ اندفع فأنشد :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته      والـبيت  يعرفه والحلّ والحرم
  إلى نهاية قصيدته المعروفة بـ (ميميّة الفرزدق)، فغضب هشام ، فحبسه بين مكّة والمدينة ، لما أبداه من محبّةٍ لأهل البيت عليهم السلام ، ولتعريفه بهم في قصيدته (7) .
  لكنّ إظهار التشيّع لم يدم طويلاً عند الفرزدق؛ إذْ اضطرته الأحداث السّياسيّة المتلاحقة إلى مهادنة الأمويّين وممالأتهم ومدحهم (تقيّةً) ، تجنّباً لغضبهم وملاحقتهم؛ لذلك نجد أنّ ديوانه يشتمل على العديد من قصائد المدح التي نظمها في بعض خلفائهم وأمرائهم وقادتهم (8) .
  أمضى الفرزدق شطراً كبيراً من حياته يناضل الشّعراء فيغلبهم ، حتى شغل الناس في زمانه ، وجعلهم يترقّبون ما كان يدور بينه وبين أقرانه من الشّعراء، وعلى رأسهم جرير بن عطيّة الخطفيّ من مهاجاة مريرة دامت زمناً طويلاً ، لم يُسكتها إلا الموت، عُرفتْ بـ (النقائض).
  وقدْ تباين النقّاد من بعد في تحديد منزلة الفرزدق ومكانته في الشّعر ، فمنهم مَن جعله أشعر النّاس ، ومنهم من قدّمه على خصمه جرير ، ومنهم من أخّره عنه ، أو ساواه معه. وقدْ ترك الفرزدق لعشّاق الشّعر العربيّ ومتذوّقيه ديواناً ضخماً ، ضمّ بين دفّتيه مئات القصائد والمقطوعات ، التي تنوّعت موضوعاتها بين الفخر والهجاء والمديح والغزل والرّثاء، وغيرها.
  وكانتْ ألفاظ الفرزدق ، جزلة فخمة كثيرة الغريب ، بلغتْ في ديوانه أربعين ألفا (9) ، حتّى قيل : لولا الفرزدق لذهب ثلث اللّغة (10).
  ودارت أشعار الفرزدق في كتب النّحاة و اللّغويّين ، كما دارتْ في كتب التاريخ والأخبار ، لاشتمالها على كثير من أيّام العرب ومناقبهم ومثالبهم.
  مات الفرزدق في سنة عشر ومائة ، وقدْ نيّف على التّسعين سنة، ودفن في البصرة (11).
  ويُروى أنّ الفرزدق أصيب بـ (الدّبيلة) (12)، أو (ذات الجنب) (13)، ومات وقدْ قارب المائة (14).
  وقدْ رثاه جريرٌ بأبيات يقول فيها (15) :
فـلا  ولدت بعد الفرزدق iiحامل      ولا  ذات بـعل من نفاس iiتعلّت
هو الوافد المأمون والراتق الثأى      إذا  الـنّعل يوما بالعشيرة iiزلّت


الهوامش

  (1) الزركلي ، الأعلام : ج 8 ، ص 93.
  (2) الأصفهاني ، الأغاني : ج 21 ، ص 199.
  (3) فرّوخ ، تاريخ الأدب العربي : ج 2 ، ص 649.
  (4) ابن قتيبة ، الشّعر والشّعراء : ج 1 ، ص 387.
  (5) ابن قتيبة ، الشّعر والشّعراء : ج 1 ، ص 383.
  (6) المصدر نفسه : ج 21 ، ص 264.
  (7) المصدر نفسه : ج 21 ، ص 265.
  (8) صلاح الدّين الهواري ، ديوان الفرزدق.
  (9) فرّوخ ، الأدب العربي : ج 1 ، ص 651.
  (10) الأصفهاني، الأغاني : ج 21 ، ص 272.
  (11) الزركلي ، الأعلام : ج 8 ، ص 94.
  (12) تجمع قيحي في الجوف.
  (13) التهاب في غشاء الجنب.
  (14) الأصفهانيّ ، الأغاني : ج 21 ، ص 271.
  (15) المصدر ، نفسه : ج 21 ، ص 273.