الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) في البصرة

الاستاذة انتصار عدنان عبد الواحد

المقدمة

   حقاً انه لشرف عظيم لمدينة البصرة أن تحظى بإستضافة إمام من أئمة الهدى وهو الامام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) ... ولكن كيف ومتى جاء الامام لهذه المدينة ؟
   وللأسف أن الاجابة عن هذا السؤال تحمل الأسى والحسرة والالم! نعم استقبلت البصرة الامام الهمام مكبلاً بالقيود سجيناً يحمل سراً من مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الخليفة هارون العباسي .
   ولاهمية هذا الحدث كانت لنا وقفة موجزة في هذا الباب نسلط الضوء على المحاور الاتية :
   ـ ما اسباب اعتقال الامام (عليه السلام) ؟ وأين تم اعتقاله وكيف ؟ ومتى ؟
   ـ لماذا أختار الرشيد مدينة البصرة ؟
   ـ من الذي رافق الامام (عليه السلام) في رحلته الى البصرة ؟
   ـ في أي مكان حبس الامام ؟ وما مدة حبسه ؟
   ـ هل كان للإمام (عليه السلام) نشاط او دور او أثر يذكر أثناء فترة حبسه في البصرة وغيرها من التساؤلات التي تدور حول هذه الحادثة المهمة في تاريخ البصرة ... وللأجابة عليها نبدأ أولا بظروف اعتقال الامام ؟
  لسنا بصدد الخوض في تفاصيل الدوافع والاسباب وراء اعتقال الامام من قبل الخليفة العباسي والذي قطع على نفسه عهدا في بداية حكمه بأنه سوف يستأصل الوجود العلوي ، فأن كان هذا شعاره مع كل العلويين فكيف بزعيمهم وسيدهم .
   وينبغي ان نفرق بين الاسباب الواقعية وبين الاسباب التي كان يتذرع بها هارون لتبرير سلوكه العدائي تجاه الامام الكاظم (عليه السلام) ، اذ أصبح الامام (عليه السلام) بعد عقد من حكم هارون وجدوا ثقيلا عليه لقوة تأثيره في الامة كما أزعجة انتشار صيت الامام وتناقل الناس لاخباره ومناقبه ومآثره وعظيم اثره في المجتمع أنذاك .
   وكان للوشاة دور سلبي ضد الامام (عليه السلام) اذ تحرك يحيى بن خالد البرمكي قبل ذلك يهيئ مقدمات الاعتقال للامام فاغرى ابن اخ الامام (محمد او علي بن أسماعيل) لغرض الوشاية بالامام (عليه السلام) طمعا بالمال ، على الرغم من ان الامام (عليه السلام) قد وصله واوصاه بأن يتق الله في دمه .
  فهذه بعض اساليب السلطة للنيل من الامام (ع)
   واخيراً جاءت زيارة هارون العباسي الى بيت الله الحرام فبدأ بدخوله الى المدينة فزار قبر البنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال :"السلام عليك يا رسول الله يا بن عم " يفتخر بذلك ، فتقدم الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) فقال : " السلام عليك يا ابه "، فتغير وجه هارون وقال :"هذا الفخر حقا يا أبا الحسن" .
   ويرى عدد من المؤرخين ان هذه الحادثة كانت سبب اعتقال الامام (عليه السلام) وارساله للبصرة ، وكما اشرنا أن هناك دوافع اخرى سبقت الحادثة .
   ومن الغريب ما تذكره الروايات أن هارون قد وقف امام قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأذنه في انتهاك حرمته والتنكيل بفلذة كبده اذ خاطبه قائلا :
   "بأبي انت وامي يا رسول الله ،اني اعتذر اليك من امر عزمت عليه ، اني اريد ان آخذ موسى بن جعفر فاحبسه لاني قد خشيت ان يلقى بين امتك حربا يسفك فيها دمائهم ".
   ولعله ظن ان هذا الاعتذار من أرتكاب الجريمة يجديه عن لمسؤولية في يوم يخسر فيه المبطلون ، وفي اليوم الثاني امر باعتقال الامام (عليه السلام) وفعلا القي القبض عليه (عليه السلام) وهو قائم يصلي عند رأس جده (صى الله عليه وآله وسلم) ولم يمهلوه لاتمامها فحمل وقيد ، فشكى الامام لجده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلا :"اليك اشكو يا رسول الله" ،فلما مثل امام هارون جفاه واغلظ له في القول وكان ذلك بتاريخ 20 شوال عام 179 هـ .
   وسير الامام معتقلا الى البصرة ووكل " حسان السروي " بحراسته ،وخوفاً من حدوث أي تحرك جماهيري أمر هارون بتمويه واخفاء جهة سجن الامام (عليه السلام) على الناس ،فهيأ قبتين وجعل الامام (عليه السلام) في احدها وسترها بالسقلاط (نوع من الثياب الرومية) ، وجعل مع كل قبة خيلا ورجالا ، وارسل واحدة للبصرة والثانية للكوفة ، وكان الامام (عليه السلام) في التي أرسلت الى البصرة .
   وتذكر المصادر أن رحلته (عليه السلام) أستغرقت (47) يوما ، حتى وصل البصرة في (7 ذي الحجة 179 هـ )والذي يهمنا هنا تسليط الضوء على فترة بقاء الامام الكاظم (عليه السلام) في مدينة البصرة والتي بلغت (عاماً كاملاً) ، ولكن لابد من القول بأن هذا الوجود المبارك قيد وراء قضبان السجن وغيب في ظلماته لانه (عليه السلام) طوال فترة بقائه في البصرة كان مسجوناً .
   ولكن رغم ذلك فان للأمام نشاطاً متميزاً واثراً ملحوظاً انطلق من وراء تلك القيود ، ويمكننا إيجاد الملامح البارزة لوجود الطيب (عليه السلام) في البصرة، وتلخيص ذلك النشاط من خلال النقاط الاتية :
   1 ـ تعرض الامام (عليه السلام) في سجنه للتضييق القاسي الى درجة أن الباب لا تفتح عليه الا للطهور او إدخال الطعام ، وسلطت الحكومة جواسيسها لمراقبة الامام (عليه السلام) وقد اختير لهذه المهمه ذوي الدراية والخبرة في هذا المجال وسجنوا معه (عليه السلام) لضمان مراقبة كل حركة له وحتى كلماته ، كما سيأتينا في اعترافات الوالي نفسه .
   2 ـ رغم هذا التضييق عليه (عليه السلام) ،الا أن نشاطه لم يتوقف ودوره لم يقيد وقد تمثل بعده أمور :
   1 ـ انقطاع الامام (عليه السلام) للعبادة فكان يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي وقته بالدعاء والصلاة والسجود ، اذ لم يسأم من السجن بل عده من أعظم النعم ، وقد سمعه أحد الجواسيس يقول في دعائه :" اللهم انك تعلم اني كنت أسألك ان تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت فلك الحمد ".
   2 ـ لما انتشر خبر اعتقاله بين اهالي البصرة ، هب اليه الناس من العلماء وغيرهم لغرض الاتصال به من طريق خفي ،فأتصل به ياسين الزيات الضرير البصري وروي عنه وصنف كتاباً ،وقد ذكرت الكتب الرجالية (30)شخصية بصرية في عداد اصحابه (عليه السلام) إذ لا يستبعد انهم التقوا به في هذه الفترة .
   3 ـ بلغ من عظيم أثر الامام (عليه السلام) على المجتمع البصري بما فيهم من تولى سجنه ومن احاط به او تشرف بلقائه (عليه السلام)، الى درجة اوقع الوالي في حرج شديد ـ كما سيأتينا في رسالته للخليفة العباسي إذ اعتذر عن تولي قتل الامام في البصرة _ ويدلل تحرجه هذا على تأثره بشخص الامام (عليه السلام) وأيضا تاثر حاشيته وخواصه فضلا عن باقي الناس والذين قد تتفجر نقمتهم عليه ان قتل الامام (عليه السلام)، حتى نجده يستأذن الخليفة في اطلاق سراحه او تسفيره عن البصرة .
   وتعدى اثر الامام (عليه السلام) ليثير مخاوف وقلق الخليفة من استمرار وجوده (عليه السلام) في البصرة فامر بنقله الى بغداد .
   وتجدر الاشارة الى أن الوالي عيسى ابن ابي جعفر المنصور بعد أن وصلته اوامر الخليفة بقتل الامام وتصفيته جسدياً ، ثقل عليه هذا الامر فجمع خواصه وثقاته وعرض عليهم ذلك ، فأشاروا عليه بأن لا يفعل وحذروه ، فكتب الى الخليفة رسالة جاء فيها :" يا أمير المؤمنين كتبت الي في هذا الرجل ،وقد اختبرته طول مقامه في حبسي بمن حبسته معه عينا عليه لتنظروا حيلته وامره وطويته بمن له المعرفة والدراية ويجري من الانسان مجرى الدم ، فلم يكن منه سوء قط ، ولم يذكر أمير المؤمنين ، ولا على احد من الناس ، ولا يدعوا الا بالمغفرة والرحمة له ولجميع المسلمين ، مع ملازمته للصيام والصلاة والعبادة ، فان راى امير المؤمنين ان يعفيني من امره وينفذ من يسلمه مني الا خليت سبيله ، فأني منه غاية الحرج " .
   وبعد وصول رسالة الوالي الى هارون أنزعج منها غاية الانزعاج وازدادت مخاوفه واحس بخطورة بقاء الامام في سجن البصرة بعد ان تحول مؤيد ومدافع عنه (عليه السلام) فكيف بباقي الناس ممن حوله ! فأمر بنقله فوراً الى بغداد وقد ضيق عليه وغيب الامام (عليه السلام) في مطامير السجون وقضى باقي حياته الشريفة متنقلاً بين سجون هارون ، حتى انتهى به المطاف الى سجن السندي الاثيم ، حيث كانت شهادته والتحق بالرفيق الاعلى شهيداً غريباً مسموماً سجيناً في (25 رجب 183 هـ) .

BASRAHCITY.NET