المدارس النحوية (مدرسة البصرة)
الاستاذ أحمد الفقيه

التسميـــة ومكـــان النشأة

بسم الله الرحمن الرحيم

 قديما لم يكن يعرف النحو بهذا الاسم بل كان يعرف بعلم العربية وهذه التسمية ظهرت في عهد الطبقة الثانية من علماء البصرة حيث اشتهرت عنها مؤلفات اتسمت بأنها نحوية وصرح فيها باسم النحو .

مكان نشأته :

 تجمع المصادر على أن العراق كان مهدا لنشأة النحو العربي وذلك للأسباب الآتية :
 1 ـ كان العراق ملجأ للعجم قبل الفتح الإسلامي وبعد الفتح أقبل المسلمون عليها عربا وعجما إذ أنها تمتاز بأسباب الحياة الناعمة ورغد العيش .
 2 ـ كان العراق أكثر البلاد العربية إصابة بوباء اللحن وتعرضا لمصائبه بسبب هذا المزج ( بين العرب والعجم ) .
 3 ـ كان العراقيون ذوي عهد قديم بالعلوم والتأليف ولهم فيها خبرة متوارثة تعد البصرة أسبق مدن العراق انشغالا بالنحو حيث احتضنت النحو زهاء قرن من الزمان قبل أن تشتغل به الكوفة التي كانت بدورها أسبق من بغداد فالبصرة هي التي شادت صرح النحو ورفعت أركانه بينما كانت الكوفة مشغولة بقراءات الذكر الحكيم ورواية الشعر والأخبار وكان القدماء يعرفون ذلك فنصوا عليه بعبارات مختلفة من ذلك قول ابن سلام الجمحي : ( وكان لأهل البصرة في العربية قدمه ، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية ) ويصرح ابن النديم في هذا المجال تصريحا أكثر وضوحا .
 إذ يقول في حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة البصريين أولا لأن علم العربية عنهم أخذ ) ثم اشترك علماء البصرة والكوفة في النهوض بالنحو من عهد الخليل بن أحمد شيخ الطبقة الثانية من البصريين وأبي جعفر الرؤاسي شيخ الطبقة الأولى من الكوفيين حتى نمت أصوله وكملت عناصره في مستهل العصر العباسي الأول على يد المبرد خاتم البصريين وثغلب تم الكوفيين (1) .
 المطلـب الثاني : أسباب وضع النحو العربي يمكن أن نرد أسباب وضع النحو العربي إلى بواعث مختلفة ، منها الديني ومنها غير الديني .
 أما البواعث الدينية فترجع إلى الحرص الشديد على أداء نصوص الذكر الحكيم أداء فصيحا سليما إلى أبعد حدود السلامة والفصاحة ، وخاصة بعد أن أخذ اللحن يشيع على ألألسنة ، وكان قد أخد في الظهور منذ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد روي بعض الرواة أنه سمع رجلا يلحن في كلامه ، فقال أرشدوا أخاكم فإنه قد ظل ) وروا أن أحد ولاة عمر بن الخطاب كتب إليه كتابا به بعض اللحن ، فكتب إليه عمر : ( أن قَنِعْ كاتبك سوطا ) .
 غير أن اللحن في صدر الإسلام كان لا يزال قليلا بل ناذرا ، وكلما تقدمنا منحدرين مع الزمن اتسع شيوعه على الألسنة ،
 وخاصة بعد تعرب الشعوب المغلوبة التي كانت تحتفظ ألسنتها بكثير من عاداتها اللغوية ، مما فسح للتحريف في عربيتهم التي كانوا ينطقون بها ، كما فسح للحن شيوعه ، ونفس نازلة العرب في الأمصار الإسلامية أخذت سلائقهم تضعف لبعدهم عن ينابيع اللغة الفصيحة ، حتى عند بلغائهم وخطبائهم المفوهين .
 ويكفي أن نضرب مثلا لذلك ما يروي عن الحجاج من أنه سأل يحي بن يعمر هل يلحن في بعض نطقه ؟ وسؤاله ذاته يدل على ما استقر في نفسه من أن اللحن أصبح بلاء عاما ، وصارحه يحي بأنه يلحن في حرف من القرآن الكريم إذ كان يقرأ قوله عز وجل : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ) إلى قوله تعالى : ( أحب ) بضم أحب والوجه أن تقرأ بالنصب خبرا لكان بالرفع (2) وإذا كان الحجاج وهو في الذروة من الخطابة والبيان والفصاحة والبلاغة يلحن في حرف من القرآن ، فمن وراءه من العرب نازلة المدن الذين لا يرقون إلى منزلته البيانية كان لحنهم أكثر وازداد اللحن انتشارا على ألسنة أبناءهم الذين لم ينشأوا في البادية مثلهم ولا تغدوا عن ينابيعها الفصيحة إنما نشأوا في الحاضرة واختلطوا بالأعاجم اختلاطا أدخل الضيم والوهن على ألسنتهم وفصاحتهم على نحو ما هو معروف عن الوليد بن عبد الملك وكثرة ما كان يجري على لسانه من لحن .
 وكان كثيرون من أبناء العرب ولدوا لأمهات أجنبيات أو أعجميات ، فكانوا يتأثرون به في نطقهن لبعض الحروف وفي تعبيرهن ببعض الأساليب الأعجمية وكل ذلك جعل الحاجة تمس في وضوح إلى وضع رسوم يعرف بها الصواب مكن الخطأ في الكلام خشية دخول اللحن وشيوعه في تلاوة آيات الذكر الحكيم (3) .
 وانضمت إلى ذلك بواعث أخرى .
 بعضها قومي عربي ، يرجع إلى أن العرب يعتزون بلغتهم اعتزازا شديدا ، وهو اعتزاز جعلهم يخشون عليها من الفساد حين امتزجوا بالأعاجم .
 مما جعلهم يحرصون على رسم أوضاعهم خوفا عليها من الفناء والذوبان في اللغات الأعجمية .
 وبجانب ذلك كانت هناك بواعث اجتماعية ترجع إلى أن الشعوب المستعربة أحست الحاجة الشديدة لم يرسم لها أوضاع العربية في إعرابها وتصريفها حتى تمثلها تمثلا مستقيما .
 وتتقن النطق بأساليبها نطقا سليما .
 وكل ذلك معناه أن بواعث متشابكة دفعت دفعا إلى التفكير في وضع النحو ، ولابد أن نضيف إلى ذلك رقي العقل العربي ونمو طاقته الذهنية نموا أعده للنهوض برصد الظواهر اللغوية وتسجيل الرسوم النحوية تسجيلا تطرد فيه القواعد وتنظيم الأقسية انتظاما يهيئ لنشوء علم النحو ووضع قوانينه الجامعة المشتقة من الاستقصاء الدقيق للعبارات والتراكيب الفصيحة ومن المعرفة التامة بخواصها وأوضاعها الإعرابية .

سبقية البصرة لاحتضان النحو العربي

 أولا : العامل السياسي :
 كانت البصرة عثمانية أموية .
 وكانت الكوفة علوية عباسية لقد سكن الإمام علي ( كرم الله وجهه) الكوفة واتخذها مقرا لخلافته .
 إذ كان أهل الكوفة مطيعين له فدعوه إليهم في الوقت الذي شق فيه أهل البصرة عليه عصا الطاعة ثم جاءت السيدة عائشة ( ت 58 هـ ) البصرة ومعها جيش طلحة والزبير مطالبين بثأر عثمان وقد كانت موقعة الجمل بين عائشة وعلي فكان ما كان ومن ثم تمسكت كل من البلدتين بما تدين له فاستمرت البصرة هاشمية عثمانية والكوفة قرشية علوية ولما كانت مسألة التحكيم وكان الغانم فيها الأمويين كان طبيعيا أن يكون الاستقرار والطمأنينة والهدوء للبصريين أنصارهم في الوقت الذي كانت فيه قلوب الكوفيين تغلي على البصريين وتضمر لهم الكراهية والبغضاء يقول الأعشى ( ت 83 م ) على لسان الكوفيين : فإذا فاخرتمونا فاذكروا ما فعلنا بكم يوم الجمل إلا أن هذا لم يدم طويلا فقد تغير الحال وسقطت الدولة الأموية وجاءت الدولة العباسية وكان مبدأ ظهورها في الكوفة إذ تمت البيعة لأبي العباس السفاح ( ت 136 م ) أول خلفائها بدعوته لآل البيت فناصره الكوفيين فحفظ العباسيون لهم هذا الصنيع فعطفوا عليهم وكافئوهم فانقلب ذل الكوفيين في عصر الأمويين إلى عز في عصر العباسيين وأفل نجم البصرة بعد أن كان ساطعا ولئن تقاعست البصرة في عهد العباسيين فقد فازت بقصب السبق في عهد الأمويين على غيرها فتمكنت من حمل لواء رئاسة العربية ولاسيما النحو .
 ثانيا : الموقع الجغرافي :
 كان لموقع البصرة الجغرافي الأثر البارز في سبقها للاشتغال بالنحو ، فالبصرة تقع على طرف البادية مما يلي العراق ، فهي أقرب مدن العراق إلى العرب الأقحاح الذين لم تلوث لغتهم بعامية الأمصار فعلى مقربة منها بوادي نجد غربا والبحرين جنوبا والأعراب يفدون إليها منهما ومن داخل البصرة وليست كذلك الكوفة وبغداد فمكن هذا أهل البصرة أن يأخذوا عن العرب دون أن يتكلفوا مشاق السفر (4) .
 ثالثا : قرب سوق المربد من البصرة :
 كان للعامل الثقافي أيضا أثر واضح في سبق البصرة للاشتغال بالنحو إذ كانت تنعقد فيها مجالس للعلم والمناظرة ويفد إليها الشعراء ورواتهم فهي تشبه سوق عكاظ في الجاهلية ينزل العلماء والأدباء والأشراف للمذاكرة والرواية والوقوف على ملح الأخبار وكان اللغويون يأخذون عن أهله ويدونون ما يسمعون فيأخذ عنهم النحويون ما يصحح قواعدهم ولم تكن سوق الكناسة الكوفة إذ أن ساكنيها من الأعراب أقل عددا وفصاحة ممن كان بالبصرة وإن كان منهم لفيف من بني أسد وغيرهم إلا أن أغلبهم يمانيون وأهل اليمن قد فسدت لغتهم لمجاورتهم الحبشة واتصالهم بالهند ومخالطتهم التجار الذي يفدون إليهم من مختلف الأمصار .
 والذي نراه أن النحو كان موجود قبل أبي الأسود سواء قيل أنه بتوقيف أو كان بالتواضع والاصطلاح ودليلنا هو :
 1 ـ ما روي عن عمر بن الخطاب ( رصي الله عنه ) أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( رحم الله أمرا أصلح من لسانه ) فما هي الطريقة التي يصلح يها الإنسان من لسانه إذا لحن ؟ إنها طريقة النظر فيما كان له قانون .
 2 ـ ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا قال : تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد من المروءة .
 فمن أين وكيف نتعلم العربية بدون أن يكون لها قانون قد وضع .
 3 ـ ما وري من أمر علي ( رضي الله عنه ) أو عمر ( رضي الله عنه ) أو زياد بن أبيه في قصة المقرئ الذي أقرأ الأعرابي : ( أن الله برئ من المشركين ورسوله ) بالجر ، بأنه لا يقرأ القرآن إلا عالم بالعربية فمن أين يأتي قانون العربية إذا لم يكن هناك ظابط وإلا فنطق العرب بالعربية بدون ظابط سواء يستوي في ذلك جميعهم ولا يوصف أحدهم فيها بعلم عن غيره .
 4 ـ قصة عبد العزيز بن مروان والأعرابي الذي إليه شكا إليه ختنه كما تقدم حيث ألزم عبد العزيز نفسه آلا يخرج إلى الناس حتى يتعلم من العربية ما يقيم به لسانه فحبس نفسه مع من علمه العربية (5) .

المبحث الثاني : المنهج مصادر الدراسة عند البصريين :

 االمطلـب الأول : منهج الدراسة عند مدرسـة البصرة .
 المطلب الثاني : مصادر الدراسة عند مدرسة البصرة المطلـب الأول : منهج الدراسة عند البصريين .
 إن البصريين كانوا أكثر حرية و أقوى عقلا و طريقتهم أكثر تنظيما (6) و خطتهم هي الاعتماد على الشواهد الموثوق بها ، الكثيرة الدوران على السنة العرب التي تصلح للثقة فيها أن تكون قاعدة تتبع .
 ولن يكون ذلك إلا إذا وردت في كتاب الله الكريم أو نطق بها العرب الخلص الذين اعترف لهم بالفصاحة لبعدهم عن مطنة الخطاء ، كالاتصال بالأعاجم سواء بالرحلة أو الجوار ، أو لرسوخ قدمهم في اللغة و تبصرهم بها ، و اطلاعهم عليها ككبار العلماء و الأدباء ، هؤلاء الذين يمكن أن توضع أقوالهم موضع الاعتبار .
 لذلك لم يكن بدعا أن ترى السيوطي يقول ، اتفقوا على أن البصريين اصح قياسا ، لأنهم لا يلتفتون إلى كل مسموع و لا يقيسون على الشاذ .
 في الحقيقة ، نحاة البصرة تأثروا بالبيئة البصرية و نهج المعتزلة و تأثروا بهم في الاعتداد بالعقل و طرح كل ما يتعارض معه ، فأهملوا الشواذ في اللغة ، لهذا سمى نحاة البصرة أهل المنطق ، (7) ومن الأمور التي تراعيها مدرسة البصرة في بحثها الآتي :

أولا : المادة العلمية :

 اعتمد البصريون في مادة منهجهم العلمي على الأفصح من الألفاظ والأسهل منها على اللسان ولدلك اختاروا من بين القبائل التي اعتمدوا عليها القبائل المقطوع بعراقتها في العربية ، والمصونة فطرتهم من رطانة الحضارة الأجنبية فاختاروا من العرب قيسا وتميما وأسدا فأخذوا أكثر قواعدهم من هؤلاء في اللغة والإعراب والتصريف ثم اخذوا من هديل وبعض كنانة وبعض الطائيين ، ولم يأخذوا عن حضري ولا من سكان البراري ممن كان يجاور الأمم الأخرى ومن هنا رفضوا الأخذ من لخم وجذام لمجاورتهم أهل مصر ، ولم يأخذوا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد لمجاورتهم أهل الشام ، ولا من النمر لمجاورتهم اليونان ، ولا من بكر لمجاورتهم النبط والفرس .

ثانيا : اختيار سلامة لغة المأخوذ عنهم :

 كان البصريون يختبرون سلامة لغة من يشكون في أمره ، ممن سبق من القبائل الفصيحة ويروي ابن جني في دلك فيقول : ومن دلك ما يحكي أن أبا عمرو بن العلاء استضعف فصاحة أعرابي يسمى : أبا خيرة لما سأله فقال : كيف تقول : استأصل الله عرقاتهن ؟ ففتح أبو خيرة التاء من عرقاتهن فقال له أبو عمرو : هيهات أبا خيرة لأن جلدك وهدا يعني أن اللحن أو ما يشبه دلك رى إلى الأعراب ، لأن أبا عمرو كان قد سمع أبا خيرة يروي الشاهد بالكسر ، فلم يتردد في مؤاخذة أبي خيرة ، وهو أحد الأعراب الدين أخدت عنهم اللغة ، باللحن ودلك لتقدمه في السن وطول مخالطته لأهل الحواضر .

ثالثا : التأكد من الثقات في صحة المروي :

كان البصريون يتحرون عن الرواة فلا يأخذون إلا برواية الثقات الدين سمعوا اللغة من الفصحاء عن طريق الحفظة والأثبات الذين بذلوا الجهد في نقل المرويات عن قائليها منسوبة إليهم فقد أبوا أن يستدلوا بشاهد لم يعرف قائله .

رابعا : كمية المقيس عليه المنقول عند العرب :

 اشترط البصريون فيما ينقل عن العرب الكثرة الكاثرة فيقعدون على الأكثر وإلا فعلى الكثير ، وإلا فعلى القليل ، وإلا فعلى الأقل ، وإلا فعلى النادر ،وإلا قاسوا الأشباه على الأشباه ، والنظائر على النظائر إدا لم يتناقص مع الوارد ولدا اعتبر سيبويه قياس فعولة بفعيلة في النسب إليها بحذف حرف المد وقلب الضمة فتحة وإن لم يرد منها إلا شنيء في النسب إلى شنوءه ، لأنه لم يرد ما يخالفها فإذا ما خالف الوارد ما سبق من قياس أولوه أو اعتبروه شادا يحفظ ولا يقاس عليه وقد ينكرونه أو يقولون إنه ضرورة (7)لا بدَّ أن نتّفق على مفهوم ( المدرسة ) ، فبنظرنا أنّها مجموعة من الآراء يتواضع عليها مجموعة من الناس ، تُشكّل رؤية ً ما ، لهم طريقة في التفكير مميزة ، فينهجون منهجاً للوصول إلى هدفٍ ما .
 والمدارس النحوية مصطلحٌ يشير إلى اتجاهات ٍ ظهرت في دراسة النحو العربي ، اختلفت في مناهجها في بعض المسائل النحوية الفرعية ، وارتبط كلّ اتجاه منها بإقليم ٍ عربي ٍ معيّن ، فكانت هناك مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة ، ومدرسة بغداد وهكذا .
 ولكنّ بعض العلماء لم يضعوا على تلك المدارس اسم (مدرســــة ) واستندوا برأيهم على مفهوم المدرسة ، ووحّدوا أنّ كلّ تلك .
 المدارس تسير نحو هدفٍ واحد ، ورؤيةٍ واحدة ، وهي النحو العربي ، بثوابت كثيرةٍ ومشتركةٍ فيما بينهم ، وما كان اختلافهم إلاّ الشيء القليل بفروعٍ صغيرة ، أحياناً ما وصلت تلك الاختلافات بالرأي إلى توسعة دائرة الخلاف بين المدارس دون وجود مسبّب أو مبرّر لذلك الخلاف .
لذلك أطلقوا عليها اسم المذاهب ، أي : مذهب البصرة ومذهب الكوفة ونحو ذلك .
 ويميلُ الرأي لدينا إلى هؤلاء العلماء ، بحيث تُسمّى كلُّ تلك المذاهب باسم المدرســة النحويــة العربيــة ، بينما العديد من المعاصرين استحسنوا لفظ المدرسة فاستعاروها في مادّة الخلاف النّحوي ، حتى في مسائل أدبية أخرى .
 فاستخدامنا كلمة مذهب لأنّها تطلق على الطريقة التي سار عليها أحد النّحاة أو عن الخلاف النحوي بشكل ٍ عام ، فنقول مذهب البصرة والكوفة ، وكذلك مذهب سيبويه والكســـائي لأنّ بالأصل كما ذكرنا سابقا أنّ اختلاف المذهبين البصريّ و الكوفي ّ كان في الفروع فقط ، أما الأصول فقد اتفق عليها جمهور العلماء دون خلاف أحدهـــم .
 والذي يدُلّ على ذلك أنّ من الممكن أن يوافق بصريّ كوفياَ ، وبالعكس ، بعدة آراء ، خاصة إذا كان الرأي موافقا منهج النحوي ّ.
 ومما يدلّــل على ذلك أيضا خلوّ كلمة ( مدرسة ) من التراث العربي القديم بأن تدلّــل على المنهج النحوي ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، فمنهم مثلُ ابن النديم يخصّص باباً في كتابه يُفردُ للكلام في النحو وأخبار النحويين واللغويين من البصريين ، وكذلك عند الكوفييـــن .
 وكذلك الزبيدي فقد وضع النحويين واللغويين في طبقات ، ابتدأها بطبقات النحويين البصريين وصنّفهم إلى عشر طبقات وهكذا .
 أمّا المدارس اللسانية الحديثة ، ففعلاً يحقّ لنا تسميتها بهذا الاسم ، لأنّ أغلب المدارس في جوهرها وأصولها تختلف عن بعضها البعض ، كلّ مدرسة بنشأتها و أسباب نشأتها تُخالف المدرسة الأخرى ، وحتى بهدفها المستقبلي تخالف تلك المدرسة .
 وبهذا الأمر تميّزت المدرسة النحوية العربية القديمة بمحافظتها على الأصل والثابت ، وبذلك وحّدت الجهود للوصول إلى الهدف الأسمى وهو خدمة لغة القرآن الكريم .
 ومن هنا فارتباط تلك الدراسات القديمة وعلى رأسها المدرسة النحوية بالقرآن الكريم ، يجعلها خالدة ً إلى قيام الساعة بخلود القرآن الكريم الذي هو عقيدة الأمة الاسلامية ، و هو الذي أكسب اللغة العربية الشرف الأسمى لها ، وجعل دراستها من العقيدة و الاهتمام بها أيضا من العقيدة .
 اما إذا أردنا الاتكاء على تلك المدارس اللسانية الحديثة ، فيبدو أننا قد ضللْـنا الطريق ، فالكلّ يعلمُ سبب نشأة تلك المدارس ، وممّن نشأت ، فنحن العرب لدينا العقليّة الواضحة التي شكّلها القرآن الكريم لنا ، فلا نحتاج إلى تلك المدارس لترشدَ فكرنا إلى طــُرُقه الصحيحة .
 ونحن أهلُ السبق في ذلك لا نتعلّم ولا نأخذ منهم .
 فالمدارس اللسانية الحديثة تتجه نحو محو ِ تراثِ الأمة العربية والانتقاص من فكرها وعقليّتها .
 ولكن لا بدّ أن نتعلّمها والاستفادة مما هو حَسَن منها ، وتوجيهها نحو فكر الأمة العربية وعقليتها .
 وصلّى الله على سيدنا محمد عليه أشرف الصلاة و التسليم .
 تعد هده المدرسة واصفة النحو ابتداء ، وإن أول نحوي بصري حقيقي هو ابن أبي إسحاق الحضرمي مند(ت 117 هـ )وهو من القراء .
 وجميع نحاة البصرة الدين خلفوه ينتمتون إلى القراء من هؤلاء تلميذه عيسى بن عمروأبو عمر بن العلاء، وتلميذا عيسى ، الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب .
 ونجد سيبويه أكثر من التعرض للقراءات وكان ما كان بينهم من خلافات في الأعراب هو الذي أضزم لرعية في نفوس قراءة البصرة كي يضعوا والنحو وقواعده وأصوله .
 وتميز نحاة البصرة بجعل القواعد مطردة عامة مما جعلهم يطرحون أستاذ ، ولا يعربون عليه إلا القليل النادر .
 وأيضا اشتراطهم في الاستواء صحة المادة التي يشتقون منها قواعدهم،فكانوا يجمعون من البوادي من أعماق نجد وبوادي الحجازوتهامة ومن القبائل المحتفظة بملكة اللغة وسليقتها الصحيحة مما لم تفسد الحضارة لسانها وكانوا لا يحتجون بالحديث النبوي لاحتمال روايته بالمعنى من الأعاجم ، وتابعهم في هدا نحاة الكوفة .
 وتوسعوا من حيث القياسوالتعليل إد طلبوا لكل قاعدة علة ، بحيث يصبح ما يخرج عليها شادات ولقياس على القاعدة ما لم يسمع عن العرب فتصير القاعدة المعيار المحكم لسديد .
 وعلى هذه الأسس شادت البصرة صرح النحو ورفعت أركانه .
  بينما كانت الكوفة مشغولةعن دلك كله بقراءات الذكر الحكيم حتى منتصف القرن الثاني للهجرة ، وكذلكرواية الشعر والأخبار .
 قال ابن النديم : ( إنما قدمنا البصريين لأنعلم العربية عنهم أخد ) دلك لأن عقل البصرة كان أدق وأعمق من عقل
الكوفةوكان أكثر استعدادا لوضع العلوم لسبقها إلى الاتصال بالثقافات الأجنبية وبالفكر اليوناني فذلك أن البصرة عنيت بعلم الكلام بينما الكوفة عنيت بالفقه .
 ويعد ابن أبي إسحاق أول النحاة البصريين ويتبعه في هذه الأولية جيل من تلاميذه في مقدمتهم عيسى بن عمر ، وأبو عمر بن لعلاء ، ويونس بن حبيب ويوجد من معاصريهم من كان دو علم بالنحو لكن لم ترو لهم كتب النحو أرأهم النحوية بما كان يغلب عليهم الفنون الأخرى كالحديث واللغة مثل : حمد بن سلمة ابن دينار والأخفش الأكبر ، ويعد ابن أبي إسحاق أستاذ المدرسة البصرية ت 117 هـقال ابن سلام ت 234 هـ : (كان أول من يعج النحو ومد لقياس وشرح العللوكانابن أبي إسحاق كثير التعرض للفرزدق لما كان يورده في أشعاره من بعض الشوادالنحوية ، حتى كانت مراجعته المستمرة للفرزدق تغضبه فهجاه بقصيدة يقول في تضاعيفها هدا البيت : فلو كان عبد الله مولى ولما سمعه ابن أبي إسحاق قال له : أخطأت إنما هو مولى موال .
 وكان شديد التمسك بالقياس النحوي حتى إنه ليخالف جمهور القراء في بعض قراءتهم تمسكا بالقياس النحوي .
 وتتابع على نحوه تلاميده في مراجعة الشعراء وتخطئتهم بل وصل بهم الحد إلى تخطئة الشعراء الجاهليين .
 عيسى بن عمر الثقفي ت 149 هـ : وهو الذي مكن للنحو وقواعده التي اعتمدها تلميذه الخليل، ومن تلاه من البصريين سواء في محاضراته واملاءاته أو في مصنفاته فترك جهودا نحوية للخليل كي يتم صرح النحو ويشده .
 أبو عمرو بن العلاء ت 154 هـ : عني بإقراء الناس القرآن في المسجد وهو أحد السبعة المشهورين لكن نقلت عنه آراء نحوية لدا كان من النحاة المبكرين لكنه لم يكن نحويا بالمعنى الدقيق و إنما كان لغويا وراويا ثقة من رواة الشعر القديم و أكثر من السماع عن العرب .
 يونس بن حبيب ت 182 هـ : و كانتليونس مذاهب و أقيسه تفردها أخد عنه أبو عبيدة وسيبويه غير أن النحاة الدين يوضعون بحق في تطور النحو هم : ابن أبي اسحاق ، عيسى بن عمر وخليل بن أحمد وسيبويه .
 الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري 175 هـ : هو المؤسس أخذ عن عيسى بن عمر وأبي عمروبن العلاء .
 قال فيه بن المقفع إن عقله أكثر من علمه ( من دلك وضعه لعروض الشعر ورفعه لصرح النحو ورسمه المنهج الذي ألف عليه معجم العين ، أول معجم في العربية مرتباكل دلك حسب مخار ج الحروف بادئا بحرف العين .
 الخليل لم يترك في علم النحو كتابا جامعا بل له كتابات فرعية منها رسالة في معنى الحروف ) وجملة ألآت الإعراب و ( العوامل ) قال الزبيدي عن الخليل : استنبط من علل النحو مالم يستنبط أحد ومالم يسبقه إلىمثلا سابق ) أن الخليل وتلميذه سيبويه هما اللذان فتحا باب التمارين غيرالعملية وعمم النحاة دلك فيما بعد واتسعوا فيه إظهارا لمهارتهم .
 وقد يكون بعض دلك لمحاولة تدريب ناشئة لنحاة على الدقة في التطبيق .
 والخليل يعد بحق واضح النحو العربي في صورته المركبة ، وهو الذي أعطى النحو صيغته النهائية .
 ويعد سيبويه ـ سواء من حيث عوامله ومعمولاته الظاهرة والمقدرة أو من حيث ، مما يجري فيه من شواهد ومن علل وأقيسة ونص على العبارات المهملة وأخرى الشاذة ، ومادمه في علم الصرف من اشتقاقات الكلمة وأبنيتها وتصريفاتها وما يدخلها من قلب وإعلال وغير دلك .
 سيبويه ت 185 هـ : ( على الأرجح ) هو من قرى شيراز تلقى فيها دروسه الأولى ثم انتقل إلى البصرة ولقبه يدل على أصله الفارسي ، واختص بالأخذ عن الخليل أكثر من غيره ، له مؤلف اسمه ( الكتاب ) ألفه بعد وفاة الخليل .
 قال أبو الطيب ( سيبويه أعلم الناس بالنحو بعد الخليل وألف كتابه الذي سماه الناس قرآن النحو ) قال المبرد : ( لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه ) .
 وهو أول كتاب جامع في قواعد النحو والصرف جعله في قسمين كبيرين :
 القسم الأول خاص بالنحو ومباحثه .
 القسم الثاني في المباحث الصرفية .
 فسيبويه رسم أصول العربية وصاغ لها قوانينها الأعربية والصرفية
.  ومن أبرز نحاة البصرة أو مدرسة البصرية : الأخفش الفارسي الأصل والمعروف بالأوسط تلميذ سيبويه الراوي كتابه .
 قطرب البصري : لزم سيبويه ويقال أن سيبويه هو الذي سماه قطرب ( ماأنت الا قطرب ليل ) لما كان يتردد إليه مبكرا .
 أبو عمر الجرمي : لم يلق سيبويه غير أته لزم الأخفش .
 ومننحاة البصرة كذلك المازني الذي لزم الأخفش وأخذ عنه كتاب سيبويه ، والمبرد امام نحاة البصرة في عصره لزم أبا عمر الجرمي لقبه المازني بالمبرد (بالكسر ) لحسن تتبعه في العلل .
 والكوفيون يقولون المبرد بالفتح عنتا لهو سوء قصد .
 وفي الأخير انتهت رياسة النحو البصري بعد المبرد إلى الزجاج وأبي بكر بن السراج ، ولزم المبرد وحسن رأيه فيه حتى كان من يرد أن يقرأ عليه يأمره بأن يعرض على الزجاج ما يريد قراءته .
 وبن السراح : أخد من تلاميذ المبرد ثم أخد عن الزجاج .
 والسيرافي : أخد عن ابن السراج النحو .
 وبالسيرافي تنتهي مدرسة البصرة وتصل إلى غايتها في تأصيل القواعد ، وهي التي شادت بناء النحو الشاهق ، ومنها أخدتم درسة الكوفة ثم المدرسة البغدادية والأندلسية والمصرية .
 ومضت كل مدرسة تحاول أن تدخل على هدا البناء من الإضافات ما يتيح لها أن تكون ذات منهج جديد المدارس النحوية مصطلح يشير إلى اتجاهات ظهرت في دراسة النَّحو العربي ، اختلفت في مناهجها في بعض المسائل النحوية الفرعيّة ، وارتبط كل اتجاه منها بإقليم عربي مُعيّن ، فكانت هناك مدرسة البصرة ، ومدرسة الكوفة، ومدرسة بغداد وهكذا.
  ولم يكن لهذا الارتباط المكاني دلالة علميّة خاصة .
 ويرى بعض الباحثين أن القدماء لم يطلقوا على مسائل الخلاف في النحو القديم كلمة مدرسة ، فلم يؤثر عنهم مصطلح المدرسة البصرية ، ولا مصطلح المدرسة الكوفية ولا مدرسة بغداد ولكننا نقرأ من قولهم : مذهب البصريين ، ومذهب الكوفيين ، ومذهب البغداديين ، وربما ورد في قولهم : مذهب الأخفش ، ومذهب الفراء ، ومذهب سيبويه وغير ذلك .
 غير أن المعاصرين استحسنوا لفظ المدرسة فاستعاروها في مادة الخلاف النحوي ، كما استعاروها في مسائل أدبية أخرى ،
 فأطلقوا على بناء القصيدة عند أوس بن حجر ـ على سبيل المثال ـ بناءً خاصًا يختلف عما عند غيره من الجاهليين ـ واستمرأ هذا النهج في الاصطلاح بعض الباحثين ، فكانت مدرسة الديوان ، وهكذا قيل عن الأدب في المهجر ، على الرغم من الخلاف الكبير بين أدباء المهجر في منازعهم الفكرية .
 ولعل من هذا ماذهب إليه الباحثون المعاصرون في تاريخ النحو والنحاة ، فأثبتوا مصطلح المدرسة في نحو البصريين ، ومثله مدرسة الكوفة ، ومدرسة بغداد أو غير ذلك .
 غير أنك حين تنظر في التراث النحوي لاتجد جمهرة النحاة ـ بصريين وكوفيين وغيرهم ـ قد اختلفوا في أصول هذا العلم ،
 ولم ينطلق هؤلاء من أفكار متعارضة ، ولكنهم قد اختلفوا في مسائل فرعية تتصل بالتعليل والتأويل ، فكان لهؤلاء طريقة أو مذهب ، ولأولئك طريقة أو مذهب آخر ، وقد يكون الاختلاف بين بصري وبصري كما كان بين كوفي وكوفي آخر ، ولا تعدم أن تجد بصريَّا قد وافق الكوفيين ، وكذلك العكس .
 أما كلمة مذهب فترد كثيرًا في الكلام عن الخلاف النحوي ، فيقولون ، مذهب البصريين كما قالوا : مذهب الكوفيين ، ومذهب البغداديين ، وقد تطلق كلمة مذهب على الطريقة التي سار عليها أحد النحاة فقالوا : مذهب سيبويه كذا ، أو قولهم : مذهب الأخفش والفرَّاء كذا .
 والمتصفح لكتب التراث التي تعرضت للبحث في تاريخ النحو والنحاة ، يلحظ خلوّها من مصطلح المدرسة ولكنه يجد أخبارًا مجموعة لعلماء كل عصر على حدة ، ففي الفهرست لابن النديم مثلاً نجد بابًا يفرد للكلام في النحو وأخبار النحويين واللغويين من البصريين ، وبابًا آخر لأخبار النحويين واللغويين الكوفيين ، ثم باباً ثالثًا لأخبار جماعة من علماء النحو واللغويين ممن خلط المذهبين ، وقد عرف هؤلاء الأخيرون عند الدارسين بالبغداديين .
 على أن أبا سعيد السيرافي أفرد كتابًا لأخبار النحويين البصريين بدءًا بأبي الأسود الدؤلي ، وانتهاء بأبي بكر محمد بن السريا لمعروف بابن السراج ، وأبي بكر محمد بن علي المعروف بمبرمان اللذين أخذ السيرافي عنهما النحو ، وعليهما قرأ كتاب سيبويه ، ونص على أن في طبقة أستاذيه هذين ممن خلط علم البصريين بعلم الكوفيين، أبو بكر بن شقير، وأبو بكر بن الخياط.
 وعندما ألّف أبو الطيب عبـدالواحد بن علي اللغوي ( ت 351 هـ ) كتابه في مراتب النحويين ، عرض لعلماء الأمصار الثلاثة ممن اشتغلوا باللغة والنحو ، بدءًا من أبي الأسود ، ومن أخذ عنه، وبعض اللغويين والنحويين من البصريين ، دون أن يعقد لذلك عنوانًا ، حتى إذا فرغ من البصريين عقد بابًا لـعلماء الكوفة، لكن الناظر فيمن سلكهم ضمن الكوفيين يرى بعض العلماء البصريين يسلكون خلال هذه المجموعة ، وعلى سبيل المثال ترى الجرمي وأبا عثمان المازني وأبا العباس المبرد ، ولعله لم يُرد ذلك ، فعقد بعد ذلك بابًا لعلماء الكوفة بعد الكسائي ، حتى إذا فرغ من ذكرهم خصص الباب الأخير لعلماء بغداد .
 أما الزبيدي ، فقد وضع النحويين واللغويين في طبقات ، فابتدأها بطبقات النحويين البصريين ، وصنفهم إلى عشر طبقات ، وانتقل بعدها إلى طبقات النحويين الكوفيين فكانوا ست طبقات ، ثم عاد للغويي البصرة فكانوا سبع طبقات ، فلغويي الكوفة وهم خمس طبقات ، بعد ذلك خصص أبواباً لطبقات النحويين واللغويين المصريين ، فالنحويين واللغويين القرويين ، ثم النحويين واللغويين الأندلسيين .
 وعلى كل حال ، فقد شاع بين المحدثين استقلال كل مصر من هذه الأمصار بمذهب شاع بين علمائها ونحاتها ، وألفّت الكتب في هذا التواطؤ ، فهناك كتاب عن مدرسة الكوفة وآخر عن مدرسة البصرة النحوية ، وصنف الدكتور شوقي ضيف كتابًا في المدارس النحوية أجمل فيه الجهود الخصبة لكل مدرسة ، وكل شخصية نابهة فيها ، فابتدأه بالمدرسة البصرية ، لأنها هي التي وضعت أصول النحو وقواعده ، وكل مدرسة سواها فإنما هي فرع لها ، وثمرة تالية من ثمارها ، وذهب إلى أن الخليل بن أحمد الفراهيدي هو المؤسس الحقيقي لمدرسة البصرة النحوية ، ولعلم النحو العربي بمعناه الدقيق ، ثم تلاه سيبويه فالأخفش الذي أقرأ النحو لتلاميذ من البصرة والكوفة ، ثم جاء بعده المازني ، فتلميذه المبرِّد وهو آخر أئمة المدرسة البصرية النابهين .
 أما نشاط مدرسة الكوفة فبدأ متأخرًا عند الكسائي الذي استطاع هو وتلميذه الفراء أن يستحدثا في الكوفة مدرسة نحوية تستقل بطوابع خاصة من حيث الاتساع في الرواية، وبسط القياس وقبضه، ووضع بعض المصطلحات الجديدة ، والتوسع في تخطئة بعض العرب ، وإنكار بعض القراءات الشاذة.
 أما المدرسة البغدادية فقد قامت على الانتخاب من آراء المدرستين ( البصرية و الكوفية ) مع فتح الأبواب للاجتهاد ، والوصول إلى الآراء المبتكرة .
  ولم يتخلص علماء هذه المدرسة من نزعتهم إلى إحدى المدرستين السابقتين، أو ميلهم إلى مناهجها أكثر من ميلهم إلى المذاهب الأخرى ، أو إلى الاستقلال عنهما .
  ثم ظهرت بعد ذلك المدرسة الأندلسية بدءًا من القرن الخامس الهجري ، ومثلها المدرسة المصرية ، إلا أن علماءهما لم يكونوا إلا تابعين لعلماء البصرة أو الكوفة أو بغداد ، ولم يتجاوزوا الاجتهاد في الفروع .
 قد نسمع بعض الأحيان المدرسة البصرية والمدرسة الكوفية والبغدادية في النحو ... فما هي ؟ ومن هم علمائهااولا دعوني أقول لكم أن أول من أسس علم النحو هو علي بن أبي طالب ... وأبو الأسود الدؤلي نشر هذا العلم وعمل فيه الكتب ودونه ... وجميع كلامه مرفوع لعلي بن أبي طالبوانتشر علم اللغة العربية في العراق خاصة وكل السلام عامة ... ويوجد علماء في الحجاز ومصر والمغرب والاندلسنجيبين في اللغة العربية ... ولكن الذي اشتهرت من المدارس هي المدرسة البصرية والكوفية والبغدادية وقبل أن أتكلم عن العلماء الذين اشتهروا في هذه المدراس دعوني أقول لكم لماذا الخلاف دائم بين هذين المدرسيتين الكوفية والبصرية لأنهم هم أول المدرستين نشأة ... وكثرة التلاميذ والعلماء فيها .
 الخلاف كان من ناحية الاستشهاد في الكلام والاشعار في النحوعلى أنّ دائرة الاستشهاد تتّسع وتضيق بحسب مدارس اللغة والنحو التي نشأت في الحواضر الإسلامية ، فالمدرسة البصرية شدّدت أشدّ التشدّد في رواية الأشعار والأمثال والخطب ضمن الدائرة المشار إليها ، واشترطوا في الشواهد المعتمدة لوضع القواعد أن تكون جارية على ألسنة العرب وكثيرة الاستعمال في كلامهم بحيث تمثّل اللغة الفصحى خير تمثيل ، وحينما يواجهون بعض النصوص التي تخالف قواعدهم ، كانوا يرمونها بالشذوذ أو يتأوّلونها حتى تنطبق عليها قواعدهم .
 أمّا أقطاب المدرسة الكوفية فقد اتّسعوا في الرواية عن جميع العرب بدواً وحضراً ، واعتدّوا بأقوال وأشعار المتحضّرين من العرب ممّن سكنوا حواضر العراق ، واعتمدوا الأشعار والأقوال الشاذّة التي سمعوها من الفصحاء العرب والتي وصفها البصريون بالشذوذ .
 والمدرسة البغدادية توسع فيها بعض أعلام المدرسة البغداديّة في الأخذ والاستشهاد بأشعار الطبقة الرابعة ، فقد استشهد الزمخشري بشعر أبي تمام ت 231 هـ وقال : هو وإن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة ، فهو من علماء العربية ، فأجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه [ 19 ] ، واستشهد الرضي الأسترآبادي شارح أبيات كافية ابن الحاجب بشعر أبي تمام أيضاً في عدّة مواضع من شرحه .
 (نقلا عن كتاب الانباري الانصاف )هذا هو الخلاف الدائر في المدارس الثلاثة البغدادية والكوفية والبصرية .
 نأتي الأن إلى العلماءالمدرسة البصرية تعتبر هي الأكثر انجابا للعلماء في اللغة والأدب ... وأيضا الشعراء ... ولكن غالبيتهم من أصحاب الأهواء ولم يسلم منهم إلا أربعة : أبوعمرو بن العلاء والأصمعي ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد الفراهيدي .
 وأما أصحاب الأهواء والتهممنهم : خلف الأحمر ... أبوعبيدة ... الجاحظ ... وحماد الراوية ... وأبونواس وغيرهمومن العلماء المتقدمين فيها أيضا : سيبويه ... والأخفش ... قطرب ... واليزيدي ... ابن سلام ... وأبوحاتم السجستاني ... ووغيرهم من العلماء المتأخرين : المبرد ... وابوعثمان المازني ... الزجاج ... ابن السراج ... ابن دريد وغيرهم من العلماءونرى الأن كثرة العلماء الذين في البصرة ... لأنهم ولعوا في الجدل والكلام ... ومنهم ظهرت المتعزلة وأصحاب الجدل والكلام أما الكوفة فكانت مدينة الحديث والعلماء والفقه ... منهم أبوحنيفة والمذهب الحنفيوكانت البصرة تفاخر الكوفة بأربع كتب : كتاب الحيوان للجاحظ ... كتاب البينان والتبيين للجاحظ ... كتاب العين للخليل بن احمد ... كتاب الكتاب لسيبويه .
 وكانت الكوفة تفاخر البصرة بـ سبع وعشرين ألف مساءلة لمحمد بن الحسن تلميذ ابو حنيفة في القياس والكلام .
 وكان علماء الكوفة يندمجون مع علماء بغداد لتقارب المدرستين من بعضوكان أبر علماء الكوفة هم : الكسائي ...أبوعمرو الشيباني ... علي بن المبارك ... والفراء ... قطرب وغيرهمومن المتأخرين : أبوالعباس بن ثعلب ... ابن الأعرابي ... ابن السكيت ... أبوجعفر الكوفي .. نفطويه ... وأبوبكر الأنباريوالمدرسة البغدادية فأشهر علماءها : ابن قتيبة الدينوري ... أبوبكر الصولي ... ابن البهلول ... الزمخشري ... أبواسحاق الموصلي ... أبوهفان ... النحاس ... أبوسعيد السيرافي ... أبوالقاسم الزجاجي ... أبوالحسن الرازي ... الرماني ... وعلي بن عيسى الربعي ... الخطيب التبريزي ... وابن فارس ... وابن جني ... وغيرهم من العلماء وطبعا لا نغفل قدر بعض العلماء في خارج العراق ... مثل ... وابن هشام الأنصاري ... وابن سيده وو و و و من العلماء الكبارولكن هذه هي اشهر مدارس النحو في اللغة العربية المدرسة النحويه البصريه سعت إلى أن تكون القواعد مطردة اطرادا واسعا .
 ومن ثم كانت تميل إلى طرح الروايات الشاذة دون أن تتخذها أساسا لوضع قانون نحوي ، رافضة الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف لما ادعي من جواز روايته ، متشددة أشد التشدد في رواية الأشعار ، وعبارات اللغة .
 وتفصيل ذلك أن البصريين تحروا مانقلوا عن العرب ، ثم استقرؤوا أحواله ، فوضعوا قواعدهم على الأعم الأغلب من هذع الأحوال ، فإن وجدوا نصوصا قليلة لاتشملها قواعدهم ، اتبعوا إحدى طريقتين : إما أن يتأولوها حتى تنطبق عليها القاعدة ، وإما أن يحكموا عليها بالشذوذ أو بالحفظ دون القياس عليها .
 وقد غلبوا القياس على المسموع ، مؤولين الشواهد التي تخالف قياسهم ، كما قالوا بما سموه مطردا في السماع شاذا في القياس ، وذلك مثل ( استحوذ ) و ( استصوب ) والقيلس فيهما الإعلال مثل (استقال) و ( استجاد ) و ( استطال ) فقالوا : تحفظ الكلمات النادرة التي وردت عن العرب في هذا الباب،ولايقاس عليها .
ومنهم من ذهب إلى أن اتخاذ القياس ، والقول ( استحاذ ) و ( استصاب ) غير خطأ .
 ومن أهم أعلام هذه المدرسة ابن أبي اسحاق الحضرمي ، وعيسى بن عمر الثقفي ، وأبو عمر بن العلاء ويونس بن حبيب ، وقطرب ، وأبو عمر الجرمي ، وأبو عثمان المازني ، والمبرد ، والزجّاج ، وابن السراج، والسيرافي ، والخليل بن أحمد وسيبويه المدرسة النحوية الكوفية متميزة بالاتساع في رواية الأشعار ، وعبارات اللغة ، عن جميع العرب بدوا أو حضرا ، في حين كان البصريون يتحرجون في الأخذ عمن سكن من العرب في حواضر العراق .
 وخالف الكوفيون البصريين في مسألة القياس ، وضبط القواعد النحوية ، فقد اشترط البصريون ، في الشواهد المستمد منها القياس ، أن تكون جارية على ألسنة العرب وكثيرة الاستعمال ، بحيث تمثل اللغة الفصحى خير تمثيل ، أما الكوفيون فقد اعتدوا بأقوال وأشعار المتحضرين من العرب ، كما اعتدوا بالأشعار والأقوال الشاذة التي سمعوها من الفصحاء العرب ، والتي نعتها البصريون بالشذوذ ، وقد قيل : (لو سمع الكوفيون بيتا واحدا فيه جواز مخالف للأصول ، جعلوه أصلا وبوبوا عليه ) كل ذلك دفعهم إلى أن يدخلوا على القواعد الكلية العامة قواعد فرعية متشعبة ، وربما كان ذلك السبب في سيطرة النحو البصري على المدارس النحوية ، وعلى النحو التعليمي .
 وخالف الكوفيون البصريين في أصل الاشتقاق ( قال الكوفيون أن الفعل هو أصل الاشتقاق في حين ذهب البصريون إلى أن المصدر هو الأصل ) ، وفي العوامل ( ذهب الكوفيون مثلا إلى أن عامل الرفع في المبتدأ هو الخبر كما أن عامل الرفع في الخبر هو المبتدأ ، فهما يترافعان ، في حين قال البصريون إن عامل الرفع في المبتدأ هو الابتداء عند بعضهم ، واعتبر الكوفيون أن ( إن ) وأخواتها تنصب اسمها فقط ، أما الخبر فإنها لا تعمل فيه شيئا ، بل هو باق على رفعه قبل دخولها ، أما البصريون فقالوا إنه مرفوع بها )، كما كان للكوفيين بعض المصطلحات الخاصة بهم ( ومنها مصطلح ( الخلاف ) وهو عامل معنوي كانوا يجعلونه علة النصب في الظرف إذا وقع خبرا في مثل ( الولد أمامك ) في حين كان البصريون يجعلون الظرف متعلقا بمحذوف خبر للمبتدأ السابق ، وكانوا لا يطلقون مصطلح ( المفعول ) إلا على المفعول به ، أما بقية المفاعيل فكانوا يسمونها ( أشباه مفاعيل ) ، وأطلقوا على البدل مصطلح ( الترجمة ) ، وسموا ( لا ) النافية للجنس ( لا ) التبرئة،ولهم بعض المصطلحات التي سادت النحو العربي، ومنها ( النعت ) ، و ( عطف النسق ) .
 ومن أهم علمائهم الكسائي ، وهشام بن معاوية ، والفراء ، وأبوبكر الأنباريالمدارس النحوية مصطلح يشير إلى اتجاهات ظهرت في دراسة النَّحو العربي ، اختلفت في مناهجها في بعض المسائل النحوية الفرعيّة ، وارتبط كل اتجاه منها بإقليم عربي مُعيّن ، فكانت هناك مدرسة البصرة ، ومدرسة الكوفة ، ومدرسة بغداد وهكذا .
 ولم يكن لهذا الارتباط المكاني دلالة علميّة خاصة .
 ويرى بعض الباحثين أن القدماء لم يطلقوا على مسائل الخلاف في النحو القديم كلمة مدرسة ، فلم يؤثر عنهم مصطلح المدرسة البصرية ، ولا مصطلح المدرسة الكوفية ولا مدرسة بغداد ولكننا نقرأ من قولهم : مذهب البصريين ، ومذهب الكوفيين ، ومذهب البغداديين ، وربما ورد في قولهم : مذهب الأخفش ، ومذهب الفراء ، ومذهب سيبويه وغير ذلك .
 غير أن المعاصرين استحسنوا لفظ المدرسة فاستعاروها في مادة الخلاف النحوي ، كما استعاروها في مسائل أدبية أخرى ، فأطلقوا على بناء القصيدة عند أوس بن حجر ـ على سبيل المثال ـ بناءً خاصًا يختلف عما عند غيره من الجاهليين ـ واستمرأ هذا النهج في الاصطلاح بعض الباحثين ، فكانت مدرسة الديوان ، وهكذا قيل عن الأدب في المهجر ، على الرغم من الخلاف الكبير بين أدباء المهجر في منازعهم الفكرية .
 ولعل من هذا ماذهب إليه الباحثون المعاصرون في تاريخ النحو والنحاة ، فأثبتوا مصطلح المدرسة في نحو البصريين ، ومثله مدرسة الكوفة ، ومدرسة بغداد أو غير ذلك .
 غير أنك حين تنظر في التراث النحوي لاتجد جمهرة النحاة ـ بصريين وكوفيين وغيرهم ـ قد اختلفوا في أصول هذا العلم ، ولم ينطلق هؤلاء من أفكار متعارضة ، ولكنهم قد اختلفوا في مسائل فرعية تتصل بالتعليل والتأويل ، فكان لهؤلاء طريقة أو مذهب ، ولأولئك طريقة أو مذهب آخر ، وقد يكون الاختلاف بين بصري وبصري كما كان بين كوفي وكوفي آخر ، ولا تعدم أن تجد بصريَّا قد وافق الكوفيين ، وكذلك العكس .
 أما كلمة مذهب فترد كثيرًا في الكلام عن الخلاف النحوي ، فيقولون ، مذهب البصريين كما قالوا : مذهب الكوفيين ، ومذهب البغداديين ، وقد تطلق كلمة مذهب على الطريقة التي سار عليها أحد النحاة فقالوا : مذهب سيبويه كذا ، أو قولهم : مذهب الأخفش والفرَّاء كذا .
 والمتصفح لكتب التراث التي تعرضت للبحث في تاريخ النحو والنحاة ، يلحظ خلوّها من مصطلح المدرسة ولكنه يجد أخبارًا مجموعة لعلماء كل عصر على حدة ، ففي الفهرست لابن النديم مثلاً نجد بابًا يفرد للكلام في النحو وأخبار النحويين واللغويين من البصريين ، وبابًا آخر لأخبار النحويين واللغويين الكوفيين ، ثم باباً ثالثًا لأخبار جماعة من علماء النحو واللغويين ممن خلط المذهبين ، وقد عرف هؤلاء الأخيرون عند الدارسين بالبغداديين .
  على أن أبا سعيد السيرافي أفرد كتابًا لأخبار النحويين البصريين بدءًا بأبي الأسود الدؤلي ، وانتهاء بأبي بكر محمد بن السري المعروف بابن السراج ، وأبي بكر محمد بن علي المعروف بمبرمان اللذين أخذ السيرافي عنهما النحو ، وعليهما قرأ كتاب سيبويه ، ونص على أن في طبقة أستاذيه هذين ممن خلط علم البصريين بعلم الكوفيين ، أبو بكر بن شقير ، وأبو بكر بن الخياط .
 وعندما ألّف أبو الطيب عبـدالواحد بن علي اللغوي ( ت 351 هـ ) كتابه في مراتب النحويين ، عرض لعلماء الأمصار الثلاثة ممن اشتغلوا باللغة والنحو ، بدءًا من أبي الأسود ، ومن أخذ عنه ، وبعض اللغويين والنحويين من البصريين ، دون أن يعقد لذلك عنوانًا ، حتى إذا فرغ من البصريين عقد بابًا لـعلماء الكوفة ، لكن الناظر فيمن سلكهم ضمن الكوفيين يرى بعض العلماء البصريين يسلكون خلال هذه المجموعة ، وعلى سبيل المثال ترى الجرمي وأبا عثمان المازني وأبا العباس المبرد ، ولعله لم يُرد ذلك ، فعقد بعد ذلك بابًا لعلماء الكوفة بعد الكسائي ، حتى إذا فرغ من ذكرهم خصص الباب الأخير لعلماء بغداد .
 أما الزبيدي ، فقد وضع النحويين واللغويين في طبقات ، فابتدأها بطبقات النحويين البصريين ، وصنفهم إلى عشر طبقات ، وانتقل بعدها .

الهوامش

 1 ـ إبراهيم عبود السامري : المفيد في المدارس النحوية ، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة ، عمان الأردن ، الطبعة الأولى ص 29 .
 2 ـ طبقات النحويين واللغويين : للزبيدي ، دار المعارف ، مصر ، ص 22 .
 3 ـ المدارس النحوية : شوقي ضيف ، دار المعارف ، مصر ، ط 2 ، ص 11 .
 4 ـ إبراهيم عبود السامري : المفيد في المدارس النحوية ، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة ، عمان الأردن ، الطبعة الأولى ص 31 .
 5 ـ ضحى الإسلام : أحمد أمين ، دار الكتاب العربي ، بيروت الطبعة الأولى 1935 .
 6 ـ المدارس النحوية، د. شوقي ضيف ، دار المعارف ، مصر .


BASRAHCITY.NET