تاريخ البصرة قبل الاسلام
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
يجهـل الكثير من النـاس ماضـي البصرة القديم ـ مدينة وإقليما ـ إذ تقتصر معظم الدراسات والتواريخ على سرد تاريخ البصرة بعد الإسلام، ولا تتطرق إلى ذكر تاريخها الغابر.
جاء في خطبة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في أهل البصرة بعد معركة الجمل
عام 36 هـ /656 م « يا أهل البصرة يا أهل السبخة، يا أهل المؤتفكة ائتكفت بأهلها ثلاث وعلى الله الرابعة » إن هذه العبارات كالمدخل لدراسة تاريخ البصرة قبل الإسلام:
إن المؤتفكة تعني المنقلبة أو المندثرة، وقد عرفت البصرة بالمؤتفكة كاسم من أسمائها حتى إن بعض المفسرين قد فسر الآية الكريمة من سورة النجم ( آية 53 ) ( والمؤتفكة أهوى ) بأنها البصرة ففي تفسير ألقمي ج 2 ص 339 قال المؤتفكة.
البصرة في شرح صحيح مسلم للنووي 1/153 ويقال لها ـ أي البصرة ـ المؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها في الدهر وكذلك ورد التفسير نفسه في شرح أصول الكافي للمازندراني ج 12 ص 233. والمستفاد من خطبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إن هنالك ثلاث بصرات قد اندثرت وان اختلفت مسمياتها، وتنبآ عليه السلام باندثار البصرة الرابعة المعاصرة له ـ وقد كانت مدينة ناشئة ـ وها هي خرائبها قرب الزبير تقر بصحة تنبؤات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وكما خاطب المنذر بن الجارود العبدي البصري أيضا قائلاً له:« يا منذر ان للبصرة ثلاثة أسماء سوى البصرة في الزبر الأول لا يعلمها إلا العلماء منها: الخريبة ومنها تدمر ومنها المؤتفكة » ( بحار الأنوار ج 57 ص 225) فما هي هذه المؤتفكات ؟
اولاً : باب سالميتي :
وهي كلمة مأخوذة من الاكدية ( شابليتيوم) ( أي البحر الأسفل فيكون معناها ( باب الحر الأسفل ) . ترد أخبارها في حملة الملك الآشوري سنحاريب البحرية على بلاد عيلام ـ في إيران ـ إذ عسكر فيها، وحدد موقعها في حولياته عام 695 ق. م.
فذكر أنها تبعد ساعتين مضاعفتين عن البحر الأسفل المخيف وبالا كدية 2 بيرو وقد قدرها العالم الاثاري مالاون بأربع وعشرين كيلو متراً، فلو رسمنا خط الساحل بين ابعد موقع كلداني مكتشف وهو في كوت الزين على دجلة قديما ( شط العرب حالياً ) وبين مصب الفرات القديم ( خور الزبير ) لو صلنا إلى نقطة تقع مقابل مدينة الخور الصناعية وهي تبعد 24 كم عن خرائب البصرة فعلى هذا فان موقعها لابد وان يكون تحت خرائب البصرة القديمة فهذه هي المؤتفكة الأولى .
ثانياً : ميناء طريدون :
وهو ميناء بناه نبو خذ نصر الثاني بقصد تحويل التجارة إلى الشرق بدلاً من البحر الأبيض المتوسط الذي كان يسيطر عليه الفينيقيون وميناؤهم صور. وقد ذكرها كتاب الرومان والإغريق باسم تريدون أو ديري دوتس، وحد موقعها الجغرافي بلينيوس الأكبر بين بلاد الفرثيين من جهة والصحراء من جهة أخرى وذكرها اميانوس مرشيلينوس عام 363 م مما يحتمل بقاؤها إلى هذا التاريخ أو ما بعده كما رسمها فنست في تحقيقه رحلة نيرخوس قرب مجرى خور الزبير.
وقد قلبها العرب إلى تردن وتردم وتدمر والاسم الأخير عرفت به البصرة كأحد أسمائها أشار لذلك النووي في شرح مسلم 1 / 153 وتاج العروس للزبيدي 3 / 48 / فقال كانت ـ أي البصرة ـ تسمى في القديم تدمر وفي مسند زيد بن علي ص 360 قال « ويقال لها أي البصرة تدمر ويقال لها حزام العرب، فتكون طريدون هي المؤتفكة الثانية ».
ثالثاً : البصيرة :
وهو من أسماء البصرة القديمة وقد أعاد بناءها اردشير ملك الفرس الساسانيين وسماها ( وهشتا باذ اردشير ) وذكر الأزهري في تاج اللغة إن الخريبة ـ وهي جزء من البصرة ـ يطلق عليها اسم البصيرة الصغرى وفي خطبة الإمام علي عليه السلام والتي نقلها ياقوت الحموي في معجم البلدان مخاطباً أهلها « يا أهل البصرة والبصيرة والسبخة والخريبة » مما يدل على أن هذا الاسم معروف عند العرب قبل بناء البصرة كما هو معروف عند السدوسيين من بكر بن وائل الساكنين في المنطقة نفسها قبل الإسلام كما في رواية ثابت السدوسي المذكورة في معجم البلدان ج1 / 430، وهي ثالثة المؤتفكات .
رابعاً : معنى كلمة البصرة واشتقاقاتها :
وقد خرجها اللغويون العرب تخريجاً مشتقاً من تضاريس الأرض وقد اختلفت اشتقاقاتهم فمنهم من قال:
البصرة الأرض الغليضة وآخر قال أنها حجارة بيضاء كانت في المربد أو هي حجارة سوداء تقطع حوافر الجياد، وليس ذلك بالغريب فهم قد فسروا كثير من الكلمات التي أثبتت التحريات الأثرية بطلانها، مثل بابل التي قال عنها اللغويون أنها من تبلبل الألسن في حين أنها كلمة أكدية من باب ايلو( باب الآلهة ) وكذلك كلمة كربلاء أو دجلة أو الفرات أو الابلة وغيرها وقال حمزة الاصفهاني إنها كلمة فارسية أصلها ( بس راه ) أي الطرق المتشعبة وردها يعقوب سركيس إلى الكلدانية وقال أنها تعني الاقنية أو باصرا ( محل الأكواخ ) إن كلمة بصرة أو بصيرة كلمة أكدية مشتقه من كلمة باب وكلمة ( صيري ) وتعني الصحراء إذ ترد هذه الكلمة في حوليات سنحاريب كاسم قبائل حاربها لأنها تحالفت مع الثائر الكلداني مردوخ بلادا ن وسماهم ( صابي صيري ) أي سكان الصحراء فيكون اسمها ( باب الصحراء ) وهو تفسير قريب جداً إلى موقعها الجغرافي وهناك تسميات قريبة لها استخدمت بها كلمة ( باب ) منها باب سالميتي وباب ايلو وغيرها والله اعلم.
هناك عدة أدلة تاريخية واثارية تدلنا على وجود مدن مندثرة تحت أنقاض البصرة القديمة، فعندما جاء عتبة بن غزوان المازني عام 14هـ ـ 635 م إلى منطقة البصرة شاهد أنقاض مدينة قديمة، فتعطينا المصادر التاريخية عرضاً طوبوغرافياً للمنطقة قبل تخطيطها فقد كانت بها ـ حسب روايات محمد بن اسحاق وأبي مخنف وقدامة بن جعفر ـ سبع دساكر « والدسكرة تجمع سكني يضم عدة أبنية » اثنتان بالخريبة واثنتان بالازد واثنتان في بني تميم وواحدة في الزابوقة ( الطبري 3 \ 591 فتوح البلدان 478 ) كما ذكر قصر سنبيل في رواية أبي عبيدة على انه حصن فارسي في الجاهلية على مرتفع وهو داخل البصرة، كذلك مدينة الرزق وصفها ياقوت الحموي بأنها مدينة في الجاهلية، كما ذكر عدد من الروابي التي بنيت المساكن الجديد عليها مثل: رابية بني تميم واربية بني العنبر وغيرها. من هذا نرى أن تلك الآثار وانتشارها على مساحة واسعة ومتفرقة توحي بان بصرة عتبة بن غزوان قد قامت على أنقاض مدن سبقتها وهي باب سالميتي ثم طريدون ثم البصيرة ولتأكيد ذلك ينبغي أن تجري تحريات واسعة في خرائب البصرة والنزول إلى الأرض البكر، كما هو حال التنقيبات في المدن المندثرة الأخرى.
وبالرغم من سعة مساحة خرائبها، فإنها لم تجد الاهتمام الذي يتناسب مع أهميتها ومكانتها التاريخية والعلمية لا من المديرية العامة للآثار التي نقبت فيها لمواسم هي قليلة بحقها، ولا من جامعة البصرة التي سبق وان نقبت بها عام 1973 نأمل الكثير من الاهتمام بها في المستقبل .
|
|
|
|