دور القاسم نجل السبط الامام الحسن (ع) في واقعة الطف

الاستاذ مجاهد منعثر منشد الخفاجي

   المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
  يقول سيدي القاسم بن الامام الحسن المجتبى (ع) : ـ لا يقتل عمي وأنا حي (1).
  الفتى الذي قدم نفسه بين يدي عمه الحسين بن علي (عليه السلام ) فداءً وحباً وتضحية لدين الله عزوجل .
  وكأني بالحسين كعادة العرب على قتلاها يبنشد شعرا :
  غريبون عن اوطانهم وديارهم ... تنوح عليهم في البوادي وحوشها هل وكيف لا تبكي العيون لمعشر ... سيوف الاعادي في البراري تنوشها بدور توارى نورها فتغيرت ... محاسنها ترب الفلاة نعوشها القاسم بن السبط الامام الحسن المجتبى (ع) تربى على يد أبيه كريم أهل البيت (ع) أمامنا ومولانا الحسن بن علي بن ابي طالب (سلام الله عليهم أجمعين ) .
  وكانت فترة تربيته على نشأت ابيه ثلاثة أعوام ... وقد برزت ملامح طاعته لربه ،وفطنته وذكائه ، وهو الابن الرابع للامام الحسن (ع) .
  بعد الاعوام الثلاثة تولى تربيته سيد الشهداء ابي عبد الله الامام الحسين (ع) لمدة عشرة اعوام ، فتخرج مؤمنا مجاهدا وعمره ثلاثة عشر عام ، وأمه أم ولد اسمها رملة ، إنه غلام لم يبلغ الحلم يشبه الامام الحسن (عليه السلام) كثيراً .
  وصفه المؤرخون بأنه كالقمر في جمال طلعته وبهائه وقد غذاه عمه بمواهبه، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتى صار من أمثلة الكمال والآداب.
  لقد نادى سيدي ومولاي سيد الشهداء الامام الحسين (ع) في يوم العاشر من محرم بعد استشهاد كل أصحابه وأخوته ابناء عمومته وأولاد اخيه وقف الحسين واخذ ينادي بعالي صوته :
  وغربتاه ... واقلة ناصراه ... اما من معين يعيننا ؟ اما من ناصر ينصرنا ؟ اما من ذاب يذب عن بنات رسول الله ؟ وسارعت الفتية من أبناء الامام الزكي أبي محمد عليه السلام إلى نصرة عمهم والذب عنه ، وقلوبهم تنزف دماً على ما حل به من عظيم الكوارث والخطوب ، وبعد أن أستشهاد اثنين من ولد الحسن (عليهم السلام ).
  أنكب القاسم على قدمي عمه يقبلهما ويتوسل اليه أن يأذن له في مقاتلته اعداء الاسلام .
  قال له الامام الحسين (ع) : ـ انت البقية من اخي الحسن(ع) .
  وعاد القاسم الى الخيمة واللوعة في قلبه أخذت منه مأخذا فهو مكسور الخاطر .
  ونظرت اليه أمه رمله وعلمت جواب عمه الامام الحسين (ع) .
  وأخرجت صندوقا كان للامام الحسن (ع) ونادت ولدي قاسم ادنو مني دنا منها وحيدها قالت له هذا ارث ابيك اليك و قد اوصاني ان ادفع اليك لباسه فألبسته ثوب الحسن عليه السلام ، اخذت امه منطقة الحسن وشدتها في وسط القاسم ورفعت الثوب قليلا ثم اخذت قميص ابيه فألبسته ثم البسته عمامة ابيه وقف امامها فأخذت تبكي بحرقة وألم ولوعة دفعت اليه كتابا مختوما من ابيه قالت له بني قاسم : هذه وصية ابيك الحسن اليك كتبها اليك يوما وهو يبكي .
  تلقفها القاسم متلهفا وفيها خط والده (ع) فتحها فاذا فيها : بسم الله الرحمن الرحيم بني قاسم انا ابوك الحسن اذا رأيت عمك الحسين يجير ولا يجار ويطلب النصرة فلا ينتصر له وحيدا فريد بلا ناصر ولا معين فابذل مهجتك دونه فان أبى وامتنع فأره خطابي هذا فأنه لن يردك ابدا .
  بكى القاسم بلوعه وحرقة ! وماذا يدور في وجدانه أهو اليتم أو الفاجعة والمصاب الذي حل بعمه الحسين (ع) .
  وذهب راكضا الى عمه الحسين (ع) رافعا يده بالكتاب فأخذ الحسين الكتاب فعرف انه خط اخيه الحسن اخذه فقبله وقرأ ما فيه فأجهش بالبكآء ، ثم ضم الحسين القاسم الى صدره فاخذا يبكيان معا حتى اصيبا بحالة من الغشيان في البكآء.
  قال القاسم : يا عماه لا طاقة لي على البقآء وأرى اخوتي وبنو عمومتي مجزرين على الرمضآء ، واراك وحيد فريدا ، فقال له عمه : يا ولدي اتمشي برجلك للموت ؟ احاب القاسم : وكيف لا يا عم وانت بقيت بين الاعدآء وحيدا فريد لم تجد ناصرا ولا معينا روحي لروحك الفدآء ونفسي لنفسك الوقآء ، سأله : بني قاسم كيف تجد الموت ؟ فأجاب الغلام اجابة الكبار ذوي البصيرة : في سبيلك ياعم اشهى من العسل .
  وجد الامام الحسين (ع) اجابات القاسم اليه تشير الى نضوجه وبصيرته ... فأذن له بالقتال ... وبعد تحرك القاسم ناداه الامام الحسين (ع) : ـ حبيبي قاسم هلم الي اذا هو عمه من جديد دنا منه فأخذه الحسين ضمه الى صدره قبل ما بين عينيه تناول الحسين عمامة القاسم قسمها نصفين وادلاها على وجهه واخذ اثوب القاسم فشقه وأداله على ابن اخيه كهيئة الكفن و كأن الحسين تيقت ان القاسم مقتول لا محالة .
  فما لبث عمّه الحسين إلا وثار ثورة الضرغام بيده السيف وعليه قميص وإزار وفي رجليه نعلان ، جعل يمشى بين صفوف الأعداء ويضرب بسيفه ، مستخفاً بالموت غير آبه بالجمع كما يفعل الرجال الصناديد ولكن انقطع شسع نعله اليسرى فأنف أن يحتفي في الميدان وهو ابن أعظم الأنبياء فوقف يشد الشسع ، وهو يرتجز ويقول :
ان  تنكروني فأنا نجل iiالحسن      سبط  النبي المجتبى والمؤتمن
هـذا حسين كألاسير iiالمرتهن      بين قوم لا سقوا صوب المزن
  وأنف سليل النبوة والإمامة أن تكون إحدى رجليه بلا نعل فوقف يشده متحديا لهم ، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش وهو عمرو بن سعد الأزدي فقال : والله لأشدن عليه، فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له : " سبحان الله !! وما تريد بذلك ، يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم ... فلم يعن الخبيث به ، وشد عليه فضربه بالسيف على راسه الشريف فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعا يتخبط بدمه القاني، ونادى بأعلى صوته : " يا عماه أدركني (2) .
  وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطع قلبه وفاضت نفسه أسى وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق، وطرحه أرضا ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلا أن الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلا والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه : " بعدا لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ، عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوت ، والله هذا يوم كثر واتره ، وقل ناصره (3).
  وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه ، حتى فاضت نفسه الزكية بين يديه ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر، وسائر القتلى الممجدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرية نبيهم ، قائلا : ( اللهم احصهم عددا ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبدا صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً (4).
  وكانت المصيبة العظمى عند امه رملة هذه الام التي لم يكن في دنياه بعدوفاة الحسن (ع) الا القاسم جآءت بالقرب من جثمان وليدها كأي أم فقدت عزيزها تحاول ان تغالب الواقع الذي امامها وتغالبه بقلبها وظنونها اذ لا ينعقدقلبها على ان ابنها مات وخسرته ولن تراه بعدهذا اليوم وقفت على ذاك الجثمان المضمخ بدمه تنادي : قاسم ثمرة قلبي مهجت فؤادي قرة عيني قاسم انا امك اجبني قبل ان تزهق روحي ... لم يجب الحبيب ولن يجيب فانكبت تقبل قدميه وصدره ويديه وتمسح الدم عن راسه ووجهه باكيا نائحة مذهولة
  نظر الحسين إلى القاسم ، بدا الفتى الشهيد كما لو كان نائماً .
  تذكر الإمام طفولته ، كان عمره ثلاثة سنوات عندما استشهد أبوه الحسن مسموماً ... جاء يبكي إلى عمّه ، يريد أن يقول له أنّه أصبح يتيماً ، و ها هو الآن يلتحق بأبيه الشهيد .
  طبع العمّ قبلة على جبين ابن أخيه الشهيد ، و غادر الخيمة حزيناً وقد ترك متاع الحياة الدنيا وضحى بروحه فداءً لعمه الحسين (ع) فالف سلاما يوم ولد ويوم يبعث حيا .

الهوامش


(1) حياة الإمام الحسين 3 : 255 .
(2) البداية والنهاية 8 : 186
(3) حياة الامام الحسين 3 : 256 .
(4) مقتل الخوارزمي 2: 28.






BASRAHCITY.NET