العولمة ظاهرة قديمة تختفي ثم تعود بأشكال أخرى

الاستاذة منى عبيد علي

   المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
  ان العولمة اصبحت الكلمة المفتاحية اليوم فلا احد يستطيع ان يطرق اي موضوع من الموضوعات داخل منضور العولمة ؟ وقد انبثقت الكلمة في التسعينيات لكي تدل على تعددية القول المتجاوز للحدود القومية الضيقة او التي اصبحت ضيقة حالياً .
  وهي قوى فرضت نفسها على العالم المعاصر .
  ولذلك اصبحت المسألة تشغل الفلاسفة والباحثين والامؤرخين ، اي المثقفين بشكل عام وراحو يقدمون التحليلات العميقة حول اصل العولمة وطبيعتها ، ونتائجها او انعكاساتها على حيات كل واحد منا .
  وقد ضهرت بحوث غزيرة ومضيئة عن العولمة كظاهرة اقتصادية او سياسية ، وقل انهم درسو ابعادها الاقتصادية والسياسية ولكن السؤال الاساسي المطروح هو التالي : هل العولمة ظاهر خاصة بالعالم المعاصر فقط ، ام ان لها جذور في الماضي ؟ في الواقع يمكن ان نتحدث عن عدة مراحل للعولمة عبر التأريخ وكل هذه المراحل كانت تنمو بأتجاه عولمتنا الحالية التي تعتبر تتويجا لكل ( العولمات ) السابقة اذ جاز التعبير .
  فالعولمات السابقة كانت نسبية محدودة في نطاقها علة عكس عولمتنا الحالية التي اصبحت واسعة بحجم العالم .
  ولهذا السبب فأن المؤرخين ومجموعة من الباحثين العالميين يتحدثون عن عدة انماط ومراحل للعولمة عبر التأريخ .
  فهناك او لا العولمة القديمة او العتيقة وهي تدل على مرحلة ما قبل التصنيع وضهور الدولة القومية بالمعنى الحديث للكلمة ، وقد عاشت البشرية كلها مدة ازمان طويلة داخل هذه المرحلة حتى القرن التاسع عشر او العشرين .
  وكانت شبكات العولمة في تلك المرحلة قد صنعت من قبل لملوك العظام والابطال المحاربين الذين راحو يبحثون عن الثورة والمقامات العظيمة والشرف في البلدان الرائعة والاراضي البعيدة .
  كما وصنعت من قبل المتصوفين المتدينين والرحال المهاجرين الذين يبحثون عن الايمان وينشرونه في الممالك النائية .
  كذلك صنعت من قبل التجار والمغامرين الذين كانوا يبحثون عن الربح والفائدة مغامرين بأنفسهم عبر الحدود والقارات . . .
   وأما الدراسة التي كتبها الباحث الانجليزي المشرف على الكتاب أ . ج . هو بكنز فتحمل العنوان التالي : ( تأريخ العولمة او عولمة التأريخ ) وهو عنوان ناجح وشديد الدلالة وبتدئها بدراسة موضوع العولمة والتأريخ الكوني ويقول بما معناه : على الرغم من ان مصطلح العولمة حديث العهد الا ان فلاسفة الماضي كانوا يحلمون بتشكيل تاريخ كوني للبشرية ولا نستطيع ان نفهم السمات المميزة للعولمة الحالية الا اذ رجعنا الى جذورها في الماضي .
  فهناك تراثي تاريخي كبير يمتد من ابن خلدون الى ارنولد توينبي وما بعده ،وهذا تراث كان يدرس تاريخ البشرة كلها او يحلم بدراسته على الاقل بهذا المعنى فأن ابن خلدون كان احد الاوائل الذين فكروا بكتابة التاريخ الكوني للبشرية وان كان قد ركز اهتمامه على دار الاسلام ومنطقة المغرب بشكل خاص واذ ما حصرنا اهتمامنا بالتاريخ الاوربي لاحضنا ان فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر كانوا اول من فكرو بالتأريخ الكوني وليس بتاريخ اوربا وقد شكلوا ايديلوجا كوسموبوليتية ( اي كونية ) تنطبق على جميع البشر او ينبغ ان تنطبق وهي ما يدعى بفلسفة التنوير فالفيلسوف الفرنسي فولتير مثلاً لم يهتم فقط بكتابة تأريخ فرنسا وانما الف كتاباً ضخماً بعنوان : مقالة حول التاريخ العام وحول عادات الامم وروحها ( 1756 ) وهو كتاب لا يبتدئ بالتحدث عن عادات اوربا وتقاليدها في ذلك العصر بل انما عن عادات وتقاليد الصين .
  وهكذا راح المفكرون لاول مرة يتجاوزون انتماءاتهم الدينية والعراقية لكي يفكرو بالجنس البشري كله وكان ذلك بداية العولمة .
  واما الفكر الالماني هيردر فقد طرح عام ( 1774 ) اسئلة جرئة لا تختلف كثيراً عن الاسألة التي نطرحها حالياً في سياق العولمة المعاصرة يقول مثلاً : حتى كانت الارض كلها مرتبطة ببعضها البعض من قبل بعض الخيوط الناظمة كما هو حاصل اليوم ؟ او : حتى كان البشر يمتلكون كل هذه القوة والالات التي نمتلكها اليوم والتي تجعلنا نهزم امم الارض عن طريق نفقة الاصبع او تحريك الة واحدة بواسطة الاصبع ؟ ثم جاء بعدئذ الفيلسوف الكبير ايمانويل كانط وراح يفكر بمستقبل البشرية كلها تحت عنوان : افكار من اجل التاريخ الكوني ضمن مقصد كوسموبوليتي وقد بلور فيه الفكرة الاساسية التالية : وهي ان الواقع الاخلاقي اذا ما اجتمع مع العقل سوف يشكلان الصيغة الافضل لهداية البشر والسير على طريق الحكمة والتقدم والسعادة وعندئذ تصبح هذه الصيغة المتوازنة قابلة للتطبيق كونياُ على جميع المجتمعات البشرية .
  ثم الف بعدئذ كتاباً اخر يمشي في ذات الاتجاه تحت عنوان : السلام الابدي بين الامم ، وفيه شرح خطة لنشر النظام اليبرالي الكوسموبوليتي بين البشر من اجل منع اندلاع الحرب بين الامم وعندئذ يمكن للبشرية ان تعيش في سلام دائم وتتخلص من دمار الحروب وماسيها .
  فالعقل والاخلاق المستقيمة هما وحدهما القادران على حكم البشر بطريقة صحيحة .
  وهكذا نلاحظ ان فكر العولمة الكونية كانت موجودة قبل عصرنا الراهن ولها جذور فب الماضي البعيد .


BASRAHCITY.NET