أُسرة آل المظفّر

الشيخ مدرك الحسّون

بسم الله الرحمن الرحيم

دور الأُسر العلميّة في البصرة
(أُسرة آل المظفّر)


   تُعدُّ آثار العلماء من أبرز الوثائق التاريخيّة التي تُبرز مدى أصالة وحضارة أي بلد ما بين الشعوب والبلدان الأُخَر ، لذا نجد الأُمم المتقدّمة التي تفتخر بعلمائها وتراثهم، تشكّل وزارات ومؤسّسات ولجان غايتُها جمع التراث وتطويره ودعمه وحفظه من الضّياع والسّرقة والتلف، وفي مدينة البصرة لدينا كثيرٌ من العلماء والأُسر العلميّة التي تركت تراثاً ضخماً يمكن أنْ تستفيدَ منه الأجيال، وتنهل منه بما يخدم الحركة العلميّة في البلد، ومن أجل ذلك، نحاول تسليط الضوء على أسرة علميّة نزلت البصرة، وهي من بين الأُسر التي تركت آثاراً كثيرة بقيت إرثاً حضاريّاً للأجيال، ألا وهي أُسرة آل المظفّر، وهي مِنَ الأُسَر المعروفة في البصرة، وإحدى أقدم العوائل التي نزلت المدينة، والتي تصدّر بعض علمائها في فترةٍ من الزمان الزعامة الدينيّة والسياسيّة، والحركة الإصلاحيّة في المجتمع الإسلامي والشيعي بالخصوص، ورفد بعض رجالاتها الحركة العلمية بوافر علمهم في مختلف أبواب المعرفة، حتى برز من بينها كثيرٌ من المفكرين والأُدباء والشعراء والفقهاء والمحقّقين ، لذا من الجدير بالملاحظة والاهتمام أن تؤرّخ مثل هذه الشخصيّات اللامعة في المجال الثقافي والفكري وتوثّق، لأنهم ثمار هذه المدينة وموروثها المشرق، وهويّتها الثقافيّة، إذ إنَّ آثار العلماء والمفكرين ومؤلّفاتهم تأتي في مقدّمة الموروثات التي تُظهر ملامح التراث وأصالته، وكذلك من الناحية العلميّة، إذ يمكن القول بصورة عامّة هم الثروةُ الوطنيّةُ والإرثيّةُ القائمة بحدِّ ذاتها.
  تنتمي أسرة آل المظفّر إلى جدِّهم الأعلى الذي هاجر من مدينة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العراق قبل القرن العاشر الهجري، بعدما نشطت الحركة الوهّابية في الجزيرة العربية آنذاك، فحدثت مواجهات ومقاومات بينها وبين معارضيها، فقاوموا لفترة من الزمن، ثمّ بعد ذلك اضطرَّ بعض قيادات الأُسرة إلى الهجرة، ومن بينهم عميد الأُسرة المظفرّية الشيخ المظفر، فعاش جزءاً من حياته في النجف الأشرف والجزء الآخر في أطراف البصرة، وكان مرشدها ومرجعها الدّيني، نزح أولاً إلى البصرة، واستقرّ في شمالها ملتحقاً بقبيلة بني أسد في منطقة الجزائر، لأنّ الجزائر آنذاك من أفضل المناطق التي تهاجر إليها القبائل للسكن والعيش فيها ، لتوفّر ضرورات العيش فيها، وسهولة النقل والانتقال من خلالها، وتواجدُ الماء للشرب وسقي الزرع والماشية، فاتخذ من بعض جزرها موطناً له ولعائلته وأخوته، عرف بعد ذلك باسم (المُدينة) ، تصغير كلمة (مدينة) ، تكريماً لمدينة الرسول الأكرم صلى الله عليه واله.
  تنتسب الأسرة إلى جدِّها الشّيخ مُظفّر بن أحمد بن محمّد بن عليّ بن حسين بن محمّد بن أحمد بن مظفّر بن الشيخ عطاء الله بن الشيخ أحمد بن قطر بن الشيخ خالد بن عقيل من آل مسروح، وهم حرب آل علي ـ بمعنى أنصار أو شيعة ـ من أهل العوالي، من العرب المضريّة.
  وقد قام عميد الأُسرة عند نزوله منطقة الجزائر بأدوار متميّزة في عدة مجالات، فقد قام ببناء السّدود حول الجزر، وقام بتجفيفها فحفر الأنهار والجداول، وقام – أيضاً - بالزّراعة والغرس، فتحوّلت الأرض بكفاحه وكفاح أبنائه إلى جنّةٍ في بضع سنوات، ما جعله كثير السّخاء بعطائه، وبهذا العمل لم يمّد لأحدٍ يده، ولم يكن بحاجة إلى التقرّب للولاة.
  من ناحيةٍ أُخرى قام الشيخ بمنع أهله وأسرته من الدّخول في العشائريّة والقبليّة التي كانت تتقاتل فيما بينها أو ضدّ الولاة والسّلطات فجنّبها كلَّ ما يحصل من تلك النزاعات من قتل وتشريدٍ ونهبٍ، كما زرع الشّيخُ في قلوب أفراد أسرته الحبَّ بأكبر معانيه وروح الإخاء والتّعاون وتبنّي الصّدق والاستقامة في العمل، وعدم تقبّل الظّلم أو أيِّ خطأ بدافع أخلاقيٍّ أو تربويٍّ ، وقام بتزويج بنات أسرته بأولادها من دون إبقاء أيِّ أعزب بلا زواج، إشباعاً لرغبتهم بالحلال، وبأقلّ التكاليف حتى إنَّ المهور للزّواج كانت بسيطة جدّاً، ومن كان لا يقدر على ذلك كان الشّيخ يقوم بتدبيره على نفقته الخاصّة، وحتى لم يبقَ في الأسرة شابٌّ أو شابَّة بدون زواج، وحول الدّواوين إلى مدارس للتوعية والدّراسة الدّينيّة، فقد جاء في تاريخ الأسرة المظفّريّة أنَّه "من خلال ما نُقل لنا على ألسنة المعمّرين من سكّان المناطق المجاورة لجزائر المدينة، التي أقام بها الشّيخ المظفّر رحمه الله، صار ديوانه ملاذاً لذوي الحاجات والمسائل الشّرعيّة ولطلّاب الحوزة وقرّاء القرآن الكريم ... بحيث استقطب حوله كلَّ العشائر والقبائل، ودانت له، ثمّ أخذت عنه أحكامها الشَّرعيّة وتعلّمت منه اللّين والتّسامح، فكانوا يدعونه لإتمام المصالحات، أو لفكِّ النزاعات، وممّا قاله عنه بعضُهم : أنَّ وجود الشّيخ المظفّر أو أحد أولاده في أيِّ نزاعٍ كان يُنهي ذلك النزاع بالمعالجة السّريعة، ويُرتضىً كلُّ ما يقول به الشّيخ من حكمٍ شرعيٍّ.
  أمّا المجالُ السياسي، فقد عمد الشّيخ المظفّر إلى إبعاد تربية أولاده عن الانخراط مع أيِّ فصيلٍ متطرّفٍ، والاكتفاء بنشر الثّقافة وتعليم العلوم، وتركيز المبادئ والقيم، حتى أنجب رحمه الله خير الرّجال وأكثر الناس مثاليّةً وأخلاقاً، وحتى كانوا محلّ احترام العشائر كافة وتقديرها، وحفّزه هذا على إرسال أولاده للدّراسة في النّجف الأشرف فيما بعد ونَقْل بعض الأسر والعوائل العديدة للنّجف للإقامة في الكوفة والنّجف للدّراسة هناك، ورفض الشيخ المشاركة بالحروب العثمانيّة التوسّعيّة، لذا لم يُذكر أنَّ أحداً من المظافرة قَبِلَ أنْ يتحوّل إلى إقطاعيٍّ أو يعمل مع الاقطاعيين.
  وأخيراً : ترجع الشّهرة العلميّة للأسرة إلى المظفّر بن أحمد زعيم الأسرة المظفّريّة وذلك بعد التحاقه بالحوزة العلميّة في النّجف الأشرف في القرن الثاني عشر فبرز نجمه حتى أصبح علماً من أعلام النّجف، وهكذا ظلّت الأسرة بعد الشّيخ المظفّر تنمو وتزداد شهرةً ومكانةً علميّةً جيلاً بعد جيلٍ حتى برز من بينهم علماء وعظام كانوا مفخرة لأجيال، ومن أعلام الأسرة، ومن أبرزهم :
  الشّيخ إبراهيم بن محمّد بن عبد الحسين (المعروف بالجزائريّ) ، من أجلّاء علماء زمانه وفقهائه ... كان مجتهداً مسلّم الحكم، وكان مُسلّم الاجتهاد معلوم الفضيلة.
  الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن الشّيخ سعد المظفّر، ترجمه صاحب ماضي النجف وحاضرها فقال : (حاز ملكة الاجتهاد وأحرز مرتبة من مراتبه العالية) .
  الشّيخ محمّد حسن بن الشّيخ محمّد بن الشّيخ عبد الله بن محمّد المظفّر، أصبح مرجعاً بعد وفاة المرجع السّيّد أبي الحسن الأصفهانيّ، إذ قلّده البعض من كسبة النجف وضواحي البصرة.
  الشّيخ محمّد رضا بن الشّيخ عبد الله بن الشّيخ أحمد بن المظفّر، مؤسّس منتدى النشر وكلّيّة الفقه في النجف الأشرف.
  وفي الختام : تبقى بعض حلقات حياة عميد الأُسرة المظفرّية غائبة ومغيّبة عنّا، لبعد زمانه وعدم تدوين كثير من حلقات حياته الخالدة، كتاريخ التحاقه بالحوزة العلميّة في النجف الأشرف ومشايخه وتلامذته وآثاره العلميّة، أملاً أن يجود بها الزمان.