سكن البصرة في النصف الاول من القرن الاول الهجري شخصيتين اشتهرتا بالزهد والورع والتقوى والاستقامة واصبحتا من اعلامها المشهورين حيث ذكرا كان اسم البصرة علماً عالياً معهما وهما الحسن البصري ومحمد بن سيرين . . . وسوف نسلط الضوء هنا في هذا البحث على الشخصية الثانية وعائلته وذلك بسبب شهرة الاول دون الآخر رغم ان الاثنين كانا في العلم والورع سواء ، كان رائد هذه الاسرة في البصرة واول من سكنها رجل يدعى سيرين ، ويحكي الطبري ان سيرين كان من اهل عين التمر ، وعندما فتحها خالد بن الوليد عام 12 هـ كان سيرين من بين السبايا ووقع في حصة الصحابي انس بن مالك فأسلم ( الطبري 4 / 47 ) ، ثم اصطحب سيرين انس بن مالك في فتوحات العراق ، ويبدو ان انساً قد اخذ معه سيرين اول الأمر الى المدينة حيث سكن معه هناك ، وتزوج سيرين في المدينة من امرأة تدعى صفية وهي من موالي ابو بكر الصديق وقد حضر زواجهما ثمانية عشر صحابياً من شهد بدراً فيهم ابي بن كعب الذي كان يدعو لهم وهو صائم ( ابن سعد 7 / 61 ) ، وعندما سكن انس بن مالك البصرة في خلافة عمر بن الخطاب اصطحب مولاه سيرين ، حيث شارك سيرين في فتوحات فارس وحصل على بعض الامال فأراد شراء نفسه من مولاه فأمتنع انس أول الامر فشكاه الى الخليفة عمر فأجبر عمر انساً على مكاتبته فكاتبه على عشرة الآف درهم فدفعها اليه بعد فتح تستر حيث يشير ابن سعد الى ان سيرين تاجر بغنائم حصل عليها من تستر فربحت فدفعها الى أنس ( 7 / 62 ) ، كان لسيرين ثلاث زوجات ولد له منهن ثلاث وعشرون ولداً سكنوا البصرة واشتهر عدد منهم بالرواية والعلم ، وكان ابوهم سيرين كما يقول ابن سعد روى شيئاً يسيراً من الحديث وكان له مجلس يجتمع اليه الناس بناه من جذع النخل ( 7 / 62 ) يعد محمد بن سيرين اشهر اولاد ابيه ومن كبار مشاهير رجالات البصرة عبر تاريخها ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان بن عفان اي في سنة 33 هـ ( ابن سعد 7 / 100 ) وكان مع ورعه وزهده يعمل تاجراً حيث اشتغل بتجارة البز ، وذكر الذهبي انه كان يتجر بين البصرة والكوفة ، وروي عن احد التجار انه وجده في سوق الكوفة يبيع البز فأذا باع شيئاً كرره على المشتري ثلاث مرات . . . هل رضيت . . . ثم يشهد عليه ، وكان لا يتعامل بدراهم الحجاج ربما لموقفه المعارض له .
ومن ورعه في التعامل انه اذا وقع له شيء من الدراهم الزيوف او الممسوحة عزله فكان عنده منها خمسمائة درهم عند وفاته ( سير 4 / 62 ) ، وبسبب ذلك فقد ركبه الدين وتعرض للحبس من قبل المدينين ، وقيل عن سبب حبسه انه اشترى طعاماً من باربعين الف درهم فوجد في بعض منه فأرة فصب الزيت فركبه الدين ، وقيل انه اشترى طعاماً فقيل له ان في اصله شيء من حرام فتصدق بماله كله فحبسته امرأة من مال لها عليه ( ابن حجر ، تهذيب التهذيب 9 / 19 ) .
اما عن علمه وورعه فقد يطول الحديث عنه ولكننا نذكر بعض من سيرته في هذا الباب ، فقد اشارت بعض الوارات الى انه قد اخذ الحديث من ثلاثين صحابياً منهم انس بن مالك والحسن بن علي وعبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب وعثمان بن ابي العاص الثقفي وابو سعيد الخدري وابو قتادة الانصاري وغيرهم ، افتتح ابن سعد ترجمته بقوله ( كان ثقة مأموناً عالياً رفيعاً فقيهاً إماماً كثير العلم . . . ) ( 7 / 99) ، وقال عنه الاصمعي ( اذا حدثكم الأصم ـ يعني ابن سيرين ـ فأشدد يدك به ) ( ابن خلكان ، وفيات 3 / 322 ) ، وقال عنه الذهبي ( انه ثقة حجة كبيرة العلم . . . ) ( تذكرة الحفاظ 1 / 77 ) ، وقال عنه ابن حيان في الثقات ، انه كان فقيهاً فاصلاً حافظاً متقناً . . . ) ( 5 / 348 ) ، ومنهجه في الرواية انه لا يروي الحديث بالمعنى بل على حروفه ( ابن سعد 7 / 100 ) ، اما تلامذته فقد اخذ عنه الكثير عن أهل زمانه منهم مالك بن دينار البصري وعبد الله بن عون البصري وهشام بن حسان الازدي ومعمر بن راشد الازدي وقتادة بن دعامة الدوسي وغيرهم . . . ( انظر الذهبي ، سير 4 / 607 ) .
كما أثنى العلماء على زهده وورعه ، فكان من ورعه انه اذا ذكر عنده الموت مات كل عضو منه على حده ، وتكلم مرة فقال : ما رأيت الرجل اسود ، ثم قال : استغفر الله ما اراني الا اغتبته . . . وكان له بستان من كرم فأرادوا عصره ، فقال لا تعصروه بيعوه رطباً ، فقالوا لا ينفق علينا ، قال فأجعلوه زبيباً ، قالوا لا يجيء منه الزبيب فضرب الكرم والقاه في الماء خوفاً من ان يستخدم في الخمر ( ابن سعد 7 / 103 ) ، كما اشتهر محمد بن سيرين بتعبير الرؤيا حتى قيل عنه ، ( انه لم يرى اجبن منه في فتوى ولا اجرأ على رؤيا ) ( الذهبي سير 4 / 614 ) ، وكان يقول عن الرؤيا ( اتق الله في اليقظة لا يضرك ما رأيت في المنام ) ( ابو نعيم ، حلية الأولياء 2 / 273 ) ، ومن تعابيره انه رأى رجلاً في المنام ساقاه من ذهب فقيل له ما صنع الله بك قال بدلني بساقين من ذهب أمشي بها في الجنة ، قلت بماذا ، قال : بعزل الاذى عن الطريق ( ابن نعيم حلية 2 / 273 ) ، ومنها انه جاءه رجل فقال له رأيت كأني احرث ارضاً لا تنبت فقال له انت رجل تعزل عن امرأتك ، وجاءه آخر فقال له رأيت في المنام طفلاً يصيح في حضني فقال : انت تضرب على العود ( الذهبي ، سير 4 / 607 وما بعدها ) ، اما علاقته مع حكام عصره فأنه رحمه الله كان بعيداً لا يصل الى بابهم ولا يجاملهم او يجالسهم ، فروي ان الحجاج رأى في المنام كأن اثنين من الحور اتتاه فأدرك واحدة وفاتته الاخرى فسمع الخليفة عبد الملك بذلك فقال هنيئاً ابا محمد ، فذكر ذلك لمحمد بن سيرين فقال اخطأ والله هذه فتنتان يدرك احداهما وتفوته الاخرى ، فأدرك دير الجماجم وفاتته فتنة يزيد بن المهلب ، وبعث عمر بن هبيرة والي العراق الى محمد بن سيرين والحسن البصري والشعبي فدخلوا عليه فقال ابن هبيرة لابن سيرين يا ابا بكر ماذا رأيت منذ قربت من بابنا فقال : رأيت ظلماً فاشياً قال : فغمزه ابن أخيه بمنكبه فالتفت اليه ابن سيرين فقال انك لست تسال إنما انا أسأل ، فأرسل الى الحسن بأربعة الآف والى محمد بثلاثة الآف والشعبي بالفين فلم يأخذها ابن سيرين ( ابو نعيم ، حلية 2 / 268 ) ، كما بعث عمر بن عبد العزيز الى الحسن البصري ومحمد بن سيرين فذهب اليه الحسن ولم يذهب ابن سيرين ( الذهبي ، سير 4 / 613 ) ، وكان يقال لا يوجد عند السلطان احد اصلب من محمد بن سيرين ( الذهبي ، سير 4 / 614 ) ، وفي حياته الاجتماعية الخاصة فإنه لم يتزوج الاَ امرأة واحدة ولد له منها ثلاثون ولداً ولم يبق منهم الا عبد الله بن محمد بن سيرين الذي قام بسداد دين ابيه بعد وفاته ، ومن احفاده في البصرة عبد الملك بن عبد الله بن محمد بن سيرين عده الذهبي من الطبقة السابعة ( تقريب التهذيب 1 / 363 ) ، وكذلك من احفاده في البصرة بكار بن محمد بن عبد الله بن سيرين ذكره ابن حجر في لسان الميزان قال انه توفي في عام 224 هـ وقال عنه إنه كان ضعيف الحديث ، أما اخوه محمد بن سيرين فقد قدمنا انه كان له نحو ثلاث وعشرون اخاً واختاً منهم معبد بن سيرين وكان اسن من محمد واقدم اخوته قال عنه ابن سعد انه عاش في البصرة ثقة سمع من الصحابي ابي سعيد الخدري ( الطبقات ، 7 / 108 ) ، وكذلك يحيى بن سيرين وهو اخو محمد لأمه صفية كان حافظاً الاّ انه قليل الحديث مات في الطاعون قبل موت محمد ، أما اخوه انس بن سيرين فقد سمي باسم مولاه انس بن مالك خادم الرسول ( ص ) وكان قليل الحديث ايضاً استعمله مصعب بن الزبير على ممدينة الابلة وتوفي عام 118 هـ ( ابن سعد 7 / 108 ـ 109 ) ، ومن اشهر اخواته حفصة بنت سيرين قال عنها ابن سعد كانت محدثة ثقة توفيت عام 101 هـ وكان لها مسجد في منطقة العرانيس بالبصرة ( 7 / 107 ) ، ومن اخواته ايضاً عمرة بنت سيرين وسودة بنت سيرين ذكرهما ابن سعد ( 7 / 180 ) ، توفي محمد بن سيرين في يوم الجمعة التسع من شوال سنة 110 هـ / 729 م وذلك بعد وفاة الحسن البصري بمئة يوم وكان الحسن عندما حضرته الوفاة أوصى ان يصلي عليه محمد بن سيرين وكان محمد في السجن فأخبر الامير فاخرجه ثم صلى على الحسن وبعد فراغه رجع الى السجن دون ان يمر بأهله ، وغسله ايوب السختياني وعبد الله بن عون ودفن في البصرة خارج المربد من جهة البادية وقبره الى اليوم معروف .