بحيث إذا سئل عن لمية ذلك الحكم أتى به وبجميع أصوله التي ( يبتنى ) (1) عليها ، وانما وجب ذلك ، لأن الفتوى مشروطة بالعلم بالحكم ، وما لم يكن عارفا بتلك الأمور لا يكون عالما به ، لأن الشك في احدى مقدمات الدليل (2) أو في مقدمات مقدماته ، شك في الحكم ، ولا تجوز الفتوى مع الشك في الحكم.
[ و ] إذا تقرر هذا : فلا يجوز ( للمفتي ) (3) أن يتعرض للفتوى حتى يثق من نفسه بذلك ، ولا يجوز للمستفتي أن يستفتيه حتى يعلم منه ذلك من ممارسته وممارسة العلماء وشهادتهم له باستحقاق منصب الفتوى وبلوغه اياه ، ولا يكتفي العامي بمشاهدة المفتي متصدرا ، ولا داعيا إلى نفسه ، ولا مدعيا ، ولا باقبال العامة عليه ، ولا اتصافه بالزهد والتورع ، فانه قد يكون غالطا في نفسه أو مغالطا .
وإذا ثبت ذلك : فان كان في البلد واحد بهذه الصفة تعين للفتوى ، وان كان أكثر : فان تساووا في العلم والعدالة جاز استفتاء كل منهم ، فان اختلفوا في الفتوى ـ والحال هذه ـ كان المستفتي مخيرا في العمل بقول أيهم شاء وان كان أحدهم أرجح في العلم والعدالة وجب العمل ( بفتواه ) (4).
وان اتفق اثنان أحدهما أعلم والاخر أكثر عدالة وورعا ، قدم الاعلم ، لأن الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع ، والقدر الذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم ، فلا اعتبار برجحان ورع الآخر.
(1) في بعض النسخ : يبنى.
(2) في نسخة اضافة : أو في مقدمات الدليل.
(3) في نسخة : من المفتى.
(4) في نسخة : بقوله.
معارج الاصول ـ 202 ـ تفريع
العالم إذا كان من أهل الاجتهاد وحصل له حكم الواقعة بنظر صحيح ، لم يجز له العدول إلى العمل بفتوى من هو أعلم [ منه ] ، لأنه عدول عما يعلم الى ما يظن ، وكذا ( ان ) (1) لم يجتهد ، لم يجز له الرجوع إلى قول الاعلم ، لأن تحصيل العلم ممكن في حقه .
أما إذا أشكل عليه طريق الواقعة جاز له الرجوع الى الاعلم ، لأنه بالنسبة إليه في تلك الواقعة كالعامي . المسألة الرابعة : لا يجوز للعامي أن يفتي بما ينقله عن العلماء ، سواءا نقل عن حي أو ميت ، لأنه قول بما لا يعلم فكان حراما .
المسألة الخامسة :
إذا أفتى المجتهد عن نظر في واقعة ، ثم وقعت بعينها في وقت آخر ، [ فان ] كان ذاكرا لدليلها جاز له الفتوى ، وان نسيه افتقر الى استئناف نظر ، فان أدى نظره إلى الاول فلا كلام ، وان خالفه وجب الفتوى بالأخير ، والاولى تعريف من استفتاه [ أولا ] ، لأنه عامل بقوله وقد رجع عنه ، فلو استمر لبقي عاملا بالفتوى من غير دليل ولا فتوى مفت.
المسألة الاولى :
اتفق أهل العدل على قبح التصرف فيما فيه مضرة خالية ( من ) (2) نفع ، وكذا ما لا منفعة فيه ، وكذا ما علم وجه قبحه كالظلم .
(1) في نسخة : إذا.
(2) في بعض النسخ : عن.
معارج الاصول ـ 203 ـ
واختلفوا فيما عدا ذلك مما ينتفع به ولا يعلم كونه واجبا ولا مندوبا ، فقال قوم : انه على الحظر ، وهو مذهب طائفة منا وقال الآخرون : على الاباحة ، و هو اختيار المرتضى « ره » ، وتوقف آخرون فيه عقلا ، وأباحوا منها ما دل عليه الشرع ، وهو اختيار شيخنا المفيد ره .
احتج القائلون بالحظر بأنه تصرف في ملك الغير بغير اذنه ، فيكون قبيحا .
أجاب الآخرون بأنا لا نسلم أنه تصرف بغير اذن المالك ، وهذا لأن الأدلة التي نذكرها يلزم منها الاذن ، سلمنا أنه لم يأذن ، لكن كما لم يأذن لم يحظر ، ثم نقول : لا نسلم أن مال الغير يحرم التصرف فيه الا مع المنع ، أو مع مضرة تتوجه على المالك ، أو فوت مصلحة له ، يدل على ذلك أنا نستبيح الاستناد الى جدار الغير من غير اذنه ، وكذا نستضيء بضوء مصباحه ، ولا علة لذلك الا خلوه من غرض يقتضي المنع ، والاشياء بالنسبة إلى الله سبحانه تجري هذا المجري.
ثم ما ذكر تموه منقوض بالتنفس في الهواء فانه يستباح عقلا من غير توقف على اذن.
لا يقال : ذلك لمكان الضرورة ، لأنا نقول : لو كان كذلك لما جاز أن نستبيح منه الا ما يدفع الضرورة ، وليس كذلك ثم نقول : لو قبح منه الاقدام لأنه تصرف في مال الغير ، لقبح الاحجام ( لمثل ) (1) ذلك ، إذ تصرف في نفسه ـ اقداما ( أو ) (2) احجاما ـ تصرف في ملك الغير ، فيلزم الجمع بين النقيضين.
احتج القائلون [ بالاباحة ] بوجوه :
(1) في نسخة : بمثل.
(2) في نسخة : و.
معارج الاصول ـ 204 ـ
الاول : ان ذلك تحصيل لمنفعة خالية عن الضرر ، فتكون حسنه ، أما الاولى : فلان المالك سبحانه لا ينتفع ولا يستضر ولا ينقص ملكه شيء ، وأما المنتفع فلانا نتكلم على هذا التقدير ، وأما الثانية : فيدل عليها وجهان : الاول : أن مثل ذلك خال عن وجوه القبح ، والثاني : أن الاستظلال بجدار الغير يحسن من غير اذن مالكه ، ولا وجه لحسنه الا عدم استضرار المالك وانتفاع المستظل ، وهذا الوجه حاصل فيما ذكرنا [ ه ] فيجب أن يحسن .
لا يقال : هذا باطل بالربا والزنا وغير ذلك من المحرمات ، فان المالك لا يستضر بفعلها ، وهي نافعة للفاعل ، فلو كان وجها يقتضي الحسن لما قبح شيء منها .
لأنا نقول : ورود النهي عنها دليل على اشتمالها على مفسدة عائدة إلى المكلف تقتضي المنع ، وليس كذلك ما نحن فيه .
الوجه الثاني : لو لم تكن ( المشتهيات ) (1) على الاباحة لزم أن يكون تعالى فاعلا للقبيح ، لكن هذا اللازم محال ، وبيانه : ( انه ) (2) بتقدير أن لا يكون مخلوقه للانتفاع : اما أن يكون في خلقها غرض حكمي ، واما أن لا يكون ، ويلزم من الثاني العبث ، وان كان : فاما النفع عائد إليه تعالى وهو محال ، واما الضرر عائد إلى غيره ، وهو قبيح ، لعدم الوجوه المقتضية لحسنه ، فتعين أن تكون للانتفاع .
ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون فيه غرض غير الانتفاع ؟ وهو اما امتناع المكلف منه ، لتحصيل الثواب بمنع النفس عن تناوله ، أو ليستدل بها على الصانع سبحانه ، أوغير ذلك من الوجوه.
(1) في بعض النسخ : المشتبهات.
(2) في نسخة : أن.
معارج الاصول ـ 205 ـ
فان قالوا : خلقها يحسن مع عدم التكليف.
كان لقائل أن يمنع ذلك. وكذلك ( ان قالوا ) : (1) يمكن الاستدلال على الصانع سبحانه من دونها بغيرها .
قلنا : العقل لا يمنع من ترادف الأدلة ولا يقبحه .
الوجه الثالث : قالوا قد علمنا حسن التنفس في الهواء من دون اذن المالك والاستظلال بجدار الغير والاستضاءة (2) بمصابيحه ، والعلة في ذلك أنه لا ضرر فيه على المالك ولا على غيره ، إذ لا وجه يضاف إليه الجواز الا ( ذاك ) (3) ولأن ذلك الحكم يدور مع هذه العلة وجودا وعدما ، فيجب أن يحسن التصرف فيما ذكرناه للاشتراك في الموجب.
الوجه الرابع : الاستدلال بالشرع على الاباحة ، وهو أمران : القرآن ، و الاجماع.
أما القرآن : فقوله تعالى : « خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً » (4) وقوله تعالى : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ » (5) وقوله : « احل لكم الطيبات » (6).
وأما الاجماع : فلان أهل الشرائع كافة لا يخطئون من بادر الى تناول شيء من المشتهيات ، سواء علم الاذن فيها من الشرع أو [ لم ] يعلم ، ولا
(1) في نسخة : أن يقول.
(2) في النسخ : الاستضواء.
(3) في بعض النسخ : ذلك.
(4) البقرة / 29
(5) الاعراف / 32
(6) المائدة / 5.
معارج الاصول ـ 206 ـ
يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكل أن يعلم التنصيص على ( الاباحة ) (1) ويعذرونه في كثير من المحرمات إذا تناولها من غير علم ، ولو كانت محظورة لاسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الاذن.
المسألة الثانية :
إذا ثبت حكم في وقت ، ثم جاء وقت آخر ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، هل يحكم ببقائه على ما كان ؟ أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دلالة ، كما يفتقر نفيه الى الدلالة.
حكي عن المفيد « ره » : أنه يحكم ببقائه ما لم تقم دلالة على نفيه ، وهو المختار.
وقال المرتضى « ره » : لا يحكم بأحد الامرين الا لدلالة .
مثال ذلك : المتيمم إذا دخل في الصلاة ، فقد أجمعوا على المضي فيها ، فإذا رأى الماء في اثناء الصلاة ، هل يستمر على فعلها استصحابا للحال الاول ؟ أم يستأنف الصلاة ( بوضوء ) (2) فمن قال بالاستصحاب قال بالاول ، ومن ( اطرحه ) (3) قال بالثاني .
لنا وجوه :
الاول : ان المقتضي للحكم الاول ثابت فيثبت الحكم ، والعارض لا يصلح ( رافعا ) (4) له ، فيجب الحكم بثبوته ( في ) (5) الثاني.
أما أن مقتضي الحكم الاول ثابت ، فلانا نتكلم على هذا التقدير.
(1) في بعض النسخ : اباحته.
(2) في بعض النسخ : لوضوء.
(3) في نسخة : طرحه.
(4) في نسخة : دافعا ، و ( له ) محذوفة من احدى النسخ.
(5) في نسخة : على.
معارج الاصول ـ 207 ـ
وأما أن العارض لا يصلح رافعا ، فلان العارض انما هو احتمال تجدد ما يوجب زوال الحكم ، لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه ، فيكون كل واحد منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن ( رافع ) (1).
الوجه الثاني : الثابت أولا قابل للثوبت ثانيا ـ والا لانقلب من الامكان الذاتي الى الاستحالة ـ فيجب أن يكون في الزمان الثاني جائز الثبوت كما كان أولا ، فلا ينعدم الا ( لمؤثر ) (2) ، لاستحالة خروج الممكن من أحد طرفيه الى الآخر ( لا ) (3) لمؤثر ، فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثر ، فيكون بقاؤه أرجح من عدمه في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح واجب .
الوجه الثالث : عمل الفقهاء باستصحاب الحال في كثير من المسائل ، و الموجب للعمل هناك موجود في موضع الخلاف ، ( فيثبت ) (4) العمل به .
أما الاولى : فكمن تيقن الطهارة وشك في الحدث ، فانه يعمل على يقينه ، وكذلك بالعكس ومن تيقن طهارة ثوبه في حال ، بني على ذك حتى يعلم ( رافعها ) (5) ومن ( شهد ) (6) بشهادة بنى على بقائها حتى يعلم رافعها ، ومن غاب غيبة منقطعة ، [ حكم ] ببقاء أنكحته ، ولم تقسم أمواله ، وعزل نصيبه في المواريث ، وما ( ذاك ) (7) [ الا ] لاستصحاب حال حياته .
(1) في نسخة : دافع.
(2) في نسخة : بالمؤثر.
(3) في بعض النسخ : الا.
(4) في نسخة : فثبت.
(5) في بعض النسخ : خلافها.
(6) في نسخة : يشهد.
(7) في نسخة : ذلك.
معارج الاصول ـ 208 ـ
وهذه العلة موجودة في مواضع الاستصحاب ، [ فيجب العمل به ].
الوجه الرابع : أطبق العلماء على أن مع عدم الدلالة الشرعية يجب ( بقاء ) (1) الحكم على ما تقتضيه البراءة الاصلية ، ولا معنى للاستصحاب الا هذا.
فان قال : ليس هذا استصحابا ، بل هو ابقاء الحكم على ما كان ، لا حكما بالاستصحاب .
قلنا : [ نحن ] نعني بالاستصحاب هذا القدر ، لا نعني به شيئا سوى ذلك.
احتج المانع :
بأن ذلك ( حكم ) (2) بغير دليل ، فيكون باطلا.
أما انه حكم بغير دليل ، فلأن ثبوت الحكم بالدليل في وقت أو في حال لا يتناول ما عدا تلك الحال وذلك الزمان ، فلو حكم بذلك الحكم في الحال الثاني ، لكان حكما بغير دليل.
وأما أن الحكم بغير دليل باطل ، فبالاتفاق .
الوجه الثاني : لو كان الاستصحاب حجة ، لوجب فيمن علم زيدا في الدار ولم يعلم خروجه أن يقطع ببقائه فيها وكذا كان يلزم إذا علم أن زيدا حي ، [ ثم ] انقضت مدة ولا يعلم فيها موته ، أن يقطع ببقائه ، وكل ذلك باطل .
الوجه الثالث : استدل بعض الجمهور بأن العمل بالاستصحاب يلزم منه التناقض ، فيكون باطلا ، وذلك أن الاستدلال به كما يصح أن يكون حجة للمستدل ، يصح مثله لخصمه ، فانه إذا قال : الثابت قبل وجود الماء للمصلي المضي في صلاته ، فيثبت ذلك الحكم إذا وجد الماء ، كان لخصمه أن يقول :
(1) في نسخة : ابقاء.
(2) في بعض النسخ : عمل.
معارج الاصول ـ 209 ـ
الثابت اشتغال ذمته بصلاة متيقنة ، فيجب أن يبقى الشغل ، ( أو ) (1) يقول : قبل الصلاة لو وجد الماء لما جاز [ له ] الدخول فيها بتيممه ، فكذلك بعد الدخول فيها .
والجواب عن الاول : أن نقول : قوله : ان ذلك عمل بغير حجة ، ( قلنا ) : (2) لا نسلم ، لأن الدليل دل على أن الثابت لا يرتفع الا برافع ، فإذا كان التقدير تقدير عدمه ، كان بقاء الثابت راجحا في اعتقاد المجتهد ، والعمل بالراجح لازم.
قوله في الوجه الثاني : لو كان الاستصحاب حجة ، لوجب القطع ببقاء ما يعلم الانسان وقوعه في الازمان المنقضية إذا لم يعلم له رافعا .
قلنا : نحن لا ندعي القطع ، ولكن ندعي رحجان الاعتقاد لبقائه ، وذلك يكفي في العمل به .
قوله في الوجه الثالث : يلزم منه التناقض.
( لا نسلم ) (3) ، إذ ليس كل موضع يستعمل فيه الاستصحاب يفرض فيه ذلك الفرض ، ووجود التعارض في الأدلة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث تسلم عن المعارض ، كما في أخبار الآحاد والقياس ، عند من يعمل بهما .
والذى نختاره نحن : أن ننظر في الدليل المقتضي لذلك الحكم ، فان كان يقتضيه مطلقا ، وجب القضاء باستمرار الحكم ، كعقد النكاح مثلا ، فانه يوجب حل الوطء مطلقا ، فإذا وقع الخلاف في الالفاظ التي يقع بها الطلاق كقوله أنت خلية ، وبرية ، فان المستدل على [ أن ] الطلاق لا يقع ( بها ) (4) لو قال : حل الوطء
(1) في نسخة : و.
(2) في نسخة : قلت.
(3) في نسخة : فلا نسلم.
(4) في بعض النسخ : بهما.
معارج الاصول ـ 210 ـ
ثابت قبل النطق بهذه ، فيجب أن يكون ثابتا بعدها ، لكان استدلالا صحيحا ، لأن المقتضي للتحليل ـ وهو العقد ـ اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أن الالفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيكون الحكم ثابتا ، عملا بالمقتضي .
لا يقال : المقتضي هو العقد ، ولم يثبت أنه باق ، فلم يثبت الحكم.
لأنا نقول : وقوع العقد اقتضى حل الوطء لا مقيدا بوقت ، ( فلزم ) (1) دوام الحل ، نظرا الى وقوع المقتضي لا الى دوامه ، فيجب أن يثبت الحل حتى يثبت الرافع ، فان كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه ، فليس ذلك عملا بغير دليل ، وان كان يعني به أمرا وراء ذلك ، فنحن مضربون عنه.
المسألة الثالثة :
النافي للحكم : ان قال : لا أعلم ، لم يكن عليه دليل ، لأن قوله لا يعد مذهبا ، وان قال : أعلم انتفاء الحكم ، كان عليه اقامة الدليل كما يلزم المثبت ، وسواء نفى حكما شرعيا أو عقليا ، ويدل على ذلك وجهان :
الاول : ان النافي جازم بالنفي فيكون مدعيا للعلم به ، فاما أن يكون علمه اضطرارا أو استدلالا ، والاول : باطل ، لأنا [ لا ] نعلم ذلك ، فتعين الثاني ويلزم من ذلك تعويله على مستنده ان كان معتقدا ، وابرازه ان كان مناظرا ، ليتحقق دعواه وليتمكن من تركيب الحجة على مناظره .
الثاني : [ لو لم يلزم ] النافي اقامة الدلالة ، لزم من ذلك ( التفصي ) (2) من الأدلة في كل دعوى ، لكن ذلك باطل .
وبيان ذلك : ان المدعي لقدم العالم إذا طولب بالدلالة ، عدل عن هذا اللفظ ، بأن يقول : ليس العالم بحادث ، فيسقط عنه الدليل ، لكن لو صح ذلك له ، لامكن خصمه أن يقول : ليس العالم بقديم ، فيسقط عنه الدليل أيضا ، و
(1) في نسخة : فيلزم.
(2) في بعض النسخ : التقضى.
معارج الاصول ـ 211 ـ
بطلان ذلك ظاهر .
احتج الخصم :
بأن ( النفي ) (1) عدم ، والعدم لا يفتقر الى الدلالة.
وبأن اثبات الاحكام موقوف على ثبوت الأدلة ، فيكون عدمها مستندا الى عدم الأدلة ، كما أن المعجز دلالة على النبوة ، وعدمها دليل على عدم النبوة ، ويؤيد ذلك قوله ـ عليه السلام ـ : « البينة على المدعي واليمين على ( من انكر ) (2) ».
والجواب :
قوله : النفي عدم ، قلنا : هذا صحيح ، لكن الجزم بذلك النفي هو المفتقر الى الدلالة.
قوله : اثبات الاحكام يفتقر الى الدلالة ، فيكفي في نفيها عدم الدلالة.
قلنا : هذا محض الدعوى ، فما الدليل عليه ؟ فان من علم دليل الثبوت جزم به ، ومن عدمه فانه يجوز ثبوت الحكم كما يجوز عدمه ، إذ عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول كما يدعيه .
قوله : عدم المعجز دليل على عدم النبوة. قلنا : لا نسلم ، فان من لا يعلم معجز النبي ، لا يجوز له الجزم بنفي ( نبوته ) (3) ، أما إذا ادعى النبوة ولا معجز له ، فانا ننفي ( نبوته ) (4) لا لعدم المعجز ، [ بل ] لعلمنا عقلا أنه لو كان نبيا لكان له معجز ، فنستدل بعدم اللازم على عدم الملزوم ، وذلك من الأدلة القاطعة ، فكان مستند الحكم بانتفاء ( نبوته ) (5) إلى ذلك الدليل ، لا إلى مجرد عدم المعجز
(1) في نسخة : المنع.
(2) في نسخة : المنكر.
(3 و 4 و 5) في نسخة : ثبوته.
معارج الاصول ـ 212 ـ
وكذا إذا حكمنا بانتفاء واقعة ، لو وقعت لعلمت ، مثل انكار مدينة قريبة لم يسمع ببنائها ، أو وقوع حادثة في ملأ ولم تسمع منهم ، فانا نحكم بانتفاء ذلك كله ، لأن ذلك مما لو كان لظهر ، فلما لم يظهر ، دل ذلك على عدمه.
وأما قوله عليه السلام : « واليمين على من أنكر » فانا نقول : لا نسلم أن القول قوله من غير حجة ، بل الحجة معه بتقدير عدم البينة من طرف المدعي ، و ذلك انه إذا ادعى عليه عينا فانها تكون في يده ، واليد دلالة [ على ] الملك ، فكان الحكم باليد لا بعدم البينة بمجرده ، وان ادعى عليه دينا ، فالاصل براءة الذمم ، فهو مستدل بالاصل على أن ايجاب اليمين عليه يجرى مجرى الحجة في جنبه شرعا ، وذلك مما يدل على أنه لم يثبت قوله بعدم البينة ، إذ لو ثبت ثبوتا باتا [ تاما ] لما كلف [ اليمين ].
وإذا ثبت هذا ، فاعلم : أن الاصل خلو الذمة عن الشواغل الشرعية ، فإذا ادعى مدع حكما شرعيا ، جاز لخصمه أن يتمسك في انتفائه بالبراءة الاصلية ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا ، [ لكان ] عليه دلالة شرعية ، لكن ليس كذلك فيجب نفيه ، ولا يستمر (1) هذا الدليل الا ببيان مقدمتين :
احداهما : انه لا دلالة عليه شرعا ، بأن ( نضبط ) (2) طرق الاستدلالات الشرعية ، ونبين عدم دلالتها عليه.
والثانية : أن ( نبين ) (3) أنه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلت عليه احدى تلك الدلائل ، لأنه لو لم يكن عليه دلالة ، لزم التكليف [ بما لا طريق للمكلف الى
(1) كذا في النسخ ولعل الصحيح : ولا يتم.
(2) في نسخة تضبط.
(3) في نسخة : أن يتبين.
معارج الاصول ـ 213 ـ
العلم به ، وهو تكليف ] بما لا يطاق ، ولو كان عليه دلالة غير تلك ( الأدلة ) (1) لما كانت أدلة الشرع منحصرة [ فيها ] ، لكن قد بينا انحصار الاحكام في تلك الطرق.
وعند هذا يتم كون ذلك دليلا على نفي الحكم ، والله أعلم.
( فيما ألحق ) (2) بأدلة الاصول وليس منها ، وفيه مسائل :
المسألة الاولى :
إذا اختلف الناس على أقوال ، وكان بعضها يدخل في بعض ـ كما اختلف في حد الخمر ، فقال قوم : ثمانون ، وآخرون : أربعون وفي دية اليهودي ، فقيل : كدية المسلم ، وقيل : ثمانون ، وقيل : على النصف وقيل : على الثلث ـ هل يكون الاخذ بالاقل حجة ؟ حكم بذلك قوم ، وأنكر [ ه ] آخرون.
أما القائلون [ بذلك ] فقالوا : قد حصل الاجماع على وجوب الأقل ، و الاجماع حجة ، واختلف في الزائد ، والبراءة الاصلية نافية له ، فيثبت الأقل بالاجماع ، ( وينفى ) (3) الزائد بالاصل ، لأن التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية وقد بينا أن مع عدمها يكون العمل بالبراءة الاصلية [ لازما ].
لا يقال : الذمة مشغولة بشيء ، وقد اختلف فيما تبرأ به الذمة ، وفي الأقل خلاف ، وبالاكثر تبرأ الذمة يقينا ، فيجب الاخذ به احتياطا لبراءة الذمة.
(1) في نسخة : الدلالة.
(2) في نسخة : فيما يتعلق
(3) في نسخة : وينتفى.
معارج الاصول ـ 214 ـ
لأنا نقول : لا نسلم اشتغال الذمة مطلقا ، لأن الاصل دال على خلوها ، فلا تشتغل الا مع قيام الدليل ، وقد ثبت اشتغالها بالاقل ، فلا يثبت اشتغالها بالاكثر ، [ والاشتغال بالاكثر ] مغاير للاشتغال المجرد ، ومغاير للاشتغال بالاقل فيكون الاشتغال بالاكثر والاشتغال المطلق منفيا بالاصل .
لا يقال : فان لم يثبت دلالة على الأكثر ، فانه من الممكن أن يكون هناك دليل ، ولا يلزم من عدم الظفر به عدمه ، فكان العمل بالاكثر أحوط.
لأنا نقول : ذلك الدليل المحتمل لا يعارض الاصل ، لأنا قد بينا أن مع تقدير عدم الدلالة الشرعية يجب العمل بالبراءة الاصلية ، وذلك يرفع ما أوما [ نا ] إليه من الاحتمال.
المسألة الثانية :
إذا اختلف ( الامة ) (1) على قولين ، هل يجب الاخذ بأخفهما حكما بتقدير عدم الدلالة على كل واحد منهما ـ ؟ صار إلى ذلك قوم وقال آخرون : بالاثقل ، والكل باطل .
واحتج الاولون : بالنقل والعقل.
أما النقل : فقوله تعالى : « يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ » (2) و قوله : « ما جعل عليكم في الدين من حرج » (3) وقوله ـ عليه السلام ـ : « لا ضرر في الاسلام » وقوله : « بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ».
[ و ] أما العقل : فلان احتمال الاخف مساو لاحتمال الاثقل في عدم الدلالة والاخذ ( بالاثقل ) (4) احتياط لحق الله سبحانه ، وهو غني لا يتضرر ، وبالاقل
(1) في بعض النسخ : الامامية.
(2) البقرة / 185.
(3) الحج / 78.
(4) في نسخة : بالاكثر.
معارج الاصول ـ 215 ـ
تخفيف عن العبد ، وهو فقير يتضرر ، فيكون ( الترخيص ) (1) في حق من لا ( يتضرر ) (2) أولى.
احتج القائلون بالاثقل بوجهين :
أحدهما : أن العمل بالاثقل أحوط ، فيجب الاخذ به.
الثاني : أن العمل بالاثقل افضل ، فيجب العمل به ، أما أنه أفضل : فلقوله عليه السلام : « أفضل العبادات أحمزها » وأما انه إذا كان أفضل وجب العمل به فلان الافضل خير ، فيجب الاستباق إليه بقوله : « فاستبقوا الخيرات » (3).
والجواب :
أما الآيات ، فالجواب عن الاولى : لا نسلم أن ارادة اليسرلا تتناول الاثقل بل هو يسر [ كما أن الاخف يسر ] ، ثم لا يلزم من ارادة اليسر اختصاصها بالايسر .
وعن الثانية : لا نسلم أن الاثقل حرج ، فان قال : الحرج هو الضيق ، وهو يتناول الاثقل ، قلنا : لو تناول الاثقل لاجل ضيق المشقة ، لتناول الاخف فالاولى : صرف الضيق إلى ما يقصر عنه الطاقة ، [ فيكون متناولا للاثقل ، لأنه مما يدخل تحت الطاقة ].
والجواب عن الخبر الاول : أن نقول : نفي الضرر يتناول الجميع ، و هو متروك الظاهر ، فيحمل على ما وقع الاتفاق على تركه .
وعن الخبر الثاني : أن الخفيف والثقيل سهل سمح ، إذ كل واحد منهما دون طاقة العبد.
ثم الخبران معارضان بقوله ـ عليه السلام ـ : « الحق ثقيل مري ، والباطل خفيف وبي ».
(1) في نسخة : الترجيح.
(2) في نسخة : يستضر.
(3) البقرة / 148.
معارج الاصول ـ 216 ـ
والجواب عن المعقول : أن نقول : قوله : ان الله سبحانه غني لا يتضرر فيكون الترخيص في حقوقه ، قلنا : حقوق الله لا تنفك عن مصلحة عائدة الى العبد ، فيكون الترخيص فيها ترخيصا في حق المتضرر ، فعدوله حينئذ يكون تركا ( لمصلحة ) (1) ، وهو غير جائز .
ويمكن أن يجاب الآخرون بأن نقول : قوله : العمل بالاثقل أحوط ، قلنا : سنبين أن الاحتياط دلالة ضعيفة ، بل باطلة .
قوله : العمل بالاثقل أفضل ، قلنا : متى ؟ إذا ثبت أنه مأمور [ به ] ، أو إذا لم يثبت ، ونحن فلا نسلم أنه مأمور [ به ] ، قوله عليه السلام : « أفضل العبادات أحمزها » قلنا : لا نسلم ( أنه ) (2) عبادة ، وانما يثبت ذلك إذا ثبت أنه مأمور به .
المسألة الثالثة :
العمل بالاحتياط غير لازم، وصار آخرون : إلى وجوبه وقال آخرون : مع اشتغال الذمة يكون العمل بالاحتياط واجبا ، ومع عدمه لا يجب .
مثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الاناء فقد نجس ، واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة ؟ أم لابد من سبع ، وفيما عدا الولوغ ، هل يطهر بغسلة ؟ أو لابد من ثلاث.
احتج القائلون بالاحتياط : بقوله عليه السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ، وبأن الثابت اشتغال الذمة يقينا ، فيجب أن لا يحكم ببراءتها الا بيقين ، ولا يقين الا مع الاحتياط.
والجواب عن الحديث : أن نقول : هو خبر واحد ( لا نعمل ) (3) بمثله في
(1) في نسخة : لمصلحته.
(2) في نسخة : أنها.
(3) في نسخة : لا يعمل.
معارج الاصول ـ 217 ـ
مسائل الاصول ، سلمنا [ ه ] ، لكن الزام المكلف بالاثقل مظنة الريبة ، لأنه الزام مشقة لم يدل الشرع عليها ، فيجب اطراحها بموجب الخبر.
والجواب عن الثاني : أن نقول : البراءة الاصلية ـ مع عدم الدلالة الناقلة ـ حجة ، وإذا كان التقدير [ تقدير ] عدم الدلالة الشرعية على الزيادة ، كان العمل بالاصل أولى ، وحينئذ لا نسلم اشتغال الذمة مطلقا ، بل لا نسلم اشتغالها الا بما حصل الاتفاق عليه ، أو اشتغالها بأحد الامرين.
ويمكن أن يقال : قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الاناء ، واختلفنا فيما به يطهر ، فيجب أن يؤخذ بما حصل الاجماع عليه في الطهارة ( ليزول ) (1) ما أجمعنا عليه من النجاسة بما أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة . المسألة الرابعة : شريعة من قبلنا هل هي حجة في شرعنا ؟ قال قوم : نعم ما لم يثبت نسخ ذلك الحكم بعينه ، وأنكر الباقون ذلك ، وهو الحق.
لنا : وجوه.
الاول : قوله تعالى : « وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى » (2).
الثاني : لو كان متعبدا بشرع غيره ، لكان ذلك الغير أفضل ، لأنه يكون تابعا لصاحب ذلك الشرع ، لكن ذلك باطل بالاتفاق .
الثالث : لو كان متعبدا بشرع غيره ، لوجب عليه البحث عن ذلك الشرع لكن ذلك باطل ، لأنه لو وجب لفعله ، ولو فعله لاشتهر ، ولوجب على الصحابة والتابعين بعده والمسلمين إلى يومنا هذا متابعته عليه السلام على الخوض فيه ، ونحن نعلم من الدين خلاف ذلك.
الرابع : لو كان متعبدا بشرع من قبله ، لكان طريقه إلى ذلك اما الوحي أو
(1) في نسخة : فيزول.
(2) النجم / 3.
معارج الاصول ـ 218 ـ
النقل [ و ] يلزم من الاول أن يكون شرعا له لا شرعا ليغره ، ومن الثاني التعويل على نقل اليهود ، وهو باطل ، لأنه ليس بمتواتر ، لما تطرق إليه من القدح المانع من افادة اليقين ، ونقل الآحاد منهم لا يوجب العمل لعدم الثقة.
واحتج الآخرون :
بقوله تعالى : « فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ » (1) وبقوله : « ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا » (2) وبقوله : « شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا » (3) وبقوله : « إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ » (4) وبقوله : « إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ » (5).
وبأنه عليه السلام رجع في معرفة الرجم في الزنا إلى التوارة.
أجاب الاولون :
عن الآية الاولى : بانها تتضمن الأمر بالاقتداء بهديهم كلهم ، فلا يكون ذلك اشارة إلى شرعهم ، لأنه مختلف ، فيجب صرفه إلى ( ما اتفقوا ) (6) عليه ، وهو دلائل العقائد العقلية ، دون الفروع الشرعية.
وعن الثانية : بأن ملة ابراهيم ـ عليه السلام ـ المراد بها العقليات ، دون الشرعيات يدل على ذلك قوله : « وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ » (7) فلو
(1) الانعام / 90.
(2) النحل / 123.
(3) الشورى / 13.
(4) النساء / 163.
(5) المائدة / 44.
(6) في نسخة : ما اتفق.
(7) البقرة / 130.
معارج الاصول ـ 219 ـ
أراد الشرعيات لما جاز نسخ شيء منها ، [ وقد نسخ كثير من شرعه ، فتعين أن المراد منه العقليات ].
وعن الآية الثالثة : أنه لا يلزم من وصية نوح بشرعنا ، أنه أمره به ، بل يحتمل أن يكون ( وصاته ) (1) به أمرا منه بقبوله عند ( انتهاء اعقابهم ) (2) إلى زمانه عليه السلام ، أو وصاه به بمعنى أطلعه عليه وأمره بحفظه .
ولو سلمنا أن المراد أنه شرع لنا ما شرع لنوح ، لاحتمل أن يكون المراد به من الاستدلال بالمعقول على العقائد الدينية ، ولو لم يحتمل ذلك لم يبعد أن يتفق الشرعان ( ثم ) (3) لا يكون شرعه حجة علينا من حيث ورد على نبينا صلى الله عليه وآله بطريق الوحي ، فلا تكون شريعته شريعة لنا ، باعتبار ورودها عنه.
وعن الآية الرابعة : أن المساواة في الوحي لا تستلزم المساواة في الشرع.
وعن الآية الخامسة : ان ظاهرها يقتضي اشتراك الانبياء جميعا في الحكم بها ، وذلك غير مراد ، لأن ابراهيم ونوحا وادريس وآدم لم يحكموا بها ، لتقدمهم على نزولها ، فيكون المراد : أن الانبياء عليهم السلام يحكمون بصحة ورودها عن الله ، وأن فيها نورا وهدى ، ولا يلزم أن يكونوا متعبدين بالعمل بها ، كما أن كثيرا من آيات القرآن منسوخة وهي عندنا نور وهدى.
وأما رجوعه عليه السلام في ( تعرف ) (4) حد الرجم [ في التوارة ] ، فلا نسلم أن مراجعته ( التوراة ) (5) ليعرفه ، بل لم لا يجوز أن يكون ذلك لاقامة الحجة على
(1) في نسخة : وصاية.
(2) في نسخة : انتهائهم.
(3) في بعض النسخ : لم.
(4) في نسخة : تعريف.
(5) في نسخة : للتوراة.
معارج الاصول ـ 220 ـ من أنكر وجوده في التوراة ؟!.
المسألة الخامسة :
الاستقراء : هو الحكم على جملة بحكم ، لوجوده فيما اعتبر من جزئيات تلك الجملة ، ومثاله : أن تستقرئ الزنج ، فتجد ( كل موجود منهم ) (1) أسود ، فتحكم بالسواد على من لم تره كما حكمت على من رأيته .
وحاصله التسوية من غير جامع ، ومثاله من الفقهيات : إذا اختلف في الوتر ، فنقول : هو مندوب ، لأنه لو كان واجبا لما جاز أن يصلى على الراحلة (2) ، لكنه يصلى على الراحلة ، والمقدم مستفاد من الاستقراء إذ لا شيء من الواجب يصلى على الراحلة ، والاستثناء معلوم بالاجماع .
وهل مثل ذلك حجة في الاحكام ؟ الحق أنه ليس بحجة ، لأن موارد الاحكام مختلفة ، فلا يلزم من اختصاصها ببعض الاعيان ، وجودها في الباقي ، [ و لأن ثبوت الحكم فيما وجد ، قد يكون مع وجوده في الباقي ] ، وقد يكون مع فقده ، ومع الاحتمال لا يجوز الحكم بأحدهما دون الآخر [ و ] لأن وجود الحكم في فرد من أفراد النوع ، لا يلزم منه وجوده في باقى الافراد ، فكذا وجوده فيما هو أكثر من الواحد.
فان قيل : مع كثرة الصور يغلب الظن أن الباقي مماثل لما وجد والعمل بالظن واجب.
قلنا : لا نسلم أنه يغلب على الظن [ ان الباقي مماثل لما وجد ] ، إذ لاتعلق بين ما رأيت وما لم تره ، ولا بين ما علمته من ذلك وما لم تعلمه ، ولو سلمنا حصول الظن ، لكن الظن الحاصل من غير امارة لا عبرة به ، وليس وجود الحكم فيما رأيته من أجزاء الجملة ، امارة لوجوده في الباقي ، سلمناه ، لكن
(1) في بعض النسخ : الموجود منهم.
(2) اضاف في نسخة : إليه.
معارج الاصول ـ 221 ـ
الظن قد يخطئ فلا يعمل به الا مع وجود دلالة تدل عليه.
فان قيل : مع الظن يرجح في ذهن المجتهد ارادة الشارع لتعميم الحكم فتصير المخالفة مظنة الضرر.
قلنا : غلبة الظن المذكور معارض بغلبة الظن أن شرعية الحكم تستدعي الدلالة ، ومع ارتفاع الدلالة بغلب على الظن انتفاء الحكم ، فينتفي ظن الضرر على أن مع النهي عن العمل بالظن يزول ظن الضرر ، والنهي موجود بقوله : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (1) وقوله : « ان الظن لا يغني من الحق شيئا » (2).
المسألة السادسة : في المصالح.
المصلحة : هي ما يوافق الانسان في مقاصده لدنياه أو لاخرته أولهما ، و حاصله : تحصيل منفعة أو دفع مضرة ، ولما كانت الشرعيات مبتنيات على المصالح ، وجب النظر في رعايتها ، والمصالح تنقسم ثلاثة أقسام : معتبرة شرعا ، وملغاة ، ومرسلة.
فالمعتبرة : كتحريم القتل وشرع القصاص ، لاستبقاء الانفس ، وفرض الجهاد وقتل المرتد ، لحفظ الدين ، وتحريم الزنا واقامة الحد ، لحفظ الانساب ، والقطع في السرقة ، لحفظ الاموال.
والملغاة : كما يقال : الغنى في كفارة الوطء في نهار شهر رمضان عمدا يصوم شهرين ( تحتما ) (3) ، لأن ذلك يكون أزجر له عن المعاودة ، لكن الشرع أسقط هذه المصلحة عن درجة الاعتبار.
والمرسلة : ما عدا القسمين ، وهذه المصلحة ان كان معها مفسدة راجحة
(1) الاسراء / 36.
(2) يونس / 36.
(3) في نسخة : تحتيما.
معارج الاصول ـ 222 ـ
أو مساوية ، كانت ملغاة ، وان كانت المصلحة صافية عن المفسدة ، أو راجحة حكي عن مالك ، أنها حجة ، حتى قال : ( نضرب ) (1) المتهم بالسرقة محافظة على المال ، وأنكر ذلك الأكثر ، ومنهم من اعتبر في العمل بها شروطا ثلاثة أن تكون ضرورية ، وكلية ، وقطعية ، وأما ما لا يكون كليا كالفروع ( الجزئية ) (2) مثل مسائل الاجارة ، وجزئيات المساقاة ، ورعاية الكفاءة في النكاح ، فانه لا يجوز التعويل على المصالح المرسلة فيها الا مع دلالة شرعية تدل على اعتبارها.
احتج الاولون : بأن الحكمة باعثة على رعاية المصلحة ، فحيث ( ثبت ) (3) أن في الشيء مصلحة ( يعلم تعلق ) (4) داعي ( الحكم ) (5) به تحصيلا لتلك المصلحة
[ والجواب : متى تكون الحكمة باعثة على رعاية المصلحة ؟ ] إذا تحقق خلوها من جميع المفاسد ، أم إذا لم يتحقق ؟ الاول مسلم ، والثاني ممنوع ، والتقدير تقدير عدم ( التحقق ) (6) ، غاية ما في الباب أن يغلب [ على ] الظن ، لكن التكليف من فعل الله سبحانه ، فيبنى على ما علمه ، لاعلى ما ظنناه نحن .
لا يقال : المكلف يبني في كثير من الشرعيات على الظن.
لأنا نقول : حيث دل الدليل الشرعي على العمل به ، لا بمجرد الظن.
ثم نقول : لو جاز العمل بالمصلحة المرسلة ، لوجب حضور مجالس
(1) في نسخة : يضرب.
(2) في النسخ : الغريبة ، ولكن كتب في هامش احدى النسخ : الجزئية ظ ، و هو الصواب
(3) في بعض النسخ : يثبت.
(4) في نسخة : تعلم تعلق.
(5) في نسخة : الحكمة.
(6) في النسخ : التحقيق ، والصحيح ما أثبتناه.
معارج الاصول ـ 223 ـ
الوعظ ، تحصيلا لمصلحة الانزجار ، ولوجب الحد في الغصب ، ( تحصينا ) (1) للمال .
وما حكي عن مالك من جواز ضرب المتهم [ بالسرقة ، باطل ، لأنه لو جاز ذلك ، لجاز ضرب المتهم ] بالقتل والمتهم بالغصب ، محافظة على الانفس والاموال ، لكن ذلك باطل اجماعا.
وأما الفريق الثاني : فانا نفرض لما ذكروه مثالا ، فنقول : إذا تترس أهل الحرب بالاسارى من المسلمين ، هل يجوز رميهم وان أدى ذلك إلى تلف ( الاسرى ) (2) ؟ قال هؤلاء : نعم ، إذ علمنا أنا إذا لم نرمهم ظهروا على الاسلام فقالوا : هذه ضرورية ، لأنه [ لا ] يندفع استئصال المسلمين الا بالرمي ، وكلية لأن الضرر عام في المسلمين كافة ، وقطعية ، لأنا نتيقن تسلط أهل الكفر مع عدم الرمي ، واحتجوا لوجوب [ مثل ] هذا القدر بأن قالوا : المحافظة على الدماء مقصود للشارع ، والرمي مفض إلى ذلك القصد ، فيكون واجبا وان أدى إلى قتل الاسير.
والجواب : ما الذي تعنى بالقصد ؟ ان عنيت أن الشرع منع من القتل و أوجب القصاص ، فمسلم ، وان عنيت أنه قصد حفظها بغير ذلك ( مما لم يدل ) (3) عليه الشرع ، فلا نسلم ، أو نقول : لا نسلم أن المحافظة على الدماء مقصودة كيف كان ، بل لم لا يجوز أن تكون المحافظة مقصودة بتحريم القتل والقصاص لاغير ، ولا يلزم من تشريع هذه الزواجر شرع طريق آخر.
ثم نقول : هذه المصلحة دل الشرع على الغائها ، فيجب سقوطها عن
(1) في نسخة : تحصيلا.
(2) في نسخة : الاسارى.
(3) في بعض النسخ : مما يدل.
معارج الاصول ـ 224 ـ
الاعتبار ، يدل على ذلك قوله تعالى : « وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا » (1) وقوله : « وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ » (2) وقوله عليه السلام « من سعى في دم امرء مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوبا على جبينه آيس من رحمة الله » وغير ذلك من الاحاديث الدالة على المنع من قتل المسلم ومع وجود النص لا اعتبار بغيره .
فعلى هذا النهج يكون احتجاجك على ما يرد عليك من هذا الباب.
والله العاصم ، [ والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ]