وفيه فصول :

معارج الاصول ـ 179 ـ
   وفيه مسائل :

   المسألة الاولى : في حقيقة الاجتهاد.
   الاجتهاد : افتعال من الجهد ، وهو في الوضع : بذل المجهود في طلب المراد مع المشقة ، لأنه يقال : « اجتهد » في حمل الثقيل ، ولا يقال ذلك في حمل الحقير.
   وهو في عرف الفقهاء : بذل الجهد في استخراج الاحكام الشرعية ، و بهذا الاعتبار يكون استخراج الاحكام من أدلة الشرع اجتهادا ، لانها ( تبتنى ) (1) على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر ، وسواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.
   فان قيل : يلزم على هذا أن يكون الامامية من أهل الاجتهاد.
   قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه ( ايهام ) (2) من حيث أن القياس من جملة

(1) في نسخة : تبنى.
(2) كذا الظاهر وفي النسخ : ابهام.

معارج الاصول ـ 180 ـ
   الاجتهاد ، فإذا استثنى القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الاحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس.

   المسألة الثانية :
   لا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله متعبدا بالقياس في الاحكام الشرعية ، لأنا نستدل [ على ] أن العبادة لم ترد بالعمل به .
   وهل يجوز أن يكون متعبدا باستخراج الاحكام الشرعية بالطرق النظرية الشرعية عدا القياس ؟ لا نمنع من جوازه ، وان كنا ( لا نعلم ) (1) وقوعه.
   وعلى هذا التقدير ، فهل يجوز أن يخطئ في اجتهاده ؟ الحق أنه لا يجوز ، لوجوه :
   الاول : أنه معصوم من الخطأ ، عمدا ونسيانا ، بما ثبت في الكلام ، ومع ذلك يستحيل عليه الغلط.
   الثاني : انا مأمورون باتباعه ، فلو وقع منه الخطأ في الاحكام ، لزم الأمر بالعمل بالخطأ ، وهو باطل .
   الثالث : لو جاز ذلك لم يبق وثوق بأوامره ونواهيه ، فيؤدي ذلك إلى التنفير عن قبول قوله .
   احتج المجيز لذلك بوجهين :
   الاول : قوله تعالى : « قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ » (2) ويلزم من المماثلة جواز الغلط عليه.
   الثاني : قوله عليه السلام : « فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ان ما أقطع له (3) قطعة من النار » وهذا يدل [ عى ] أنه يجوز منه الغلط في الحكم .
   والجواب عن الاول : انه لا يلزم من المماثلة في البشرية المساواة في

(1) في نسخة : نعلم ، وهو خطأ.
(2) الكهف / 110
(3) زاد في نسخة : به

معارج الاصول ـ 181 ـ
   الغلط ، لوجود الدلالة المانعة من ذلك في حقه.
   والجواب عن الثاني : ان حكمه للانسان بشيء من حق أخيه ليس بغلط ، لأنه هو الحكم المأمور به شرعا ، سواء كان مطابقا للباطن أو لم يكن ، و الاصابة ليس الا [ في ] العمل بالاوامر الشرعية على الوجه الذي عين له وهو موجود فيما يحكم به .

   المسألة الثالثة :
   الاحكام اما أن تكون مستفادة من ظواهر النصوص المعلومة على القطع ، والمصيب فيها واحد ، والمخطئ لا يعذر ، وذلك ما يكون المعتقد فيه لا [ يتغير ] بتغير المصالح.
   واما أن تفتقر إلى اجتهاد ونظر ، ويجوز اختلافه باختلاف المصالح ، فانه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه ، فان أخطأ لم يكن مأثوما ، ويدل على وضع الاثم عنه وجوه :
   أحدها : انه مع استفراغ الوسع يتحقق العذر ، فلا يتحقق الاثم.
   الثاني : أنا نجد الفرقة المحقة مختلفة في الاحكام الشرعية اختلافا شديدا حتى يفتى الواحد منهم بالشيء ويرجع عنه إلى غيره ، فلو لم يرتفع الاثم لعمهم الفسق وشملهم الاثم ، لأن القائل منهم بالقول اما أن يكون استفرغ وسعه [ في تحصيل ذلك الحكم أو لم يكن ، فان لم يكن ، تحقق الاثم ، وان استفرغ وسعه ] ثم لم يظفر ، ولم يعذر ، تحقق الاثم أيضا.
   الثالث : الاحكام الشرعية تابعة للمصالح ، فجاز أن تختلف بالنسبة إلى المجتهدين ، كاستقبال القبلة ، فانه يلزم كل من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أن يستقبل تلك الجهة ـ إذ لم يكن له طريق إلى العلم ـ ثم تكون الصلوات مجزية لكل واحد منهم ، وان اختلفت الجهات.
   فان قيل : لا نسلم أن مع استفراغ الوسع يمكن الغلط في الحكم ، و


معارج الاصول ـ 182 ـ
   ذلك لأن الواقعة لابد فيها من حكم شرعى ، ولابد من نصب دلالة على ذلك الحكم ، فلو لم يكن للمكلف طريق إلى العلم بها ، ( لكان ) (1) نصبها عبثا ( و ) (2) لما كان لذلك المخطئ طريق إلى العلم بالحكم مع تقدير استفراغ الوسع ، وذلك تكليف بما لا يطاق .
   والجواب : قوله : [ و ] لابد من نصب دلالة ، قلنا : [ مسلم ] ، لكن ما المانع أن يكون فرض المكلف مع الظفر بتلك الدلالة العمل بمقتضاها ، و مع عدم الظفر بها يكون الحكم في الواقعة لاذلك الحكم ، ومثاله : جهة القبلة فان مع العلم بها يجب التوجه ، ومع عدم العلم [ يكون ] فرضه التوجه إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها جهة القبلة ، وكذلك العمل بالبينة عند ظهور العدالة و ( خفاء ) (3) الفسق ، [ ولو ظهر ] فسقها لوجب اطراحها ، فما المانع أن يكون الأدلة التي وقع فيها النزاع كذلك ؟ ألا ترى أن العموم يخص مع وجود المخصص ، ويعمل بعمومه مع عدم المخصص ؟!

   وفيه مسائل :

   المسألة الاولى :
   القياس في الوضع : هو المماثلة.
   وفى الاصطلاح : عبارة عن الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت لمعلوم

(1) في نسخة : كان.
(2) في نسخة : أو.
(3) في نسخة : أخفاء.

معارج الاصول ـ 183 ـ
   آخر ، لتساويهما في علة الحكم.
   فموضع الحكم المتفق عليه يسمى : أصلا.
   وموضع الحكم المختلف فيه يسمى : فرعا.
   والعلة : هي الجامع الموجب لاثبات مثل حكم الاصل في الفرع ، فان كانت العلة معلومة ، ولزوم الحكم لها معلوما من حيث هي ، كانت النتيجة علمية ، ولا نزاع في كون مثل ذلك دليلا ، وان كانت العلة مظنونة ، أو كانت معلومة ، لكن لزوم الحكم لها (1) ـ خارجا عن موضع الوفاق ـ مظنونا ، كانت النتيجة ظنية ، وهل هو دليل في الشرعيات ؟ فيه خلاف .

   المسألة الثانية :
   النص على علة الحكم وتعليقه عليها مطلقا ، يوجب ثبوت الحكم ان ثبتت العلة ، كقوله : الزنا يوجب الحد ، والسرقة توجب القطع ، أما إذا حكم في شيء بحكم ثم نص على علته فيه : فان نص مع ذلك على تعديته وجب ، وان لم ينص ، لم يجب تعدية الحكم الا مع القول بكون القياس حجة ، مثاله : إذا قال : الخمر حرام لانها مسكرة ، فانه يحتمل أن يكون [ التحريم ] معللا [ بالاسكار مطلقا ، ويحتمل أن يكون معللا ] باسكار الخمر ، ومع الاحتمال لا يعلم وجوب التعدية.

   المسألة الثالثة :
   من الناس من منع من التعبد بالقياس عقلا ، وأكثرهم قالوا بجوازه .
   احتج المانع بوجوه :
   أحدها : ان العمل [ بالقياس ] اقدام على ما لا يؤمن كونه مفسدة ، فيكون قبيحا ، كالاقدام على ما يعلم كونه مفسدة .
   الثاني : ان القياس موجب للظن مع امكان العمل بالعلم ، فيكون باطلا .

(1) زاد في نسخة : كان.

معارج الاصول ـ 184 ـ
   الثالث : ان عمومات القرآن والسنة المتواترة كافلة بتحصيل الاحكام الشرعية ، والقياس : ان طابقها فلا حاجة إليه ، وان نافاها لم يجز العمل به .
   [ و ] احتج شيخنا المفيد « ره » لذلك [ أيضا ] بأنه لا سبيل إلى علة الحكم في الاصل ، فلا سبيل إلى القياس ، أما الاولى : فلان العلة اما أن تعلم بطريق علمي أو ظني ، والقسمان باطلان أما العلم فظاهر ، وأما الظن فلانه لاحكم له الا عن امارة ، والامارة مفقودة ، ومع عدم الوقوف على علة الحكم تستحيل تعديته .
   والجواب عن الاول : ان الامن [ من ] المفسدة يحصل بتقدير وجود الدلالة الشرعية ، كما في غيره من الأمور المظنونة.
   والجواب عن الثاني : انا لا نستعمل القياس في موضع يكون العلم بالحكم ممكنا ، بل في موضع يفقد العلم [ بالحكم ].
   و [ الجواب ] عن الثالث : لا نسلم أن عمومات القرآن كافلة بالاحكام ، فان في مسائل الديات والمواريث والبيوعات وغيرها ، ما يعلم خروجه عن مدلولات العموم.
   والجواب عن احتجاج المفيد أن نقول : لا نسلم أنه لا سبيل إلى تحصيل علة الحكم.
   قوله : اما أن يعلم بطريق علمي أو ظنى ، قلنا : لم لا يجوز أن يكون علميا ؟ كما إذا نص الشارع على العلة ، سلمنا أنها لا تكون علمية ، فلم لا تكون ظنية ؟!.
   قوله : الظن لا حكم له الا عن امارة ، قلنا : سلمنا ذلك ، والامارة قد تحصل بالطرق التي أشار إليها مثبتوا القياس ، كالدوران والسبر ، فانه مهما ثبت الحكم عند شيء ، وانتفى عند انتفائه ، كان ذلك امارة دالة على التعليل ،

معارج الاصول ـ 185 ـ
   وكذلك إذا ( عددت ) (1) أوصاف محل الوفا ، وأبطلت الا قسما واحدا ، غلب على الظن أنه علة الحكم ، وذلك كاف في حصول الظن أن الحكم معلل بتلك العلة.

   المسألة الرابعة :
   الجمع بين الاصل والفرع قد يكون بعدم الفارق ، و يسمى : تنقيح المناط ، فان علمت المساواة من كل وجه ، جاز تعدية الحكم إلى المساوي ، وان علم الامتياز أو جوز ، لو تجز التعدية الا مع النص على ذلك ، لجواز اختصاص الحكم بتلك المزية ، وعدم ما يدل على التعدية.
   وقد يكون الجمع بعلة موجودة في الاصل والفرع ، فيغلب على الظن ثبوت الحكم في الفرع ، ولا يجوز تعدية الحكم ـ والحال هذه ـ بما ( سندل ) (2) عليه.
   فان نص الشارع على العلة ، وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم ، جاز تعدية الحكم ، وكان ذلك برهانا .
   ولنفرض أمثلة توقف ( منها ) (3) على التحقيق :
   الاول : قوله عليه السلام ـ وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل ـ : « أينقص إذا جف ؟ فقيل : نعم ، ( فقال ) (4) : لا ، اذن » فقد علل التحريم بنقصانه عند الجفاف ، وشاهد الحال ( يقضى ) (5) أنه لا اعتبار بما عدا تلك العلة من

(1) في بعض النسخ : عدت.
(2) في نسخة : يستدل.
(3) في نسخة : بها
(4) في نسخة : قال.
(5) في نسخة : يقتضى

معارج الاصول ـ 186 ـ
   أوصاف الاصل ، فكأنه نص على أن كل ما نقص بعد الجفاف من الربويات ، لا يجوز بيعه مثلا بمثل.
   ويمكن التوقف هنا ، فان من المحتمل أن يكون النقصان موجبا للمنع من البيع في الرطب بالتمر خاصة ، لجواز اشتماله على ما يوجب اختصاص النهى.
   غاية ما في الباب أن ذلك لا يعلم ، لكن عدم العلم بالشيء لا يدل على انتفائه في نفس الامر.
   الثاني : انه إذا قال : وطأت عامدا في شهر رمضان ، فقال : عليك الكفارة أو قال : ملكت عشرين دينارا وحال عليها الحول ، فقال : عليك الزكاة ، علم أن الحكم متعلق بذلك ، ولا اعتبار بأوصاف السائل ، بل يحكم بأن كل من اتفق له ذلك ، ثبت له ذلك الحكم.
   الثالث : إذا حكم في واقعة وعلم بشاهد الحال أن الحكم فيها باعتبارها لا باعتبار محلها ، عدي الحكم ( لما روى ) (1) أن عليا عليه السلام قضى في دابة تنازعها اثنان ، وأقاما البينة : أنها لمن شهد له بالنتاج ، فلا يقصر الحكم على الدابة ، بل يعدى إلى كل ما حصل فيه هذا المعنى.

   المسألة الخامسة :
   ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا ، وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر على معارضة .
   ويمكن أن يحتج لذلك : بأن الحق في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعين أن يعمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ،

(1) في نسخة : كما روى.

معارج الاصول ـ 187 ـ
   فلابد ( في ) (1) العمل بأحدهما من مرجح ، ( والقياس مما يصلح ) (2) أن يكون مرجحا ، لحصول الظن به فتعين العمل بما طابقه .
   لا يقال : أجمعنا على أن القياس مطرح في الشرع.
   لأنا نقول : بمعنى أنه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أنه لا يكون مرجحا لاحد الخبرين على الآخر ، وهذا لأن فائدة كونه مرجحا كونه ( دافعا ) (3) للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، ويكون العمل به ، لا بذلك القياس ، وفي ذلك نظر .

   المسألة السادسة :
   قال شيخنا المفيد « ره » : « خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن إليه دليل يفضى بالنظر فيه (4) الى العلم ، وربما يكون ذلك اجماعا أو شاهدا من عقل ، أو حاكما من قياس ».
   فان عنى بالقياس البرهان ، فلا اشكال ، وان عنى القياس الفقهي ، فموضع النظر ، لأن الخبر بتقدير أن لا يكون حجة ، فمع انضياف ذلك القياس الفقهي [ ان ] صار حجة : فاما لكونه خبرا ، وذلك نقض لما يذهب إليه من طرح العمل بالخبر ، وان كان بالقياس ، لزم منه اثبات حكم شرعى بالقياس الفقهي ، وهو باطل ، إذ لا فرق بين أن يثبت به الحكم أو الدلالة الدالة على الحكم.

   المسألة السابعة :
   القائلون بجواز التعبد بالقياس عقلا ، منهم من يقول : ورد التعبد به ، وهم الأكثر ، وأطبق أصحابنا على المنع من ذلك الا شاذا [ منهم ].

(1) في نسخة : من
(2) في نسخة : فالقياس ما يصلح
(3) في نسخة : رافعا
(4) اضاف في نسخة : دليل

معارج الاصول ـ 188 ـ
   لنا وجوه :
   الاول : ان العمل بالقياس عمل بالظن ، والعمل بالظن غير جائز ، أما الاولى فظاهرة .
   و [ أما ] الثانية : فبقوله تعالى : « وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (1) وبقوله « إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا » (2) وبقوله : « وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » (3).
   لا يقال : مع وجود الدلالة عليه ، لا يكون عملا بالمظنون ، بل بالمقطوع به ، كالعمل بالشاهدين والحكم ( بالارش ) (4) واستقبال القبلة.
   لأنا نقول : وجد المنع فوجب طرده ، فإذا خرج ما أشرتم إليه وجب تناوله لما بقي ، عملا بمقتضى الدليل ، وسنبطل ما يزعمون أنه دليل على العمل به ، فيبقى ما ذكرناه من الدليل سليما عن المعارض.
   الثاني : أجمعت الامامية على ترك العمل به ، ونقل عن أهل البيت عليهم السلام المنع منه متواترا نقلا ينقطع به العذر.
   الثالث : لو تعبدنا بالعمل به لوجدت الدلالة عليه ، لكن الدلالة مفقودة ، فالعمل به غير جائز .
   أما الملازمة : فلان التكليف يستدعي وجود دلالة ، والا لكان التكليف به ـ من دون دلالة [ عليه ] ـ تكليفا بما لا سبيل إلى العلم به ، وهو تكليف بالمحال.
   وأما بطلان [ اللازم ] : فبالإستقراء .
   الرابع : لو ورد التعبد به ، لاشتهر ذلك بين أهل الشرع ، لكن ذلك

(1) الاسراء / 36
(2) يونس / 36
(3) البقرة / 169
(4) في نسخة : بالاروش.

معارج الاصول ـ 189 ـ
   باطل .
   أما الملازمة : فلان الاستدلال به مما يعم ، والوقائع التي تستدرك بالقياس كثيرة عندهم ، والعادة قاضية بأن مثل ذلك مما يشتهر العلم به ، فلما لم يشتهر دل على بطلانه.
   لا يقال : قد اشتهر ذلك بين الصحابة حتى أن خصومكم ( تدعي ) (1) الاجماع عليه.
   لأنا نقول : لو كان كذلك لما اختص الخصم بعلمه دوننا ، لما ذكرناه من عموم البلوى به ، وزوال الاغراض الباعثة على اخفائه.
   [ و ] احتج بعض أصحابنا [ أيضا ] : بأن القول بورود التعبد به مع بطلان الحجج التي ذكرها الخصم مما لا يجتمعان ، والثابت بطلانها ، فلا يكون التعبد به ثابتا.
   بيان أنهما لا يجتمعان : أن القائل بكونه حجة يتمسك في ذلك بالوجوه التي يذكرونها ، فهو يقول : انها حق والمنكر له يبطلها ويمنع من كونه حجة فالقول بكونه حجة مع أن تلك الحجج باطلة ، قول ليس لاحد ، فيكون منفيا.
   لا يقال : نحن نجوز أن يكون غير ما ذكر دليلا على كون القياس حجة ، فلا يلزم من القول ببطلان هذه الحجج بطلان القياس.
   لأنا نقول : مع القول بكونه حجة وتجويز وجود حجة لم يذهب ذاهب إلى القول ببطلان هذه الحجج المذكورة.
   واحتج الجمهور على وقوع التعبد به بوجوه معقولة ومنقولة.
   أما المعقول : فقالوا : القياس يفيد الظن ، والعمل بالظن واجب.
   أما افادة الظن فظاهرة ، وأما [ أن ] العمل بالظن واجب ، فلما ثبت من أن التحرز

(1) في نسخة : يدعون.

معارج الاصول ـ 190 ـ
   من الضرر المظنون واجب كالمعلوم.
   وأما المنقول : ( فوجوه ) (1) :
   الاول : قالوا : أجمعت الصحابة على العمل بالقياس ، فيكون حجة .
   أما أن الصحابة عملت به ، فلان بعض الصحابة عمل به ، ولم يظهر من الباقين انكار [ ه ] ، وقد بينا أن مثل ذلك حجة ، فيما سلف .
   أما أن بعض الصحابة عمل به فمن وجهين :
   أحدهما : أن الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة ، وليس تمسكهم فيها بالنص ، فتعين أنهم عولوا على الاجتهاد .
   الثاني : انهم استدلوا في كثير من المسائل بالقياس وأشاروا إلى التشبيه بين المسائل ، كما قال ابن عباس : « ألا يتق الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ، و لا يجعل أب الاب أبا ».
   وما روي من قول عمر لأبي موسى : « وقس الأمور برأيك ».
   وما روى عنه أنه قضى في زوج ، وأم ، واخوة لام ، وأخوة لاب و أم أن للام : السدس ، وللزوج : النصف ، وللاخوة من الام : الثلث ، فقال الباقون : « هب أن أبانا كان حمارا ، ألسنا من أم واحدة ؟! » فشرك بينهم ، وغير ذلك من المسائل.
   وأما أن الباقين لم ينكروا ، فلانه لو حصل ذلك لظهر ، لأن القياس من الاصول التي لو وقعت فيها المناكرة لظهرت .
   وأما أن مثل ذلك اجماع ، فلان سكوتهم لا يحتمل الا الرضا به ، لما عرف من تحرج الصحابة في انكار الباطل والمنع من العمل به .
   الوجه الثاني : قوله عليه السلام لمعاذ وأبي موسى : « بم تقضيان ؟ قالا : إذا لم

(1) في نسخة : فلوجوه .

معارج الاصول ـ 191 ـ
   نجد الحكم ( في ) (1) الكتاب والسنة ، نقيس الأمر بالأمر ، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به .
   فقال : أصبتما » ، وقوله عليه السلام لابن مسعود : « اجتهد برأيك ».
   الوجه الثالث : نبه النبي صلى الله عليه وآله على القياس ، وذلك اذن في العمل به ، أما تنبيهه فبقوله لعمر ـ وقد سأله عن القبلة ـ : « لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه ؟! » وقوله صلى الله عليه وآله للخثعمية : « أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزي ؟ فقالت : نعم ، فقال صلى الله عليه وآله : فدين الله أحق أن يقضى ».
   الوجه الرابع : قوله تعالى : « فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ » (2) والاستدلال بهذه الآية ضعيف .
   والجواب عن الاول : قوله : العمل بالظن واجب ، قلنا : متى ؟ إذا أمكن العلم ، أو [ إذا ] لم يمكن ، ونحن قادرون على تحصيل الاحكام من ظواهر النصوص المعلومة ، سلمنا أنه لا طريق الهيا الا بالقياس ، لكن لا نسلم وجوب العمل بالظن ، إذ لو وجب ذلك ، لوجب العمل بقول الشاهد الواحد ، لا بل كان يجب العمل بقول المدعى بمجرده إذا غلب على ظن الحاكم صدقه ، حتى يمعل بقول مدعى النبوة من دون المعجز.
   لا يقال : منعت الأدلة من العمل بما ذكرته.
   لأنا نقول : لو كان الظن وجها لوجوب العمل ، لاطرد ذلك ، كما أن رد الوديعة لما كان وجها موجبا لم يختلف وجوب الفعل الذي يقع عليه ، [ على ] أن الدلالة قد منعت من ذلك ، وهو قوله تعالى : « وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » (3).

(1) في بعض النسخ : من.
(2) الحشر / 2.
(3) البقرة / 169.

معارج الاصول ـ 192 ـ
   وأما الجواب عن المنقول فنقول : لا نسلم أن الصحابة عملت به ، قوله : عمل بعض ولم ينكر الباقون ، قلنا : لا نسلم أن بعضا عمل ، قوله : اختلاف الصحابة مع استبعاد أن يكون مستندهم [ النص دليل على العمل. قلنا : لم لا يجوز أن يكون مستندهم ] النصوص ؟! والاستبعاد الذي ذكر تموه لا يفيد اليقين قوله : استدلوا على كثير من المسائل بالقياس .
   قلنا : هذا منقول بطريق الآحاد فلا يثمر العلم ، سلمنا [ صحة ] نقلها ، لكن لا نسلم أنهم استندوا في ذلك إلى القياس ، وان كان معنى القياس فيه موجودا .
   أما ( قصة ) (1) ابن عباس فانه يحتمل أنه رأى ابن الابن يسمى ابنا ، و كذلك أب الاب يسمى أبا ، ( فألزمه ) (2) التسوية ظنا أنه انما عمل ( في ) (3) أحدهما بوقوع الاسم عليه ، والاخر مثله في تناول اللفظ ، وليس ذلك قياسا .
   [ وأما ] قول عمر : « قس الأمور برأيك » فغاية ما أمره بالمقايسة ، فجائز أن يكون أراد التسوية في مدلولات الالفاظ.
   وأما ( الشركة ) (4) : فلا نسلم أن الاخوة للاب والام استدلوا بالقياس ، بل بطريق أن ولد الام يستحقون الثلث ، ومن كان من ولد الاب والام فهو من ولد الام.
   قوله : لو انكر الباقون لظهر ، قلنا : أولا لا نسلم أن السكوت دليل الرضا فانه يحتمل وجوها كثيرة غير ذلك ، وقد ذكر [ نا ] ذلك في باب الاجماع ، سلمنا أنه يدل على الرضا ، لكن لا نسلم أنهم سكتوا ، ولم لا يجوز أن يكونوا

(1) في نسخة : قضية.
(2) في نسخة : لزمه.
(3) في نسخة : من ، وفي أخرى : بأحدهما.
(4) في نسخة : المشتركة.

معارج الاصول ـ 193 ـ
   أنكروا ذلك ، قوله : لو كان لنقل ، قلنا : لا نسلم ذلك ، سلمنا [ ه ] لكن لا نسلم أنه يجب استمرار النقل حتى يتصل بنا ، ثم نقول : يجب أن ينقل ذلك متواترا أو آحادا ، الاول ممنوع ، والثاني مسلم ، وقد نقل الانكار في مواضع :
   منها : ما روي عن أبى بكر أنه قال : « أي سماء تظلني ؟! وأي أرض تقلني ؟! إذا قلت في كتاب الله برأيي ».
   وعن عمر أنه قال : « فان جاءك ما ليس في الكتاب والسنة ، فاقض بما أجمع عليه أهل العلم ، فان لم تجد فلا عليك أن لا تقضي ».
   وعن ابن عباس : « تتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم ».
   وقال : إذا قلتم في دين الله بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله ، وحرمتم كثيرا مما أحل الله ».
   والجواب عن خبر أبي موسى ومعاذ أن نقول : هو خبر واحد ، لا يجوز العمل به في مسألة علمية ، ثم هو مطعون فيه بوجوه : منها : أنه مرسل ، ومنها : أن بعض المحدثين روى أنه لما قال « اجتهد » قال رسول الله صلى الله عليه وآله « اكتب [ كتابا ] إلى ، أكتب اليك ».
   ثم نقول : لا نسلم أن قوله : « [ أجتهد ] برأيي » (1) اشارة إلى القياس ، بل كما يحتمل ذلك ، يحتمل أنه أراد الاجتهاد في العمل بدلالة الاصل ، ( وبدلالة ) (2) الاحتياط ، وغير ذلك من وجوه الاجتهاد ، ومع الاحتمال يجب التوقف.
   والجواب عن تنبيه النبي صلى الله عليه وآله على القياس أن نقول : هي أخبار آحاد لا توجب العمل في مسألة علمية ، على أنا نطالب بصحتها ، ولو سلمناها [ لما ]

(1) في نسخة : اجتهد برأيك.
(2) في بعض النسخ : ودلالة.

معارج الاصول ـ 194 ـ
   كان ذلك أمرا بالقياس ، لأن التشبيه لا يقتضي تعدي الحكم ، كما لو قال : عبدى ( سالم ) حر لأنه حبشي ، لم يغلب على الظن أنه يريد عتق كل حبشي له .
   وأما الآية : فبعيدة عن الدلالة على مرادهم ، لأن ظاهرها الأمر بالاتعاظ فأين ذلك من قياس الفرع على الاصل ؟!.

معارج الاصول ـ 195 ـ
   في فصول مختلفة :

معارج الاصول ـ 197 ـ
   وفيه مسائل :

   المسألة الاولى :
   يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الاحكام الشرعية ، وقال الجبائي : يجوز ذلك في مسائل الاجتهاد ، دون ما عليه دلالة ( قطعية ) (1) ومنع بعض المعتزلة ذلك في الموضعين.
   لنا : اتفاق علماء ( الاعصار ) (2) على الاذن للعوام في العمل بفتوى العلماء من غير تناكر ، وقد ثبت أن اجماع أهل كل عصر حجة.
   الثاني : لو وجب على العامي النظر في أدلة الفقه ، لكان ذلك اما قبل وقوع الحادثة أو عندها ، والقسمان باطلان ، أما قبلها فمنفي بالاجماع ، ولأنه يؤدي إلى استيعاب وقته بالنظر في ذلك ، فيؤدي إلى الضرر بأمر المعاش المضطر إليه ، وأما عند نزول الواقعة فذلك متعذر ، لاستحالة اتصاف كل عامي عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين.
   لا يقال : هذا لازم في المسائل العقلية الاعتقادية ، مع انه لا يسوغ فيها التقليد.

(1) في بعض النسخ : قاطعة.
(2) في نسخة : الامصار.

معارج الاصول ـ 198 ـ
   لأنا نقول : تلك حصولها سهل بأوائل الأدلة ، وهي عقائد مضبوطة ، وليس كذلك الفقه وحوادثه ، لانتشارها ، وانفراد كل مسألة منها بدليل [ على ] حياله.
   واحتجوا لذلك أيضا : بقوله : « فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ » (1) ويمكن أن يقال : سلمنا وجوب السؤال ، ولكن لا نسلم وجوب العمل.
   واحتجوا أيضا : بقوله تعالى : « فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » (2).
   ولقائل أن يقول : الانذار مما يوجب الحذر لكن قد يكون باعثا على النظر في الأدلة ، فلم لا يجوز أن يكون هو المراد ؟!
   واحتج المانعون بوجوه :
   الاول : قوله تعالى : « وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » (3) ، و « لا تقف ما ليس لك به علم » (4) ، و : « إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا » (5)
   وثانيها : أنه عمل بما لا يؤمن كونه مفسدة ، فيكون قبيحا ، لأن المفتي جائز الخطأ ، فكل ما يفتي به يجوز أن يكون مخطئا فيه ، فيكون الاقدام على العمل ، على ما لا يؤمن كونه مفسدة ، وقبح ذلك ظاهر .
   وثالثها : لو جاز التقليد في الشرعيات ، لجاز في ( العقليات ) (6) ، والثاني

(1) الانبياء / 7.
(2) التوبة / 122.
(3) البقرة / 169.
(4) الاسراء / 36.
(5) يونس / 36.
(6) في نسخة : القطعيات.

معارج الاصول ـ 199 ـ
   محال ، ( فالأول ) (1) مثله .
   والجواب عن الآيات أن نقول : خص منها العمل بشهادة الشاهدين ، و استقبال [ جهة ] القبلة مع الظن عند عدم العلم ، والظن بأروش الجنايات وقيم المتلفات ، وانما خص لوجود الدلالة ، كذا هنا.
   وعن الثاني : أن الامن من المفسدة ، بما أشرنا إليه من الدلالة الدالة على جواز العمل بالفتوى .
   وعن الثالث : بالفرق بين الامرين بتشعب مسائل الفقه وكثرة أدلتها ، و سهولة أدلة الكلام وقلتها ، وبأن العقليات الغرض فيها الاعتقاد ، فلا يبنى الا على العلم ، والشرعيات يجوز التعويل فيها على الظنون عند وجود الدلائل الدالة على اشتمالها على المصلحة.

   المسألة الثانية :
   لا يجوز تقليد العلماء في اصول العقائد ، خلافا للحشوية .
   ويدل على ذلك وجوه :
   أحدها : قوله تعالى : « وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ » (2).
   الثاني : ان التقليد : قبول قول الغير من غير حجة ، فيكون جزما في غير موضعه ، وهو قبيح عقلا.
   الثالث : لو جاز تقليد المحق لجاز تقليد المبطل ، لأنه اما أن يكون تقليد المحق مشروطا بالعلم بكونه حقا أو لم يكن ، ويلزم من الاول طلب العلم ( وأن لا ) (3) يكون تقليدا » ، وان جاز تقليد المحق [ من ] دون العلم بكونه حقا لزم

(1) في نسخة : والاول.
(2) البقرة / 169.
(3) في نسخة : وان ، وفي أخرى : والا.

معارج الاصول ـ 200 ـ
   تقليد المبطل ، لاشتراكهما في سبب الاتباع ، وهو مجرد التقليد ، ( وإذا ) (1) ثبت أنه غير جائز ، فهل هذا الخطأ موضوع عنه ؟ قال شيخنا أبو جعفر « ره » : نعم ( وخالفه ) (2) الأكثرون.
   احتج « ره » : باتفاق فقهاء ( الاعصار ) (3) على الحكم بشهادة ( العامي ) (4) مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلة القاطعة.
   لا يقال : قبول الشهادة انما كان لأنهم يعرفون أوائل الأدلة ، وهو سهل المأخذ.
   لأنا نقول : ان كان ذلك حاصلا لكل مكلف لم يبق من يوصف بالمؤاخذة فيحصل الغرض وهو سقوط الاثم ، وان لم يكن معلوما لكل مكلف لزم أن يكون الحكم بالشهادة موقوفا على العلم بحصول تلك الأدلة ( للشاهد ) (5) منهم ، لكن [ ذلك ] محال ، ولأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يحكم باسلام الاعرابي [ من ] غير أن يعرض عليه أدلة الكلام ، ( ولا يلزمه ) (6) بها ، بل يأمره بتعلم الأمور الشرعية اللازمة كالصلاة وما أشبهها.

   المسألة الثالثة :
   الذي [ يسوغ ] له الفتوى هو العدل العالم بطرق العقائد الدينية الأصولية ، وبطرق الاحكام الشرعية وكيفية استنباط الاحكام منها .
   وبالجملة : يجب أن يعرف جميع ما يتوقف عليه كل واقعة يفتي فيها ،

(1) في نسخة : وان
(2) في نسخة : وخالف
(3) في اكثر النسخ : الامصار
(4) في نسخة : الراوى
(5) في نسخة : للمشاهد
(6) في نسخة : ولا يلزم