نجاح النبي ابراهيم وولده إسماعيل في امتحان التكليف الظاهري
   وأما الامتحان بالتكليف الظاهري فقد وقع بوضوح مع النبي ابراهيم وابنه إسماعيل عندما رأى في المنام أنه مأمور بذبح ولده هذا ورؤيا النبي حق ولذلك اعتقد بأنه مأمور بذبحه بالتكليف الواقعي كالصلاة والصيام والحج ونشأ من هذا الاعتقاد إقدامه على الامتثال بالذبح فعلاً وكذلك حصل للولد اعتقاد بأنه مأمور واقعاً بتقديم نفسه قرباناً لله وتقرباً منه فأقدم على التنفيذ معبراً عن رضاه به وتسليمه لأمر ربه بقوله :
   ( يَا أبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِين ) (1) .
   ومن المعلوم أن النجاح في هذا الامتحان يكون بنفس الإقدام على العمل والامتثال ولا يتوقف على حصوله خارجاً لعدم كونه مطلوباً للمولى ومقصوداً له بهذا التكليف الظاهري .
   وقد بلغ هذان النبيان العظيمان قمة النجاح في هذا الإمتحان الصعب عندما أسلما أمرهما لله سبحانه وأقدم الوالد على تقديم ولده الصغير الوحيد الذي مَنَّ الله به عليه حال الشيخوخة والكبر وأقدم الولد على تقديم نفسه النفيسة قرباناً لله تعالى .

(1) سورة الصافات ، الآية : 102 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 202
   وبعد حصول النجاح في هذا الامتحان الإلهي وتحقق ما أراد الله سبحانه تحققه بواسطته من ظهور مقام هذين النبيين الرفيع ومنزلتهما الإيمانية السامية .
   أجل : بعد حصول ذلك كشف الله لهما عن واقع الرؤيا وأن المقصود منها واقعاً هو الإقدام على الذبح لا نفسُه وذلك بقوله تعالى :
   ( وَنَاديْنَاهُ أَن يَا إبراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحسِنِينَ ) (1) .
   وتكرر هذا النوع من الامتحان بالتكليف الظاهري مع النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وولده الروحي علي بن أبي طالب عليه السلام وذلك عندما طلب منه بأمرٍ من الله سبحانه أن يَنام في فراشه ليلة هجرته ليكون ذلك مغطياً لانسحابه من بين المشركين المحيطين بالمكان بانتظار مجيء الوقت المحدد للهجوم على شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليقضوا على حياته الشريفة وكانت الدلائل والأمارات الظاهرية توحي بأن القتل الذي كان سيصيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لو بقي في فراشه ـ يفرض إصابتهُ لعلي عليه السلام ووقوعه عليه .
   ومع هذا أقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم على أن يقدم شخص علي وهو ولده الروحي فداءً للرسول والرسالة كما أقدم عليٌ على أن يقدم نفسه المطمئنَّة فداءً لهما .
   وقد نالا النجاح الباهر في هذا الامتحان الصعب وبالدرجة التي نالها النبيان المذكوران .
   وإن كان فداء إسماعيل وصونه من الذبح ـ بذبح عظيم فإن فداء الإمام علي عليه السلام وحفظه من القتل كان بتخطيط سماوي سليم

(1) سورة الصادفات ، الآيتان : 104 و105 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 203
  وتقدير حكيم من أجل أن يقوم بدوره البارز بعد ذلك مع الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان الجهاد والتضحية في سبيل نصر الدين ونشره في الآفاق ليعرفه الناس على حقيقته وواقعه فيدخلوا فيه أفواجاً بعد حصول النصر العظيم والفتح المبين كما تحقق ذلك بحول الله وقوته ـ .
   وحاصل الجواب على السؤال الثاني أن المصيبة مرة تحصل للإنسان بإرادته وسوء اختياره وأخرى تحصل له بسبب ظلم الآخرين له وثالثةً تحصل بقدر وقضاء من السماء أما النوع الأول فلا تصح نسبته إلى الله سبحانه لنحتاج إلى السؤال عن الوجه في حصوله لهذا الشخص بعد البناء على ما هو الصحيح من أن الإنسان مخير في أعماله وليس مجبوراً عليها .
   وبذلك يندفع الإشكال ولا يبقى موضوع للسؤال ويكون هذا الإنسان مصداقاً لقوله تعالى :
   ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1) .
   وبذلك يُعرف الجواب بالنسبة إلى النوع الثاني من المصيبة وهو الحاصل للشخص بسبب ظلم غيره له لأن الله سبحانه وإن اقتضت حكمته أن يخلق الإنسان حراً مختاراً في أفعاله من الناحية التكوينية ولكنه قيد حريته بالنظام التشريعي فلم يسمح له بظلم الآخرين والاعتداء عليهم فإذا التزم بذلك سَلم وسلَّم غيره من الظلم كما أراد الله تعالى وكتب له الثواب على التزامه وامتثاله هذا التكليف .
   وإذا خالف حكم الله تعالى وظلم بذلك نفسه وغيره استحق العقوبة العادلة يوم الحساب وربما عُجلت له في الدنيا إذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك .

(1) سورة النحل ، الآية : 118 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 204
   وأما المظلوم فسوف لا تذهب مظلوميته هدراً بل لابد أن ينظر إليها بعين العدل التشريعي معجلاً وذلك بإعطاء وليه الحق في القصاص إذا كانت الجناية على حياته أو أخذ الدية إذا تنازل الولي عن الأخذ بحق القصاص ووافق على أخذ الدية وكذلك إذا كان الاعتداء على أحد أعضائه عمداً فالشرع يعطي هذا المظلوم المعتدَى عليه الحق بالقصاص أو الدية إذا تنازل عن الأول ورضي بها .
   وإذا لم يكن الاعتداء جنايةً على النفس أو على أحد الأعضاء على وجه يوجب القصاص أو الدية بل كان مسبباً ما هو أقل من ذلك فقد أعطاه الشرع المقدس حق الرد بالمثل لقوله تعالى :
   ( فَمَنِ أعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (1) .
   وإذا كان الاعتداء سبباً لإتلاف المال فالشرع يوجب على هذا المعتدي ضمان ما أتلفه لصاحبه بمثله أو بقيمته وهكذا فالله العادل بقضائه وشرعه لا يظلم أحداً ولا يسمح لغيره بظلمه ـ وإذا اعتُدي عليه وقف إلى جانبه في هذه الحياة بالتشريع العادل كما يأخذ له بحقه في الآخرة بالقضاء والفصل العادل أيضاً حتى لا يذهب حق المظلوم هدراً وربما أدت مظلومية بعض الأشخاص لأن يدخل بها الجنة إذا سببت له استحقاق مقدار من حسنات الظالم مقابل حقه المادي أو المعنوي الذي غُصب منه في الدنيا ـ وأدت نقيصة حسنات الظالم لأن يدخل بها النار حيث تغلب سيئاتُه حسناته بسبب هذه النقيصة على تفصيل وتوضيح مذكور في محله .
   وبذلك يظهر أن ظلم شخص لآخر يكون رحمة للمظلوم في الآخرة

(1) سورة البقرة ، الآية : 194 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 205
  على ضوء النتيجة المذكورة ويكون ظلماً حقيقياً لنفس هذا الظالم قال سبحانه :
   ( مَّنْ عَمِلَ صَلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ ) (1) .
   ويبقى النوع الثالث من المصيبة هو الذي يحتاج إلى الإجابة الواضحة المبينة لحقيقة العدل الإلهي فأقول :
   إن كل الحوادث التي تجري في الحياة خارج نطاق اختيار الإنسان وإرادته إنما تحدث لأسباب تكوينية أودعها الله سبحانه في الكون لمصلحة نوعية تخدم نوع البشر وأكثر أفراده فأصل وجود الريح وهبوبها قوية أو ضعيفة لمصلحة عامة وخلق الماء سائلاً بطبعه لحكمة كما أن خلق النار محرقة لمصلحة وهكذا ـ وقد يتفق في بعض الأحيان أن تحمل الريح النار إلى زرع شخص فتحرقه كما قد يتفق أن يكون هبوب الريح بدرجة قوية ولمصلحة نوعية لا يعلمها تفصيلاً إلا الله تعالى ـ مؤدياً إلى غرق السفينة وهلاك من فيها ففي هذه الموارد التي تتصادم فيها مصالح نوع المجتمع مع مصلحة بعض الأشخاص قد تقتضي المصلحة النوعية والحكمة الإلهية . أن تبقي القانون الطبيعي جارياً على مجراه التكويني ليؤدي الخدمة النوعية الكبرى ولو أدى ذلك إلى حدوث الضرر لبعض الأفراد من باب تقديم الأهم على المهم في عالم المصالح عندما تتزاحم وتتصادم ولا يتنافى ذلك مع العدل الإلهي لأن الأضرار الطارئة على الانسان في هذه الحياة بالقدر والقضاء إذا رضي بقدر الله وقضائه وصبر عليه ـ تُعوض عليه في الآخرة بما يُعطيه سبحانه للمؤمن من الثواب العظيم والأجر الجسيم .

(1) سورة فصلت ، الآية : 46 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 206
   وإبطالُ القانون الطبيعي بجعل النار برداً وسلاماً مثلاً كما حصل مع النبي ابراهيم ـ لا يكون إلا على وجه المعجزة ومع النبي أو الإمام والقريب منهما من الأولياء الصالحين كما هو واضح ـ .
   وأما الحوادث الطبيعية التي يقدرها الله سبحانه في بعض الأحيان لتكون عقوبةً للمجرمين المتمردين على إرادته تعالى فهذه أيضاً لا تنافي العدل الإلهي بالنسبة إلى مستحقي العقوبة أولاً لاستحقاقهم لها ـ وثانياً لأن العقوبة المعجلة تخفف من المؤجلة ليوم الحشر الموعود .
   وأما بالنسبة إلى المؤمنين الصابرين فالأضرار الطارئة عليهم في هذه الحياة تعوض عليهم بالنعيم الخالد والسعادة الأبدية جزاءً عادلاً ومكافأةً لهم على تسليمهم لقضاء الله وصبرهم عليه حيث يدخلون الجنة بغير حساب لقوله تعالى : ( إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ ) (1) .

(1) سورة الزمر ، الآية : 10 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 207
الحكمة في تشريع وجوب الوقوف في عرفات
   بعد الانتهاء من الجولة الفكرية والرحلة المعنوية التي انطلقنا بها في رحاب شخصية أبي الأنبياء وأبي الابتلاء النبي ابراهيم عليه السلام واستيحاء الكثير من العِبَر والدروس المفيدة من سيرته الرشيدة وتصرفاته السديدة المنطلقة من التشريع السماوي والمترجمة لما فيه من قيم رفيعة ومثل سامية تلفت الأنظار وتدعو إلى الإجلال والإكبار .
   أجل: بعد هذه الجولة الممتعة نعود لنكمل الحديث عن رحلة الحج المباركة بالحديث عن أبرز شعار وأروع منسك من مناسك هذه الفريضة الميمونة وهو الوقوف في عرفات الذي تتجلى فيه روح التعبد بربطه بهذا المكان الخاص وتحديده بزمانه المعلوم المحدد من طرف البداية بأول الزوال من يوم عرفة وهو التاسع من ذي الحجة ومن طرف النهاية بالغروب منه أي من يوم عرفة مع حصره بهذا اليوم الخاص دون غيره من ايام ذي الحجة وقد نبهت سابقاً على أن الحكمة الإلهية قد تقتضي تكليف الإنسان ببعض الوظائف الشرعية على وجه التعبد من دون أن تشرح الحكمة في أصل التشريع وفي بعض الخصوصيات من أجل تقوية روح العبودية والانقياد لإرادة الله تعالى مع الاعتقاد الجازم بحكمة الله تعالى وأنه لا يشرع بدون هدف كما لا يخلق بدون غاية ولا يوجد هناك أي موجب لأن يتعرض الله سبحانه لبيان الحكمة ولو بواسطة أنبيائه المرسلين كما لا يجب

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 208
  على المكلف أن يطلع على ذلك بصورة تفصيلية ومع هذا وذاك لا مانع من استلهام بعض العبر والدروس التربوية من أصل إيجاب فريضة الحج بصورة عامة ومن كل شعار من شعاراته المقدسة على وجه الخصوص ـ على ضوء ما يستفاد من بعض النصوص الواردة عن أهل البيت وملاحظة واقع النتائج الإيجابية والمنافع الكثيرة المترتبة على تأدية فريضة الحج عامة وكل شعيرة من شعائره المباركة خاصة ويأتي موقف عرفات ليكون أحد أبرز أركان هذه الفريضة لما يترتب عليه من الفوائد العديدة والمنافع الكثيرة كما سيأتي ـ وقد ورد في بعض النصوص ما يعبر عن أهميته حيث ورد فيه ما حاصله (الحج عرفة) وقد حاول البعض أن يُرجع كلمة عرفة أو عرفات إلى مصدرها اللغوي رابطاً ذلك ومفرعاً له على حادثة افتراق آدم عن حواء بعد هبوطهما من الجنة وسعْي كل واحد منهما باحثاً عن الآخر حتى مَنْ الله عليهما باللقاء وعرفَ مكانَ وجود الآخر في هذا المكان الطاهر المبارك ـ ونحن لا يهمنا معرفة مصدر هذه الكلمة من زاوية اللغة أو علمي النحو والصرف والحادثة التاريخية المذكورة بقدر ما يهمنا معرفة ما ينطوي عليه هذا الشعار من حكمة ويترتب عليه من مصلحة وفائدة وعلى هذا الأساس ستكون انطلاقتنا في رحاب الحديث عنه ومحاولة استلهام المزيد من الحِكَم والمصالح والدروس التربوية والمنافع الدنيوية والأخروية التي أشار الله إليها بقوله سبحانه : ( لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (1) ، مؤكداً بذلك ما هو المرتكز في ذهن المسلم الواعي المؤمن بحكمة الله تعالى وأنه لا يشرع أي حكم بدون حكمة كما لا يوجد أي مخلوق بدون هدف وغاية وإن لم نعرف تلك الحكمة وهذه الغاية بصورة تفصيلية .

(1) سورة الحج ، الآية : 28.

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 209
   وإذا كان لربط مبنى هذه الكلمة من الناحية اللفظية الصياغية بمصدرها وقع إيجابي في نفس القارىء الكريم والحاج العزيز فنحن نرى أن أقرب منطلق لها هو المعرفة بمعناها الإيجابي الذي اعتبره الله سبحانه علة لإيجاد الكون بما فيه الإنسان وذلك على ضوء التفسير الذي يفيد أن المراد بالعبادة الواردة في قوله تعالى :
   ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (1) .
   هو المعرفة ـ وذلك لأن المعرفة الصحيحة هي مصدر العقيدة الصحيحة والعبادة المطلوبة لله تعالى المقربة منه ـ ويصح تقسيمها بلحاظ متعلقها إلى قسمين :
   الأول : المعرفة الأساسية الأصلية وهي المتعلقة بأصول الدين المعهودة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد ـ وقد أشرت إليها بأسلوب علمي مختصر في أكثر من حديث من أحاديث الجزء الأول من وحي الإسلام .
   القسم الثاني من المعرفة : هو المعرفة المتعلقة بفروع الدين المتفرعة على أصوله وقد فرقوا بين هذين القسمين من المعرفة بأن الأول يجب أن يكون حاصلاً من الدليل القاطع الثابت لدى العارف المعتقد ولو كان ذلك الدليل مختصراً فطرياً موجبا للاعتقاد الجازم ولا يجوز فيه تقليد الآخرين مهما سمت مرتبتهم العلمية .
   وأما القسم الثاني : فالمكلف مخير بين أن يحصله بالاجتهاد والدليل الصحيح المعتبر وأن يقلد فيه المجتهد الواجد لشروط

(1) سورة الذاريات ، الآية : 56 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 210
  التقليد وهي مذكورة في محلها من الرسائل العملية والكتب الفقهية وذلك لأن الأول مرتبط بالعقيدة والإيمان وهو لا ينور العقل ولا يغذي الروح ويهذب النفس لتنطلق في طريق الغاية الأساسية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها ـ وهي عبادته وحده لا شريك له ـ إلا إذا نفذت إلى داخل العقل والقلب بالاقتناع الذي يحصل للإنسان من خلال تدبره الآيات الكونية المنتشرة في الآفاق والأنفس وكلها تنادي بلسان الفطرة السليمة بوجود الخالق المبدع الواحد العادل الحكيم الذي خلق الكون لخدمة الإنسان وخلق الإنسان لعبادته فاقتضى ذلك أن يبعث لبني الإنسان المكلفين ـ الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين ليرشدوهم إلى الغاية التي خلقوا من أجلها وهي عبادته وحده لا شريك له ويدلوهم على كيفية هذه العبادة ويمثلوا لهم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة لتتم الحجة وتتحقق الغاية المقصودة من الخلق والبعثة .
   كما اقتضى ذلك أن يتولى الله سبحانه تعيين الحجة الشرعية والقائد العام المعصوم والأفضل من أهل زمانه على الإطلاق وبكل الصفات الكمالية كما كان النبي نفسه صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك لأن الله أعلم حيث يجعل رسالته فكما كان تعيين الرسول والحجة الأولى راجعاً إلى الله تعالى كذلك تعيين من ينوب عنه ويمثل دوره وقد عين الله ذلك وبلغ النبي ما أنزل إليه من ربه في هذه الشأن ـ ومن لوازم الإيمان بعدل الله سبحانه الإيمان الراسخ والاعتقاد الجازم بضرورة إعادة الله الخلق للحياة من جديد ليحكم بينهم بالعدل ويجازي المحسن عن إحسانه بالنعيم كما وعد والمسيء على إساءته بالعذاب الأليم كما أوعد وهو أوفى الواعدين وأصدق القائلين حيث قال سبحانه :

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 211
   ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَل مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (1) .
   وأما القسم الثاني من المعرفة : فالمقصود منه هو العمل وفق الوظائف الشرعية المحددة للمكلف في مجال العبادات والمعاملات على ضوء اجتهاده أو تقليده ويُراد بالمعاملات معناها العام الشامل لكل التصرفات المنسجمة مع الأحكام الشرعية والمحقّقة لعبادة الله سبحانه والإنقياد لإرادته بكل الأعمال الاختيارية التي لا يشترط في انسجامها مع الوظيفة الشرعية قصد التقرب بها لله تعالى ـ وبعبارة أخرى أوجز وأوضح : المراد بالمعاملات بالمعنى العام ـ كل عمل يمارسه المكلف وفق الوظيفة الشرعية المقررة في كل مورد ولا يشترط في انسجامه مع هذه الوظيفة قصد التقرب به لله تعالى وبهذا المعنى العام تشمل المعاملات بمعناها الخاص وهي المتوقفة على الإيجاب والقبول من طرفي العقد كما تشمل الإيقاعات التي لا تتوقف عليهما ويحصل من الشخص الواحد كالعتق والطلاق ونحوهما والتفصيل موكول إلى محله ـ ومن المعلوم أن العمل بالوظائف الشرعية وامتثال الأحكام السماوية لا يتوقف على تحصيل العلم بها عن طريق الدليل والبرهان ولذلك كان المكلف مخيراً فيها بين تحصيلها بالاجتهاد ومعرفتها بالتقليد لواجد شروطه المعهودة كما تقدّم .
   وحيث انطلقنا بالحديث حول كلمة عرفة وعرفات من زاوية مفهومها الإيماني العرفاني الواسع الذي لا يختص بزمان معين ومكان محدد بل يشمُل كلّ الساحات التي يكون للإنسان فيها حركة عبادية بتأدية واجب أو مستحب وترك حرام أو مكروه ـ أجل: حيث أنا انطلقنا بالحديث حول

(1) سورة الزلزلة ، الآيتان : 7 و 8 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 212
  العنوان المذكور (عرفة أو عرفات) من الزاوية الواسعة المذكورة فسيكون الحديث حول عدة عرفات متسلسلة الحلقات انطلاقاً من الساحة الصغيرة إلى الكبيرة فالكبرى حتى نصل إلى عرفات الحج في زمانها ومكانها ونحن متجملون بكل المعاني والقيم التي تساعدنا على إدراك الحكمة والغاية ولو إجمالاً ـ من تشريع الله سبحانه هذا الشعار المقدس واعتباره ركناً أساسياً من أركان فريضة الحج المباركة فأقول والله ولي التوفيق .

وقفة في عرفات النفس :
   إن الحلقة الأولى من حلقات عرفات بمعناها العرفاني الإيماني هي عرفات النفس التي يجب على المكلف أن يقف فيها ابتداء من أول زوال وظهر يوم التكليف إلى وقت غروب شمسه عن سماء القدرة والتمكن .
   والوظيفة الشرعية المطلوبة منه في هذه الساحة وفي إطار هذه الحلقة هي التفقه في الدين بالاطلاع على أصوله المعهودة والإيمان بها عن دليل قاطع ولو إجمالاً مع الاطلاع على الفروع الواقعة محل ابتلائه من العبادات والمعاملات مضافاً إلى ما يتمم هذا الاطلاع وتلك المعرفة وهو التجمل بالتقوى ومكارم الأخلاق باعتبار أن ذلك هو الغاية الأساسية المقصودة من خلق الإنسان وإنزال الكتب والشرائع السماوية .

وقفة أخرى في عرفات الأسرة :
   وبعد الوقوف على صعيد عرفات النفس والقيام بما يجب على المكلف نحوها وهو ما ذكرناه من التفقه في الدين والعمل بمقتضاه كما تقدم يجب عليه أن يقف في عرفات الأسرة وذلك بمعرفة ما يجب عليه نحو كل فرد من أفرادها فيعرف الزوج حق زوجته ووالديه وأولاده وكذلك

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 213
  الزوجة كما يعرف الولد حق والديه وبعد حصول المعرفة والتعارف يأتي دور الوقوف على صعيد هذه الحلقة الوسطى من حلقات عرفات بمعناها العام ليؤدي المكلف لكل ذي حق حقه ويؤدي بذلك ما يجب عليه في إطار عرفات الأسرة من مناسكها المناسبة لها .

وقفة ثالثة في عرفات المجتمع :
   وبعد خروج المكلف من إطار عرفات الأسرة الوسطى يدخل في إطار عرفات الكبرى الأوسع مساحةً والأكثر أفراداً ليعرف ما يطلب منه من حق واجب أو مستحب نحو جاره ثم نحو أخيه في الإسلام والإيمان ثم نحو أخيه في الإنسانية لقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم : الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره ، ثم سائر المخلوقات التي تشترك معه بمصدر الخلق والإيجاد وهو الله سبحانه فيقف نحو كل طبقة من هذه الطبقات الموقف الذي يحدده الشرع له وبذلك يكون قد أدى ما يُطلب منه وجوباً أو استحباباً في عرفات المجتمع وقام بمناسكها المطلوبة منه فيها .
   وبتأدية ما يطلب منه في الحلقات المذكورة لعرفات بمعناها العام الإيماني يكون قد هيأ نفسه لتأدية واجبات عرفات الحج المعهودة .

الوقفة المنشودة في عرفات المعهودة :
   وهي التي يستلهم منها الحاجُ الدروس المفيدة والعِبَر العديدة وهي كثيرة منها تذكر يوم الحشر الأكبر من خلال ملاحظة ذلك الجمع الغفير والأمواج المتلاطمة من البشر في بحر الحج العميق مع ملاحظة ارتداء ثوب الإحرام المجرد من الخياطة بالنسبة إلى الرجال ـ وذلك يذكرنا بالكفن ويرسم لنا صورة المستقبل المذهل في ذلك اليوم الذي تحدّث الله

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 214
  عنه بقوله تعالى :
   ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارىُ وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ ) (1) .
   والنتيجة العملية والفائدة التربوية المترتبة على ذلك هي حصول الخوف الشديد من هول ذلك اليوم وهذا يؤدي بطبعه إلى الاستمساك بعروة التقوى والعودة إلى الله من باب التوبة لأن الله سبحانه :
   ( يُحِبُّ التَّوَّابِين وَيُحِبُّ المُتَطهِّرِينَ ) (2) .
   كما وصف نفسه وتحدث في كتابه الكريم ، هذا إذا كان منحرفاً عن خط الاستقامة وأما إذا كان مستقيماً عليه فهو يستمر على استقامته بقوة وثبات أكثر وأقوى ممّا كان عليه قبل وقوفه على صعيد عرفات الحج وهذه فائدة كبرى جديرة بالاهتمام وبذلك الجهد المستطاع في سبيل تأدية هذه الفريضة بعد وجوبها بالاستطاعة الشرعية كما تقتضي تأكد الاستحباب ورجحان السعي في سبيل تحصيلها أي تحصيل الاستطاعة تمهيداً للتمكن من الإتيان بهذه الفريضة المباركة وتحصيل فوائدها العديدة .
   ومنها: حصول الانفتاح العفوي من قبل المسلمين بعضهم على بعض ليتعارفوا ويتعاونوا على البر والتقوى بالسعي في سبيل تحقيق المصالح المشتركة بين أبناء الأمة الإسلامية على اختلاف مذاهبها وانتماءاتها وتتمثل تلك المصالح بالمنافع التالية وهي :

(1) سورة الحج ، الآية : 2 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 222 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 215
   أولاً : المنافع المادية الاقتصادية بسبب تعارف التجار وتفاهمهم على القيام بالتبادل التجاري بأن يرسل كل بلد ما يوجد لديه من بضائع ومصنوعات ومنتوجات غير موجودة في البلد الآخر ـ إلى هذا البلد كما يحصل تبادل منافع بين الحجاج القاصدين لتأدية فريضة الحج المباركة بأن يصحب الذاهب إلى زيارة بيت الله الحرام ما يوجد في بلده من بضائع ونحوها ليبيعها في أسواق بلد الحج قبل قيامه بالفريضة أو بعد تأديتها ولا مانع من ذلك شرعاً ما دام مقصوداً بالعرض والتبع كما هو المتوقع من المكلف المتفقه في الدين والمطلع على اشتراط قصد القربة في صحة كل العبادات ومنها فريضة الحج مع الإخلاص في النية والقصد بمعنى أن يكون الدافع لسفره هو تأدية هذه الفريضة .
   وما عداه من المنافع المادية أو المعنوية ـ يكون مقصوداً له بالتبع بمعنى أنه لولا عزمه على القيام بمناسك الحج وجوباً أو استحباباً ـ لما سافر إلى مكة وقد صرح الله سبحانه بمشروعية الاستفادة الاقتصادية للحجاج بعد حديثه عن فريضة الحج في آية سابقة مباشرة وذلك بقوله سبحانه :
   ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ) (1) .
   وثانياً : المنافع السياسية وذلك من خلال تلاقي رموز الشعوب الروحية والسياسية واجتماعها على مائدة المذاكرة ومن خلال مؤتمر يُعقد على صعيد بلد الحج كما يحصل في الغالب ـ من أجل التشاور ومعرفة ما يعود على الشعوب الإسلامية ودولها ـ بالنفع والقوة المعنوية السياسية مضافاً إلى ما يعود عليها بالقوة العسكرية التي تمكنها من الصمود أمام التحديات والاعتداءات التي تتعرض لها بين الحين والآخر من قبل أعداء

(1) سورة البقرة : الآية : 198 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 216
  الأمتين الإسلامية والعربية كما مكنها من تحرير ما احتل من أرضها .
   وثالثاً : المنافع الثقافية من خلال التقاء رجال الفكر والثقافة العالية وتذاكرهم حول أهم المواد العلمية الدراسية والأدبية ونحوها ممّا ينفع الطلاب أكثر مع محاولة التعرف على أجدى الأساليب وأنفع الطرق التي تساعد المعلم على تعليم طلابه وإفادتهم في الحقل التعليمي بالأسلوب الواضح الراجح .
   ورابعاً : فائدة الوحدة والاتحاد بين أبناء الأمة الإسلامية ونظمها الحاكمة فيها لتعود إلى سابق عهدها ومجدها يوم كانت أمةً واحدةً معتصمة بحبل الوحدة الإسلامية التي تنطلق من خلال ملاحظة القواسم المشتركة والروابط المعنوية الكثيرة وهي إيمانها بالإله الخالق المعبود الواحد مع إيمانها بالرسول الأخير الواحد الذي أرسله الله سبحانه ليكون رحمة للعالمين عامة وللمسلمين خاصة وبالكتاب الواحد الذي أنزله سبحانه على هذا الرسول الأعظم ليكون نظام أمة ودستور حياة لجميع أفراد الأمة الإسلامية بلا استثناء مع الإيمان بالمعاد الواحد والنهاية المشتركة التي يقف الجميع بعدها بين يدي العدالة السماوية لتجازي كل فرد على عمله بما يناسبه من الجزاء .
   وتأتي وقفة عرفات لتؤكد أواصر الوحدة المعنوية للأمة الإسلامية بمظاهر وحدوية تذوب معها فوارق اللون واللغة والعرق والمذهب واللباس فالكل متجردون من ملابس الحياة الدنيا وزينتها ليبرزوا بمظهر واحد ويلتقوا على صعيد واحد ويهتفوا بشعار واحد وهو شعار التلبية التي يدوي صداها في مسامع تلك الجماهير الغفيرة فتبعث في قلوبها القوة والثقة بقدرة الأمة وتمكنها إذا اعتصمت بحبل الله سبحانه ـ من تحرير أرضها واستعادة عزتها وكرامتها .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 217
   ولا يخفى على المسلم الواعي أن استلهام درس الوحدة الإسلامية من مدرسة عرفات وتعميقها في النفوس يتوقف على التنبيه والتنبه لكونها ـ أي الوحدة الإسلامية ـ إحدى أبرز الغايات المستهدفة من تشريع هذا الشعار المبارك لذلك يُطلب ممن يؤدي مناسك الحج أن يلتفت إلى هذه الغاية السامية المنشودة من وراء تشريع وجوب هذه الفريضة بصورة عامة كما يُطلب الالتفات إلى الحكمة المستهدفة من كل منسك من مناسكها ولو إجمالاً ـ على ضوء التوجيهات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام ومن خلال ملاحظة ما يتحقق على صعيد العمل والامتثال من الفوائد الملموسة بالوجدان المؤكد والمتأكد بما هو المعلوم لدى كل مؤمن واع وملتفت إلى ضرورة اتصاف الله سبحانه بكل الصفات الكمالية ومنها العدل والرحمة والحكمة ـ وتعني الصفة الأخيرة عدم صدور أي تشريع من قبل الله سبحانه بلا حكمة وعدم إيجاده مخلوقاً بلا فائدة كما تقدم بيانه مكرراً .
   وبعد التفات المكلف إلى غاية التشريع يُطلب منه بذل الجهد في سبيل تحقيقها على الصعيد العملي ـ وذلك بأن يُحقق غاية فريضة الحج والصوم مثلاً وهي التقوى ـ من خلال الاتصاف بها ـ بعد أن عرف أنها من أبرز الغايات والفوائد المنشودة من وراء تشريع وجوبهما على ضوء الآيات المباركة المصرحة بهذه الغاية السامية ـ وهكذا بالنسبة إلى أية فريضة من الفرائض الأخرى كالصلاة والخمس والزكاة ونحوها من الواجبات الشرعية المباركة ـ وقد مرت الإشارة إلى الغاية المستهدفة من تشريع وجوبها فيما سبق من أبحاث هذا الكتاب .
   وبإمكان الشخص الذي يقوم بدور التعريف وتعليم أحكام الحج للحجاج الذين تحمل مسؤولية تأدية فريضتهم على الوجه الصحيح من حيث الشكل والصورة أن يلفت أنظارهم إلى الحكمة المستهدفة بعد أن

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 218
  يتفقه في أحكام الدين بصورة عامة والحج بصورة خاصة كمطلب شرعي يُطلب منه تحقيقه على الصعيد العملي في حق نفسه ويمهد للآخرين الذين انطلقوا معه واعتمدوا عليه ـ سبيل تأدية فريضتهم كاملة شكلاً ومضموناً صورة وهدفاً ويكون من نتائج إدراك غاية أي شعار من شعارات الحج وغيره من الواجبات الإسلامية والتنبه لأهمية هذه الغاية ـ التحرك في طريق تحقيقها على الصعيد العملي .
   وللتوضيح نمثل بشعار وقفة عرفات ـ موضوع الحديث ، فإن الحاج الواعي لفلسفة هذا الشعار المبارك ينطلق في طريق تحقيقه وذلك بالانفتاح على إخوانه المسلمين المنتمين إلى غير مذهبه على أساس أن الاختلاف في ذلك كالاختلاف في الرأي بمعناه العام الذي لا يؤدي عند العقلاء الواعين من المسلمين ـ لأن يفسد للود وللوحدة قضية بل كل ما يقتضيه ذلك هو حصول الحوار الهادف الهادىء بين رموز أرباب المذاهب ـ بالحكمة والموعظة الحسنة كما أدبنا القرآن وتكون النتيجة إما الالتقاء والاتفاق نظرياً وعملياً ـ ليحصل التكامل والتعاون على البر والتقوى ويترتب على ذلك ما ينفع الجميع .
   أو البقاء على الاختلاف في الرأي ـ مع البقاء على احترام كل فريق لمذهب الآخر من أجل المحافظة على وحدة الموقف التي تعود على الجميع بالعزة والقوة وتمكنهم من تحقيق أهدافهم المشتركة وأبرزها التحرير وتقرير المصير .
   وتبرز أهمية الوحدة الإسلامية والاعتصام بحبلها المتين من خلال ملاحظة ابتداء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم دعوته المباركة بالدعوة إلى الاعتراف بشعارها المقدس وذلك بقوله : قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا ، لأنهم عندما يتدبرون معنى هذا الشعار بعقولهم ويؤمنون بمضمونه بقلوبهم ثم يطبقونه على الصعيد العملي بسلوكهم ليضموا إلى توحيد العقيدة توحيد العبادة ـ

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 219
  يصبحون بهذا وذاك أمةً واحدة كما وصفها الله في كتابه الكريم بقوله تعالى :
   ( إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) .
   وحيث أن الإسلام جاء رحمة للعالمين فقد بيّن للعقلاء كلهم على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وانتماءاتهم ـ الحكمة في خلقهم شعوباً وقبائل وميولاً متنوعة ونزعات مختلفة وصرح بأن المقصود من ذلك التعارفُ والتعاطفُ والتكامل بالتعاون على تحقيق مصلحة الجميع ودفع أو رفع ما يضرهم حيث قال سبحانه :
   ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُم عِند اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (2) .
   وإذا لاحظنا مفردات الشعائر الإسلامية نجد أنّها كلها تحمل في طيها روح الوحدة وقلب التوحيد من أجل أن ترسخ وحدة المسلمين وتبقيهم دائماً صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً .
   فالصلاة مثلاً تجب على كل المسلمين في وقت واحد من حيث العنوان العام وإن حصل الاختلاف في بعض الخصوصيات والتفاصيل على وجه لا يضر بجوهر الوحدة وروحها، ولذلك يصح أن نشبه الشعارات الإسلامية بالروافد والأنهار التي تختلف في مجاريها ولكنها تصب في نهاية المطاف في بحر واحد .
   وهكذا الشعارات الدينية وإن اختلفت بخصوصياتها المميزة لبعضها عن بعض بالشكل والصورة ولكن الجوهر واحد والغاية واحدة ما دامت تصب في النهاية في بحر عبادة الله سبحانه

(1) سورة الأنبياء ، الآية : 92 .
(2) سورة الحجرات ، الآية : 13 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 220
  وحده لا شريك له وتعود كلها على الإنسانية بصورة عامة وعلى المتعبدين بها بصورة خاصة بالخير الكثير لأنها تمثل الجانب العملي التطبيقي من الشرع الإسلامي الذي أنزله الله تعالى ليكون رحمة للعالمين .
   وتمتاز فريضة الحج عن سائر الواجبات العبادية بأنّها تضم إلى توحيد الأمة وجمعها في إطار الوحدة والتوحيد المعنوي ـ توحيدها الجسمي الخارجي المتمثل باجتماع العدد الكثير من أفرادها على صعيد المناسك المشتركة وخصوصاً الوقوف في عرفات والمشعر الحرام في الوقت الواحد المحدد ، ولا يخفى أن الظاهرة الاجتماعية المباركة التي تتحقق بالتقاء الأفراد الذاهبين إلى زيارة بيت الله الحرام لا ينحصر أثرها الإيجابي في المجال التوحيدي ويقف على خصوص أولئك المتشرفين بتأدية هذه الفريضة المقدسة بل ينسحب ويمتد ليشمل بروحه الطاهرة وأبعاده الواسعة سائر الأفراد الذين لم يقدر لهم أن يؤدوا فريضة الحج .
   وذلك من خلال الالتقاء الفكري والشعوري الذي يحصل بين ممثلي البلاد الإسلامية ورموزها مضافاً إلى اللقاء الذي يحصل بين الأفراد الآخرين حيث تزرع بذرته في حقل التعارف هناك أيام قيامهم بشعائر فريضتهم المشتركة ثم تُسقى بعد ذلك بماء المواصلة والتواصل ولو بالمراسلة ونحوها الأمر الذي يؤدي عادة إلى نمو هذه الغرسة لتصبح بعد ذلك شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها .
   وبقدر ما تتسع دائرة التعارف بين أفراد الأمة فإن شجرته المباركة تمتد ظلالها أكثر لتشمل أكبر عدد ممكن من هذه الأفراد وبذلك يتحقق الهدف الكبير والغاية الواسعة عندما ينطبق عنوان الأمة على تلك الجماهير

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 221
  الغفيرة بحيث يصح أن يقال إن الأمة بعنوانها الوحدوي المجموعي ـ قد حجت كما يريد الله سبحانه ورسوله صلى ا‏لله عليه وآله وسلّم وقد صرح سبحانه بمحبته للظاهرة الاجتماعية التي تنصهر في ظلها الأفراد لتشكل كياناً موحداً واحداً وذلك بقوله تعالى :
   ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرصُوصٌ ) (1) .
   باعتبار أن وحدة صفهم حال جهادهم المقدس ضد أعدائهم يعود عليهم بالقوة التي تمكنهم من الغلبة والانتصار في جميع الساحات وخصوصاً ساحة النضال والجهاد المقدس في سبيله تعالى ـ ولذلك أمر الله سبحانه بالاعتصام بحبله المتين وأكد ذلك بالنهي عن التفرق والتنازع المؤدي إلى الفشل وذهاب القوة حيث قال سبحانه :
   ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (2) .
   وقال سبحانه :
   ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (3) .
   وقد أشرت إلى دور الوحدة في قوة الأمة وقدرتها على تحقيق أهدافها في مجال الدفاع عن كيانها ودفع الأخطار عنها بالمقطوعة الشعرية التالية :

(1) سورة الصف ، الآية : 4 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 103 .
(3) سورة الأنفال ، الآية : 46 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 222
بالوحدة الكبرى يُحقق مقصدُ      ونَنالُ  ما نصبوا إليه iiوننشد
في ظلها الطاقات تُحشد iiكلها      ويقوم  صرح بالوفاق iiمشيد
الجمعُ يُدرك بالتضامن iiدائماً      ما  يبتغيه وليس ينجح iiمفرد
كلتا  اليدين تصفقان iiلمقصد      يجنى ولا تسطيعُ تصفيقاً iiيد

من وحي الوقوف في المشعر الحرام :
   بغروب الشمس من أفق اليوم التاسع من ذي الحجة الحرام ينتهي وقت الوقوف في عرفات ليبدأ وقت الزحف المقدس باتجاه المشعر الحرام ليلة اليوم العاشر ليؤدي الحجاج الواجب التالي وهو الوقوف في المزدلفة من فجر اليوم العاشر إلى وقت طلوع الشمس .
   والحكمة التي يمكن استلهامها من هذا الشعار المقدس هي أن الحجاج الكرام بعد أن توفقوا للتعارف ببركة الوقوف السابق على صعيد عرفات وأصبحوا يمثلون جبهة واحدة وصفاً واحداً قوياً قادراً على التصدي للعدو من أجل إزالة عدوانه أو منعه من القيام به ـ يُطلب منهم أن يتحركوا نحوه ويستعدوا لخوض معركة الشرف والجهاد المقدس ضده ـ وحيث أن تحصيل الأسلحة المناسبة لذلك وجمعها من مصادرها من أوضح مصاديق أخذ الأهبة والاستعداد .
   يأتي جمع الحصى من المشعر الحرام ليلة المبيت فيه ليكون رمزاً وتمريناً على جمع السلاح المادي المعهود وإعداده للوقت المناسب عملاً بقوله تعالى :
   ( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 223
  عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) (1) .
   كما يأتي الزحفُ صباح اليوم العاشر من ذي الحجة ـ وهو يوم عيد الأضحى ـ بعد بزوغ شمسه ـ وتحركُ الحجاج إلى مِنى لتأدية مناسكها في هذا اليوم ـ ليكون رمزاً لتحريك الجيش الإسلامي المبارك نحو ساحة العدو من أجل مفاجأته والأخذ بزمام المبادرة المساعِدَة على انتزاع النصر والغلبة غالباً .
   ويأتي رمي جمرة العقبة وهو أول أعمال مِنى صباح يوم العيد المبارك ليكون رمزاً واضحاً لبدء الهجوم بالفعل على العدو ـ وحيث أن خوض المعركة يستلزم غالباً استشهاد بعض الجنود المناضلين ـ يكون تقديم الهدي وذبحه في هذا اليوم رمزاً لذلك كما أنّه في الوقت نفسه تذكير بقصة إقدام إبراهيم على ذبح ولده إسماعيل وإقدام ولده هذا على تقديم نفسه قرباناً لله سبحانه وامتثالاً لأمره الذي حصل لهما الاعتقاد بتوجهه من قبل الله واقعاً بقصد حصول الذبح وتحققه خارجاً .
   وفي كلا الرمزين ـ رمز التذكير بحادثة ابراهيم وابنه ورمز ابتداء الاستعداد للتضحية والاستشهاد .
   أكثر من درس وعبرة لا تخفى على المتدبر والمتفكر في خلفيات التشريعات الدينية والشعارات الإسلامية عامة وشعارات فريضة الحج المباركة خاصة ـ وبعد قيام الحاج بالواجبين المذكورين صباح يوم عيد الأضحى في منى ـ وهما رمي جمرة العقبة وذبح الهدي أو نحره ـ يتحقق بذلك الدور المطلوب منهما والرمزية المترتبة عليهما .
   أجل : بعد تحقق ذلك وترتبه على الواجبين السابقين ـ يأتي دور

(1) سورة الأنفال ، الآية : 60 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 224
  الواجب الثالث وهو الحلق أو التقصير ليقوم بدوره ويكون رمزاً إلى إزالة آثار العدوان والاعتداء الذي يمارسه العدو ضد الإسلام والمسلمين كما يكون رمزاً إلى زوال الأخطاء والسيئات التي كانت صادرة من الحاج قبل تشرفه بزيارة بيت الله الحرام ـ إذا لم يكن معصوماً أو بحكم المعصوم ـ وأما إذا كان واحداً من هذين ـ المعصوم ومن بحكمه ـ فإن الحلق أو التقصير يكون رمزاً لإزالة العدوان كما يكون رمزاً لحصول المزيد من الصفاء الروحي والنظافة المعنوية التي تزيد صاحبها قرباً من الله سبحانه .
   وأما مبيت الحاج في منى ليلتي الحادي والثاني عشر وقد تضاف إليهما ليلة الثالث عشر ـ فيمكن أن يكون رمزاً لظاهرة أُخرى من ظواهر ومظاهر التعبد الشرعي ـ وهو التزام جانب السكون والتوقف عن العمل والحركة في مقابل ظاهرة التحرك التعبدية الذي مارسه الحاج بإتيان المناسك السابقة على هذا المنسك الأخير .
   إلى هنا نكون قد رسمنا صورة مختصرة عن مناسك الحج وما يُستوحى من كل واحد منها من دروس تربوية ترسخ العقيدة وتهذب النفس وتعدل السلوك في نهج السماء القويم وصراطه المستقيم الذي ينتهي بالإنسان إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة .
   ومن أجل تتميم الفائدة وتعميق الفكرة التي رسمتها عن مناسك الحج بما تقدم بيانه أحب إعطاء صورة مختصرة عن مجموع ما تقدم الكلام حوله من مناسك الحج المباركة فأقول : إن تأدية فريضة الحج المباركة تعتبر رحلة فكرية وروحية في طريق السعي الى الله تعالى والتقرب منه معنوياً بزيارة بيته الحرام وتأدية فريضة حجة الإسلام على الوجه المطلوب شكلاً وصورة وهدفاً وغاية ـ وأول خطوة على طريق هذه الرحلة المباركة هي الإحرام من أحد المواقيت المحددة للحجاج الكرام وهو

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 225
  بالنسبة إلى فريضة الحج مثل تكبيرة الإحرام بالنسبة إلى الصلاة حيث يحرم بعدها ما كان حلالاً قبلها وارتداء ثوبي الإحرام يكون إشعاراً بدخول الحاج في حرم الله سبحانه وحدود مملكته الشرعية التعبدية كما يغير الجندي ملابسه العادية ويرتدي ملابس الجندية وطالب المدرسة أثوابه الطبيعية بثوبه المدرسي ـ وذلك لأن التغيير الظاهري يقتضي بطبعه التغيير الداخلي بتحول الإنسان المكلف من حالة التحلل والانطلاق من قيود وحدود فريضة الحج ـ إلى حالة التعبد والتقيد بنظام هذه الفريضة المقدسة بفعله ما يجب عليه فعله من مناسك الحج وتركه ما يحرم عليه فعله من محرمات الإحرام ـ هذا مضافاً إلى ما يثيره تبديل الملابس العادية المخيطة بملابس اُخرى غير مخيطة بالنسبة إلى الرجل ـ من تذكر الموت وما بعده بسبب الشبه القوي بين ثوبي الإحرام وقِطَع الكفن وذلك يقتضي بطبعه الزهدَ في زخارف هذه الدنيا الزائلة والانصراف عمّا يبعده عن الله تعالى ويحرمه من رضوانه ـ من المحرمات وما يلحق بها من المشتبهات التي تؤدي بفاعلها إلى الوقوع في الحرام من حيث لا يدري .
   وفي المقابل يبعث تذكر الموت الرغبة في الاستعداد للموت قبل حلول الفوت ويتمثل ذلك بالمبادرة إلى التوبة النصوح والتزام خط الاستقامة في طريق الشريعة .
   ويأتي الطواف بعد ذلك ليكون الخطوة الثانية في طريق الرحلة والسفر إلى الله تعالى بالفكر والروح وتكون الحركة الدائرية بقيودها وحدودها ـ حول الكعبة المشرفة ـ رمز الالتزام بمنهج الشريعة وخط العبودية وعدم تجاوز حدودها كما لا يتجاوز حدود الطواف ولا يخالف شروطه المعتبرة في صحته .
   ثم تأتي صلاة الطواف بعده لتكون رمزاً لمرتبة القرب من الله تعالى والدنو من ساحة رحمته وغفرانه بسبب قيامه بحركة الطواف العبادية ضمن

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 226
  قيودها المعتبرة وحدودها المرسومة ويكون السجود في هذه الصلاة الممثل الأوضح لذلك القرب المعنوي من اللطف الإلهي حيث ورد في الحديث ما مضمونه : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ـ وربط هذه الصلاة بمقام النبي إبراهيم عليه السلام كان من أجل لفت النظر إلى مقام هذا النبي العظيم ودوره البناء في تشييد بيت الله الحرام مع ولده إسماعيل ـ من الناحية المادية وعمرانه معنوياً بتأدية مناسكه ودعوته الأجيال من أجل أن تسعى لتأدية فريضة الحج المباركة ملبيةً النداء الذي وجهه إليها امتثالاً لأمر الله له بذلك حيث قال سبحانه مخاطباً له :
   ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجّ يَأتُوكَ رِجالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم ) (1) .
   هذا مضافاً إلى ما يستفاد من الدروس الكثيرة والعبر العديدة المفيدة من سيرته المستقيمة في منهج السماء وثباته عليه وعدم انحرافه عنه رغم تعرضه لعدة امتحانات وابتلاءات صعبة ـ لا يصمد أمامها إلا من كان مثله في قوة الإيمان والفناء في ذات الله حباً وقرباً ، والامتحانات التي تعرض لها كثيرة .
   1 ـ منها : امتحانه بأمره بالهجرة مع زوجته هاجر وطفله اسماعيل الوحيد ليتركهما في واد غير ذي زرع من أرض مكة المكرمة وقد نجح هو وزوجته هذه بانقيادهما لإرادة الله وامتثالهما لأمره وأخيراً جازاهما الله معجلاً بالفرج بعد الشدة واليسر بعد العسر كما تقدّم ـ مضافاً إلى ما نالاه في الآخرة من السعادة الخالدة .
   2 ـ ومنها : امتحانه بنفسه عندما تعرض للإحراق والاحتراق ونجح

(1) سورة الحج ، الآيتان : 27 و28 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 227
  في الامتحان كما نجح في سابقه حيث سلم أمره لله فسلمه الله من الاحتراق وجعل النار عليه برداً وسلاماً .
   3 ـ ومنها : امتحانه بأمره بذبح ولده الصغير الوحيد ونجح في هذا الامتحان الأصعب مع ولده هذا عندما أسلما أمرهما لله سبحانه وأبديا الاستعداد للامتثال والتنفيذ .
   وأخيراً سلمه ا‏لله سبحانه من الذبح وفداه بذبح عظيم .
   وبعد الطواف وصلاته يأتي دور السعي بين الصفا والمروة بعدد معين من الأشواط مع قيودٍ وحدود مرسومة له كالطواف ليكون تقيد المكلف بتلك القيود والحدود رمزاً للعبودية الخاضعة والعبادة الخاشعة التي تنطلق من حدود السعي الخاص بمكانه وزمانه ، إلى السعي العام في كل زمان ومكان في سبيل عبادة الرحمن بالعبادة العامة الشاملة لكل التصرفات الاختيارية المنسجمة مع إرادة الله تعالى .
   وبعد السعي يأتي دور التقصير ليكون رمزاً لإزالة الذنوب وزوال الأخطاء الحاصلة للحاج قبل تأديته لما توفق للقيام به من مناسك الحج .
   ويأتي الإحرام للحج من مكة المكرمة ليكون مؤكداً لإحرامه السابق ومرسخاً في النفس والذهن المعاني السامية والدروس التربوية المهذبة التي يراد للناسك أن يحصلها ويستوحيها من مدرسة فريضة الحج المباركة .
   وبعده يأتي دور الوقوف في عرفة ليكون مدرسة تربوية أوسع مساحة وأكثر طلاباً وأرقى دروساً من أجل أن يستلهم الناسك هذه الدروس من تلك المدرسة ويحملها نوراً في عقله وإيماناً في قلبه ثم يجسمها على الصعيد العملي بالتقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل .
   وبعد ذلك يأتي الوقوف في المشعر الحرام ليكون خطوة أخرى في طريق القرب والازدلاف إلى

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 228
  رحمة الله ورضوانه ولا يبعد أن يكون تسمية هذا المشعر ـ بالمزدلفة ـ رمزاً لذلك المعنى .
   وبعد قيام الحاج بما وجب عليه من الوجود في المشعر من الفجر إلى طلوع الشمس يأتي دور الزحف إلى منى صباح اليوم العاشر ـ ليقوم الناسك في هذا اليوم ـ وفي ذلك المكان بمناسكه الثلاثة رمي الجمرة وذبح الهدي والحلق والتقصير ويبقى عليه المبيت في منى ليلتي الحادي والثاني عشر وربما الثالث عشرـ في بعض الفروض ـ من أجل رمي الجمرات الثلاث يومي الحادي والثاني عشر وربما الثالث عشر في بعض الصور.
  وبعد المبيت في منى ورمي جمراتها يرجع إلى مكة لطواف الحج وصلاته وللسعي ثانياً وطواف النساء وصلاته . ويجوز للحاج أن يأتي إلى مكة بعد فراغه من أعمال منى صباح يوم العيد ليأتي بالأعمال المذكورة ثم يرجع إلى منى ليبيت فيها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر وربما الثالث عشر مع رميه الجمرات الثلاث صباح كل يوم يبيت الناسك ليلته في منى .
   وذكر هذه المناسك بهذا الاختصار لمجرد رسم الصورة الاجمالية في أعمال حج التمتع وعمرته المتقدمة عليه ولا بد لكل ناسك من الرجوع إلى مناسك مرجعه في التقليد ليطبق أعماله على فتاواه فيها .
   وأما المجتهد فهو يرجع إلى مناسكه ليعمل وفق فتاواه أو احتياطاته ـ كما هو واضح .
   وبعد الفراغ من تحرير صفحات هذا الكتاب (حول فلسفة الحج في الإسلام) ترجح لدي نقل حديث كتبته حول فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة وهو منشور في الجزء الأول من وحي الإسلام صفحة 28 .
  وذلك لانسجامه مع مضمون أبحاث هذا الكتاب من جهة وللحديث فيه حول فلسفة الحج ـ موضوع البحث فيه ـ من جهة أخرى وفيما يلي الحديث المذكور ، وموضوعه .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 229
فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة

بسم الله الرحمن الرحيم

  وبه نستعين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين نبينا محمد بن عبدالله وعلى آله الطاهرين المنتجبين .
   وبعد : قال الله في محكم كتابه المجيد :
   ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) .
   حيث أٌننا على أبواب التوجه إلى بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج المقدسة ناسب ذلك أن أتحدث عن فلسفة هذه الفريضة وأبين ما يترتب عليها من الفوائد العديدة والمنافع الكثيرة التي أشار الله سبحانه إليها إجمالاً بقوله : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) (2) .
   وهذا يقتضي بيان العبادة بمعناها العام ودورها التربوي في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً نظراً لمساهمة ذلك في معرفة الدور الذي تؤديه فريضة الحج في هذا المجال فأقول :

(1) سورة آل عمران ، الآية : 97 .
(2) سورة الحج ، الآية : 28 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 230
   المراد من العبادة بمعناها العام الذي اعتبره الله سبحانه العلة الغائية الداعية لخلق الجن والإنس على ما صرح به سبحانه في كتابه الكريم بقوله عز وجل: ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (1) .
   الخضوع الكلي والانقياد المطلق لإرادة الله سبحانه بكل عمل اختياري يصدر من المكلف بإرادته واختياره سواء كان هذا العمل باطنياً كالتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من أجل التوصل به إلى تحصيل الإيمان الراسخ بوجود الله ووحدانيته وعدله وضرورة إرساله للأنبياء وتعيينه للأوصياء وحشره للناس غداً للحساب يوم الجزاء .
   أم كان عملاً ظاهرياً وموقفاً خارجياً منطلقاً من ذلك الإيمان من أجل أن يتوصل الإنسان بهذه العبادة بكل شقيها الباطني والظاهري إلى ما أراد الله سبحانه له أن يصل إليه ويحصل عليه من السعادة في الدنيا والآخرة .
   وذلك لأن العبادة الظاهرية تتمثل بفعل ما أمر الله به من الواجبات والمستحبات وترك ما نهى عنه من المحرمات والمكروهات وحيث أن الله حكيم رحيم لا يأمر إلا بما فيه المصلحة والمنفعة المادية والمعنوية ولا ينهى إلا عما فيه المضرة والمفسدة المادية والمعنوية فإذا حقق العبد ذلك واتقى الله حق تقاته وحصَّل المنافع والفوائد وسلم من المضار والمفاسد فهو يدخل جنة الدنيا ومنها ينطلق إلى جنة البقاء والخلود ـ قال سبحانه :
   ( وَلَو أَنَّ أَهْلَ القُرَى ءامَنُوا واتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ والأرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (2) .

(1) سورة الذاريات ، الآية : 56 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 96 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 231
  وقال سبحانه :
  ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (1) .
   والعبادة بهذا المعنى العام المتمثل بالاستقامة في طريق التقوى وعدم الانحراف عنه مهما كانت الضغوطات أو الإغراءات المؤدية بطبيعتها إلى التحلل من نظام العبودية حيث أنها محتاجة إلى قوة إيمانية وبطولة روحية تساعد المؤمن على الثبات في ساحة الجهاد الأكبر لذلك شرعت العبادات الخاصة المعهودة بكيفيتها المرسومة واشترط في صحتها وترتب الأثر عليها الإتيان بها بقصد التقرب بها لله سبحانه لأن ذلك يعمق الإيمان في النفس ويقويه في القلب ليبقى صاحبه على صلة بالله تعالى وانشداد إليه برابطة التقوى فيظل دائماً في إطار عبادته له بكل ما يصدر عنه من تصرفات اختيارية سواء كانت فعلاً لما أمر به أو تركاً لما نهى عنه ونتيجة ذلك هي بقاء هذا المؤمن العابد في نطاق مصلحته وسعادته كما أراد الله له على ضوء ما تقدم بيانه من فلسفة العبادة وما يترتب عليها من معطيات إيمانية كثيرة وبعد ذكر هذه المقدمة التمهيدية يأتي دور الحديث عن الحج وبيان ما يترتب على تأدية فريضته من الفوائد الجليلة والمنافع العديدة فأقول :
   الفوائد المترتبة على هذه الفريضة المقدسة كثيرة وسأقتصر على ذكر أهمها وابرزها وهو الزهد في كل ما يبعد الإنسان عن رحمة الله سبحانه ويشغله عن الاهتمام بما ينفعه في دنياه وآخرته من الواجبات والمستحبات وعن التجمل بما يرفعه من الفضائل والكمالات ـ والوجه في ترتب فائدة الزهد على تأدية فريضة الحج هو أن الإنسان المؤمن إذا عزم على تأدية هذه الفريضة يرتسم نصب عينيه شبح الموت بسبب ما يحصل له ويصيبه

(1) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و 3 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 232
  في الطريق وبعد وصوله إلى أماكن تأدية المناسك الواجبة من المتاعب والحوادث الخطيرة التي أدت فيما سبق إلى موت بعض الحجاج ـ وخوفه من ذلك يُظهر بصورة تفصيلية طبيعة هذه الحياة الدنيا وأنها دار ضيافة والإنسان فيها ضيف يُقيم فترة محدودة ثم يرحل عنها إلى مقره الأخير وداره الأخرى التي خلق من أجلها وفيها يتقرر مصيره على ضوء أعماله التي كان يمارسها في هذه الدار العاجلة الزائلة فإن كانت خيراً منسجمة مع الوظيفة الشرعية المحددة له من قِبَل الله تعالى كانت النتيجة خيراً وجنةً عرضها السموات والأرض وإن كانت شراً ومخالفة لتلك الوظيفة كانت النتيجة من جنسها قال سبحانه :
   ( فَمَن يَعْمَلْ مِيثقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ ) (1) .
   وخوفه من المصير الثاني المؤلم يجعله زاهداً في الممارسات اللاشرعية وراغباً فيما يؤدي إلى المصير الأول .
   ومما تقدّم يظهر جلياً أن المراد بالزهد المأمور به والمرغوب فيه إسلامياً ـ هو الزهد فيما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً دنيا وآخرة وينحصر ذلك بالمحرمات وتلحق بها المكروهات على وجه الأفضلية التي لا تمنع من الفعل كما هو المعلوم وذلك باعتبار عدم الاستفادة منها في الآخرة بخلاف ما لو تُركت امتثالاً للنهي الكراهتي فإن ذلك يُعتبر عبادة يحصل بها الثواب في الآخرة والتوفيق في الدنيا وإلى ما ذكرناه في بيان المراد من الزهد أشار الإمام علي عليه السلام : ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكن الزهد أن لا يملكك شيء .

(1) سورة الزلزلة ، الآيتان 7 و 8 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 233
   وعلى ضوء هذا المفهوم الواعي لمعنى الزهد في الإسلام ـ ندرك أن الإنسان المؤمن لو ساعدته ظروفه على أن يملك الثروة الطائلة من الحلال ودفعه التزامه الديني لأن يخرج ما تعلق بها من الحق المعلوم للسائل والمحروم فهذا الشخص يكون من الزاهدين المقدرين عند الله سبحانه وعند المؤمنين الواعين .
   أما الفوائد الاُخرى التي يمكن تحصيلها من تأدية فريضة الحج فقد آثرت الإشارة إليها بالقصيدة التالية التي يستطيع المتدبر المثقف أن يستفيدها منها بذوقه السليم وفهمه المستقيم ، وعنوانها :

الحج للأجيال أفضل معهد
الـحج  لـلأجيال أفضل معهدٍ      تـجني به عفوَ الإله iiالسرمدي
وتسير في درب التقى بتضامن      وتـعارف وتـعاطف iiوتـوددِ
إحـرامه  نـزعٌ لثوب مطامع      وطـوافُه  إجـلال ربٍ iiأوحد
وصَـلاتُه صِلةُ القلوب iiبخالق      باري الوجود ونبع عيشٍ iiأرغد
والسعيُ  سعي للفضيلة iiوالعلى      وقضاءِ  حاجات الفقير iiالمُجهد
وكـذلك الـتقصير رمز iiتجرّد      مـن كل خُلْقٍ عن كمالك iiمُبعدِ
أمـا  الـوقوفُ فوقفة iiلتعارف      وتـقارب رغـم المكان iiالأبعد
والإزدلاف لـمشعر نـرنو iiبه      لـرضا  السماء بتضرع وتعبد
والـرمي  رمي للطغاة iiبموقفٍ      حُـرٍ  من الجمع الغفير iiمُوحَّد
والـذبحُ ذبـحٌ لـلهوى iiوتأثرٌ      بـسخاء إبراهيم بالغض iiالندي
والـحلق زيـنة مؤمن iiمتمسك      بعُرى التقى رغم الزمان iiالأنكد
أمـا المبيت لدى مِنى iiفضيافةٌ      مـحمودةٌ عـند الإلـه iiالأجود

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 234
هـي تلك فلسفة المناسك iiأشرقت      وعـيـاً يـبدد حـيرة iiالـمتردد
فالله  لا يـدعو الأنـامَ لـغير iiما      يُجدي البرية في القريب وفي الغد
وكـذاك  إن يـنهى فعن مُردٍ iiلنا      جـسماً وروحـاً دون أي iiتـردد
هـو  عـالمٌ بـمفاسدٍ ومـصالحٍ      تـعطي  الـسعادة للتقي iiالمهتدي
فـمن اتّـقى يـجني المُنى iiبتعبدٍ      وسـواه  يـغرق في الشقا iiبتمرد
   وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام أولاً وآخراً على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين وجميع عباد الله الصالحين .

  وقع الفراغ من تحرير صفحات هذا
  الكتاب ليلة الثالث عشر من شهر رمضان المبارك
  سنة 1418 هـ الموافق 12 كانون الثاني سنة 1998 م