في الامتحان كما نجح في سابقه حيث سلم أمره لله فسلمه الله من الاحتراق وجعل النار عليه برداً وسلاماً .
3 ـ ومنها : امتحانه بأمره بذبح ولده الصغير الوحيد ونجح في هذا الامتحان الأصعب مع ولده هذا عندما أسلما أمرهما لله سبحانه وأبديا الاستعداد للامتثال والتنفيذ .
وأخيراً سلمه الله سبحانه من الذبح وفداه بذبح عظيم .
وبعد الطواف وصلاته يأتي دور السعي بين الصفا والمروة بعدد معين من الأشواط مع قيودٍ وحدود مرسومة له كالطواف ليكون تقيد المكلف بتلك القيود والحدود رمزاً للعبودية الخاضعة والعبادة الخاشعة التي تنطلق من حدود السعي الخاص بمكانه وزمانه ، إلى السعي العام في كل زمان ومكان في سبيل عبادة الرحمن بالعبادة العامة الشاملة لكل التصرفات الاختيارية المنسجمة مع إرادة الله تعالى .
وبعد السعي يأتي دور التقصير ليكون رمزاً لإزالة الذنوب وزوال الأخطاء الحاصلة للحاج قبل تأديته لما توفق للقيام به من مناسك الحج .
ويأتي الإحرام للحج من مكة المكرمة ليكون مؤكداً لإحرامه السابق ومرسخاً في النفس والذهن المعاني السامية والدروس التربوية المهذبة التي يراد للناسك أن يحصلها ويستوحيها من مدرسة فريضة الحج المباركة .
وبعده يأتي دور الوقوف في عرفة ليكون مدرسة تربوية أوسع مساحة وأكثر طلاباً وأرقى دروساً من أجل أن يستلهم الناسك هذه الدروس من تلك المدرسة ويحملها نوراً في عقله وإيماناً في قلبه ثم يجسمها على الصعيد العملي بالتقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل .
وبعد ذلك يأتي الوقوف في المشعر الحرام ليكون خطوة أخرى في طريق القرب والازدلاف إلى
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 228
رحمة الله ورضوانه ولا يبعد أن يكون تسمية هذا المشعر ـ بالمزدلفة ـ رمزاً لذلك المعنى .
وبعد قيام الحاج بما وجب عليه من الوجود في المشعر من الفجر إلى طلوع الشمس يأتي دور الزحف إلى منى صباح اليوم العاشر ـ ليقوم الناسك في هذا اليوم ـ وفي ذلك المكان بمناسكه الثلاثة رمي الجمرة وذبح الهدي والحلق والتقصير ويبقى عليه المبيت في منى ليلتي الحادي والثاني عشر وربما الثالث عشرـ في بعض الفروض ـ من أجل رمي الجمرات الثلاث يومي الحادي والثاني عشر وربما الثالث عشر في بعض الصور.
وبعد المبيت في منى ورمي جمراتها يرجع إلى مكة لطواف الحج وصلاته وللسعي ثانياً وطواف النساء وصلاته . ويجوز للحاج أن يأتي إلى مكة بعد فراغه من أعمال منى صباح يوم العيد ليأتي بالأعمال المذكورة ثم يرجع إلى منى ليبيت فيها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر وربما الثالث عشر مع رميه الجمرات الثلاث صباح كل يوم يبيت الناسك ليلته في منى .
وذكر هذه المناسك بهذا الاختصار لمجرد رسم الصورة الاجمالية في أعمال حج التمتع وعمرته المتقدمة عليه ولا بد لكل ناسك من الرجوع إلى مناسك مرجعه في التقليد ليطبق أعماله على فتاواه فيها .
وأما المجتهد فهو يرجع إلى مناسكه ليعمل وفق فتاواه أو احتياطاته ـ كما هو واضح .
وبعد الفراغ من تحرير صفحات هذا الكتاب (حول فلسفة الحج في الإسلام) ترجح لدي نقل حديث كتبته حول فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة وهو منشور في الجزء الأول من وحي الإسلام صفحة 28 .
وذلك لانسجامه مع مضمون أبحاث هذا الكتاب من جهة وللحديث فيه حول فلسفة الحج ـ موضوع البحث فيه ـ من جهة أخرى وفيما يلي الحديث المذكور ، وموضوعه .
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 229
فلسفة العبادة بمعناها العام وعبادة الحج خاصة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين نبينا محمد بن عبدالله وعلى آله الطاهرين المنتجبين .
وبعد : قال الله في محكم كتابه المجيد :
( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )
(1) .
حيث أٌننا على أبواب التوجه إلى بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج المقدسة ناسب ذلك أن أتحدث عن فلسفة هذه الفريضة وأبين ما يترتب عليها من الفوائد العديدة والمنافع الكثيرة التي أشار الله سبحانه إليها إجمالاً بقوله : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ )
(2) .
وهذا يقتضي بيان العبادة بمعناها العام ودورها التربوي في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً نظراً لمساهمة ذلك في معرفة الدور الذي تؤديه فريضة الحج في هذا المجال فأقول :
|
(1) سورة آل عمران ، الآية : 97 .
(2) سورة الحج ، الآية : 28 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 230
المراد من العبادة بمعناها العام الذي اعتبره الله سبحانه العلة الغائية الداعية لخلق الجن والإنس على ما صرح به سبحانه في كتابه الكريم بقوله عز وجل: ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )
(1) .
الخضوع الكلي والانقياد المطلق لإرادة الله سبحانه بكل عمل اختياري يصدر من المكلف بإرادته واختياره سواء كان هذا العمل باطنياً كالتفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار من أجل التوصل به إلى تحصيل الإيمان الراسخ بوجود الله ووحدانيته وعدله وضرورة إرساله للأنبياء وتعيينه للأوصياء وحشره للناس غداً للحساب يوم الجزاء .
أم كان عملاً ظاهرياً وموقفاً خارجياً منطلقاً من ذلك الإيمان من أجل أن يتوصل الإنسان بهذه العبادة بكل شقيها الباطني والظاهري إلى ما أراد الله سبحانه له أن يصل إليه ويحصل عليه من السعادة في الدنيا والآخرة .
وذلك لأن العبادة الظاهرية تتمثل بفعل ما أمر الله به من الواجبات والمستحبات وترك ما نهى عنه من المحرمات والمكروهات وحيث أن الله حكيم رحيم لا يأمر إلا بما فيه المصلحة والمنفعة المادية والمعنوية ولا ينهى إلا عما فيه المضرة والمفسدة المادية والمعنوية فإذا حقق العبد ذلك واتقى الله حق تقاته وحصَّل المنافع والفوائد وسلم من المضار والمفاسد فهو يدخل جنة الدنيا ومنها ينطلق إلى جنة البقاء والخلود ـ قال سبحانه :
( وَلَو أَنَّ أَهْلَ القُرَى ءامَنُوا واتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ والأرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )
(2) .
|
(1) سورة الذاريات ، الآية : 56 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 96 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 231
وقال سبحانه :
( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )
(1) .
والعبادة بهذا المعنى العام المتمثل بالاستقامة في طريق التقوى وعدم الانحراف عنه مهما كانت الضغوطات أو الإغراءات المؤدية بطبيعتها إلى التحلل من نظام العبودية حيث أنها محتاجة إلى قوة إيمانية وبطولة روحية تساعد المؤمن على الثبات في ساحة الجهاد الأكبر لذلك شرعت العبادات الخاصة المعهودة بكيفيتها المرسومة واشترط في صحتها وترتب الأثر عليها الإتيان بها بقصد التقرب بها لله سبحانه لأن ذلك يعمق الإيمان في النفس ويقويه في القلب ليبقى صاحبه على صلة بالله تعالى وانشداد إليه برابطة التقوى فيظل دائماً في إطار عبادته له بكل ما يصدر عنه من تصرفات اختيارية سواء كانت فعلاً لما أمر به أو تركاً لما نهى عنه ونتيجة ذلك هي بقاء هذا المؤمن العابد في نطاق مصلحته وسعادته كما أراد الله له على ضوء ما تقدم بيانه من فلسفة العبادة وما يترتب عليها من معطيات إيمانية كثيرة وبعد ذكر هذه المقدمة التمهيدية يأتي دور الحديث عن الحج وبيان ما يترتب على تأدية فريضته من الفوائد الجليلة والمنافع العديدة فأقول :
الفوائد المترتبة على هذه الفريضة المقدسة كثيرة وسأقتصر على ذكر أهمها وابرزها وهو الزهد في كل ما يبعد الإنسان عن رحمة الله سبحانه ويشغله عن الاهتمام بما ينفعه في دنياه وآخرته من الواجبات والمستحبات وعن التجمل بما يرفعه من الفضائل والكمالات ـ والوجه في ترتب فائدة الزهد على تأدية فريضة الحج هو أن الإنسان المؤمن إذا عزم على تأدية هذه الفريضة يرتسم نصب عينيه شبح الموت بسبب ما يحصل له ويصيبه
|
(1) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و 3 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 232
في الطريق وبعد وصوله إلى أماكن تأدية المناسك الواجبة من المتاعب والحوادث الخطيرة التي أدت فيما سبق إلى موت بعض الحجاج ـ وخوفه من ذلك يُظهر بصورة تفصيلية طبيعة هذه الحياة الدنيا وأنها دار ضيافة والإنسان فيها ضيف يُقيم فترة محدودة ثم يرحل عنها إلى مقره الأخير وداره الأخرى التي خلق من أجلها وفيها يتقرر مصيره على ضوء أعماله التي كان يمارسها في هذه الدار العاجلة الزائلة فإن كانت خيراً منسجمة مع الوظيفة الشرعية المحددة له من قِبَل الله تعالى كانت النتيجة خيراً وجنةً عرضها السموات والأرض وإن كانت شراً ومخالفة لتلك الوظيفة كانت النتيجة من جنسها قال سبحانه :
( فَمَن يَعْمَلْ مِيثقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ )
(1) .
وخوفه من المصير الثاني المؤلم يجعله زاهداً في الممارسات اللاشرعية وراغباً فيما يؤدي إلى المصير الأول .
ومما تقدّم يظهر جلياً أن المراد بالزهد المأمور به والمرغوب فيه إسلامياً ـ هو الزهد فيما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً دنيا وآخرة وينحصر ذلك بالمحرمات وتلحق بها المكروهات على وجه الأفضلية التي لا تمنع من الفعل كما هو المعلوم وذلك باعتبار عدم الاستفادة منها في الآخرة بخلاف ما لو تُركت امتثالاً للنهي الكراهتي فإن ذلك يُعتبر عبادة يحصل بها الثواب في الآخرة والتوفيق في الدنيا وإلى ما ذكرناه في بيان المراد من الزهد أشار الإمام علي عليه السلام : ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكن الزهد أن لا يملكك شيء .
|
(1) سورة الزلزلة ، الآيتان 7 و 8 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 233
وعلى ضوء هذا المفهوم الواعي لمعنى الزهد في الإسلام ـ ندرك أن الإنسان المؤمن لو ساعدته ظروفه على أن يملك الثروة الطائلة من الحلال ودفعه التزامه الديني لأن يخرج ما تعلق بها من الحق المعلوم للسائل والمحروم فهذا الشخص يكون من الزاهدين المقدرين عند الله سبحانه وعند المؤمنين الواعين .
أما الفوائد الاُخرى التي يمكن تحصيلها من تأدية فريضة الحج فقد آثرت الإشارة إليها بالقصيدة التالية التي يستطيع المتدبر المثقف أن يستفيدها منها بذوقه السليم وفهمه المستقيم ، وعنوانها :
الحج للأجيال أفضل معهد
الـحج لـلأجيال أفضل معهدٍ تـجني به عفوَ الإله iiالسرمدي وتسير في درب التقى بتضامن وتـعارف وتـعاطف iiوتـوددِ إحـرامه نـزعٌ لثوب مطامع وطـوافُه إجـلال ربٍ iiأوحد وصَـلاتُه صِلةُ القلوب iiبخالق باري الوجود ونبع عيشٍ iiأرغد والسعيُ سعي للفضيلة iiوالعلى وقضاءِ حاجات الفقير iiالمُجهد وكـذلك الـتقصير رمز iiتجرّد مـن كل خُلْقٍ عن كمالك iiمُبعدِ أمـا الـوقوفُ فوقفة iiلتعارف وتـقارب رغـم المكان iiالأبعد والإزدلاف لـمشعر نـرنو iiبه لـرضا السماء بتضرع وتعبد والـرمي رمي للطغاة iiبموقفٍ حُـرٍ من الجمع الغفير iiمُوحَّد والـذبحُ ذبـحٌ لـلهوى iiوتأثرٌ بـسخاء إبراهيم بالغض iiالندي والـحلق زيـنة مؤمن iiمتمسك بعُرى التقى رغم الزمان iiالأنكد أمـا المبيت لدى مِنى iiفضيافةٌ مـحمودةٌ عـند الإلـه iiالأجود |
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 234
هـي تلك فلسفة المناسك iiأشرقت وعـيـاً يـبدد حـيرة iiالـمتردد فالله لا يـدعو الأنـامَ لـغير iiما يُجدي البرية في القريب وفي الغد وكـذاك إن يـنهى فعن مُردٍ iiلنا جـسماً وروحـاً دون أي iiتـردد هـو عـالمٌ بـمفاسدٍ ومـصالحٍ تـعطي الـسعادة للتقي iiالمهتدي فـمن اتّـقى يـجني المُنى iiبتعبدٍ وسـواه يـغرق في الشقا iiبتمرد |
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام أولاً وآخراً على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين وجميع عباد الله الصالحين .
وقع الفراغ من تحرير صفحات هذا
الكتاب ليلة الثالث عشر من شهر رمضان المبارك
سنة 1418 هـ الموافق 12 كانون الثاني سنة 1998 م