تشريعها ـ يُدرك أن هذه الغاية أوسع من نقطة الانطلاق ومناسبة التشريع التي كانت المنطلق في البداية .
   فالسعي مثلاً وإن رُبط بتلك المرأة المؤمنة الصابرة المحتسبة ـ هاجر ـ وجعل تشريعه إحياءً لذكرها وذكراها ولكن الغاية الكبرى لا تقف عند هذه النقطة بل تنطلق لتمثل كل سعي في سبيل إطاعة الله تعالى ويكون ابتداؤه من صفاء النية وسلامة القصد وانتهاؤه عند الغاية الشريفة المقصودة منه والمقربة من الله تعالى والنافعة لخلقه بما يعبر عن مروءة الساعي وشهامته .
   وكذلك شعار الرمي وإن انطلق من المناسبة التاريخية المذكورة ولكن الهدف المقصود من تشريعه أكبر من حادثتها وأوسع من زمانها ومكانها وإنسانها حيث يمتد هدفه إلى ساحة الذات لتُرمى فيها النفس الأمارة بالسوء فلا تطاع بمصعية الله تعالى كما يُرمى الشيطان المعنوي بحجارة التقوى والاعتصام بحبل الله والجهاد في سبيله لتبقى كلمته هي العليا وكلمة كل شياطين الإنس والجن هي السفلى ويكون رمي الجمرات في منى وفي اليوم العاشر والحادي والثاني عشر ـ رمزاً لرمي هذه الشياطين على اختلاف أنواعها وأحجامها ـ بالموقف الحر الأبي الرافض لكل أنواع المساومة والمهادنة على حساب المبدأ الأصيل والوطن العزيز والكرامة الكريمة والعزة العزيزة .
   وأما الحلق أو التقصير اللذان يجب أحدهما على الحاج بعد قيامه بواجبي الرمي والذبح فإنه يكون رمزاً لزوال درن الذنوب ودنس الخطايا عن روحه ونفسه كما زال الشعر كله أو بعضه عن رأسه كما يكون رمزاً للنظافة المعنوية والزينة الروحية التي يُتوقع ممن توفق لتأدية فريضة الحج أن يتجمل بها ليكون وضعه في يومه وبعد تأدية فريضة الحج المقدسة ـ

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 177
  مغايراً لما كان عليه قبلها باعتبار أن الحج لم يوجبه الله تعالى لشكله وصورته فحسب وإنما أوجبه لغاية التقوى كما يفهم ذلك من سياق بعض الآيات المتحدثة عن الحج مثل قوله تعالى :
   ( الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الحَجِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِن خَيرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولي الأَلبَابِ ) (1) .
   وقوله تعالى :
   ( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا وَلكِن يَنَالُهُ التَّقوَى مِنكُمْ ) (2) .
   وإن كان وارداً في مقام الحديث عن بعض شعائر الحج وهو الهدي ولكن القطع بعدم الفرق بينه وبين سائر الشعائر الواجبة في الحج ـ ينتج لنا بوضوح أن الغاية الأساسية من فريضة الحج بمجموع شعائرها هي التقوى .
   ويؤكد ذلك التصريح في آية الصوم بأن الغاية الأساسية المقصودة منه هي التقوى حيث قال سبحانه :
   ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (3) .
   كما يؤكد هذه الحقيقة الإيمانية الآية الأخرى التي تفيد أن التقوى هي الأثر المقصود من العبادة بمعناها العام الشامل لكل العبادات وهي

(1) سورة البقرة ، الآية: 197 .
(2) سورة الحج ، الآية : 37 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 183 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 178
  قوله تعالى :
   ( يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1) .
   وعلى ضوء تحديد الهدف ومعرفة الغاية المقصودة من تشريع وجوب فريضة الحج المقدسة ـ يستطيع الحاج أن يعرف نفسه ويعرف غيره أيضاً نتيجة حجه وهل هي النجاح والفوز بنيل الغاية المقصودة أو الرسوب وبقاؤه على وضعه السابق كالطالب الذي يرسب في امتحانه ويبقى في صفه أو المريض الذي لا يستفيد من علاجه ويبقى على حاله بدون تحسن صحي أو دارس علم النحو ليصون لسانه عن الخطأ في المقال أو علم المنطق ليصون فكره عن الخطأ في البرهنة والاستدلال أو علم الفقه ليعرف الحرام فيتركه والحلال فيفعله ثم يبقى كل واحد من هؤلاء على حاله السابق لعدم صون الأول لسانه والثاني فكره والثالث نفسه من الانحراف عن جادة الشرع .
   مع أن المقصود من التفقه في الدين معرفة نهج التقوى ليسير المتفقه فيه ولا ينحرف عنه فإذا لم يترتب هذا الأثر على تعلمه كان أضر عليه من جهله كما ذكر الإمام علي عليه السلام حيث قال (على ما أتذكر): والعالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أتم والحسرة له ألزم وهو عند ا‏لله ألوم .
   ومن أجل التوضيح ومعرفة الإنسان الناجح في مدرسة التدين والالتزام نذكر المقياس العام الذي يُعرف به الناجح والراسب في الامتحان الذي يتعرض له الطالب في هذه المدرسة فنقول :

(1) سورة البقرة ، الآية : 21.

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 179
   إن المقياس الصحيح والميزان السليم الذي يُعرف به واقع الانتماء إلى مدرسة الشرع والالتزام بأحكامه كما يُعرف النجاح ودرجته في امتحان المنتمي إلى هذه المدرسة وعدم النجاح أو ضعفه .
   أجل: إن الميزان الصحيح الذي يُعرف به ذلك كله هو ترتب الغاية المقصودة من تأسيس هذه المدرسة وطلب الانتماء إليها وتلقي تعاليمها وهي التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل وقد استفيد الجزء الأول من هذه الغاية وهو التقوى من صريح قوله تعالى في الآية المتقدمة :
   ( يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (1) .
   واستفيد الجزء الثاني منها من قرن العمل الصالح بالإيمان في الكثير من آيات الكتاب المجيد من ذلك ما ورد في سورة العصر وهي قوله تعالى :
   ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوا بِالحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) (2) .
   واستفيد الثالث من صريح قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم المشهور : «إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .
   والمراد بالتقوى فعل الواجبات وترك المحرمات وبعبارة أوضح المراد بها الاستقامة في خط الشريعة وعدم الانحراف عنه بتأثير الأهواء الجامحة والأطماع الطامحة .
   وذلك لأن المؤمن الرسالي يقارن دائماً بين نعيم الدنيا الزائل ونعيم الآخرة الخالد فيضحي بالأول عندما يكون الميل إليه والسعي في سبيل

(1) سورة البقرة ، الآية : 21 .
(2) سورة العصر ، الآيات : 1 و2 و3 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 180
  تحصيله مؤدياً إلى الحرمان من الثاني .
   ويستفاد ذلك من صريح قول الإمام علي عليه السلام : لو كانت الدنيا من ذهب وهو يفنى والآخرة من خزف وهو يبقى لآثرت الخزف الباقي على الذهب الفاني .
   وكذلك يقارن هذا المؤمن باستمرار بين المشقة والمعاناة وربما العذاب النفسي أو الجسدي أو هما معاً ـ الحاصلين له من قبل الظالمين الطغاة لعدم ركونه إليهم وتعاونه معهم أو لعدم سكوته عنهم ـ وعذاب الآخرة الحاصل له بسبب ركونه إليهم المنهي عنه بصريح قوله تعالى :
   ( وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (1) .
   فيؤثر تحمل عذاب الدنيا ويصبر عليه لزواله وخفته بالنسبة إلى عذاب الآخرة .
   ويأتي تحمل بلال الحبشي العذاب الجسدي والنفسي الحاصل له من مالكه أمية بن خلف بسبب إيمانه برسالة الحق الخالدة المسعدة ليكونَ الشاهد الحي المعبر عن الحقيقة الإيمانية المذكورة حيث كان يقابل ذلك كله بإباء وجلَد مردداً ذلك الشعار الخالد الذي كان ولا يزال صداه يرن في مسامع الأجيال الواعية لتستلهم منه دروساً في التضحية والإباء والصبر على البلاء الشديد في سبيل نصرة المبدأ الحق والثبات عليه من أجل نيل الجزاء العاجل العادل وهو الذكر العاطر والتقدير الوافر ( والذكر للإنسان عمر ثاني ) .
   مع الجزاء الخالد والسعادة الأبدية التي أعدها الله سبحانه للمؤمنين

(1) سورة هود ، الآية : 113 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 181
  المجاهدين في سبيله الصابرين على الأذى من أجل نيل رضاه بنصرة مبدئه .
   وعنيت بالشعار الذي كان يردده بلال وهو يئن تحت سياط التعذيب قوله لمالكه المذكور بالسوء : أحد أحد أحد .
   ومن المناسب للمقام ذكر آسية بنت مزاحم زوجة فرعون التي تحملت اشد أنواع العذاب من زوجها الطاغي فرعون بسبب إيمانها بربها وبقائها على فطرة التوحيد بعبادة خالقها الواحد الأحد . وقد ضرب الله بها مثلاً للذين آمنوا ليحي ذكرها ولتكون قدوةً لكل مؤمن يتعرض لما تعرضت له بسبب إيمانه وثباته على مبدئه . قال سبحانه :
   ( وَضَرَبَ اللُّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءامَنُوا امْرَأتَ فِرعَوْنَ إذ قَالَت رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيتاً فِي الجَنَّةِ وَنَجّني مِن فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجِنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمينَ ) (1) .
   كما ضرب الله مثلاً آخر للذين كفروا بامرأتين كافرتين وهما امرأة نوح وامرأة لوط حيث كفرت كل واحدة منهما برسالة زوجها النبي وكانت تتعاون مع أعدائه الكافرين ضده ، قال سبحانه :
   ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (2) .
   وقد أراد الله بضرب هذين المثالين المذكورين أن ينبه على حقيقة ويكشف شبهة ربما طرأت وتطرأ على أذهان الكثيرين وهي أن انحراف

(1) سورة التحريم ، الآية : 11 .
(2) سورة التحريم ، الآية : 10 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 182
  الزوج قد يسبب انحراف زوجته معه وخصوصاً إذا مارس الضغط عليها كما صنع فرعون مع زوجته .
   ويأتي صبر هذه المرأة المؤمنة البطلة على التعذيب وتحملها المزيد من الألم الجسمي والنفسي في سبيل ثباتها على مبدئها ، ليدفع تلك الشبهة ويبين أن المؤمن البطل المعتصم بحبل الله والمتوكل عليه والمستعين به لا تستطيع أيةُ قوة مادية أن تؤثر على عقيدته وتغير من مسيرته الرسالية إذا أراد أن يثبت عليها ويستمسك بعروتها الوثقى .
   وأراد سبحانه أن يدفع شبهة أخرى بالمثل الآخر الذي ضربه للذين كفروا بالمرأتين المذكورتين وهي أن المرأة ربما تتأثر بصلاح زوجها إلى درجة تصبح معها الاستقامة في خطه شبيهاً بالأمر الواقع المفروض على سلوكها ومسيرتها الرسالية .
   وإذا اتفق حصول انحراف من زوج النبي أو أي مؤمن آخر أو من ولده أو أي قريب منه وصديق له ـ عن خطه كان قربه من ذلك المؤمن المستقيم عقيدة وسلوكاً ـ وسيلة لنجاته من عذاب يوم القيامة .
   وقد دفع الله هذه الشبهة بالمثل الآخر بقوله تعالى :
   ( فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ أدْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (1) .
   وكذلك دفع الله سبحانه شبهة واحتمال انتفاع الولد بصلاح والده وخصوصاً إذا كان نبياً مرسلاً ـ عن طريق التوسل والشفاعة إذا كان هذا الولد منحرفاً عن خط الاستقامة .

(1) سورة التحريم ، الآية : 10 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 183
   دفع الله سبحانه ذلك بقوله :
   ( قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) .
   وكان هذا الخطاب الموجه إلى النبي نوح في شأن ولده بعد الآية السابقة عليه التي أبدى فيها نوح احتمال حصول النجاة لولده لكونه من أهله وقد وعد ا‏لله سبحانه بنجاتهم في آية أخرى والآية السابقة على هذه الآية هي قوله تعالى :
   ( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ أبني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمينَ ) (2) .
   وقد رد الله سبحانه على نبيه هذا بقوله :
   ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (3) .

(1) سورة هود ، الآية : 46 .
(2) سورة هود ، الآية : 45 .
(3) سورة هود ، الآية : 46 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 184
بيان سبب صبر بلال على التعذيب وعدم رجوعه عن إسلامه
   وبمناسبة ذكر بلال الحبشي كمثال للمؤمن الصابر على الأذى والتعذيب في سبيل الله يناسب ذلك الإتيان على ذكر من كان السبب في إسلامه والصبر على الأذى في سبيله ألا وهو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ حيث استطاع أن يُدخل نور الإسلام في عقله وقلبه بالحكمة والموعظة الحسنة المؤيدة من قبل الله سبحانه بالمعاجز الخارقة وأهمها القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ ورغم ذلك فإن الكثيرين من المشركين ظلوا مصرين على عنادهم ومواجهين له ولمن أمن به بكل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي وقد أخبر عن ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت ) ومع ذلك كله ظل مستمراً على دعوته صابراً على الأذى في سبيل انتشارها وانتصارها ومقدماً لغيره من المؤمنين القدوة المثلى والأسوة الحسنة الفُضلى في الصبر والاحتساب .
   كما كان قدوةً رائدةً بالتجمل بكل الصفات الكمالية قال سبحانه مبيناً هذه الحقيقة ومادحاً له بالاستقامة في سبيل الحق ولأصحابه التابعين له بإحسان :
   ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَان يَرْجُوا اللَّهَ وَاليَوْمَ

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 185
  الأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) (1) .
   وقد ترجم صلى الله عليه وآله وسلم صبره على الأذى في سبيل مرضاة الله تعالى وتبليغ رسالته بقوله عندما قوبل بالقوة والعنف من قبل أهل الطائف على أثر توجهه إليهم لاحتماله قبولهم الدعوة ومدهم له بالنصرة :
   إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي .
   كما قابل الإمام علي عليه السلام الأذى الذي حصل له بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجلد والصبر قائلاً : لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين) .
   واقتدى السبطان العظيمان بجدهما الأعظم ووالدهما الأكرم ـ بالصبر على الأذى في سبيل مصلحة الإسلام والمسلمين حيث تجرع الحسن سُم الصلح مع خصمه معاوية ـ في هذا السبيل وقدم الحسين كل أنواع التضحية والفداء وصبر على كل أنواع الظلم والبلاء من أجل الغاية نفسها مردداً بلسان المقال أو الحال مخاطباً الله تعالى :
تركتُ الخلقَ طراً في هواكا      وأَيـتمتُ  العيال لكي iiأراكا
فلو  قطعتَني في الحب iiإرْباً      لـما  مال الفؤادُ إلى iiسواكا
   وقوله أيضاً بلسان الواقع والحقيقة الإيمانية :
إن كان دين محمّد لم يستقم      إلا بقتلي يا سيوف iiخذيني
  امتحان النبي إبراهيم بنفسه وماله :
   مرة أخرى نعود للحديث عن شخصية النبي إبراهيم عليه السلام لنستلهم منها المزيد من الدروس التربوية التي ترسخ إيماننا وتساعدنا على مواجهة

(1) سورة الأحزاب ، الآية : 21 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 186
  التحديات والامتحانات الصعبة التي يتعرض لها المؤمن وهو ينطلق في مسيرته الإيمانية ويقوم بواجب وظيفة العبودية كما أمر الله تعالى بصبر وتسليم مستسهلاً الصعب ومستعذباً المر في سبيل تأدية واجبه المقدس .
   وقد شاءت الإرادة الإلهية لأبي الأنبياء بطل التوحيد النبي إبراهيم عليه السلام ( موضوع الحديث ) أن يتعرض لشتى أنواع الامتحان والابتلاء ويخرج منها كلها بنجاح وتفوق وقد مر الحديث حول ابتلائه أولاً بأمره بالهجرة مع زوجته هاجر وطفله الصغير إسماعيل إلى بلد غير ذي زرع ليتركهما هناك ويرجع من حيث انطلق وقلبه معهما وعين عاطفته مشدودة إليهما .
   وقد نجح بهذا الامتحان الصعب عندما سلم أمره لأمر الله تعالى وصبر على قضائه ليقضي أمراً كان مفعولاً ويحقق بهذه الهجرة المباركة هدفاً كبيراً وغاية سامية وهي تشييد بيت الله الحرام وبناء الكعبة مادياً ومعنوياً بتوجه كل المسلمين من أقطار العالم إليها بصلواتهم وغيرها من الشعائر الدينية التي يُعتبر في صحتها التوجه إلى الكعبة المشرفة وقد مرت الإشارة إلى ذلك كما مر الحديث حول ابتلائه ثانياً وامتحانه بالابتلاء الآخر الأشد والأصعب وهو أمره بذبح طفله الصغير الوحيد اسماعيل ـ وتقديمه قرباناً وقربة لله تعالى وقد عرفنا كيف قابل هذا البطل العظيم وولده الكريم الصغير سِناً والكبير شأناً وإيماناً ـ ذلك الامتحان الصعب بتسليم وخضوع لإرادة الله تعالى ونالا بذلك الفوز العظيم والنجاح الكبير وكافأهما الله عليه بما نالاه في هذه الحياة من التقدير والإكبار والمدح والإطراء الذي سجله الله بأحرف من نور على صفحات كتاب الخلود ورسالة العصور وهو كتابه الخالد ـ مضافاً إلى ما أعده لهما من الثواب الجزيل والمرتبة السامية في دار البقاء ومقر الجزاء وهي مرتبة المؤمنين الصابرين الراضين بالقدر

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 187
  والقضاء المقصودين بقوله تعالى :
   ( وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِم صَلَواتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُون ) (1) .
   وقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُون أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ ) (2) .
   وقد شاءت الإرادة الإلهية أن يُمتحن أبو الأنبياء بأقصى وأصعب أنواع الابتلاء وهو الامتحان بالنفس وبعده الامتحان بالمال وقد تقدم الحديث عن امتحانه بالولد ونجاحه العظيم الذي أحرزه بهذا الامتحان العظيم .
   وكان امتحانه في نفسه يوم تعرض للإحراق الفظيع بتلك النار الكبيرة على يد طاغية عصره النمرود وزبانيته وكان إقدامهم على إحراقه بسبب تحطيمه أصنامهم وتسفيه أحلامهم الأمر الذي أشعل نار الحقد في قلوبهم وأرادوا أن يحولوه إلى نار مادية يحرقون بها خصمهم الثائر عليهم فأضرموا تلك النار الكبرىُ التي جُمع لها الكثير من الحطب خلال فترة طويلة على يد السائرين في طريق ذلك الطاغي المتعاونين معه على الإثم والعدوان .
   وأرادوا أن ينفسوا عن حقدهم الدفين وبغضهم اللئيم فوضعوه في المنجنيق وقذفوه به إلى وسط تلك النار الجبارة .
   وتتجلى حقيقة التوحيد الخالص عند هذا البطل التوحيدي العظيم ـ برفضه قبول كل أنواع المساعدة على إنقاذه ممّا تعرض له من الإحراق والاحتراق وكان الذين عرضوا عليه المساعدة ملك الهواء وملك المطر

(1) سورة البقرة ، الآيات : 155 و156 و157 .
(2) سورة الزمر ، الآية : 10 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 188
  وجبرائيل ذي القوة المتين فاعتذر من قبول المساعدة منهم راغباً في ترك الأمر إلى إرادة الله سبحانه ليتم الامتحان وليقضي سبحانه أمراً كان مقدراً ومفعولاً .
  وعندما اعتذر من قبول المساعدة على إنقاذه من قبل جبرائيل قال له جبرائيل هذا : إذن ادع الله سبحانه ليفرج عنك ويخلصك من هذا البلاء الكبير الخطير فرد عليه ( أي على جبرائيل ) قائلاً :
   علمه بحالي يغنيه عن سؤالي .
   وبعد أن نال النجاح العظيم في هذا الامتحان العسير ـ قدم الله له سبحانه الجائزة التكريمية الكبرى المعجلة في هذه الدنيا ـ بأن جعل عليه تلك النار برداً وسلاماً ـ وأخرج له الماء من قلب تلك الناس وخلق له السمك في ذلك الماء ـ ليحصل بذلك ما هو مضطر إليه من الطعام والشراب خلال فترة وجوده في سجن تلك النار .
   وقد تحقق له ما أراده الله سبحانه حيث أخذ يشوي السمك بتلك النار ويأكله ويشرب من ذلك الماء ـ وهكذا تصنع القدرة الإلهية فتحول ما جُعل سبباً لهلاك المؤمن ـ إلى سبب لحياته وذلك عندما يجاهد في سبيل الله ويتوكل عليه ويتقيه حق تقاته فإنه بذلك يستحق أن يفي الله له بما وعده به من النصر والفرج والكفاية والإغناء عن غيره من لئام خلقه .
   قال سبحانه : ( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم ) (1) .
   وقال تعالى : ( وَمَن يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) (2) .

(1) سورة محمد ، الآية : 7 .
(2) سورة الطلاق ، الآية : 3 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 189
   وقال عزوجل :
   ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لاَ يَحتَسِبُ ) (1) .
   والدرس الذي يمكن أن نستفيده من هذه الحادثة الكبيرة الخطيرة ومن ذلك الامتحان الأشد والأصعب ـ هو درس في توطين النفس وحملها على الجلد والصبر على أصعب وأشق أنواع الابتلاء ليكون ذلك سبباً لتحصيل الأجر العظيم والثواب الجسيم ونيله الدرجة الرفيعة عند الله سبحانه وأوليائه الصالحين مضافاً إلى السلامة من العذاب الأكبر والعقوبة الأشد بالإحراق والاحتراق بنار الآخرة التي أعدها الله تعالى للكافرين والمنافقين والفاسقين المنحرفين عن خط الاستقامة مع إصرارهم على الانحراف وعدم العودة الى الاستقامة من باب التوبة قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَوْلَئكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ ) (2) .
   وعلى العكس من هؤلاء مصير أولئك المؤمنين المتقين قال سبحانه :
   ( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئكَ هُمْ خَيْرُ البَريَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْري مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدين فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (3) .
   وأما امتحان النبي ابراهيم بماله ونجاحه في هذا الامتحان على غرار نجاحه في الامتحانات الاُخرى السابقة .
   فيظهر من خلال الاطلاع على القصة التالية :

(1) سورة الطلاق : الآيتان : 2 ، 3 .
(2) سورة البينة ، الآية : 6 .
(3) سورة البينة ، الآيتان : 7 و8 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 190
   وحاصلها أنه كان ذات يوم في المرعى ليرعى قطيعاً كثيراً من الغنم له فسمع ذاكراً لله يقول : سبوح قدوس سبوح قدوس .
   فهز هذا الذكرُ الجميلُ كيانه واهتز به طرباً لمحبوبيته له في ذاته ولعدم وجود من يذكر الله سبحانه من أبناء قومه بسبب ضلالهم وعكوفهم على عبادة الأصنام ولذلك أراد أن يكافأ ذلك الشخص الذاكر لله تعالى ويشجعه على قيامه بهذه العبادة المقدسة فقال له :
   أعد عليّ هذا الذكر ولك نصف هذا القطيع فلبى ذلك الشخص طلبه وأعاد الذكر ثانياً فزاد سروره وابتهاجه وطلب منه أن يعيده ثالثاً ليقدم له القطيع كله فلبى طلبه وقدم له الخليل والكريمُ الجليلُ القطيعَ كلَّه .
   وبعد نجاحه بهذا الامتحان ونيله الثواب العظيم والأجر الجسيم والذكر الخالد الجميل ـ كشف الله له الستار عن الواقع وبين له أن الذاكر لله تعالى هو جبرائيل وقد كلفه الله تعالى لأن يقوم بهذا الدور كما كلف إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وكلف إسماعيل بتقديم نفسه ـ قرباناً وقربة لله تعالى ـ على وجه الامتحان وبيان مقام هذين النبيين العظيمين عند الله وقوة إيمانهما به وتسليمهما لأمره بحيث أصبحا لذلك مستعدين لأن يقوما بما أمرهما الله به مهما كان صعبا وشاقا وبالقصة الأخيرة نعرف مدى نجاح خليل الله في كل الامتحانات التي عرضت عليه وتعرض لها ـ حيث نجح بالإقدام على الاحتراق بنار غضب النمرود وأتباعه في سبيل توحيده الصادق عقيدة وعملاً .
   كما نجح بالإقدام على تقديم ولده الوحيد الصغير وبذل ماله الكثير في هذا السبيل .
   وشاركه ولده إسماعيل في نيل أعلى درجات النجاح في الامتحان


فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 191
  الصعب ـ بالإقدام على تقديم نفسه فداء وقرباناً لله تعالى كما أقدم والده الخليل الجليل على تقديم نفسه للاحتراق وتحمل ألمه الشديد في سبيل الله تعالى .
   وأما والدته هاجر فقد نجحت أولاً في امتحان الهجرة ومضاعفاتها الصعبة كما تقدم ونجحت ثانياً مع والده في إقدامهما معاً على تقديمه قرباناً وقربة لله سبحانه .
   وهكذا شاء الله تعالى لأفراد هذه الأسرة المسلمة أن تتعرض لأقسى الإمتحانات وتنجح فيها كلها وأراد سبحانه أن تسجل ذكراهم في سجل الخلود كتابه الخالد وعلى صفحات التاريخ الصادق ليكون الوالد قدوة حسنةً لكل الأباء عبر التاريخ في الاستعداد لتقديم النفس النفيسة والولد العزيز في سبيل مرضاة الله سبحانه ونصر مبدئه ـ وليكون الولد قدوة مثلى لكل الأبناء في الانقياد لإرادة السماء وإطاعة الآباء في سبيل تحقيقها .
   ولتكون الوالدة قدوة مثلى وأسوة فضلى للنساء في الإنقياد لإرادة الزوج عندما يطلب من زوجته تحقيق إرادة الله وامتثال أمره وشاءت الإرادة الإلهية أن تتكرر هذه النوعية في التاريخ لتبقى القدوة مشرقة والحجة على المتخلفين قائمة حتى بلغت الذروة في شخصية الحسين عليه السلام الذي اختصر تاريخ الأنبياء ومن سار على خطهم من الأوصياء والأولياء الصالحين وذلك بتقديمه فعلاً وممارسة كل أنواع التضحية والفداء في سبيل نصر كلمة السماء لتبقى هي العليا وكلمة أرض الهوى والشيطان هي السفلى .
   وبذلك يظهر السر في وراثته عليه السلام لتلك الكوكبة من الأنبياء الذين سطعوا في سماء القيم نجوماً لامعة وكواكب متألقة .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 192
   وتفهم هذه الوراثة بوضوح من زيارة وارث التي يخاطب فيها الإمام الصادق جده الحسين عليهما السلام قائلاً :
   ( السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله السلام عليك يا وارث نوح نبي الله السلام عليه يا وارث إبراهيم خليل الله السلام عليك يا وارث موسى كليم الله السلام عليك يا وارث عيسى روح الله السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله .
   السلام عليك يا وارث علي أمير المؤمنين ولي الله ) .
   وكما تكررت القدرة المثالية والأسوة الحسنة عبر التاريخ لتكون منارة هادية تسير على ضوئها الأجيال الصاعدة في سبيل إدراك الأهداف السامية والغايات الرفيعة المنسجمة مع روح الغاية الكبرى والهدف الأعلى وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له والانطلاق في رحاب شريعته السمحاء نحو هدف الفضيلة والعلاء والسعادة والهناء أجل : كما تكررت هذه القدوة الجليلة النبيلة في التاريخ .
   تكررت في مقابلها النماذج المنحرفة عن خط السماء لتكون امتداداً لمن سبقها إلى الإنحراف والإنجراف بتيار الهوى والبعد عن منهج الفضيلة والهدى .
   وقد بلغ هذا الإنحراف ذروته في شخص يزيد الذي كان وارثاً لكل الطواغيت في التاريخ ومجدداً لكل ما سبقوا إليه وقاموا به من الظلم والاستبداد والانحراف عن خط الفضيلة والرشاد الأمر الذي أوجب على سيد الشهداء أن يثور عليه ليقف في وجه تيار انحرافه ويضع حداً لكفره وفجوره ويصون بذلك كل رسالات السماء بصيانة رسالة جده التامة الخاتمة التي حملت في طيها كل المبادىء الأساسية المقومة لطبيعة الدين

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 193
  بصورة عامة وهي القاسم المشترك بين كل الديانات السماوية المعبر عنها بالإسلام في قوله تعالى :
   ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ ) (1) .
   وقوله سبحانه :
   ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الأَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) (2) .
   وهكذا بقيت نماذج الصلاح والإصلاح ونماذج الفساد والإفساد تتكرر وتتجدد حتى وصلت إلى كل زمان وبلغت كل مكان تصارعت فيه وفوقه مبادىء الحق والفضيلة ومبادىء الباطل والرذيلة وهذا ما عناه الإمام الصادق عليه السلام بقوله : كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء .
   وعلى ضوء هذا المفهوم الثوري العام يصح أن نقول مخاطبين سيد الشهداء ورمز التضحية والفداء وعنوان العزة والإباء :
ذكـراك فـينا ثـورةٌ iiتـتجددُ      يـمضي الزمانُ ونورها iiمتوقد
فـإذا  طـغى فـينا يزيدٌ ظالم      يـلقاه  مـنتفضاً حُسينٌ iiمُرشد
لـيظل شـرعُ الحق نهج iiتقدم      نـرقي  به نحو العلاء ونصعد
ونـعيش  في ظل الإباء iiأعزةً      أبـداً لـغير إلـهنا لا iiنـسجدُ
من أجل ذا جاءت قوانين السما      وأتـى لـيكملَها الـنبي iiمحمدُ

(1) سورة آل عمران ، الآية : 19.
(2) سورة آل عمران ، الآية : 85.

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 194
فلسفة الابتلاء السماوي وحكمته
   بعد أن ذكرت أنواع الابتلاء التي تعرض لها النبي ابراهيم عليه السلام وبينت السبب الأساسي الذي ساعده على تحملها بصبر واحتساب ونيل درجة النجاح الراقية بهذا الصبر والتحمل .
   أجل : بعد بيان ذلك ترجح عندي نقل حديث مطول ومفصل نشر في الجزء الأول ـ من وحي الإسلام ، تحت عنوان فلسفة الابتلاء صفحة 105 .
   وذلك لانسجامه مع الحديث الذي انطلقتُ به في رحاب شخصية النبي إبراهيم عليه السلام وشرحت فيه مواقف هذا البطل التوحيدي من تلك الابتلاءات فيكون متمماً للحديث المذكور وممهداً لاستفادة الدروس التربوية الكثيرة منه بالنسبة إلى الشخص الذي لم يصل إليه الجزء الأول المذكور وهو كما يلي :

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 195
بسم الله الرحمن الرحيم
  وبه نستعين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين نبينا محمد بن عبدالله‏ وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين .
   قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المجيد :
   ( وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَات مِّن رَّبِّهمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئكَ هُمُ المُهتَدُونَ ) (1) . صدق الله العلي العظيم
   إذا كان المراد من البلاء الوارد في قوله تعالى : ( وَلَنَبْلُوَنَّكْم ) هو الابتلاء والامتحان يتوجه حينئذ سؤالان .
   الأول : ما معنى أن يمتحن الله عباده وهو العالم بأوضاعهم وأحوالهم قبل وجودهم في هذه الحياة وبعده إلى أن يرث الأرض ومن وما عليها وبذلك يرتفع موضوع الاختبار الذي يصدر من أجل معرفة حال الممتحن كالأستاذ يَمتحنُ طلابه ليعرف الناجح وغيره والأب ولدَه ليعرفَ بره وعدمه والصديقُ صديقَه ليعرف إخلاصه والزوجةُ زوجَها وبالعكس

(1) سورة البقرة ، الآيات : 155 و156 و157 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 196
  ليعرف كل واحد منهما وفاء الآخر وإخلاصه له وهكذا .
   السؤال الثاني : ما معنى أن يبتلي الله عباده بهذه المحن والمصائب وهو أرحم الراحمين الذي سبقت رحمتهُ غضبَه ووسعت كل شيء ؟
   وحاصل الجواب على السؤال الأول أن الامتحان مرةً يكون للتعرف على حال الممتحَن والإطلاع على وضعه وأخرى يكون من أجل أن يعرف الإنسانُ نفسه ويطلعَ الآخرون على واقع حاله من حيث قوة الإيمان وضعفه والممتنع في حقه سبحانه هو الأول دون الثاني كما هو واضح .
   وفلسفة هذا الامتحان بمعناه الثاني هي أن الكثير من الناس يكون في حال الرخاء والسلام على حالة جيدة من الالتزام الديني والبروز بالمظهر الحسن الذي يُوحي للآخرين بأن أحدهم قد بلغ المرتبة العالية في الالتزام الشرعي وربما طرأ عليه الإعجاب والغرور بحاله وحصل له الاطمئنان بأنه قد بلغ هذه الدرجة .
   وحيث أن الله هو الحق فلا يرضى من الإنسان إلا بالإيمان الحق القائم على أساسٍ ثابتٍ وراسخ ولا يُعرف واقع ذلك إلا بعد مرور الشخص بتجربة صعبة ومحنة شديدة اشار الله سبحانه إلى بعض أنواعها بالآية المذكورة .
   وفي حال إصابته بشيء من ذلك إذا بقي على وضعه الأول من الالتزام بخط السماء بالإيمان الصادق والاستقامة في خط التقوى ـ يُعرف أنه قوي العقيدة وثابت الموقف لا تزيده المصيبةُ إلا ثباتاً على منهج الحق بعقيدته واستقامته وتسليمه لقدر الله سبحانه ورضاه به منتظراً أحد أمرين إما الفرج والسلامة ليقابل ذلك بشكر الله سبحانه على تفضله باستجابة دعائه وكشف بلائه أو استمرار المصيبة وبقاءها إلى أجل غير مسمى ليقابل

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 197
  ذلك بالاستمرار على الصبر والتسليم وينال ثواب الصابرين وجائزتهم التي أشار الله سبحانه إليها بقوله في آخر الآية المذكورة :
   ( أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنّ رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُون ) (1) .
   وإذا حصل منه تبدل وتغير في الوضع بتحوله من موقف الالتزام والاستقامة في العقيدة والسلوك إلى موقف الانحراف عنه فإنّه بذلك يظهر واقعه أمام نفسه والآخرين وأن التزامه الذي كان عليه لم يكن قائماً على أساس ثابت بدليل اهتزاز موقفه وتغير تصرفه من الاستقامة إلى الانحراف ليكون مصداقاً لقوله تعالى :
   ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ أطْمَأَنَّ بِهِ وَإنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ) (2) .
   وكما يكون الامتحان بالمصيبة كذلك يكون بالنعمة والتكليف الحقيقي الواقعي الذي صدر من المولى بقصد العمل والامتثال أو الظاهري الذي لم يصدر لذلك بل لمجرد الاختبار والامتحان فقط ونجاح المؤمن في امتحان النعمة يكون أولاً باعترافه بكونها من الله سبحانه وتوفيقه وليست لمجرد توفير الأسباب المادية العادية المتعارفة فيكون ذلك منطلقاً من إيمانه بمؤدى قوله تعالى : ( وَمَا بِكُم مِنّ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) (3) .
   وثانياً بصرف هذه النعمة في سبيل إطاعته تعالى انطلاقاً من إيمانه بأنّه سبحانه إنما وفقه لنيل هذه النعمة ومَنَّ بها عليه من أجل أن يستعين بها

(1) سورة البقرة ، الآية : 157.
(2) سورة الحج ، الآية : 11 .
(3) سورة النحل ، الآية : 53 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 198
  على إطاعته وعبادته التي خلقه من أجلها وبنجاحه في هذا الامتحان ينال من الله جوائز معجلةً في هذه الحياة ومؤجلة إلى اليوم الموعود .
   أما الأولى فتتمثل بزيادة النعمة ودوامها وطول العمر ودفع البلاء وقد أبرم إبراماً كما تقدم في حديث سابق .
   والمصداق الواضح للمؤمن الناجح بهذا الامتحان هو النبي سليمان على نبينا وعليه أفضل التحية والسلام كما تقدم مفصلاً .
   حيث اعترف بأن ملكه الواسع كان من فضل الله سبحانه وقد منَّ به عليه ليبلوه ويمتحنه أيشكر الله عليه بصرفه في سبيل إطاعته أم يكفر بصرفه في غير هذا السبيل ؟
   وحيث صرفه في السبيل الأول وحقق بذلك واجبَ الشكر كان ناجحاً في امتحان النعمة ونال الجوائز العظمى والفوائد الكبرى في الدنيا والآخرة وذلك هو الفوز العظيم .
   ويأتي قارونُ في المقابل ليكون المثال الواضح للإنسان الراسب في امتحان النعمة حيث أنكر كونها من الله سبحانه وأدعى أنها إنما حصلت له لعلمه وقدرته الذاتية البشرية وذلك هو الكفر القلبي وترتب عليه الكفر الظاهري العملي بامتناعه عن دفع الحق الشرعي الذي أمره الله به بواسطة النبي موسى عليه السلام ونال بذلك جزاءه العادل وخسارته الكبرى عندما خسف الله به وبداره الأرض وخسر بذلك الدنيا والآخرة وهذا هو الخسران المبين .
   وأما النجاح في امتحان التكليف الواقعي فهو يكون بالالتزام به إيماناً وعملاً مهما كانت الصعوبات ما لم تصل إلى درجة الضرر أو الحرج لأن الشارع يرفع عنه الإلزام في أحد هذين الفرضين إلا مع فريضة الجهاد

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 199
  المقدس الذي يتوقف عليه حفظ الدين من الزوال وتحرير الوطن من الاحتلال وإنقاذ الشعب من الإذلال والاستغلال حيث يبقى على وجوبه والإلزام به مهما كانت التضحية جسيمة لأن الهدف أسمى والغاية أعلى وأغلى .
   الناجح في هذا الامتحان ينال جائزته المعجلة بتحصيله مصلحة الواجبات بفعلها وسلامته من مفسدة المحرمات بتركها .
   وإذا أراد أن يُضيف مصلحةَ المستحبات الضعيفة بفعلها مع الواجبات مع إضافته ترك المكروهات إلى ترك المحرمات ليسلم من مفسدتها الخفيفة فذلك نور على نور .
   وبذلك يُعرف مصدرُ الرسوب والفشل في هذا الامتحان لأنه ( بضدها تتميز الأشياء ) وتكون نتيجة رسوبه هي حرمانه من المصلحة ووقوعه في المفسدة وهذه عقوبة معجلة .
   وأما عقوبته المؤجلة فهي واضحة معلومة .
   وقد نال الحسين عليه السلام الدرجة العالية من النجاح في امتحان النعمة بما من الله عليه من نعمة منصب الإمامة والجاه العريض والمال الكثير والذرية الصالحة المعصومة وغير ذلك من النعم والآلاء الجسيمة وذلك لأنه سخر ذلك كله وصرفه في سبيل مرضاة الله سبحانه وصون شريعته الغراء من الزوال والفناء كما نجح في امتحان التكليف الصعب الذي توجه نحوه من أجل حفظ الدين وصونه من التحريف والتزييف .
   وقد نهض بمسؤولية هذا التكليف وضحى في سبيل امتثاله بنفسه النفيسة وأولاده الأحباء وإخوته الأعزاء وأصحابه الأوفياء كما عرض عياله ومن بقي من أطفاله لأقسى ألوان المشقة والعناء أيام سبيهم والانتقال بهم

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 200
  من بلد إلى بلد ونال الإمام زين العابدين عليه السلام النصيب الأوفر من الألم النفسي والعذاب الجسمي في هذا السبيل .
   أجل : لقد نال الحسين الدرجة السامية بل الأسمى والأعلى من النجاح في أمتحان التكليف الشاق والصعب حيث امتثله بصبر وتجلد وهو يقول بلسان المقال أو الحال :
إن كان دين محمد لم يستقم      إلا بقتلي يا سيوف iiخذيني
   ويقول أيضاً بهذا اللسان الصادق والإيمان الواثق :
رضاكَ رضاكَ لا جناتُ عَدْنٍ      وهل عدنٌ تطيب بلا iiرضاكا
ولـو قطعتني في الحب iiإرْباً      لـما  مـال الفؤاد إلى سواكا
   وكذلك نال هذا الدرجة الأرقى من النجاح في امتحان البلاء حيث واجه تلك المحن والخطوب التي نزلت عليه وأحاطت به من كل جانب ومكان بقوة صبر ورحابة صدر مناجياً ربه بقوله :
   هوَّن ما نزل بي أنه بعينك يارب .
   وتبعه كل من كان معه بنيل الدرجة العالية من النجاح في هذا الامتحان العسير حيث قدموا المثل الأعلى في التضحية والفداء والإخلاص والوفاء لقائدهم ورسالتهم مستبشرين بما سينالونه من النعيم الخالد والسعادة الأبدية في ظل جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته المعصومين والتابعين لهم بإحسان وحسن أولئك رفيقا .
   وعلى العكس من هؤلاء أولئك الأعداء الذين سقطوا في أصعب امتحان ونالوا الذل والهوان وفي الآخرة أعظم الخسران .