إن المقياس الصحيح والميزان السليم الذي يُعرف به واقع الانتماء إلى مدرسة الشرع والالتزام بأحكامه كما يُعرف النجاح ودرجته في امتحان المنتمي إلى هذه المدرسة وعدم النجاح أو ضعفه .
أجل: إن الميزان الصحيح الذي يُعرف به ذلك كله هو ترتب الغاية المقصودة من تأسيس هذه المدرسة وطلب الانتماء إليها وتلقي تعاليمها وهي التقوى والعمل الصالح والخلق الفاضل وقد استفيد الجزء الأول من هذه الغاية وهو التقوى من صريح قوله تعالى في الآية المتقدمة :
( يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
(1) .
واستفيد الجزء الثاني منها من قرن العمل الصالح بالإيمان في الكثير من آيات الكتاب المجيد من ذلك ما ورد في سورة العصر وهي قوله تعالى :
( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوا بِالحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ )
(2) .
واستفيد الثالث من صريح قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم المشهور : «إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .
والمراد بالتقوى فعل الواجبات وترك المحرمات وبعبارة أوضح المراد بها الاستقامة في خط الشريعة وعدم الانحراف عنه بتأثير الأهواء الجامحة والأطماع الطامحة .
وذلك لأن المؤمن الرسالي يقارن دائماً بين نعيم الدنيا الزائل ونعيم الآخرة الخالد فيضحي بالأول عندما يكون الميل إليه والسعي في سبيل
|
(1) سورة البقرة ، الآية : 21 .
(2) سورة العصر ، الآيات : 1 و2 و3 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 180
تحصيله مؤدياً إلى الحرمان من الثاني .
ويستفاد ذلك من صريح قول الإمام علي عليه السلام : لو كانت الدنيا من ذهب وهو يفنى والآخرة من خزف وهو يبقى لآثرت الخزف الباقي على الذهب الفاني .
وكذلك يقارن هذا المؤمن باستمرار بين المشقة والمعاناة وربما العذاب النفسي أو الجسدي أو هما معاً ـ الحاصلين له من قبل الظالمين الطغاة لعدم ركونه إليهم وتعاونه معهم أو لعدم سكوته عنهم ـ وعذاب الآخرة الحاصل له بسبب ركونه إليهم المنهي عنه بصريح قوله تعالى :
( وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ )
(1) .
فيؤثر تحمل عذاب الدنيا ويصبر عليه لزواله وخفته بالنسبة إلى عذاب الآخرة .
ويأتي تحمل بلال الحبشي العذاب الجسدي والنفسي الحاصل له من مالكه أمية بن خلف بسبب إيمانه برسالة الحق الخالدة المسعدة ليكونَ الشاهد الحي المعبر عن الحقيقة الإيمانية المذكورة حيث كان يقابل ذلك كله بإباء وجلَد مردداً ذلك الشعار الخالد الذي كان ولا يزال صداه يرن في مسامع الأجيال الواعية لتستلهم منه دروساً في التضحية والإباء والصبر على البلاء الشديد في سبيل نصرة المبدأ الحق والثبات عليه من أجل نيل الجزاء العاجل العادل وهو الذكر العاطر والتقدير الوافر ( والذكر للإنسان عمر ثاني ) .
مع الجزاء الخالد والسعادة الأبدية التي أعدها الله سبحانه للمؤمنين
|
(1) سورة هود ، الآية : 113 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 181
المجاهدين في سبيله الصابرين على الأذى من أجل نيل رضاه بنصرة مبدئه .
وعنيت بالشعار الذي كان يردده بلال وهو يئن تحت سياط التعذيب قوله لمالكه المذكور بالسوء : أحد أحد أحد .
ومن المناسب للمقام ذكر آسية بنت مزاحم زوجة فرعون التي تحملت اشد أنواع العذاب من زوجها الطاغي فرعون بسبب إيمانها بربها وبقائها على فطرة التوحيد بعبادة خالقها الواحد الأحد . وقد ضرب الله بها مثلاً للذين آمنوا ليحي ذكرها ولتكون قدوةً لكل مؤمن يتعرض لما تعرضت له بسبب إيمانه وثباته على مبدئه . قال سبحانه :
( وَضَرَبَ اللُّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءامَنُوا امْرَأتَ فِرعَوْنَ إذ قَالَت رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيتاً فِي الجَنَّةِ وَنَجّني مِن فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجِنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمينَ )
(1) .
كما ضرب الله مثلاً آخر للذين كفروا بامرأتين كافرتين وهما امرأة نوح وامرأة لوط حيث كفرت كل واحدة منهما برسالة زوجها النبي وكانت تتعاون مع أعدائه الكافرين ضده ، قال سبحانه :
( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبَادِنا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ )
(2) .
وقد أراد الله بضرب هذين المثالين المذكورين أن ينبه على حقيقة ويكشف شبهة ربما طرأت وتطرأ على أذهان الكثيرين وهي أن انحراف
|
(1) سورة التحريم ، الآية : 11 .
(2) سورة التحريم ، الآية : 10 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 182
الزوج قد يسبب انحراف زوجته معه وخصوصاً إذا مارس الضغط عليها كما صنع فرعون مع زوجته .
ويأتي صبر هذه المرأة المؤمنة البطلة على التعذيب وتحملها المزيد من الألم الجسمي والنفسي في سبيل ثباتها على مبدئها ، ليدفع تلك الشبهة ويبين أن المؤمن البطل المعتصم بحبل الله والمتوكل عليه والمستعين به لا تستطيع أيةُ قوة مادية أن تؤثر على عقيدته وتغير من مسيرته الرسالية إذا أراد أن يثبت عليها ويستمسك بعروتها الوثقى .
وأراد سبحانه أن يدفع شبهة أخرى بالمثل الآخر الذي ضربه للذين كفروا بالمرأتين المذكورتين وهي أن المرأة ربما تتأثر بصلاح زوجها إلى درجة تصبح معها الاستقامة في خطه شبيهاً بالأمر الواقع المفروض على سلوكها ومسيرتها الرسالية .
وإذا اتفق حصول انحراف من زوج النبي أو أي مؤمن آخر أو من ولده أو أي قريب منه وصديق له ـ عن خطه كان قربه من ذلك المؤمن المستقيم عقيدة وسلوكاً ـ وسيلة لنجاته من عذاب يوم القيامة .
وقد دفع الله هذه الشبهة بالمثل الآخر بقوله تعالى :
( فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ أدْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ )
(1) .
وكذلك دفع الله سبحانه شبهة واحتمال انتفاع الولد بصلاح والده وخصوصاً إذا كان نبياً مرسلاً ـ عن طريق التوسل والشفاعة إذا كان هذا الولد منحرفاً عن خط الاستقامة .
|
(1) سورة التحريم ، الآية : 10 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 183
دفع الله سبحانه ذلك بقوله :
( قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )
(1) .
وكان هذا الخطاب الموجه إلى النبي نوح في شأن ولده بعد الآية السابقة عليه التي أبدى فيها نوح احتمال حصول النجاة لولده لكونه من أهله وقد وعد الله سبحانه بنجاتهم في آية أخرى والآية السابقة على هذه الآية هي قوله تعالى :
( وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ أبني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمينَ )
(2) .
وقد رد الله سبحانه على نبيه هذا بقوله :
( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )
(3) .
|
(1) سورة هود ، الآية : 46 .
(2) سورة هود ، الآية : 45 .
(3) سورة هود ، الآية : 46 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 184
بيان سبب صبر بلال على التعذيب
وعدم رجوعه عن إسلامه
وبمناسبة ذكر بلال الحبشي كمثال للمؤمن الصابر على الأذى والتعذيب في سبيل الله يناسب ذلك الإتيان على ذكر من كان السبب في إسلامه والصبر على الأذى في سبيله ألا وهو الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ حيث استطاع أن يُدخل نور الإسلام في عقله وقلبه بالحكمة والموعظة الحسنة المؤيدة من قبل الله سبحانه بالمعاجز الخارقة وأهمها القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ ورغم ذلك فإن الكثيرين من المشركين ظلوا مصرين على عنادهم ومواجهين له ولمن أمن به بكل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي وقد أخبر عن ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم :
( ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت ) ومع ذلك كله ظل مستمراً على دعوته صابراً على الأذى في سبيل انتشارها وانتصارها ومقدماً لغيره من المؤمنين القدوة المثلى والأسوة الحسنة الفُضلى في الصبر والاحتساب .
كما كان قدوةً رائدةً بالتجمل بكل الصفات الكمالية قال سبحانه مبيناً هذه الحقيقة ومادحاً له بالاستقامة في سبيل الحق ولأصحابه التابعين له بإحسان :
( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَان يَرْجُوا اللَّهَ وَاليَوْمَ
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 185
الأَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )
(1) .
وقد ترجم صلى الله عليه وآله وسلم صبره على الأذى في سبيل مرضاة الله تعالى وتبليغ رسالته بقوله عندما قوبل بالقوة والعنف من قبل أهل الطائف على أثر توجهه إليهم لاحتماله قبولهم الدعوة ومدهم له بالنصرة :
إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي .
كما قابل الإمام علي عليه السلام الأذى الذي حصل له بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجلد والصبر قائلاً : لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين) .
واقتدى السبطان العظيمان بجدهما الأعظم ووالدهما الأكرم ـ بالصبر على الأذى في سبيل مصلحة الإسلام والمسلمين حيث تجرع الحسن سُم الصلح مع خصمه معاوية ـ في هذا السبيل وقدم الحسين كل أنواع التضحية والفداء وصبر على كل أنواع الظلم والبلاء من أجل الغاية نفسها مردداً بلسان المقال أو الحال مخاطباً الله تعالى :
تركتُ الخلقَ طراً في هواكا وأَيـتمتُ العيال لكي iiأراكا فلو قطعتَني في الحب iiإرْباً لـما مال الفؤادُ إلى iiسواكا |
وقوله أيضاً بلسان الواقع والحقيقة الإيمانية :
إن كان دين محمّد لم يستقم إلا بقتلي يا سيوف iiخذيني |
امتحان النبي إبراهيم بنفسه وماله :
مرة أخرى نعود للحديث عن شخصية النبي إبراهيم عليه السلام لنستلهم منها المزيد من الدروس التربوية التي ترسخ إيماننا وتساعدنا على مواجهة
|
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 21 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 186
التحديات والامتحانات الصعبة التي يتعرض لها المؤمن وهو ينطلق في مسيرته الإيمانية ويقوم بواجب وظيفة العبودية كما أمر الله تعالى بصبر وتسليم مستسهلاً الصعب ومستعذباً المر في سبيل تأدية واجبه المقدس .
وقد شاءت الإرادة الإلهية لأبي الأنبياء بطل التوحيد النبي إبراهيم عليه السلام ( موضوع الحديث ) أن يتعرض لشتى أنواع الامتحان والابتلاء ويخرج منها كلها بنجاح وتفوق وقد مر الحديث حول ابتلائه أولاً بأمره بالهجرة مع زوجته هاجر وطفله الصغير إسماعيل إلى بلد غير ذي زرع ليتركهما هناك ويرجع من حيث انطلق وقلبه معهما وعين عاطفته مشدودة إليهما .
وقد نجح بهذا الامتحان الصعب عندما سلم أمره لأمر الله تعالى وصبر على قضائه ليقضي أمراً كان مفعولاً ويحقق بهذه الهجرة المباركة هدفاً كبيراً وغاية سامية وهي تشييد بيت الله الحرام وبناء الكعبة مادياً ومعنوياً بتوجه كل المسلمين من أقطار العالم إليها بصلواتهم وغيرها من الشعائر الدينية التي يُعتبر في صحتها التوجه إلى الكعبة المشرفة وقد مرت الإشارة إلى ذلك كما مر الحديث حول ابتلائه ثانياً وامتحانه بالابتلاء الآخر الأشد والأصعب وهو أمره بذبح طفله الصغير الوحيد اسماعيل ـ وتقديمه قرباناً وقربة لله تعالى وقد عرفنا كيف قابل هذا البطل العظيم وولده الكريم الصغير سِناً والكبير شأناً وإيماناً ـ ذلك الامتحان الصعب بتسليم وخضوع لإرادة الله تعالى ونالا بذلك الفوز العظيم والنجاح الكبير وكافأهما الله عليه بما نالاه في هذه الحياة من التقدير والإكبار والمدح والإطراء الذي سجله الله بأحرف من نور على صفحات كتاب الخلود ورسالة العصور وهو كتابه الخالد ـ مضافاً إلى ما أعده لهما من الثواب الجزيل والمرتبة السامية في دار البقاء ومقر الجزاء وهي مرتبة المؤمنين الصابرين الراضين بالقدر
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 187
والقضاء المقصودين بقوله تعالى :
( وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِم صَلَواتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُون )
(1) .
وقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُون أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ )
(2) .
وقد شاءت الإرادة الإلهية أن يُمتحن أبو الأنبياء بأقصى وأصعب أنواع الابتلاء وهو الامتحان بالنفس وبعده الامتحان بالمال وقد تقدم الحديث عن امتحانه بالولد ونجاحه العظيم الذي أحرزه بهذا الامتحان العظيم .
وكان امتحانه في نفسه يوم تعرض للإحراق الفظيع بتلك النار الكبيرة على يد طاغية عصره النمرود وزبانيته وكان إقدامهم على إحراقه بسبب تحطيمه أصنامهم وتسفيه أحلامهم الأمر الذي أشعل نار الحقد في قلوبهم وأرادوا أن يحولوه إلى نار مادية يحرقون بها خصمهم الثائر عليهم فأضرموا تلك النار الكبرىُ التي جُمع لها الكثير من الحطب خلال فترة طويلة على يد السائرين في طريق ذلك الطاغي المتعاونين معه على الإثم والعدوان .
وأرادوا أن ينفسوا عن حقدهم الدفين وبغضهم اللئيم فوضعوه في المنجنيق وقذفوه به إلى وسط تلك النار الجبارة .
وتتجلى حقيقة التوحيد الخالص عند هذا البطل التوحيدي العظيم ـ برفضه قبول كل أنواع المساعدة على إنقاذه ممّا تعرض له من الإحراق والاحتراق وكان الذين عرضوا عليه المساعدة ملك الهواء وملك المطر
|
(1) سورة البقرة ، الآيات : 155 و156 و157 .
(2) سورة الزمر ، الآية : 10 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 188
وجبرائيل ذي القوة المتين فاعتذر من قبول المساعدة منهم راغباً في ترك الأمر إلى إرادة الله سبحانه ليتم الامتحان وليقضي سبحانه أمراً كان مقدراً ومفعولاً .
وعندما اعتذر من قبول المساعدة على إنقاذه من قبل جبرائيل قال له جبرائيل هذا : إذن ادع الله سبحانه ليفرج عنك ويخلصك من هذا البلاء الكبير الخطير فرد عليه ( أي على جبرائيل ) قائلاً :
علمه بحالي يغنيه عن سؤالي .
وبعد أن نال النجاح العظيم في هذا الامتحان العسير ـ قدم الله له سبحانه الجائزة التكريمية الكبرى المعجلة في هذه الدنيا ـ بأن جعل عليه تلك النار برداً وسلاماً ـ وأخرج له الماء من قلب تلك الناس وخلق له السمك في ذلك الماء ـ ليحصل بذلك ما هو مضطر إليه من الطعام والشراب خلال فترة وجوده في سجن تلك النار .
وقد تحقق له ما أراده الله سبحانه حيث أخذ يشوي السمك بتلك النار ويأكله ويشرب من ذلك الماء ـ وهكذا تصنع القدرة الإلهية فتحول ما جُعل سبباً لهلاك المؤمن ـ إلى سبب لحياته وذلك عندما يجاهد في سبيل الله ويتوكل عليه ويتقيه حق تقاته فإنه بذلك يستحق أن يفي الله له بما وعده به من النصر والفرج والكفاية والإغناء عن غيره من لئام خلقه .
قال سبحانه : ( إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم )
(1) .
وقال تعالى : ( وَمَن يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )
(2) .
|
(1) سورة محمد ، الآية : 7 .
(2) سورة الطلاق ، الآية : 3 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 189
وقال عزوجل :
( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْه مِنْ حَيْثُ لاَ يَحتَسِبُ )
(1) .
والدرس الذي يمكن أن نستفيده من هذه الحادثة الكبيرة الخطيرة ومن ذلك الامتحان الأشد والأصعب ـ هو درس في توطين النفس وحملها على الجلد والصبر على أصعب وأشق أنواع الابتلاء ليكون ذلك سبباً لتحصيل الأجر العظيم والثواب الجسيم ونيله الدرجة الرفيعة عند الله سبحانه وأوليائه الصالحين مضافاً إلى السلامة من العذاب الأكبر والعقوبة الأشد بالإحراق والاحتراق بنار الآخرة التي أعدها الله تعالى للكافرين والمنافقين والفاسقين المنحرفين عن خط الاستقامة مع إصرارهم على الانحراف وعدم العودة الى الاستقامة من باب التوبة قال سبحانه :
( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَوْلَئكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ )
(2) .
وعلى العكس من هؤلاء مصير أولئك المؤمنين المتقين قال سبحانه :
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئكَ هُمْ خَيْرُ البَريَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْري مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدين فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ )
(3) .
وأما امتحان النبي ابراهيم بماله ونجاحه في هذا الامتحان على غرار نجاحه في الامتحانات الاُخرى السابقة .
فيظهر من خلال الاطلاع على القصة التالية :
|
(1) سورة الطلاق : الآيتان : 2 ، 3 .
(2) سورة البينة ، الآية : 6 .
(3) سورة البينة ، الآيتان : 7 و8 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 190
وحاصلها أنه كان ذات يوم في المرعى ليرعى قطيعاً كثيراً من الغنم له فسمع ذاكراً لله يقول : سبوح قدوس سبوح قدوس .
فهز هذا الذكرُ الجميلُ كيانه واهتز به طرباً لمحبوبيته له في ذاته ولعدم وجود من يذكر الله سبحانه من أبناء قومه بسبب ضلالهم وعكوفهم على عبادة الأصنام ولذلك أراد أن يكافأ ذلك الشخص الذاكر لله تعالى ويشجعه على قيامه بهذه العبادة المقدسة فقال له :
أعد عليّ هذا الذكر ولك نصف هذا القطيع فلبى ذلك الشخص طلبه وأعاد الذكر ثانياً فزاد سروره وابتهاجه وطلب منه أن يعيده ثالثاً ليقدم له القطيع كله فلبى طلبه وقدم له الخليل والكريمُ الجليلُ القطيعَ كلَّه .
وبعد نجاحه بهذا الامتحان ونيله الثواب العظيم والأجر الجسيم والذكر الخالد الجميل ـ كشف الله له الستار عن الواقع وبين له أن الذاكر لله تعالى هو جبرائيل وقد كلفه الله تعالى لأن يقوم بهذا الدور كما كلف إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وكلف إسماعيل بتقديم نفسه ـ قرباناً وقربة لله تعالى ـ على وجه الامتحان وبيان مقام هذين النبيين العظيمين عند الله وقوة إيمانهما به وتسليمهما لأمره بحيث أصبحا لذلك مستعدين لأن يقوما بما أمرهما الله به مهما كان صعبا وشاقا وبالقصة الأخيرة نعرف مدى نجاح خليل الله في كل الامتحانات التي عرضت عليه وتعرض لها ـ حيث نجح بالإقدام على الاحتراق بنار غضب النمرود وأتباعه في سبيل توحيده الصادق عقيدة وعملاً .
كما نجح بالإقدام على تقديم ولده الوحيد الصغير وبذل ماله الكثير في هذا السبيل .
وشاركه ولده إسماعيل في نيل أعلى درجات النجاح في الامتحان