الفقراء اتكالاً على الله ) (1) .
   وما روي عن الإمام الصادق عليه السلام من قوله : إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه (2) .
   وقال أبو العلاء المعري في مدح التواضع والمتواضعين :
يا  واليَ المصر لا iiتظلمنْ      فكم  جاء مثلك ثم iiانصرف
تواضع إذا ما رُزقت العلى      فـذلك مـما يزيد iiالشرف
   وكما ورد مدح الله سبحانه في كتابه والنبي صلى الله عليه وآله وسلّم في سنته وأهل البيت عليهم السلام في توجيهاتهم ـ التواضع والمتواضعين ـ فقد ورد ذم التكبر والمتكبرين في ذلك كله .
   فمن الكتاب الكريم قوله تعالى :
   ( لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُستَكبِرينَ ) (3) .
   وقوله تعالى :
   ( وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (4) .
   وروي عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام ما حاصله : مر رسول الله على جماعة فقال على مَ اجتمعتم ؟ فقالوا يا رسول الله هذا مجنون يُصرع فاجتمعنا عليه فقال صلى الله عليه وآله وسلّم : هذا ليس بمجنون ولكنه

(1) من نفس المصدر السابق ص44 .
(2) عن كتاب أخلاق أهل البيت ص 44 .
(3) سورة النحل ، الآية : 23 .
(4) سورة لقمان ، الآية : 18 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 102
  المبتلى ثم قال: ألا أخبركم بالمجنون حق الجنون ؟
   قالوا : بلى يا رسول الله قال: المتبختر في مشيه الناظر في عطفيه المحرك جنبيه بمنكبيه يتمنى على الله جنته وهو يعصيه الذي لا يُؤمن شرُّه ولا يُرجى خيرُه فذاك هو المجنون وهذا المبتلى) (1) .
   وقال الشاعر في مدح التواضع وذم التكبر :
تواضع تكن كالنجم لاح الناظر      على صفحات الماء وهو iiرفيع
ولا  تـك كالدخان يعلو iiبنفسه      إلى  طبقات الجو وهو iiوضيع
   وقال آخر في مدح الأول وذم الثاني :
ملأى السنابل تنحني بتواضع      والـفارغات رؤسهن iiشوامخ
   وقال الإمام علي عليه السلام من خطبة له في نهج البلاغة : فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يُدرى أمِن سني الدنيا أم من سني الآخرة .
   وحيث أن سيرة أهل البيت عليهم السلام ابتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وانتهاء بالإمام المهدي (عج) كانت تجسيداً حياً لكل ما في الإسلام من القيم الرفيعة وفي طليعتها التواضع فقد حدثنا التاريخ عن بلوغ كل واحد منهم الذروة في التجمل بمكارم الأخلاق وخصوصاً التواضع ولذلك كان لدعوتهم الناس للاتصاف بها الأثر البليغ بسبب اقترانها بالعمل والممارسة فكانوا داعين إلى ذلك بالسيرة والتطبيق العملي .
   وحيث أن كل فضيلة هي حد وسط بين رذيلتي الإفراط والتفريط فلابد من لفت النظر والتنبيه على سلوك نهج الاعتدال في مقام الاتصاف

(1) عن كتاب أخلاق أهل البيت للسيد مهدي الصدر ، ص 44 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 103
  بفضيلة التواضع حتى لا يتجاوز المتواضع الحد الوسط المناسب الذي يحفظ له عزته وكرامته ولا يؤدي به الإفراط في التواضع إلى درجة إذلال النفس وتحطيم عزتها .
   ولذلك وردت روايات عن أهل البيت عليهم السلام تنهى عن إذلال المؤمن نفسه كما وردت روايات عديدة ناهية عن الكبر .
   من جملة ما ورد للنهي عن الأول ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام من قوله : ما حاصله : أن الله فوض لعبده المؤمن كل شيء ولم يفوض إليه أن يذل نفسه ) .


فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 104
دور الحج في ثبوت صفة الزهد أو تقويتها
ومن جملة الدروس التربوية التي يمكن استفادتها من مدرسة فريضة الحج
( الزهد في الدنيا المحرمة )
   والوجه في استلهام هذا الدرس من هذه المدرسة المباركة هو أن الإنسان المؤمن عندما يعقد العزم على الانطلاق في طريق تأدية هذه الفريضة المقدسة ـ أي فريضة الحج يرتسم نصب عينيه شبح الموت بسبب ما يتعرض له ويصاب به من التعب والمشقة المرهقة خصوصاً وقت تأدية واجب الطواف والرمي نتيجة الازدحام الشديد الذي يحصل في بيت الله الحرام حول الكعبة الشريفة وقت الطواف وفي وادي منى وقت الرمي وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى إغماء بعضهم وربما إلى الوفاة .
   وخوف الشخص من ذلك يُظهر له بصورة تفصيلية طبيعة هذه الحياة الدنيا وأنها دار ضيافة والإنسان فيها ضيف عند أهله وأصدقائه يقيم معهم فترةً ثم يرحل عنهم إلى مقره الأخير وداره الأخرى التي خلق من أجلها وخلقت من أجله وفيها يتقرر مصيره النهائي على ضوء أعماله التي قام بها في هذه الحياة الزائلة .
   فإن كانت خيراً منسجمةً مع الوظيفة الشرعية المحددة له من قبل الله سبحانه كانت النتيجة خيراً وجنة عرضها السموات والأرض .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 105
   وإن كانت شراً ومخالفة لتلك الوظيفة كانت النتيجة من جنسها قال سبحانه : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَال ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (1) .
   وخوفه من المصير الثاني المؤلم يجعله زاهداً في الممارسات المحرمة وراغباً فيما يؤدي إلى المصير الأول .
   ومما ذكرناه يظهر أن المراد بالزهد المأمور به والمرغوب فيه إسلامياً هو الزهد فيما يضر الإنسان فرداً ومجتمعاً دنيا وآخرة وينحصر ذلك بالمحرمات وتلحق بها المكروهات على وجه الأفضلية التي لا تمنع من الفعل كما هو معلوم وذلك باعتبار عدم الاستفادة منها في الآخرة بخلاف ما لو تركت امتثالاً للنهي الكراهتي فإن ذلك يعتبر عبادة يحصل بها الثواب في الآخرة والتوفيق في الدنيا .
   وإلى ما ذكرناه في بيان المراد من الزهد أشار الإمام علي عليه السلام بقوله : ليس الزهد أن لا تملك شيئاً ولكن الزهد أن لا يملكك شيء .
   وعلى ضوء هذا المفهوم الواعي للزهد في الإسلام ـ ندرك أن الإنسان المؤمن لو ساعدته ظروفه على أن يملك الثروة الطائلة من الحلال ودفعه التزامه الديني لأن يخرج منها ما تعلق بها من الحق الشرعي المعلوم ـ للسائل والمحروم ـ وأن يصرفها ويتصرف بها فيما أحل الله له ـ فهذا الشخص يكون من الزاهدين المقدرين عند الله تعالى والمؤمنين الواعين (2) .

(1) سورة الزلزلة ، الآيتان : 7 و8 .
(2) ما حرر تحت عنوان الزهد وسبب حصوله منقول من كتاب من وحي الإسلام.
=

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 106
دور الإحرام في إثارة الشعور وتغذية الإحساس بالمراقبة الإلهية :
   من جملة الدروس التي يستفيدها الحاج من مدرسة الحج التربوية درس في الانضباط وقوة الشعور بالمسؤولية والإحساس بالمراقبة الإلهية الفعلية حال تلبسه بالإحرام الذي يُحس المكلف معه بنفس الإحساس والشعور الذي يهز وجدان المصلي حينما ينطق بتكبيرة الإحرام مستشعراً حينها بعظمة الإله الأكبر الذي وقف بين يديه ولجأ إليه ليستمد منه الحول والقوة من خلال قيامه بواجب العبودية تجاهه سبحانه .
   ويؤكد استلهام الدرس المذكور من الإحرام وإتمامه بالتلبية المحقّقة له أي للإحرام ـ ما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام من سيطرة العظمة الإلهية والهيبة السماوية على مشاعره وتسبيب ذلك لعجزه عن النطق بعبارة التلبية وبعد أن ضبط أعصابه ونطق بها وقع مغشياً عليه وبعد أن أفاق من غشيته بين السبب الذي حبس لسانه ومنعه من النطق بها بسهولة كغيره من الحجاج والمعتمرين وأنه الخوف القوي من عدم قبول الله ذلك منه ورده عليه بقوله تعالى :
   ( لا لبيك ولا سعديك ) .
   وإذا كان المحرم العادي من أفراد الحجاج لا يستطيع أن يرقى إلى المستوى الإيماني الرفيع الذي بلغه الإمام عليه السلام وأدى به الى هذه الحالة فلا أقل من أن تحصل له مرتبة قريبة من هذه الحالة التي تجعله في حالة مراقبة دقيقة لوظيفته الشرعية من أجل أن يقوم بها على الوجه المطلوب

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 107
  ولا يحصل منه خروج عن إطارها يؤدي إلى انحرافه عن خط العبودية وحرمانه من الألطاف الإلهية .
   وتقوي حالة المراقبة عند الحاج ـ كثرة محرمات الإحرام وإحاطتها به بسبب هذه الكثرة وصعوبة الاحتراز من بعضها وخصوصاً ما يكون معتاداً عليه منها حال تجرده من الإحرام مثل قتل القمل والبرغوث ونحوهما من المؤذيات ومثل شم الطيب والنظر إلى المرآة ولمس المرأة بشهوة وتقبيلها ولو بدونها والتزين باللباس وغيره وهكذا وإذا استمر المحرم على هذه الحالة فترة من الوقت ثبتت في نفسه وأصبحت مرافقةً له لتعطي أثرها المنشود حتى بعد التحلل من الإحرام والانطلاق من قيود محرماته المحدودة المعهودة .
   والمقصود من الأثر المنشود المتوقع ترتبه على الإحرام والالتزام بامتثال أحكامه هو تأكيد الالتزام العام بالأحكام الشرعية العامة وامتثالها كما أراد الله سبحانه ونتيجة ذلك تركه المحرمات الشرعية الذاتية على حد تركه لمحرمات الإحرام وقت تلبسه به .
   وبذلك يظهر وجه الشبه بين شعيرة الإحرام وفريضة الصيام التي تمنع الصائم من المفطرات وأكثرها مباح في نفسه ـ من أجل أن تقوى في نفسه ملكة الالتزام بترك كل حرام في جميع الشهور والأيام وهكذا شرعت وظيفة الإحرام في حق الحاج والمعتمر من أجل أن يستفيد من الالتزام بأحكامه وترك محرماته ـ درساً تربوياً يبقى معه ويُلزمه بترك المحرمات الذاتية العامة كما كان تاركاً لمحرمات الإحرام وقت تلبسه به .

دور الحج في تقوية الإرادة والصبر وقت الشدة :
   من جملة الدروس التربوية التي يمكن استفادتها من مدرسة الحج درس في قوة الإرادة والصبر وقت الشدة وذلك لنفس الوجه الذي علل به

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 108
  حصول هذه الصفة للصائم لما ذكرناه آنفاً من قوة وجه الشبه بين شعيرة الحج وفريضة الصوم .

دور الحج في التزام خط السلام وإشاعة جو الأمان :
   حتى مع الأشخاص الذين يختلف الحاج معهم في العقيدة أو الاتجاه السياسي أو السلوك الاجتماعي أو لأي سبب آخر .
   وذلك لأن التزامه بتروك الإحرام وعدم حصول الموقف السلبي منه حتى مع الحيوان البري بل وحتى مع الحيوان المضايق له مما يتعلق ببدنه أو بثوبه كالقمل والبراغيث ونحوهما ومع نبات الحرم وشجره رغم عدم شعوره وإحساسه بالألم لو قطع أو قلع .
   أجل : إن التزام الحاج بالموقف السلمي حتى مع هذه المضايقات له نفسياً أو جسمياً ـ واستمراره على ذلك مدة أيام إحرامه .
   يزرع في نفسه صفة الحلم والالتزام بخط السلم وعدم مد يد الإيذاء لأي كائن ولو كان مضايقاً له وذلك عندما يكون ملتفتاً لهذه الحكمة البالغة والغاية النبيلة ويحرص على انطلاقها معه في إطار حياته الاجتماعية فلا يصدر منه إلا ما يكون منسجماً مع هذه الروح السلمية في إطار الأسرة ـ المجتمع الصغير ـ وفي إطار المجتمع الكبير أيضاً ويكون بذلك مصداقاً للمؤمن الرسالي الذي قيل في وصفه بأن خيره مضمون وشره مأمون .
   كما يكون بهذا وذاك مورداً للحديث القائل ما مضمونه :
  ـ إن المؤمن إذا أدى فريضة الحج بوعي وتدبر لأهدافها وحققها على الصعيد العملي ـ يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه .
   وحدثنا التاريخ أن الالتزام بخط هذه الفريضة المربية من قبل

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 109
  المؤدي لها بوعي وبصيرة كان يؤدي إلى أن يقف أحدهم مع السلم والمسالمة حتى مع قاتل أبيه ـ وإذا قويت هذه الروح السلمية لدى الحاج الواعي لفلسفة الحج والحكمة المقصودة من تشريع محرمات إحرامه ـ ترقت من مستوى المسالمة والعفو عن المسيء إلى مرتبة أعلى ومستوى أرفع وأقرب لرضا الله تعالى وهو مستوى مقابلة الإساءة بالإحسان وذلك هو خلق المؤمنين الصلحاء والمتقين النبلاء الذين مدحهم الله سبحانه بقوله :
   ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضَّرَّآءِ والْكَاظِمِينَ الغَيْظَ والعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللُّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ ) (1) .
   وقد صرح سبحانه بأهمية الإحسان وخصوصاً إذا كان للمسيء بقوله تعالى : ( وَلاَ تَسْتَوى الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَع بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَينَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ ) (2) .
   وإلى هذا المعنى الجميل النبيل المستوحى من الآية الكريمة أشار الشاعر بقوله :
جاز  الإساءة بالإحسان إن iiبدرت      من امرىء زلةٌ تدعو إلى الغضب
سجية  النخل من يرميه في iiحجر      جازاه  عن رميه بالبُسر iiوالرطب
   ويتأكد العفو عندما يعتذر المسيء لما صدر منه ويطلب العفو عنه وقبول العذر منه وقال بشار بن بُرد حول هذا الموضوع .
إذا اعـتذر الـجاني إليك عذرتَه      ولا سـيما إن لـم يكن قد iiتعمدا
فـمن  عاقب الجُهال أتعب iiنفسه      ومن لام من لا يعرف اللوم أفسدا

(1) سورة آل عمران : الآية : 134 .
(2) سورة فصلت ، الآية : 34 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 110
   وقال آخر :
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف      وتـاب  عـما قد جناه iiواقترف
   وقد يتأكد العفو في بعض الموارد حتى يصبح واجباً أخلاقياً بالعنوان الثانوي بحيث إذا لم يحصل ممن طلب منه انعكست الآية وأصبح المظلوم ظالماً ومذنباً بهذا الاعتبار كما قال الشاعر :
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً      إلـيك فلم تغفر له فلك iiالذنب
   وحيث أن الله سبحانه هو السلام كما وصف نفسه وشرعه شرع السعادة والسلام فقد وسع دائرة السلام وفرض الأمان بين أفراد المجتمع في أربعة أشهر وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب وذلك من أجل أن يشمل السلام كل مكان ولا ينحصر بمكان الحرم ولا بحال الإحرام من أجل أن يفرض بذلك الهدنة على الأشخاص المتقاتلين حتى إذا عملوا بهذه الفريضة وتركوا التحارب خلال هذه المدة أمكن لهم أن يعودوا إلى صوابهم ويرجعوا عن موقفهم العدائي الذي يؤدي بطبعه إلى استمرار الحرب وحصول أضرار كثيرة وأخطار كبيرة كما كان يحصل في أيام الجاهلية حيث كانت الحرب تستمر أعواماً عديدة وتستوعب مدة طويلة بلغت أربعين عاماً في بعض الحروب الجاهلية .
   وذلك بسبب عدم وجود تشريع سماوي يطفىء نار الحرب بماء الحكمة والوعي .
   وأضاف الإسلام إلى ذلك وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تؤدي بطبعها إلى التقليل من حصول التصادم بين أفراد المجتمع وفئاته .
   ولأهمية هذه الفريضة فقد اعتبرها الإسلام واجبة على الأمة

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 111
  بالوجوب الكفائي وكذلك حث على الإصلاح وبين أهمية دوره الفعال في القضاء على الخصومة وزرع المودة مكان العداوة .
   وقد تحدثتُ حول موضوع الإصلاح وبينت أهميته ودوره الإيجابي في إزالة الفتنة والعداوة وزرع التفاهم والمودة وذكرت الآيات المباركة والروايات المشهورة التي تحث عليه وتدعو إليه وذلك في الجزء الأول من وحي الإسلام صفحة 183 كما تحدثت حول هذا الموضوع في الجزء الثاني من هذا الكتاب عندما ذكرت فيه أسباب علاج مرض العداوة ووسائل القضاء عليه .

دور تأدية فريضة الحج في الالتزام بآداب الإسلام :
   ومن جملة الدروس التي تقدمها مدرسة هذه الفريضة المقدسة ـ فريضة الحج ـ درس في الالتزام بآداب الإسلام وأخلاق القرآن قولاً وعملاً وسلوكاً مع الآخرين .
   فالقول : يكون منسجماً مع روح الأدب الإسلامي فلا يكون مشتملاً على الكذب والسباب والسخرية والتنابز بالألقاب ونحو ذلك من المحرمات الإسلامية اللسانية التي يتأكد تحريمها وقت الإحرام باعتبار أنه شرع من أجل أن يبعد المكلف عما يضره من قول مثير وعمل منحرف عن منهج التقوى والفضيلة وليقربه بذلك من ساحة الرحمة الإلهية والأخلاق السماوية التي تنفعه وترفعه في كلتا الدارين ولنفس السبب حرم الإسلام الجدال في الحج وهو قول الشخص لغيره في مقام النقاش والمجادلة : لا والله وبلى والله .
   قال سبحانه : ( الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 112
  وََلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَأُوْليِ الأَلْبَابِ ) (1) .
   والمراد بالرفث النطق بكلام الفحش الذي يقبح التحدث به ـ والمراد بالفسوق الخروج عن جادة الإطاعة الإلهية وقد تقدم بيان المراد من كلمة الجدال .
   وبإلقاء نظرة عامة على محرمات الإحرام يُعرف أن الهدف المقصود من تشريعها فيه أو تأكيد حرمتها الذاتية العامة الثابتة حتى في غير حال الإحرام ـ هو صهر المكلف في بوتقة الأدب الإسلامي والخلق القرآني ليخرج من إطار الإحرام وليتخرج من مدرسة فريضة الحج المقدسة وهو حامل بيد تقواه وكف هداه الشهادة العالية التي تصعد به إلى المرتبة العالية والمنزلة السامية التي يتفوق بها على الملائكة بروحه الطاهرة وقلبه السليم وخلقه الكريم .
   وبذلك يحقق الغاية المقصودة من تشريع وجوب فريضة الحج وهي تلتقي بجوهرها مع روح الغاية العامة التي أوجب الله سبحانه العبادة بمعناها العام على المكلفين من أجل أن يتوصلوا بها إليها ويحصلوا عليها وهي الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة ـ وقد صرح الله سبحانه بنتيجة الالتزام بعبادته والاستقامة في خط تقواه في قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى ءامَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (2) .

(1) سورة البقرة ، الآية : 197 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 96 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 113
حكمة تشريع الطواف
   وهو أول واجب يقوم به الحاج أو المعتمر لحج التمتع ـ والدروس التربوية التي يمكن استفادتها منه كثيرة .
   (1) منها : إظهار رعاية التقيد والتعبد لله تعالى بتأدية هذا الواجب المقدس بكيفيته الخاصة من حيث اشتراط الابتداء به من الحجر الأسود وختامه به مع جعل الكعبة على جهة يسار الطائف وإدخال حِجْر إسماعيل في الطواف بمعنى جعله على اليسار أيضاً وتحديد العدد بسبعة أشواط فإذا التزم المكلف بإتيان هذا الواجب بهذه الكيفية وتلك الكمية من دون أن يعرف السرف في ذلك كله على وجه التفصيل وإنما يأتي به كذلك لأن الله سبحانه تعبده به وما عليه إلا أن يقوم بواجب العبودية والتسليم للإرادة الإلهية مع الاقتناع التام بالحكمة السماوية وأن كل ما يأمر به الله سبحانه لابد أن يكون لحكمة ومصلحة تعود إلى المكلف كما هو الشأن العام في كل ما يتعبد به المكلفين من الواجبات .
   وكذلك كل ما ينهى عنه سبحانه لابد أن يكون ذلك لحكمة ومفسدة تعود على المكلف .
   وهذا المقدار من المعرفة الكاشفة عن وجود الحكمة في أصل تشريع وجوب الحج بصورة عامة ووجوب كل جزء من أجزائه وشعيرة من شعائره .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 114
   كافٍ لأن يسير المؤمن على ضوء في مقام العمل والتطبيق .
   وإذا ورد في بعض الروايات تحليل وتعليل لوجوب فريضة الحج أو وجوب أية شعيرة من شعائره فهو يكون مؤكداً لما أمن من المكلف واقتنع بصدوره عن حكمة إلهية وإن لم يعرفها تفصيلاً .
   وهذا هو روح العبادة وجوهر التعبد وكلما كان التشريع محاطاً بشيء من الغموض وعدم معرفة فلسفة تشريعه بصورة تفصيلية كان ذلك أقرب للغاية الأساسية المقصودة من تشريع العبادة وهي تقوية روح العبودية والانقياد لإرادة المولى ـ عند المكلف .
   وإذا ذكر تعليل في بعض الآيات أو الروايات أو بعض التوجيهات كما هو المقصود من هذا الكتاب فإنما يأتي من أجل تأكيد الإيمان بحكمة الله تعالى وذلك هو السبب في الإشارة إلى حكمة التشريع في الكثير من الآيات المباركة والروايات المشهورة .
   من الأولى ـ الآياتُ الواردة لبيان حكمة تشريع وجوب الصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد وغيرها من الواجبات الشرعية .
   قال سبحانه منبهاً إلى غاية تشريع وجوب الصوم وهي صفة التقوى :
   ( يَأيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ) (1) .
   وقال بالنسبة إلى الصلاة :
   ( إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ ) (2) .

(1) سورة البقرة ، الآية : 183 .
(2) سورة العنكبوت ، الآية : 45 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 115
   وقال في الزكاة : ( خُذْ مِنْ أَمْواَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا ) (1) .
   كما قال في الجهاد : ( وَلَولا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ لَّفَسَدتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ) (2) .
   وقال في الحج : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِين مِن كُلّ فَجِّ عَمِيقٍ * لِّيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي آَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ) (3) .
   وهكذا أشارت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وهي المعصومة التي لا تنطق عن الهوى كأبيها وبعلها وبنيها عليهم جميعاً أفضل التحية وأزكى التسليم في خطبتها البليغة إلى أسرار التشريع في الكثير من الأحكام الشرعية من ذلك قولها عليها السلام :
   فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك والصلاة تنزيهاً من الكبر والزكاة تزكيةً للنفس ونماءً في الرزق والصيام تثبيتاً للإخلاص والحج تشييداً للدين والعدلَ تنسيقاً للقلوب وإمامتنا نظاماً للملة وإطاعتنا أماناً من الفُرقة والجهاد عزاً للدين والصبر معونة على استيجاب الأجر والأمر بالمعروف مصلحةً للعامة وبر الوالدين وقايةً من السخط وصلة الرحم منسأةً في العمر ومنماةً للعدد والقصاصَ حقناً للدماء والوفاء تعريضاً للمغفرة وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة وتركَ السرقة إيجاباً للعفة وحرَّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن

(1) سورة التوبة ، الآية : 103 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 251 .
(3) سورة الحج ، الآيتان : 27 و28 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 116
  إلا وأنتم مسلمون وأطيعوا فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه :
   ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ) (1) .
   ثم قالت : ( أيها الناس إعلموا أني فاطمة وأبي محمد أقول عوداً وبدواً ولا أقول ما أقول غلطاً ولا أفعل ما أفعل شططاً ) .
   وهناك رواية مروية عن الإمام الرضا عليه السلام متضمنة لبيان الحكمة والسبب الذي اقتضى وجوب الطواف وهي أن الله سبحانه :
   ( قَالَ لِلْمَلائِكَةِ إِنّيِ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ ) (2) .
   فردوا على الله سبحانه فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا فأحب الله أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء الرابعة بيتاً بحذاء العرش يُسمى الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم فطاف به فتاب عليه وجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة (3) .
   ولا يخفى أن هذه الرواية ونحوها من النصوص الشرعية الواردة لبيان سبب تشريع وجوب الطواف ـ تقف على صورته وشكله وما يترتب على هذا الشكل من أثر مباشر وهو التعبد لله سبحانه وتحصيل الأجر بفعله وتفريغ الذمة من مسؤوليته ولكن إذا دققنا النظر وعمقنا الفكر لينفذ إلى روحه الطاهرة وقلبه النابض بالحيوية والحياة التي تنطلق به من حدود زمانه ومكانه وشكله وعنوانه .
   إلى مكان أوسع وزمان أشمل وهدف أكمل .

(1) سورة فاطر ، الآية : 28 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 30 .
(3) الوسائل ج 9 ، ص 388 (ح) 12 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 117
   أجل : إذا دققنا النظر في الهدف الأوسع والأنفع من تشريع وجوب الطواف بصورته التقليدية المعهودة ندرك أنه عبارة عن الالتزام العام والانضباط التام الذي يجب على المكلف أن يلتزم به في هذه الحياة بكل عمل اختياري يمارسه بإرادته واختياره ليأتي منسجماً مع إرادة الله وتشريعه المترجم لها والمعبر عنها كما كان منضبطاً ومتقيداً حال الطواف بفعله على الوجه المطلوب .
   وبعبارة أوضح وأشمل إن المتأمل في تشريع الواجبات التعبدية كالحج والصلاة والصوم والزكاة ونحوها من الواجبات التعبدية يدرك أن تشريعها كان لفائدةٍ تترتب عليها بعنوانها الخاص ولفائدة أعم وأشمل وهي ترسيخ صفة العبودية والخضوع لله تعالى بكل ما يصدر منه من تصرفات اختيارية على صعيد هذه الحياة ـ فالطواف الخاص إنما طلب من المكلف ليبقى على حالة طواف دائم وعام حول إرادة الله سبحانه وفي مطاف شريعته فلا يتجاوز حدودها ولا ينحرف عنها بل يبقى محافظاً عليها ومتحركاً في إطارها كماً وكيفاً .
   وكذلك الصيام الخاص لم يشرع إلا من أجل أن يتوصل به المكلف إلى الصيام العام المتمثل بالإمساك التام عن كل حرام في كل الشهور والأيام وهو المعبر عنه بالتقوى التي صرح الله سبحانه بكونها الغاية المقصودة من تشريع وجوب هذه الفريضة بقوله :
   في آخر آية الصيام المتقدمة : لعلكم تتقون .
   ونفس الشيء يقال بالنسبة إلى الصلاة حيث يفهم من صريح قوله تعالى :
   ( وَأَقِمِ الصّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 118
  وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ واللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ) (1) .
   أن الغاية المقصودة من تشريع الصلاة هي التوصل بها إلى الصلاة العامة والصلة التامة والاتصال الدائم بذاته تعالى فكرياً ونفسياً وعملياً لتصبح كل حركة في خط مرضاته تعالىُ صلاة يتقرب بها إلى الله زلفى وتصبح الأرض بذلك على سعتها وامتدادها مسجداً عاماً يعبد المكلف فيه الله سبحانه بصلاة التقوى والعمل الصالح كما تصبح كل جهة يتوجه إليها بقلبه السليم ونيته الخالصة المخلصة قبلةً يتوجه إليها بهذه الصلاة العامة .
   وهكذا أوجب الله الخمس والزكاة بمقدار محدد ضمن شروط معينة من أجل أن يستفيد المكلف بدفعه ـ درساً تربوياً في الكرم والسخاء ليتحول من البذل المحدود زماناً ومقداراً وحكماً وهو الوجوب إلى كل زمان يتمكن فيه من القيام بالبذل استحباباً أو وجوباً بالعنوان الثانوي ولو بالقدر المتواضع من العطاء انطلاقاً من الحكمة القائلة : القليل خير من الحرمان وذلك لأن الله كريم يحب الكرم والخلق عياله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله .
   ويؤكد ما ذكرته من أن الغرض المقصود من تشريع فريضة الطواف الخاص المعهود هو التوصل إلى صفة وملكة الاستمرار على التحرك والطواف العام حول مركز إرادة الله تعالى ومطاف شريعته كما كان يطوف حول كعبته بانضباط وتقيد بقيود الطواف وشروط صحته .
   أجل : يؤكد ذلك ما رواه في جامع السعادات عن الإمام الصادق عليه السلام من قوله : لقضاء حاجة امرىء مؤمن أحب إلى الله من عشرين حجة كل حجة ينفق فيها صاحبها مائة ألف .

(1) سورة العنكبوت ، الآية : 45 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 119
   وقوله عليه السلام : من طاف في البيت طوافاً واحداً كتب الله له ستة آلاف حسنة ومحا عنه ستة آلاف سيئة ورفع له ستة آلاف درجة حتى إذا كان عند الملتزم فتح الله سبعة أبواب الجنة .
   وقال له أحد أصحابه : جعلت فداك هذا الفضل كله في الطواف ؟ قال : نعم وأخبرك بأفضل من ذلك ؟
   قضاء حاجة المؤمن المسلم أفضل من طواف وطواف وطواف حتى بلغ عشراً (1) .
   وروي عن الصادق عليه السلام في كتاب الحديقة الناشرية قوله عليه السلام :
   من مشى في حاجة أخيه المؤمن أظله الله عزوجل بخمسة وسبعين ألف ملك ولم يرفع قدماً إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه سيئة ورفع له بها درجة فإذا فرغ من حاجته كتب الله بكل ما قضاه أجر حاج ومعتمر .
   وقوله عليه السلام : من مشى في حاجة أخيه المؤمن كان أحب إلى الله تعالى من عتق ألف نسمة وحمل ألف بعير في سبيل الله مُسرجةٍ مُلجمة .
   وقوله عليه السلام : من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله تعالى كتب الله له ألف ألف حسنة يغفر الله له فيها لاقاربه وجيرانه وإخوانه ومعارفه .
   وقوله عليه السلام ؛ والذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق بشيراً ونذيراً لقضاء حاجة امرىء مسلم وتنفيس كربته أفضل عند الله من حجة وطواف وعمرة حتى عدّ عشراً .

(1) جامع السعادات ، ج2 ، ص229 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 120
   وروي عن ابن عباس عليه السلام أنه قال : كنتُ مع الحسين بن علي عليه السلام في المسجد الحرام وهو معتكف وهو يطوف حول الكعبة فعرض له رجل من شيعته وقال ياابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن علي ديناً لفلان فإن رأيت أن تقضيه عني فقد تهددني بالحبس فقال ابن عباس فقطع الإمام الطواف وسعى معه فقلت يا ابن رسول الله :
   ألست إنك معتكف ؟ فقال : بلى ولكن سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله يقول : من قضى أخاه المؤمن حاجة كان كمن عَبَدَ الله تعالى : تسعة آلاف سنة صائماً نهاره وقائماً ليله (1) .
   وبالمناسبة يترجح ذكر قصة يلتقى مضمونها مع مضمون الروايات التي مر ذكرها وكنت قد سمعتها من عالم فاضل قبل فترة قصيرة من تاريخ نقلها في هذا الكتاب وحاصلها .
   أن هذا العالم الفاضل كان حاضراً ليلة القدر في بعض المجالس الرمضانية أيام إقامته في حوزة قم المقدسة للدراسة العلمية فسمع من العالم الجليل الذي كان مشرفاً على مهمة الإحياء ما ينبغي أن يقوم به المكلف في هذه الليلة من أجل إحيائها بالنحو المتعارف من الإحياء وبعد بيانه ذلك مرغباً في القيام به ومبيناً ما يترتب عليه من الثواب العظيم قال: إن هذه الأعمال مطلوبة من غير الأغنياء وأما هم أي الأغنياء فإن المطلوب منهم قيامهم به وخصوصاً في هذه الليلة هو أن يتفقدوا الفقراء والمساكين ويقدموا لهم المساعدات المالية لأن ذلك أفضل بكثير من الأعمال المتعارفة للإحياء لأنها لا تنفع إلا صاحبها .

(1) ما روي عن الصادق عليه السلام في الحديقة الناشرية موجود في صفحة 65 و66 و67 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 121
   وأما أعمال البر والإحسان وخصوصاً إغاثة الملهوفين وكشف كرب المكروبين المعوزين فهي تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة كما تنفع الفقراء والمستضعفين ومن المعلوم أن قيمة كل عمل بقدر ما يترتب عليه من النفع للآخرين .
   ويأتي الحديث المشهور أو الحكمة المأثورة لتكون مؤكدة لذلك وهي كما يلي : الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله .
   وقد تناولتُ الحديث حول هذا الموضوع بصورة تفصيلية في الجزء الأول من وحي الإسلام ، تحت عنوان ( دور الزكاة والإحسان في سعادة الإنسان صفحة 60 كما شرحت ذلك مفصلاً في الجزء المذكور بحديث كتبته حول صفة الكرم والسخاء ) صفحة 135 .
   ثم إن كل ما تحدثت به عن الطواف إلى هنا كان من خلال النظر إليه من زاوية كونه حركة اختيارية يمارسها المكلف انقياداً للتكليف الشرعي الموجه إليه من قبل المولى سبحانه بغض النظر عن الحركة التكوينية العامة التي تسود الكون المادي كله وتسيطر عليه عبر نظام تكويني أودعه الله سبحانه فيه ليسيره بانتظام دقيق مستمر ومستقر لا يختلف ولا يتخلف .
   وأما إذا نظرنا إليه من خلال هذا النظام التكويني الشامل المسيطر على كل أجزاء هذا الكون من أكبر كائن إلى أصغره الذي لا يُرى بالعين المجردة كالذرة .
   فإنا نرى أن حركة الطواف الاختيارية التي يمارسها المكلف بإرادته حول بيت الله سبحانه منسجمةٌ تمام الانسجام مع الطواف التكويني الحاصل في داخل كل كائن مهما كان حجمه ويُعرف ذلك على ضوء العلم الحديث الذي كشف هذه الحقيقة التكوينية وهي أن كل جزء من أجزاء

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 122
  الكائن في هذا العالم ـ مؤلف من ثلاثة أجزاء أولية .
   وهي البروتون والالكترون والنيوترون وهذه الأجزاء في منتهى الدقة والضالة والبروتون هو نواة الذرة ومحورها الذي تطوف حوله وتدور في فلكه كما يدور القمر حول الأرض والأرض حول الشمس وكذلك سائر المجموعة الشمسية والالكترون يدور حول البروتون ( أي النواة والمحور ) دورتين في آن واحد الأولى يدور بها حول نفسه دوران الأرض حول نفسها والثانية يدور بها حول النواة دوران الأرض حول الشمس ويقطع بدورته هذه أقصى سرعة عرفها الإنسان (1) .
   وحيث أن الإنسان جزء من هذا الكون وجسمه مؤلف من ذرات مادية متحركة بحركة طواف تكويني قهري يطوف به الالكترون حول محوره ـ البروتون ـ يمكن على ضوء هذه الملاحظة العلمية الدقيقة استلهام الحكمة الإلهية الداعية إلى تشريع وجوب الطواف حول الكعبة المشرفة وهي أن تكون حركة الإنسان الاختيارية حول الكعبة المشرفة ـ منسجمةً مع حركة ذرة الالكترون حول محورها ومع حركة الملائكة حول البيت المعمور الذي بناه الله لها في السماء الرابعة ليكون مطافاً لها بعد أن كانت تطوف أول الأمر حول العرش .
   وبذلك ندرك أن الكون كله مع جميع ما فيه ومن فيه من كائنات على اختلاف أنواعها متحرك بحركة طواف تكوينية حول المحور المحدد له وتأتي حركة الطواف التشريعية الاختيارية التي يُمارسها المكلف بإرادته واختياره منسجمةً مع حركة الكون التكوينية ونتيجة ذلك أن الإنسان

(1) ما ذكرته حول الذرة وأقسامها وحصول حركة الطواف التكويني داخلها منقول عن كتاب أصول العقيدة في التوحيد والعدل للعلامة الجليل حجة الإسلام السيد مهدي الصدر دام ظله ، ص 146 و147 طبعة بيروت .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 123
  المؤمن عندما يقوم بوظيفته الشرعية خاضعاً وعابداً لله سبحانه بكل كيانه المادي والمعنوي ومنطلقاً بذلك مع الكون كله في اتجاه واحد نحو هدف واحد وهو هدف العبودية والخضوع للإرادة الإلهية تكويناً وقسراً كما هو الحاصل من الجانب المادي من الإنسان مع الكائنات المسيرة بحركتها التكوينية .
   وتشريعاً واختياراً وهو الحاصل من الجانب الإرادي الاختياري من كيان الإنسان .
   وبقدر ما يحصل من التناغم والانسجام بين الحركة التكوينية القهرية الخاضعة للنظام التكويني المسير والمنظم لحركة الكون وما ومن فيه وبين الحركة الاختيارية الصادرة من الإنسان المكلف وفق النظام التشريعي المنظم لسيره في درب الحياة ـ تحصل له الراحة والاستقرار والسعادة الروحية والمادية .
   وذلك لأن الكون بكل ما فيه خُلق وسُخر لخدمة الإنسان والنظام التشريعي وضع من أجل كماله وسعادته فإذا انسجم الثاني مع الأول في حياة الإنسان تحقق له ما أراد الله له من السعادة والكمال في مختلف المجالات ومن جميع الجهات .
   ومن أجل تقديم المزيد من التوضيح لدور الواجبات التعبدية في سعادة الإنسان وتقدمه أكرر ما ذكرته أكثر من مرة في هذا الكتاب وشرحته مفصلاً في بعض موضوعات كتاب (من وحي الإسلام) الجزء الأول وحاصله .
   أن العبادات المعهودة إنما شرعت بكيفيتها الخاصة من أجل ترتب اثرين وتحقق غرضين الأول خاص بها ومترتب عليها بصفتها الخاصة مثل

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 124
  الكثير من الآثار الإيجابية المترتبة على كل واحدة من الفرائض الإسلامية التعبدية المعهودة وأبرزها الصلاة والصيام والحج والزكاة .
   والثاني غرض عام مترتب على مجموع هذه الفرائض وهو سعادة الإنسان وانتعاشه مادياً ومعنوياً دنيوياً وأخروياً .
   ومن أجل التوضيح أشبه الواجبات الشرعية التعبدية بأعضاء جسم الإنسان فإن لكل واحد منها وظيفته الخاصة به فالعين للنظر والأذن للسمع واللسان للنطق والأنف للشم واليد للعمل والقدم للمشي والسعي في درب الحياة والرئتان للتنفس والمعدة للهضم والعقل للتفكير وإدراك الحق ليتبع والباطل ليجتنب والقلب من أجل أن يعطي كل واحد من هذه الأعضاء الحياة والحركة في طريق الهدف الذي خلقت من أجله .
   وذلك بقيامه بتوزيع الدم عبر شبكة الأوعية الدموية على كل ما تحله الحياة من أعضاء البدن وهناك أعضاء أخرى لها وظائف أخرى تقوم بها في نطاق خدمة الإنسان .
   وهذه الأعضاء كما يقوم كل واحد منها بوظيفته الخاصة به ـ يتعاون مع سائر الأعضاء على تحقيق الخدمة العامة للإنسان من خلال تكاملها فيما بينها وتعاونها على بره والإحسان إليه بتقدير الإله الخالق الرحيم الحكيم .
   وتظهر فائدة تعاون هذه الأعضاء وتكاملها وتعرف قيمة هذا التكامل عند توقف بعضها عن وظيفته لعارض صحي طارىء من باب لا تعرف النعمة إلا عند فقدها حيث ينعكس ذلك سلبياً على بقية الأعضاء كلا أو بعضاً ويختلف ذلك الأثر السلبي قوة وضعفاً باختلاف دور ذلك العضو المتوقف .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 125
   فإذا كان دوره حفظ الحياة واستمرارها كالقلب أدى توقفه إلى فقد الحياة لتتوقف بقية الأعضاء عن العمل تبعاً لتوقفه .
   وإذا كان دوره التفكير والتخطيط والإدراك من أجل حصول العمل المناسب من العضو المعد لَه وفي الوقت المناسب ـ كالعقل فإذا فقد زال أثره وخسر الإنسان وجوده المعنوي الإنساني حيث يصبح فاقداً للتوازن في تصرفاته وشبيهاً بالأنعام في حركاته .
   لأن بقية الأعضاء وإن كانت لا تزال عاملة ومتحركة وغير فاقدة للحياة ولكنها أصبحت فاقدة للتوازن والحركة الهادفة التي تنطلق في سبيل الهدف العقلائي الذي يرفع وينفع الإنسان فرداً ومجتمعاً مادياً ومعنوياً .
   وإذا أردنا أن نشبه بعض العبادات ببعض أعضاء البدن بلحاظ الفاعلية وقوة التأثير الإيجابي على سير ومسير الإنسان في هذه الحياة تأتي الصلاة لتكون شبيهةً بالقلب والحج ليكون شبيهاً بالعقل لأن الصلاة عمود الدين وعماده فإذا فقد عمود البناء انهار وسقط على الأرض وكذلك هي تمثل أداة الوصل بين المخلوق الذليل الفقير الجاهل المفتقر إلى مصدر الكمال المطلق ليزيل ضعفه بقوته وفقره بغناه ومعونته وذله بعزته الذاتية وجهله بعلمه الواسع المطلع على كل شيء ـ فإذا اتصل بهذه الذات الكاملة أمكنه أن يستمد منها كل ما ينفعه ويرفعه ويعطيه وجوده الإنساني المعنوي بعد أن ظفر بأصل وجوده الجسمي المادي ويصبح بذلك بشراً سوياً ومؤمناً ولياً له وزنه واعتباره في ميزان السمو والرفعة الحقيقية .
   وإذا قطع صلته بهذه الذات العظيمة فقد بذلك مصدر إنسانيته ومنبع كماله وسعادته وأصبح كالسفينة التي انقطع حبلها الذي كان يشدها إلى المرفأة الأمين ليصونها من الغرق والتحطم بفعل الأمواج المتلاطمة