كافٍ لأن يسير المؤمن على ضوء في مقام العمل والتطبيق .
وإذا ورد في بعض الروايات تحليل وتعليل لوجوب فريضة الحج أو وجوب أية شعيرة من شعائره فهو يكون مؤكداً لما أمن من المكلف واقتنع بصدوره عن حكمة إلهية وإن لم يعرفها تفصيلاً .
وهذا هو روح العبادة وجوهر التعبد وكلما كان التشريع محاطاً بشيء من الغموض وعدم معرفة فلسفة تشريعه بصورة تفصيلية كان ذلك أقرب للغاية الأساسية المقصودة من تشريع العبادة وهي تقوية روح العبودية والانقياد لإرادة المولى ـ عند المكلف .
وإذا ذكر تعليل في بعض الآيات أو الروايات أو بعض التوجيهات كما هو المقصود من هذا الكتاب فإنما يأتي من أجل تأكيد الإيمان بحكمة الله تعالى وذلك هو السبب في الإشارة إلى حكمة التشريع في الكثير من الآيات المباركة والروايات المشهورة .
من الأولى ـ الآياتُ الواردة لبيان حكمة تشريع وجوب الصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد وغيرها من الواجبات الشرعية .
قال سبحانه منبهاً إلى غاية تشريع وجوب الصوم وهي صفة التقوى :
( يَأيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ )
(1) .
وقال بالنسبة إلى الصلاة :
( إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ )
(2) .
|
(1) سورة البقرة ، الآية : 183 .
(2) سورة العنكبوت ، الآية : 45 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 115
وقال في الزكاة : ( خُذْ مِنْ أَمْواَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا )
(1) .
كما قال في الجهاد : ( وَلَولا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ لَّفَسَدتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ )
(2) .
وقال في الحج : ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِين مِن كُلّ فَجِّ عَمِيقٍ * لِّيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي آَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ )
(3) .
وهكذا أشارت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وهي المعصومة التي لا تنطق عن الهوى كأبيها وبعلها وبنيها عليهم جميعاً أفضل التحية وأزكى التسليم في خطبتها البليغة إلى أسرار التشريع في الكثير من الأحكام الشرعية من ذلك قولها عليها السلام :
فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك والصلاة تنزيهاً من الكبر والزكاة تزكيةً للنفس ونماءً في الرزق والصيام تثبيتاً للإخلاص والحج تشييداً للدين والعدلَ تنسيقاً للقلوب وإمامتنا نظاماً للملة وإطاعتنا أماناً من الفُرقة والجهاد عزاً للدين والصبر معونة على استيجاب الأجر والأمر بالمعروف مصلحةً للعامة وبر الوالدين وقايةً من السخط وصلة الرحم منسأةً في العمر ومنماةً للعدد والقصاصَ حقناً للدماء والوفاء تعريضاً للمغفرة وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة وتركَ السرقة إيجاباً للعفة وحرَّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن
|
(1) سورة التوبة ، الآية : 103 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 251 .
(3) سورة الحج ، الآيتان : 27 و28 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 116
إلا وأنتم مسلمون وأطيعوا فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنه :
( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ )
(1) .
ثم قالت : ( أيها الناس إعلموا أني فاطمة وأبي محمد أقول عوداً وبدواً ولا أقول ما أقول غلطاً ولا أفعل ما أفعل شططاً ) .
وهناك رواية مروية عن الإمام الرضا عليه السلام متضمنة لبيان الحكمة والسبب الذي اقتضى وجوب الطواف وهي أن الله سبحانه :
( قَالَ لِلْمَلائِكَةِ إِنّيِ جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ )
(2) .
فردوا على الله سبحانه فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا فأحب الله أن يتعبد بمثل ذلك العباد فوضع في السماء الرابعة بيتاً بحذاء العرش يُسمى الضراح ثم وضع البيت بحذاء البيت المعمور ثم أمر آدم فطاف به فتاب عليه وجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة
(3) .
ولا يخفى أن هذه الرواية ونحوها من النصوص الشرعية الواردة لبيان سبب تشريع وجوب الطواف ـ تقف على صورته وشكله وما يترتب على هذا الشكل من أثر مباشر وهو التعبد لله سبحانه وتحصيل الأجر بفعله وتفريغ الذمة من مسؤوليته ولكن إذا دققنا النظر وعمقنا الفكر لينفذ إلى روحه الطاهرة وقلبه النابض بالحيوية والحياة التي تنطلق به من حدود زمانه ومكانه وشكله وعنوانه .
إلى مكان أوسع وزمان أشمل وهدف أكمل .
|
(1) سورة فاطر ، الآية : 28 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 30 .
(3) الوسائل ج 9 ، ص 388 (ح) 12 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 117
أجل : إذا دققنا النظر في الهدف الأوسع والأنفع من تشريع وجوب الطواف بصورته التقليدية المعهودة ندرك أنه عبارة عن الالتزام العام والانضباط التام الذي يجب على المكلف أن يلتزم به في هذه الحياة بكل عمل اختياري يمارسه بإرادته واختياره ليأتي منسجماً مع إرادة الله وتشريعه المترجم لها والمعبر عنها كما كان منضبطاً ومتقيداً حال الطواف بفعله على الوجه المطلوب .
وبعبارة أوضح وأشمل إن المتأمل في تشريع الواجبات التعبدية كالحج والصلاة والصوم والزكاة ونحوها من الواجبات التعبدية يدرك أن تشريعها كان لفائدةٍ تترتب عليها بعنوانها الخاص ولفائدة أعم وأشمل وهي ترسيخ صفة العبودية والخضوع لله تعالى بكل ما يصدر منه من تصرفات اختيارية على صعيد هذه الحياة ـ فالطواف الخاص إنما طلب من المكلف ليبقى على حالة طواف دائم وعام حول إرادة الله سبحانه وفي مطاف شريعته فلا يتجاوز حدودها ولا ينحرف عنها بل يبقى محافظاً عليها ومتحركاً في إطارها كماً وكيفاً .
وكذلك الصيام الخاص لم يشرع إلا من أجل أن يتوصل به المكلف إلى الصيام العام المتمثل بالإمساك التام عن كل حرام في كل الشهور والأيام وهو المعبر عنه بالتقوى التي صرح الله سبحانه بكونها الغاية المقصودة من تشريع وجوب هذه الفريضة بقوله :
في آخر آية الصيام المتقدمة : لعلكم تتقون .
ونفس الشيء يقال بالنسبة إلى الصلاة حيث يفهم من صريح قوله تعالى :
( وَأَقِمِ الصّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 118
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ واللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ )
(1) .
أن الغاية المقصودة من تشريع الصلاة هي التوصل بها إلى الصلاة العامة والصلة التامة والاتصال الدائم بذاته تعالى فكرياً ونفسياً وعملياً لتصبح كل حركة في خط مرضاته تعالىُ صلاة يتقرب بها إلى الله زلفى وتصبح الأرض بذلك على سعتها وامتدادها مسجداً عاماً يعبد المكلف فيه الله سبحانه بصلاة التقوى والعمل الصالح كما تصبح كل جهة يتوجه إليها بقلبه السليم ونيته الخالصة المخلصة قبلةً يتوجه إليها بهذه الصلاة العامة .
وهكذا أوجب الله الخمس والزكاة بمقدار محدد ضمن شروط معينة من أجل أن يستفيد المكلف بدفعه ـ درساً تربوياً في الكرم والسخاء ليتحول من البذل المحدود زماناً ومقداراً وحكماً وهو الوجوب إلى كل زمان يتمكن فيه من القيام بالبذل استحباباً أو وجوباً بالعنوان الثانوي ولو بالقدر المتواضع من العطاء انطلاقاً من الحكمة القائلة : القليل خير من الحرمان وذلك لأن الله كريم يحب الكرم والخلق عياله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله .
ويؤكد ما ذكرته من أن الغرض المقصود من تشريع فريضة الطواف الخاص المعهود هو التوصل إلى صفة وملكة الاستمرار على التحرك والطواف العام حول مركز إرادة الله تعالى ومطاف شريعته كما كان يطوف حول كعبته بانضباط وتقيد بقيود الطواف وشروط صحته .
أجل : يؤكد ذلك ما رواه في جامع السعادات عن الإمام الصادق عليه السلام من قوله : لقضاء حاجة امرىء مؤمن أحب إلى الله من عشرين حجة كل حجة ينفق فيها صاحبها مائة ألف .
|
(1) سورة العنكبوت ، الآية : 45 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 119
وقوله عليه السلام : من طاف في البيت طوافاً واحداً كتب الله له ستة آلاف حسنة ومحا عنه ستة آلاف سيئة ورفع له ستة آلاف درجة حتى إذا كان عند الملتزم فتح الله سبعة أبواب الجنة .
وقال له أحد أصحابه : جعلت فداك هذا الفضل كله في الطواف ؟ قال : نعم وأخبرك بأفضل من ذلك ؟
قضاء حاجة المؤمن المسلم أفضل من طواف وطواف وطواف حتى بلغ عشراً
(1) .
وروي عن الصادق عليه السلام في كتاب الحديقة الناشرية قوله عليه السلام :
من مشى في حاجة أخيه المؤمن أظله الله عزوجل بخمسة وسبعين ألف ملك ولم يرفع قدماً إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه سيئة ورفع له بها درجة فإذا فرغ من حاجته كتب الله بكل ما قضاه أجر حاج ومعتمر .
وقوله عليه السلام : من مشى في حاجة أخيه المؤمن كان أحب إلى الله تعالى من عتق ألف نسمة وحمل ألف بعير في سبيل الله مُسرجةٍ مُلجمة .
وقوله عليه السلام : من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله تعالى كتب الله له ألف ألف حسنة يغفر الله له فيها لاقاربه وجيرانه وإخوانه ومعارفه .
وقوله عليه السلام ؛ والذي بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق بشيراً ونذيراً لقضاء حاجة امرىء مسلم وتنفيس كربته أفضل عند الله من حجة وطواف وعمرة حتى عدّ عشراً .
|
(1) جامع السعادات ، ج2 ، ص229 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 120
وروي عن ابن عباس عليه السلام أنه قال : كنتُ مع الحسين بن علي عليه السلام في المسجد الحرام وهو معتكف وهو يطوف حول الكعبة فعرض له رجل من شيعته وقال ياابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن علي ديناً لفلان فإن رأيت أن تقضيه عني فقد تهددني بالحبس فقال ابن عباس فقطع الإمام الطواف وسعى معه فقلت يا ابن رسول الله :
ألست إنك معتكف ؟ فقال : بلى ولكن سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله يقول : من قضى أخاه المؤمن حاجة كان كمن عَبَدَ الله تعالى : تسعة آلاف سنة صائماً نهاره وقائماً ليله
(1) .
وبالمناسبة يترجح ذكر قصة يلتقى مضمونها مع مضمون الروايات التي مر ذكرها وكنت قد سمعتها من عالم فاضل قبل فترة قصيرة من تاريخ نقلها في هذا الكتاب وحاصلها .
أن هذا العالم الفاضل كان حاضراً ليلة القدر في بعض المجالس الرمضانية أيام إقامته في حوزة قم المقدسة للدراسة العلمية فسمع من العالم الجليل الذي كان مشرفاً على مهمة الإحياء ما ينبغي أن يقوم به المكلف في هذه الليلة من أجل إحيائها بالنحو المتعارف من الإحياء وبعد بيانه ذلك مرغباً في القيام به ومبيناً ما يترتب عليه من الثواب العظيم قال: إن هذه الأعمال مطلوبة من غير الأغنياء وأما هم أي الأغنياء فإن المطلوب منهم قيامهم به وخصوصاً في هذه الليلة هو أن يتفقدوا الفقراء والمساكين ويقدموا لهم المساعدات المالية لأن ذلك أفضل بكثير من الأعمال المتعارفة للإحياء لأنها لا تنفع إلا صاحبها .
|
(1) ما روي عن الصادق عليه السلام في الحديقة الناشرية موجود في صفحة 65 و66 و67 .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 121
وأما أعمال البر والإحسان وخصوصاً إغاثة الملهوفين وكشف كرب المكروبين المعوزين فهي تنفع صاحبها في الدنيا والآخرة كما تنفع الفقراء والمستضعفين ومن المعلوم أن قيمة كل عمل بقدر ما يترتب عليه من النفع للآخرين .
ويأتي الحديث المشهور أو الحكمة المأثورة لتكون مؤكدة لذلك وهي كما يلي : الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله .
وقد تناولتُ الحديث حول هذا الموضوع بصورة تفصيلية في الجزء الأول من وحي الإسلام ، تحت عنوان ( دور الزكاة والإحسان في سعادة الإنسان صفحة 60 كما شرحت ذلك مفصلاً في الجزء المذكور بحديث كتبته حول صفة الكرم والسخاء ) صفحة 135 .
ثم إن كل ما تحدثت به عن الطواف إلى هنا كان من خلال النظر إليه من زاوية كونه حركة اختيارية يمارسها المكلف انقياداً للتكليف الشرعي الموجه إليه من قبل المولى سبحانه بغض النظر عن الحركة التكوينية العامة التي تسود الكون المادي كله وتسيطر عليه عبر نظام تكويني أودعه الله سبحانه فيه ليسيره بانتظام دقيق مستمر ومستقر لا يختلف ولا يتخلف .
وأما إذا نظرنا إليه من خلال هذا النظام التكويني الشامل المسيطر على كل أجزاء هذا الكون من أكبر كائن إلى أصغره الذي لا يُرى بالعين المجردة كالذرة .
فإنا نرى أن حركة الطواف الاختيارية التي يمارسها المكلف بإرادته حول بيت الله سبحانه منسجمةٌ تمام الانسجام مع الطواف التكويني الحاصل في داخل كل كائن مهما كان حجمه ويُعرف ذلك على ضوء العلم الحديث الذي كشف هذه الحقيقة التكوينية وهي أن كل جزء من أجزاء
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 122
الكائن في هذا العالم ـ مؤلف من ثلاثة أجزاء أولية .
وهي البروتون والالكترون والنيوترون وهذه الأجزاء في منتهى الدقة والضالة والبروتون هو نواة الذرة ومحورها الذي تطوف حوله وتدور في فلكه كما يدور القمر حول الأرض والأرض حول الشمس وكذلك سائر المجموعة الشمسية والالكترون يدور حول البروتون ( أي النواة والمحور ) دورتين في آن واحد الأولى يدور بها حول نفسه دوران الأرض حول نفسها والثانية يدور بها حول النواة دوران الأرض حول الشمس ويقطع بدورته هذه أقصى سرعة عرفها الإنسان
(1) .
وحيث أن الإنسان جزء من هذا الكون وجسمه مؤلف من ذرات مادية متحركة بحركة طواف تكويني قهري يطوف به الالكترون حول محوره ـ البروتون ـ يمكن على ضوء هذه الملاحظة العلمية الدقيقة استلهام الحكمة الإلهية الداعية إلى تشريع وجوب الطواف حول الكعبة المشرفة وهي أن تكون حركة الإنسان الاختيارية حول الكعبة المشرفة ـ منسجمةً مع حركة ذرة الالكترون حول محورها ومع حركة الملائكة حول البيت المعمور الذي بناه الله لها في السماء الرابعة ليكون مطافاً لها بعد أن كانت تطوف أول الأمر حول العرش .
وبذلك ندرك أن الكون كله مع جميع ما فيه ومن فيه من كائنات على اختلاف أنواعها متحرك بحركة طواف تكوينية حول المحور المحدد له وتأتي حركة الطواف التشريعية الاختيارية التي يُمارسها المكلف بإرادته واختياره منسجمةً مع حركة الكون التكوينية ونتيجة ذلك أن الإنسان
|
(1) ما ذكرته حول الذرة وأقسامها وحصول حركة الطواف التكويني داخلها منقول عن كتاب أصول العقيدة في التوحيد والعدل للعلامة الجليل حجة الإسلام السيد مهدي الصدر دام ظله ، ص 146 و147 طبعة بيروت .
|
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 123
المؤمن عندما يقوم بوظيفته الشرعية خاضعاً وعابداً لله سبحانه بكل كيانه المادي والمعنوي ومنطلقاً بذلك مع الكون كله في اتجاه واحد نحو هدف واحد وهو هدف العبودية والخضوع للإرادة الإلهية تكويناً وقسراً كما هو الحاصل من الجانب المادي من الإنسان مع الكائنات المسيرة بحركتها التكوينية .
وتشريعاً واختياراً وهو الحاصل من الجانب الإرادي الاختياري من كيان الإنسان .
وبقدر ما يحصل من التناغم والانسجام بين الحركة التكوينية القهرية الخاضعة للنظام التكويني المسير والمنظم لحركة الكون وما ومن فيه وبين الحركة الاختيارية الصادرة من الإنسان المكلف وفق النظام التشريعي المنظم لسيره في درب الحياة ـ تحصل له الراحة والاستقرار والسعادة الروحية والمادية .
وذلك لأن الكون بكل ما فيه خُلق وسُخر لخدمة الإنسان والنظام التشريعي وضع من أجل كماله وسعادته فإذا انسجم الثاني مع الأول في حياة الإنسان تحقق له ما أراد الله له من السعادة والكمال في مختلف المجالات ومن جميع الجهات .
ومن أجل تقديم المزيد من التوضيح لدور الواجبات التعبدية في سعادة الإنسان وتقدمه أكرر ما ذكرته أكثر من مرة في هذا الكتاب وشرحته مفصلاً في بعض موضوعات كتاب (من وحي الإسلام) الجزء الأول وحاصله .
أن العبادات المعهودة إنما شرعت بكيفيتها الخاصة من أجل ترتب اثرين وتحقق غرضين الأول خاص بها ومترتب عليها بصفتها الخاصة مثل
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 124
الكثير من الآثار الإيجابية المترتبة على كل واحدة من الفرائض الإسلامية التعبدية المعهودة وأبرزها الصلاة والصيام والحج والزكاة .
والثاني غرض عام مترتب على مجموع هذه الفرائض وهو سعادة الإنسان وانتعاشه مادياً ومعنوياً دنيوياً وأخروياً .
ومن أجل التوضيح أشبه الواجبات الشرعية التعبدية بأعضاء جسم الإنسان فإن لكل واحد منها وظيفته الخاصة به فالعين للنظر والأذن للسمع واللسان للنطق والأنف للشم واليد للعمل والقدم للمشي والسعي في درب الحياة والرئتان للتنفس والمعدة للهضم والعقل للتفكير وإدراك الحق ليتبع والباطل ليجتنب والقلب من أجل أن يعطي كل واحد من هذه الأعضاء الحياة والحركة في طريق الهدف الذي خلقت من أجله .
وذلك بقيامه بتوزيع الدم عبر شبكة الأوعية الدموية على كل ما تحله الحياة من أعضاء البدن وهناك أعضاء أخرى لها وظائف أخرى تقوم بها في نطاق خدمة الإنسان .
وهذه الأعضاء كما يقوم كل واحد منها بوظيفته الخاصة به ـ يتعاون مع سائر الأعضاء على تحقيق الخدمة العامة للإنسان من خلال تكاملها فيما بينها وتعاونها على بره والإحسان إليه بتقدير الإله الخالق الرحيم الحكيم .
وتظهر فائدة تعاون هذه الأعضاء وتكاملها وتعرف قيمة هذا التكامل عند توقف بعضها عن وظيفته لعارض صحي طارىء من باب لا تعرف النعمة إلا عند فقدها حيث ينعكس ذلك سلبياً على بقية الأعضاء كلا أو بعضاً ويختلف ذلك الأثر السلبي قوة وضعفاً باختلاف دور ذلك العضو المتوقف .
فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 125
فإذا كان دوره حفظ الحياة واستمرارها كالقلب أدى توقفه إلى فقد الحياة لتتوقف بقية الأعضاء عن العمل تبعاً لتوقفه .
وإذا كان دوره التفكير والتخطيط والإدراك من أجل حصول العمل المناسب من العضو المعد لَه وفي الوقت المناسب ـ كالعقل فإذا فقد زال أثره وخسر الإنسان وجوده المعنوي الإنساني حيث يصبح فاقداً للتوازن في تصرفاته وشبيهاً بالأنعام في حركاته .
لأن بقية الأعضاء وإن كانت لا تزال عاملة ومتحركة وغير فاقدة للحياة ولكنها أصبحت فاقدة للتوازن والحركة الهادفة التي تنطلق في سبيل الهدف العقلائي الذي يرفع وينفع الإنسان فرداً ومجتمعاً مادياً ومعنوياً .
وإذا أردنا أن نشبه بعض العبادات ببعض أعضاء البدن بلحاظ الفاعلية وقوة التأثير الإيجابي على سير ومسير الإنسان في هذه الحياة تأتي الصلاة لتكون شبيهةً بالقلب والحج ليكون شبيهاً بالعقل لأن الصلاة عمود الدين وعماده فإذا فقد عمود البناء انهار وسقط على الأرض وكذلك هي تمثل أداة الوصل بين المخلوق الذليل الفقير الجاهل المفتقر إلى مصدر الكمال المطلق ليزيل ضعفه بقوته وفقره بغناه ومعونته وذله بعزته الذاتية وجهله بعلمه الواسع المطلع على كل شيء ـ فإذا اتصل بهذه الذات الكاملة أمكنه أن يستمد منها كل ما ينفعه ويرفعه ويعطيه وجوده الإنساني المعنوي بعد أن ظفر بأصل وجوده الجسمي المادي ويصبح بذلك بشراً سوياً ومؤمناً ولياً له وزنه واعتباره في ميزان السمو والرفعة الحقيقية .
وإذا قطع صلته بهذه الذات العظيمة فقد بذلك مصدر إنسانيته ومنبع كماله وسعادته وأصبح كالسفينة التي انقطع حبلها الذي كان يشدها إلى المرفأة الأمين ليصونها من الغرق والتحطم بفعل الأمواج المتلاطمة