مالك الغنم لم يأذن له بذلك وحينئذٍ أراد ذلك الشخص أن يدبر له عذراً كاذباً ليعتذر به لسيده إذا لبى طلبه وباعه ما أراد شراءه منه وهو أن يخبره بأن الذئب سطا على القطيع وأخذ رأسا منه وأراد إغراءه بالمادة ليوافقه على إجابة طلبه وذلك بإعطائه الثمن ليصرفه في سبيل مصلحته الخاصة ، وهنا يأتي دور الإيمان الصادق ليرفض العذر الكاذب وأن يبيعه دينه وجنة عرضها السموات والأرض بدنيا زائلة ومنفعةٍ مؤقتة ذاهبة ودفعه ذلك لأن يعتذر منه بقوله :
   إذا كان صاحب الغنم لا يعلم بكذب العذر وخيانة الأمانة فأين علم الله وحضوره المراقب والمعاقب .
   وأدى هذا الاعتذار بهذا الأسلوب الواعي ـ إلى أن يعدل ذلك الشخص عما كان عازماً عليه خوفاً من الله سبحانه ، وهزّ هذا الموقف الإيماني الثابت من هذا العبد المملوك جسماً والمتحرر عقلاً وإرادة ـ كلَّ كيانه واُعجب بقوة إيمانه وأراد أن يقدم له جائزة تكريميةً على نجاحه في هذا الامتحان الصعب وذلك بشرائه من سيده ليحرره مع شرائه قطيع الغنم من مالك العبد ليقدمه لهذا المؤمن الواعي الذي كان حرّ الضمير وراسخ الإيمان وأدى به ذلك لأن ينال التحرر المادي من أسر المملوكية للبشر ويصبح متحرراً من كل القيود المادية وعبداً لخالقه ومالكه الحقيقي سبحانه وتعالى .
   وهكذا تحقق ذلك ليكون مصداقاً لقوله تعالى :
   ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ) (1) .
   ودلالة هذه القصة على مدى تأثير الإيمان الراسخ في إحساس

(1) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و3 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 52
  صاحبه بالمرافقة الإلهية المطلقة والاطلاع السماوي الدقيق وإنتاج هذا الإحساس المرافقة الثانية بمعناها المتقدم وهي التي حولت هذا الإنسان المؤمن من عبد إلى حر ومن فقير مملوك إلى غني مالك . وفي ذلك عبرة لأولي الألباب .
   أجل : إن دلالة هذه القصة على مدى تأثير الإيمان الثابت الواعي في إحساس صاحبه بالمرافقة الإلهية المطلقة ـ واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان وهذا الإحساس هو الذي أدى إلى ترك مخالفة الله سبحانه والسير في خط التقوى المؤدي إلى النتيجة الإيجابية الرائعة والجائزة التكريمية المعجلة مضافاً إلى ما سيناله هذا المؤمن المتقي من النعيم الخالد والسعادة الدائمة في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين . وفي ذلك عبرة للمعتبرين .
   القصة الثانية : وهي شبيهة بالأولى وقد ذكرها المرحوم المقدس السيد محسن الأمين في الجزء الأول من المجالس السنية صفحة 26 وفيما يلي حاصلها :
   مما جاء في كرم الإمام الحسين عليه السلام ، عن الحسن البصري أن الحسين عليه السلام ذهب ذات يوم مع جماعة من أصحابه إلى بستان وكان في ذلك البستان غلام للحسين اسمه صافي فلما قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل الخبز فجلس الحسين عليه السلام عند بعض النخل بحيث لا يراه الغلام فنظر إليه الحسين عليه السلام وهو يرفع الرغيف فيرمي نصفه إلى الكلب ويأكل نصفه فتعجب من فعل الغلام فلما فرغ من الأكل قال :
   الحمد لله رب العالمين اللهم اغفر لي واغفر لسيدي كما باركت لأبويه برحمتك يا أرحم الراحمين ، فقام الحسين عليه السلام وقال : يا صافي فقام الغلام فزعاً وقال ياسيدي وسيد المؤمنين إلى يوم القيامة إني ما رأيتك


فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 53
  فاعف عني فقال الحسين عليه السلام اجعلني في حل يا صافي لأني دخلت بستانك بغير إذنك فقال صافي : بفضلك يا سيدي وكرمك وسؤددك تقول هذا فقال الحسين عليه السلام : إني رأيتك ترمي نصف الرغيف إلى الكلب وتأكل نصفه فما معنى ذلك ؟
   فقال الغلام : إن هذا الكلب نظر اليّ وأنا آكل فاستحييت منه وهو كلبك يحرس بستانك وأنا عبدك نأكل رزقك معاً فبكى الحسين عليه السلام وقال : إن كان كذلك فأنت عتيق لله تعالى ووهبت لك ألفي دينار فقال الغلام : إن أعتقتني فأنا أريد القيام في بستانك فقال الحسين عليه السلام :
   إن الكريم ينبغي أن يصدق قوله بالفعل أوَما قلت لك : اجعلني في حل فقد دخلت بستانك بغير إذنك فصدقتُ قولي ووهبتك البستان وما فيه لك فاجعل أصحابي الذين جاؤوا معي أضيافاً وأكرمهم من أجلي أكرمك الله يوم القيامة وبارك الله لك في حسن خلقك وأدبك فقال الغلام : إن وهبتني بستانك فإني قد سبلته لأصحابك وشيعتك .
   ووجه الشبه بين هذه القصة والسابقة عليها هو إحساس الغلام الأول بمرافقة الله له وحضوره عنده فنتج من ذلك خوفه منه وعدم إقدامه على ما يسخطه ويسبب غضبه وأراد الله مكافأته على ذلك معجلاً بأن بعث الإعجاب في نفس ذلك الشخص الذي طلب إعطاءه رأساً من الغنم بطريق غير شرعي وأدى إعجابه بتقواه إلى أن يشتريه ويعتقه ويشتري القطيع ويقدمه هدية له ـ ونفس هذا التحول الذي حصل لهذا الشخص من الإقدام على الحرام إلى القيام بأفضل الأعمال المقرّبة من ا‏لله تعالى يعتبر توفيقاً لهذا الغلام وفضلاً آخر منَّ ا‏لله به عليه حيث كان السبب لتحوله من التصرف المبعد له عن الله سبحانه ورضوانه إلى تصرف آخر مضاد له يثمر له التوفيق وحسن العاقبة والسعادة في الدنيا والآخرة .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 54
   والسبب الذي منع الغلام المذكور في القصة الأولى ـ من الإقدام على الحرام ـ وأنتج له قربه من الله سبحانه وتفضله عليه بما حصل له من التحرر بعد الرق والغنى بعد الفقر .
   أجل : نفس هذا السبب وهو إحساس الغلام الأول بمرافقة الله له وحضوره عنده بعلمه واطلاعه الشامل هو الذي دعا الغلام الثاني لأن يعامل ذلك الحيوان بمعاملة العطف والإحسان نتيجة إحساسه بمراقبة الله له واطلاعه على جميع تصرفاته وأنه يحب المحسنين حتى للحيوان ويُكافيء على الحسنة بعشر أمثالها كما وعد في كتابه الكريم ـ وقد تحققت له هذه المكافأة معجلاً في حاضر الدنيا كما رأيت مضافاً إلى ما سيناله هناك يوم الجزاء العادل ـ من جنة عرضها السموات والأرض ورضوان من الله أكبر .
   وصدق الله سبحانه حيث قال :
   ( هَلْ جَزَآءُ الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ) (1) .
   القصة الثالثة : نقلتها عن كتاب جزاء الأعمال صفحة 18 وسبق ذكر اسم مؤلفه وهي كما يلي :
   نقلوا أن ملكاً ظالماً أراد أن يبني له قصراً فاستدعى المهندسين لكي يخططوا له خارطة ذلك القصر على الأرض بحسب ما خطر في ذهنه وكان بجانب هذه الخارطة بيت صغير لامرأة عجوز وكانت خارطة قصر الملك مصمّمة على أن يكون بيت العجوز ضمن مخطط القصر لكي يظهر بشكل مربع فطلب من العجوز أن تبيعه بيتها فرفضت طلبه بسبب كون البيت ملجأً لأطفالها يأوون إليه . ويومأً كانت هذه المرأة في سفر فلما عادت وجدت

(1) سورة الرحمن ، الآية : 60 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 55
  بيتها قد هدم فتأثرت تأثراً شديداً من العمل ونظرت إلى السماء وقالت :
   إلهي إن كنتُ غائبة فقد كنت حاضراً ، وبعد إتمامها لهذه المناجاة حدث زلزالٌ شديد تهدم على أثره قصر الملك وكان حينها يجلس في أعاليه فدمّر الملك تحت أنقاض القصر وأصبح من الهالكين .
   وقال المؤلف معلقاً على هذه القصة :
   وهذه عبرة للعقلاء كي يعلموا أن الظلم لا يدوم ، إن الذي فعلته العجوز في مناجاتها لا تستطيع فعله آلاف القذائف والمعاول ، ومحل الشاهد في هذه القصة هو أن هذه العجوز حيث كانت مؤمنة بالمرافقة الإلهية والحضور المطلق في كل مكان وزمان ومع كل إنسان وأنه لا يرضى بحصول الظلم ولا يهمل معاقبة من يتجاوز حدوده ويتمرد عليه ويتجرأ بظلم خلقه ـ لذلك لجأت إليه واعتمدت في معاقبة ظالمها عليه وكان سبحانه حسبها ونعم النصير حيث انتقم لها منه وعجل عقوبته .
   وبعد التأمل في سبب إقدامه على هذا الظلم الفاحش ـ ندرك أن غياب الله سبحانه عن شعوره وإحساسه بحضوره ومرافقته لكل كائن ومطلع على كل ما يصدر منه سراً وجهراً الأمر الذي أدى اإلى عدم تحقق المرافقة بالمعنى الثاني عند هذا الظالم وهو مرافقة الدعم والتوفيق لأنه مرتبط بحصول سببه المؤدي له وهو التقوى والتوكل الواعي الواثق وفي مورد القصة حيث حصل عكس ذلك فقد جاءت النتيجة مناسبة لمقدمتها لقوله تعالى :
   ( مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلها ) (1) .

(1) سورة ، الآية : 40 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 56
   وقوله سبحانه : ( وَجَزاؤا سَيّئَةٌ سِيّئَةُُ مِّثْلُها ) (1) .
   وبعد نقل القصص الثلاث المذكورة والتعليق عليها بما يناسب موضوع الحديث تذكرت قصة رابعةً مختصرة سمعتها من بعض الخطباء الأجلاء وأحببت ذكرها في المقام لمناسبتها له والتقائها بالمضمون مع تلك القصص المذكورة وحاصلها أنه حصل في مجلس ضم عدداً كثيراً من المنتمين إلى الإسلام على ضوء خط أهل البيت عليهم السلام صراع كلامي ونقاش حاد حول بعض الموضوعات وكان بين الحاضرين في هذا المجلس ـ شيخ جليل القدر متقدم في العمر ومعروف بالتقوى والورع وذكر الله سبحانه فأثاره هذا النقاش وكان بيده عصا يتوكأ عليها فضرب الأرض بها وصاح بصوت جهوري : ما لي لا أرى الله موجوداً بينكم ؟ وحيث أن صوته هذا انطلق من أعماق قلبه المليء بالخوف من الله سبحانه فقد هزّ كيان الحاضرين ليسيطر عليهم الهدوء والخشية من الله سبحانه .
   ومما تقدم بيانه مفصلاً حول تأثير الإحساس والشعور بحضور الله سبحانه ومرافقته لكل الكائنات بالعلم والإشراف والقدرة والتدبير وللمكلفين على وجه الخصوص بالمرافقة وتسجيل ما يصدر منهم من حسنات وسيئات تمهيداً للحساب والجزاء العادل في وقته المناسب .
   أجل : بعد معرفة تأثير الإحساس بالحضور الإلهي ومرافقته سبحانه بالمعنى الأول ـ في سلوك الإنسان واستقامته في خط التقوى ـ ندرك بوضوح سبب تحول الحاضرين في ذلك المجلس من حالة ووضع مبعد عن الله سبحانه إلى وضع آخر مقرب منه .

(1) سورة الشورى ، الآية : 40 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 57
   ويفهم ذلك من قول ذلك الشيخ الجليل لهم : ما لي لا أرى الله موجوداً بينكم ؟
   لأنه يقصد بوجوده تعالى بينهم ـ الحضور الذهني والوجود المعنوي القلبي في عالم الشعور والالتفات التفصيلي لحضوره الدائم في مقابل حاله الغفلة والذهول عن هذا الحضور ـ الأمر الذي أدى إلى وضعهم الأول البعيد عن جو الإيمان الخاشع والمبعد عن ذكر الله النافع .
   وإلى هذا المعنى أشار الله سبحانه بقوله :
   ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ) (1) .
   ومن المناسب للحديث حول موضوع المرافقة والرفق الإلهي بخلقه سبحانه ختامُه بالأبيات التالية التي جالت في ذهني بعد الفراغ منه وهي كما يلي :
الله دومــاً راحــمٌ ورفـيـقُ      ولـنا  بـدرب الصالحات iiرفيقُ
خَـلَقَ الـورى لـفضيلةٍ iiوسعادةٍ      وهُـداه  لـلهدفِ الـكبيرِ طريقُ
فـمن  اسـتقامَ عليه يجني iiخيره      وعـلى الـملائك بالصلاح iiيَفوق
ومن ارعوى يجني الشقاوة عاجلاً      وجـزاؤه يـوم الـحساب حريقُ

(1) سورة فاطر ، الآية : 28 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 58
بعض ما يستحب لمن عزم على السفر أن يقوم به
   ذكروا للسفر آداباً ومستحبات يترجح مراعاتها والقيامُ بها كلاً أو بعضاً لكونها مستحبة في ذاتها ولكونها منطلقاً لتحصيل العناية الإلهية والرحمة السماوية التي تمهد سبيل النجاح في نيل الغاية التي سافر من أجلها وتزيل الحواجز والعقبات التي قد تعترض سبيل نجاحه ونيل أمنيته .
   وهذه المستحبات كثيرة سأقتصر على ذكر بعضها وهو الأهم وهي كما يلي :
   على ضوء ما ورد في الجزء الأول من مفتاح الجنات للمرحوم السيد الأمين (قده) وما ورد في مفاتيح الجنان للمرحوم القمي (قده) والأكثر منقول من الأول .
   1 ـ منها : استحباب قراءة الدعاء التالي عند إرادة السفر :
   اللهم بك يصول الصائل وبقدرتك يطول الطائل ولا حول لكل ذي حول إلا بك ولا قوة يمتارها ذو قوة إلا منك بصفوتك من خلقك وخيرتك من بريتك محمد نبيك وعترته وسلالته عليه وعليهم السلام صل عليهم واكفني شر هذا اليوم وضره وارزقني خيَره ويُمنه واقضِ لي في مُتصرفاتي بحسن العاقبة ونيل المحبة والظفر بالأمنية وكفاية الطاغية وكل ذي قدرة على أذية حتى أكون في جُنة وعِصمة من كل بلاء ونقمة وأبدلني فيه من

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 59
  المخاوف أمناً ومن العوائق يُسراً حتى لا يصدني صادّ عن المراد ولا يحلّ بي طارق من أذى العباد إنك على كل شيء قدير والأمور إليك تصير يا من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
   2 ـ ومنها : استحباب أن يختار الرفقة الملائمة من الثلاثة فصاعداً ويكره أن يسافر وحده ، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شر الناس من سافر وحده ومنع رفده وضرب عبده .
   وإذا اضطر للسفر وحده فليقل :
   ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا با‏لله اللهم آنس وحشتي وأعني على وحدتي وأد غيبتي .
   3 ـ ومنها : استحباب أن يُوصي والوصية بصورة عامة قسمان :
   الأول الوصية الواجبة : وهي التي يتوقف عليها تأدية واجب مالي كديون الناس ومنها الحقوق الشرعية المتعلقة بماله أو الثابتة في ذمته ويُلحق بها الحج إذا كان وجوبه مستقراً في ذمته بسبب استطاعته سابقاً مع تسامحه في تأديته في سنة الاستطاعة .
   ومثل الواجب المالي ـ الواجب البدني كالصلاة والصوم ونحوهما من الواجبات البدنية إذا توقفت تأديتها على الإيصاء بها .
   والقسم الثاني من الوصية : هو المستحب بالنسبة إلى الأمور المستحبة .
   4 ـ ومن مستحبات السفر التقاط خمس حصيات بعدد أولي العزم وذلك من أجل أن تكون معه في سفره وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمّد بن عبدا‏لله صلى الله عليهم أجمعين .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 60
   5 ـ ومنها : صلاة ركعتين عند إرادة السفر ويقول بعدهما :
   اللهم إني أستودعك نفسي وأهلي ومالي وذريتي ودنياي وآخرتي وأمانتي وخاتمة عملي .
   6 ـ ومنها : أن يجمع عياله عند إرادة السفر في بيت ثم يقول :
   اللهم إني أستودعك الساعة نفسي وأهلي ومالي وديني وذريتي ودنياي وآخرتي اللهم احفظ الشاهد منا والغائب اللهم احفظنا واحفظ علينا اللهم اجعلنا في جوارك اللهم لا تسلبنا نعمتك ولا تغير ما بنا من عافيتك وفضلك .
   ثم يقول : مولاي انقطع الرجاء إلا منك وخابت الآمال إلا فيك أسألك إلهي بحق من حقه واجب عليك ممن جعلتَ له الحق عندك ـ أن تصلي على محمّد وآل محمّد وأن تقضي حاجتي .
   ثم يقال : محمّد أمامي وعلي ورائي وفاطمة فوق رأسي والحسن عن يميني والحسين عن يساري وعلي ومحمّد وجعفر وموسى وعلي ومحمّد وعلي والحسن والحجة عليهم السلام حولي .
   إلهي ما خلقت خلقاً خيراً منهم فاجعل صلاتي بهم مقبولة ودعواتي بهم مستجابة وحوائجي بهم مقضية وذنوبي بهم مغفورة وآفاتي بهم مدفوعة وأعدائي بهم مقهورة ورزقي بهم مبسوطاً .
   ثم يقول : اللهم صلى على محمّد وآل محمّد ثلاث مرات وبعدها يقول : بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إني أريد سفراً فخر لي وأوضح لي فيه سبيل الرأي وفهمنيه وافتح لي عزمي بالاستقامة واشملني في سفري بالسلامة وأوفد لي جزيل الحظ والكرامة وأكلأنَي فيه بحريز

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 61
  الحفظ والحراسة برحمتك يا أرحم الراحمين بحق محمّد وآله الطاهرين (1) .
   7 ـ ومنها : استحباب أن يفتتح سفره بالصدقة قائلاً :
   اللهم إني اشتريت بهذه الصدقة سلامتي وسلامة ما معي اللهم احفظني واحفظ ما معي وسلمني وسلم ما معي وبلغني وبلغ ما معي ببلاغك الحسن الجميل .
   8 ـ ومنها : استحباب إعلام اخوانه وجيرانه بسفره فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حق على المسلم إذا أراد سفراً أن يعلم إخوانه وحق على إخوانه إذا قدم أن يأتوه (2) .
   وبمناسبة ذكر هذا المستحب أحب أن أذكر نصيحة وتنبيهاً يتعلق بما جرت العادة عليه لدى الكثيرين عندما يعزمون على السفر ـ من طلب أحدهم المسامحة ممن كان قد ذكره بسوء أو صدر منه عمل مضر به وهو غير مطلع عليه .
   والنصيحة الأخوية التي أحب تقديمها في هذا المجال هي ترجيح ترك طلب المسامحة من ذلك إذا لم يكن الشخص الآخر مسبوقاً به بل يكفيه الاقتصار على الاستغفار له ولنفسه والتوبة لله سبحانه من تلك الخطيئة وذلك لأن إخباره بما صدر منه ضده من قول مثير أو عمل مضر يبعث في نفس الطرف المقابل الانفعال منه وقد يؤدي إلى العداوة

(1) هذا الدعاء وما تقدمه من الأدعية مأخوذ من الجزء الأول من مفتاح الجنات للمرحوم الأمين (رحمه ا‏لله) .
(2) من كتاب تحفة الحاج للشيخ هادي الساعدي صفحة 33 والمنقول عنه هو المستحبان 7 و8 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 62
  والبغضاء والله سبحانه لم يحرم نقل الكلام المثير من شخص إلى مَن قيل في حقه ـ وهو المسمى بالنميمة إلا لأنه يؤدي إلى الخصومة والشحناء مع أن الملحوظ في الغالب عدم حصول المسامحة المطلوبة وإن حصلت فباللسان فقط خجلاً لا من القلب سماحاً وتسامحاً ـ وقد يصرح بعضهم بعدم المسامحة مع إعلان الموقف السلبي ضد من ذكره بسوء أو سبب له ضرراً مادياً أو معنوياً وغفلة الكثيرين عن هذه النتيجة السلبية واعتقادهم بلزوم طلب المسامحة هو الذي يوقعهم في المحذور المذكور ولذلك اقتضت المصلحة التنبيه على مرجوحية العادة المذكورة ورجحان تبديلها بالاستغفار فهي كفارة للذاكر بالسوء أو مسبب الضرر لغيره كما أنها دعاء لذلك الغير بالمغفرة والرضوان .
   9 ـ ويستحب للمسافر أن يدعو بما يلي :
   اللهم افتح لي في وجهي بخير واختم لي بخير وأعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ ومن شر ما برأ ومن شر كل دابة هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ـ اللهم خل سبيلنا وأحسن سيرنا وأعظم غايتنا ، فإذا وضع رجله في الركاب أو في العربة أو نحوها فليقل :
   بسم الله الرحمن الرحيم : بسم الله وبالله والله أكبر ثم يقول : سبحان الله سبعاً ولا إله إلا الله سبعاً الحمد لله سبعاً فإذا علا الدابة أو نحوها فليقل : الحمد لله الذي كرمنا وحملنا في البر والبحر ورزقنا من الطيبات وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون والحمد لله رب العالمين .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 63
   الحمد لله الذي هدانا للإسلام وعلمنا القرآن ومنَّ علينا بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم .
   10 ـ ويستحب للمسافر أن يقول وهو سائر : اللهم خل سبيلنا وأحسن مسيرنا وأحسن عاقبتنا ـ وأن يكثر من التكبير والتحميد والاستغفار .
   11 ـ ويستحب تشييع المسافر وتوديعه والدعاء له وأن يُقرأ في أذنه قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرءانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ ) (1) إن شاء الله ، ثم يقول : سر على بركة الله (2) .
   12 ـ ويُستحب أيضاً الدعاء التالي للمسافر وغيره ويتأكد في حق الأول وهو المروي عن الإمام زين العابدين حيث رُوي عنه قوله عليه السلام :
   لا أبالي إذا قلتُ هذه الكلمات أن لو اجتمع علي الجن والإنس وهي بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وفي سبيل الله اللهم إني إليك أسلمتُ نفسي وإليك وجهت وجهي وإليك فوضت أمري فاحفظني بحفظ الإيمان من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومِن فوقي ومن تحتي وادفع عني بحولك وقوتك فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
  13 ـ وذكر في المفاتيح أنه يستحب للمسافر في طريق الحج أن يساعد أصحابه في السفر ولا يُحجم عن السعي في حوائجهم كي ينفس الله عنه ثلاثاً وسبعين كربة ويجيره في الدنيا من الهم والغم ويُنفس كربه العظيم يوم القيامة .
وروي أن الإمام زين العابدين كان لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه ليخدمهم في الطريق لأنهم لو عرفوه لمنعوه من ذلك .

(1) سورة القصص : الآية : 85 .
(2) هذا الدعاء والسابق عليه منقول عن مفتاح الجنات ، ج1 ص 247 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 64
   ومن الأخلاق الكريمة للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان مع صحابته في بعض الأسفار فأرادوا ذبح شاة يقتاتون بها فقال أحدهم علي ذبحها وقال آخر علي سلخ جلدها وقال ثالث علي طبخها فقال صلى الله عليه وآله وسلم وأنا علي الاحتطاب فقالوا يا رسول الله نحن نعمل ذلك فأجاب أنا أعلم أنكم تعملونه ولكن لا يسرني أن أمتاز عليكم إن الله يكره أن يرى عبده قد فضل نفسه على أصحابه .
   14 ـ ومن المستحبات المطلقة للمسافر وخصوصاً مع رفاقه في طريق سفره وعلى الأخص إذا كان لزيارة بيت الله الحرام ـ أن يحسن أخلاقه وأن يتزين بالحلم .
   15 ـ ويستحب للمسافر إذا أشرف على قرية يريد دخولها أن يدعو بما يلي :
   اللهم ربَّ السموات السبع وما أظلت ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت ورب الرياح وما ذرت ورب البحار وما جرت : إني أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها ـ اللهم يسر لي ما كان فيها من خير ووفق لي ما كان فيها من يسر وأعني على حاجتي يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات أدخلني مُدخل صدق وأخرجني مُخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً .
   وإذا خاف سبُعاً أو هامة من هوام الأرض أو غير ذلك فليقل في ذلك المكان :
   يا ذاريء ما في الأرض كلها بعلمه بعلمك يكون ما يكون مما ذرأت ـ لك السلطان على ما ذرأت ولك السلطان القاهر على كل شيء من كل شيء يضر من سبع أو هامة أو عارض من سائر الدواب بفطرته إدرأها عني

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 65
  واحجزها ولا تسلطها علي واحفظني من شرها وبأسها يا ألله يا ذا العلم العظيم حُطني واحفظني بحفظك من مخاوفي يا رحيم .
   فإذا قال ذلك لا تضره دواب الأرض التي تُرى والتي لا تُرى إنشاء الله تعالى .
   ومن خاف كيد الأعداء واللصوص فليقل في ذلك المكان الذي خاف ذلك فيه : يا أَخذاً بنواصي خلقه والشافع بها إلى قدرته والمنفذ فيها حكمه وخالقها وجاعل قضائه لها غالباً وكلهم ضعيف عند غلبته وثقتُ بك سيدي عند قوتهم إني مكيد لضعفي ولقوتك على من كادني تعرضتُ فسلمني منهم .
   اللهم إن حلتَ بيني وبينهم فذلك أرجوه منك وإن أسلمتني إليهم غيروا ما بي من نعمك يا خير المنعمين صلى على محمّد وآل محمّد ولا تجعل تغيير نعمك على يد أحد سواك ولا تغير أنتَ ما بي فقد ترى الذي يُراد بي فحُل بيني وبين شرهم بحق من تستجيب الدعاء به يا الله رب العالمين .
   فإذا قال ذلك نصره الله على أعدائه ، ومن كان غائباً وأراد أن يؤديه الله سالماً مع قضاء حاجته فليقل في غربته : يا جامعاً بين أهل الجنة على تآلف وشدة تواجد في المحبة ويا جامعاً بين طاعته وبين من خلقه لها ويا مفرجاً عن كل محزون ويا موئل كل غريب ويا راحمي في غربتي بحسن الحفظ والكلاءة والمعونة لي ويا مفرج ما بي من الضيق والحزن بالجمع بيني وبين أحبتي ويا مؤلفاً بين الأحباء لا تفجعني بانقطاع أوبة أهلي وولدي عني ولا تفجع أهلي بانقطاع أوبتي عنهم بكل مسائلك أدعوك فاستجب لي فذلك دعائي فارحمني يا أرحم الراحمين .
   وإذا نزل في منزل فليقل :

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 66
   رب أنزلني منزلاً مُباركاً وأنت خير المنزلين ثم يصلي ركعتين ويقول : اللهم احفظني واكلأني وليودع الموضع وأهله فإن لكل موضع أهلاً من الملائكة فيقول : السلام على ملائكة الله الحافظين السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ورحمة الله وبركاته (1) .
   والمستحب الأهم الذي يتمم غيره من مستحبات المسافر وغيره من المنطلقين في درب الرسالة هو ما روي عن الإمام الصادق من قوله عليه السلام : ما يُعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم تكن فيه ثلاث خصال خُلُقٌ يخالق به من صحبه وحلم يملك به غضبه وورع يحجزه عن معاصي الله تعالى .
   وهذه الخصال الثلاث وإن كانت ثوباً معنوياً يحتاج المؤمن لأن يتجمل به في كل زمان ومكان ومع أي إنسان كما يحتاج لأن يتجمل بالثوب المادي في أغلب الأحوال ـ إلا أن الحاجة إلى التجمل بها تكون أشد وأمسَّ بالنسبة إلى من يسافر في طريق زيارة بيت الله الحرام وذلك بسبب بعد المسافة وزيادة المشقة التي يعاني منها أكثر المسافرين مع الصعوبة الذاتية الحاصلة لمن يؤدي مناسك الحج وخصوصاً في حالي الرمي والطواف نتيجة الازدحام الشديد .
   كل هذه الخصوصيات تجعل المسافر في هذا السبيل على حالة استثنائية صعبة جداً تسبب له ضيقاً في صدره وسرعة انفعال لأي حادث يحصل على خلاف طبعه .
   وهنا يأتي دور حسن الخلق الذي يدفع صاحبه لأن يعاشرَ من صحبه في طريق الحج أو غيره بالمجاملة والمعروف فلا

(1) مفتاح الجنات للسيد الأمين (رحمه الله) ج1 ص 250 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 67
  يصدر منه تصرف بالقول أو بالفعل يكون مثيراً لعاطفة غيره ـ وإذا صدرت من الغير ما يثير بطبعه فهو يقابله برحابه صدر وقوة صبر انطلاقاً من قوله تعالى :
   ( وَالكَاظِمِينَ الْغَيظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (1) .
   وحيث أن المسافر في طريق الحج يُعتبر في واقعه مسافراً إلى دار رحمة الله ومغفرته ليكفر سيئاته ويضاعف حسناته ، والمتوقع ممن يكون سفره لهذه الغاية ـ أن يكون على حالة انقطاع لله سبحانه بالتوبة والإنابة إليه سبحانه بالاستقامة في خط التقوى والبعد عن كل ما يبعده عن رحمة الله ومغفرته وذلك يتمثل بالتجمل بالخصال الثلاث المذكورة .
   فحسن الخلق يدعوه لأن يجامل الآخرين فلا يصدر منه ما يثيرهم وإذا صدر منهم ما يثيره عالجه بالحلم والصبر الجميل وإذا دفعته نفسه لأن يميل مع الهوى يميناً أو شمالاً تأتي صفة الورع لتمنعه من الانحراف وتثبت قدميه على صراط الحق القويم ونهجه المستقيم .

(1) سورة آل عمران ، الآية : 134 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 68
الحج رحلة فكرية وروحية من عالم المادة
إلى عالم العبودية الخالصة

   إن التدبر الواعي والتأمل الموضوعي في الغاية السامية التي شرعت العبادات من أجلها يوحي للمتدبر فيها بأنّها عبارة عن التجرد من القيم المادية الوضيعة تمهيداً للانطلاق والتحليق إلى سماء الفضيلة الرفيعة .
   وذلك لأن الإنسان بحكم تركبه من عنصر المادة الثقيلة وعنصر الروح الخفيفة الشفافة وبحكم تأثره بالماديات المحسوسة وانشداده إليها وانجذابه نحوها بدافع الغريزة البشرية ـ تشده جاذبية المادة إلى الأسفل وربما تهبط به إلى سفح الحيوانية ليعيش مع فصائلها بغرائزه الضاغطة ويصبح شبيهاً بها بتصرفاته المادية وحركاته الغريزية بل قد يمسي أضل منها سبيلاً وأحط شأناً كما صرح الله سبحانه بقوله تعالى :
   ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّن الْجِنّ وَالإِنس لَهُمْ قُلوبٌ لا يَفْقهُونَ بَهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ) (1) .
   لهذا وذاك شاءت الحكمة الإلهية والعناية السماوية أن ترسم لهذا

(1) سورة الأعراف ، الآية : 179 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 69
  الإنسان مناهج عبادية وتعاليم أخلاقية تساهم في التخفيف من ثقل المادة وضغط الطين على روحه لتستطيع التحليق في آفاق الكمال الإنساني وتحقق الغاية التي خلق الله الكون من أجلها وأوجد الإنسان بصورة خاصة ليحققها وهي استقامته في خط العبودية الخالصة المخلصة التي تثمر له السعادة في الدنيا والآخرة .
   وبذلك يظهر السر في اشتراط صحة تلك العبادات بقصد التقرب بها لله وحده حين الاتيان بها لأنها بذلك تشد الروح إلى مصدرها والنفس إلى بارئها بسلك التقوى فتصفو وتعلو وتتحلل من قيود المادة التي تشدها إلى الأرض وتمنعها من الانطلاق والتحليق إلى سماء الفضيلة والكمال كما أراد الله تعالى .
   ويتجلى ذلك بوضوح في تأدية فريضة الصلاة بتجرد وإخلاص وجوباً خمس مرات في اليوم واستحباباً بلا تحديد وبذلك كانت عموداً للدين ومعراجاً لروح المؤمن وشبيهة بالحوض الذي يكون في دار الإنسان ويغتسل به خمس مرات في اليوم فلا يبقى على بدنه شيء من الأدران المادية والأوساخ الجسمية كذلك إذا أدى الصلاة خمس مرات في اليوم فلا يبقى على روحه ونفسه شيء من أوساخ الذنوب والخطايا .
   وتأتي فريضة الحج لتقوم بنفس الدور الذي تؤديه الصلاة رغم وجوبها مرة واحدة في العمر كما تؤدي دور الصيام بما اشتملت عليه من تروك الإحرام ـ ودور الفريضة المالية كالخمس والزكاة لما تقتضيه من صرف المال في سبيل تأديتها ـ أي تأدية فريضة الحج ـ .
   وذلك لأن عامل الكيف الذي تميزت به فريضة الحج عن غيرها من العبادات بسبب تعرض مؤديها للمشقة الشديدة الناشئة من طي المسافة

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 70
  البعيدة كما هو الحاصل للكثيرين من الحجاج ـ ومن الازدحام المجهد وخصوصاً في حالي الطواف والرمي ، الأمر الذي يؤدي إلى إصابة بعضهم بعارض صحي أو لضياع وغرق في بحر الجموع المحتشدة في أماكن تأدية المناسك المقدسة .
   أجل : إن عامل الكيف المتميز بالصعوبة والخطورة في فريضة الحج يقوم مقام الكثرة والزيادة في الكم الموجودة في الصلاة والصيام بلحاظ ترتب الأثر التربوي والتعبدي عليها بالدرجة المقاربة لما يترتب عليهما من ذلك . وهذا ما يسبب صعوبة فراق المسافر في هذا الطريق وتوديعه أقاربه وأصدقاءه بدموع سائلة وعواطف ملتهبة بحرارة الحذر والخوف من المصير المؤلم المظلم الذي يترقبه كل واحد من المسافرين في طريق هذه الفريضة المباركة .
   أجل : إن هذا العامل الكيفي يمثل دور العامل الكمي الذي تميزت به فريضة الصلاة عن غيرها من الفرائض ولذلك تترتب على تأدية فريضة الحج آثار ومعطيات إيجابية بالنسبة إلى أكثر الحجاج قلما تترتب على تأدية سائر الفرائض العبادية وأبرز تلك الآثار حصول الخوف الشديد من الوفاة بسبب ما يتعرض له المسافر في سبيل هذه الفريضة من الأخطار الكثيرة والكبيرة حتى كأنه مسافر إلى ساحة الحرب والجهاد وهذا يكون سبباً قوياً لتوبته إلى ربه وتراجعه عما كان عليه من أخطاء وانحراف عن جادة التقوى .
   وينتج من هذا وذاك محاسبته لنفسه وإيصاؤه بتأدية ما فاته من صلاة وصوم ونحوهما وما ثبت في ذمته من حقوق مالية للآخرين كما يتنبه لوجوب تعيين رأس سنة له مقدمة لتأدية ما يجب عليه من الخمس في المستقبل مع عزمه على تأدية ما وجب عليه سابقاً من هذا الحق بعد

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 71
  تسجيله ديناً عليه في الوصية ـ والبعض يتوفق لتطهير نفسه وتخليص ماله مما تعلق به من الحق الشرعي فعلاً وقبل سفره خوفاً من عدم تحقق ذلك في المستقبل بسبب وفاته وتقصير ورثته في إبراء ذمته بتنفيذ وصيته كما حصل للكثيرين ممن انخدعوا بسراب الأمل وتركوا أمر تخليصهم إلى غيرهم واتفق حصول التقصير في حقهم كما قصروا هم في حق أنفسهم ولم يعملوا بالنصيحة التي قدمها الشاعر الحكيم بقوله :
ما حك جسمك غيرُ ظفرك      فـتول  أنت جميع iiأمرك
   كما لم يتنبهوا لقول الشاعر الآخر :
إذا  أنـت لم تعرف لنفسك iiحقها      هواناً بها كانت على الناس أهونا
   أجل : إن الانطلاق في طريق تأدية فريضة الحج المربية يعتبر في واقعه رحلةً فكرية وروحيةً قبل أن يكون رحلة مادية جسمية تتمثل بتحرك الشخص جسمياً في سبيل تأدية هذا الواجب المقدس والرحلة الأولى هي المتممة للثانية حيث يشترك في تأدية الواجب الإلهي كل كيان الإنسان بكلا عنصريه المادي والمعنوي كما يشترك ذلك منه في مقام تأدية الصلاة والصيام والجهاد ونحوهما من الواجبات الإلهية .
   وبذلك يتحقق الهدف المنشود من تشريعها وهو تحليق النفس البشرية بكلا جناحيها المادي والمعنوي في سماء الفضيلة والكمال لوضوح أن هذا التحليق والصعود إلى سماء الرفعة والسمو لا يكون بجناح المادة وحده كما أن الطير لا يتمكن من الطيران بجناح واحد ومن أجل توضيح كيفية حصول الرحلة الفكرية والروحية من الإنسان المسلم عندما ينطلق في طريق تأدية فريضة الحج مضافاً إلى رحلته الجسمية المادية أقول :

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 72
   إن رحلته الفكرية تتمثل بتحرك الفكر وانتقاله من حالٍ بعيدةٍ عن هدف إيجاده وغاية خلقه كتفكيره في المصالح والمنافع المادية الدنيوية وسعيه في سبيل تحصيلها بأية وسيلة كانت ولو كانت محرمة تحطم كيانه معنوياً وتسبب له البؤس والشقاء في الدنيا والآخرة .
   إلى حالة أخرى معاكسة تتمثل بتفكيره الجاد الحالي بمصيره الأخروي وأنه السعادة الخالدة الكاملة في جوار الله سبحانه بعد مفارقته هذه الحياة ـ إن سلك طريق التقوى وفعل ما أُمر به وترك ما نُهي عنه ـ أو الشقاء الدائم والعذاب المستمر في الدار الأخرى إن انحرف عن نهج الاستقامة وترك واجباً وفعل حراماً .
   أجل : إن رحلة الإنسان المسلم وانطلاقه في طريق تأدية فريضة الحج أو عزمه على الانطلاق بجسمه يؤدي إلى رحلته الفكرية وتحوله من التفكير والاهتمام بما يضره ويحطمه مادياً ومعنوياً إلى حالة التفكير فيما ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة .
   ثم يترتب على هذا التحول والحركة الفكرية والروحية المعنوية الداخلية ـ تحرك الجسم والروح معاً في طريق تحقيق غاية إيجاده في هذه الحياة وهي إطاعة الله وعبادته وحده لا شريك له لتثمر له هذه العبادة السعادة في الدنيا والآخرة كما يُستوحى ذلك من قوله تعالى :
   ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُوا وَاتَّقُوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمآء وَالأَرْضِ ) (1) .

(1) سورة الأعراف ، الآية : 96 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 73
   وقوله تعالى : ( وَأَلَو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً ) (1) .
   وقوله سبحانه :
   ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرزُقهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (2) .
   وبما ذكرنا ندرك أن حركة الإنسان الجسمية في طريق تأدية فريضة الحج لابد أن تكون مسبوقة بحركته الفكرية ومن حالة التحلل وعدم التقيد نفسياً بالشعائر الدينية ـ إلى حالة العزم والإقدام على الالتزام النفسي المثمر للتحرك العملي بالروح والجسم معاً . وبذلك تكون حركته العبادية كاملة ومشيةً مستقيمة في طريق العبودية تساعده على إدراك الغاية المقصودة من تشريع هذه الفريضة كما تساعده على تحقيق الغاية المنشودة من تشريع سائر العبادات .
   وهي تحصيل ملكة العبودية التي تضبط تصرفات المكلف وتحصرها في إطار الشرع وخط التقوى والاستقامة .
   وعدم تحرك الروح الطاهرة والنفس المطمئنة مع الجسم حين ممارسة الشعائر الدينية هو الذي سبب نقصها وعدم ترتب غايتها عليها وهي التقوى كما تقدم على ضوء بعض الآيات الكريمة المنبهة لذلك .
   منها قوله تعالى بالنسبة الى فريضة الصوم :
   ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (3) .
   وقوله تعالى بالنسبة إلى فريضة الصلاة :

(1) سورة الجن ، الآية : 16 .
(2) سورة الطلاق ، الآيتان : 2 و3 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 183 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 74
   ( إِنَّ الصَلاةَ تَنْهَىُ عِنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) (1) .
   وقوله سبحانه بالنسبة إلى بعض شعائر الحج وهو الهدي الذي يجب على من كانت فريضته حج التمتع :
   ( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ) (2) .
   وحيث أن الشريعة الإسلامية بصورة عامة والعبادات منها بصورة خاصة لا تترتب عليها آثارها في حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً إلا بعد الإيمان بأصول موضوعية وصفات واقعية لازمة لها ـ اقتضت المصلحة الإشارة إليها والتنبيه عليها باختصار فأقول :
   المراد بالأصول الموضوعية أصول الدين المعهودة كما أن المراد بالصفات الواقعية الصفات الثبوتية اللازمة لذات الله تعالى وهي مستلزمة للصفات السلبية المنافية لكماله المطلق فاتصافه سبحانه بالعلم مستلزم لانتفاء اتصافه بالجهل كما أن اتصافه بالعدل مستلزم لانتفاء اتصافه بالظلم وهكذا وسيظهر من خلال الحديث أن المراد بالصفات المذكورة ما يشمل بعض أصول الدين كصفتي الوحدانية والعدل وهي كثيرة :
   منها كونه مصدر التشريع كما أنه مصدر الخلق والإيجاد وحده لا شريك له وقد صرح الله سبحانه بذلك بقوله : ( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ ) (3) .
   باعتبار أن المراد بالأمر التشريع في مقابل الخلق ـ وتقديم الخبر في هذه الآية وهو الجار والمجرور ـ على المبتدأ وهو الخلق وما عطف عليه

(1) سورة العنكبوت ، الآية : 54 .
(2) سورة الحج ، الآية : 37 .
(3) سورة الأعراف ، الآية : 54 .

فلسَفَةُ الحَجّ في الإسلام 75
  يفيد الحصر وانحصار الخالقية والتشريع بذاته تعالى .
   ومنها كونه عادلاً لأن ذلك من لوازم كماله المطلق ويؤكد اتصافه به لزوم اتصافه بالظلم لو تجرد عنه ـ أي عن العدل وذلك أبعد ما يكون عن ساحة كماله وجلاله تعالى وخصوصاً بعد ملاحظة نفيه بصريح أكثر من آية .
   منها قوله تعالى : ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1) .
   وقوله تعالى : ( وَمَا اللَّهُ يُريدُ ظُلمَاً لِلْعِبَادِ ) (2) .
   وقوله سبحانه : ( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) (3) .
   وينتج عن الإيمان بعدالته سبحانه واستحالة اتصافه بالظلم الإيمان بعدم تكليفه الإنسان فوق طاقته وقد صرح سبحانه بهذه الحقيقة الإيمانية بقوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) (4) .
   ومن صفاته الكمالية كونه عليماً بكل شيء وقادراً على كل شيء وغنياً عن كل شيء ويحتاج إليه كل شيء وقد صرح الله سبحانه باتصافه بهذه الصفات الحميدة في العديد من آيات كتابه المجيد .
   ومنها كونه حكيماً لا يخلق شيئاً بدون غاية وهدف ولا يشرع حكماً إلا لمصلحة وفائدة كما في موارد الواجبات والمستحبات أو لدفع مفسدة ومضرة كما في موارد المحرمات والمكروهات .

(1) سورة النحل ، الآية : 118 .
(2) سورة غافر ، الآية : 31 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 182 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 286 .