وتحقق العلاقة بين المعنى الحقيقي للعام ـ وهو الافراد بالاسر ـ وبين الواحد والاثنين والثلاثة من تلك الافراد ، وهي الجزئية .
  احتج من ذهب إلى أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام : بقبح قول القائل : ( أكلت كل رمانة في البستان ) وفيه آلاف وقد أكل واحدة أو ثلاثة (1) ، وقوله : ( أخذت كل ما في الصندوق من الذهب ) وفيه ألف ، وقد أخذ دينارا إلى ثلاثة (2) ، وكذا قوله : ( كل من دخل داري فهو حر ) ، أو : ( كل من جاء‌ك فأكرمه ) ، وفسر بواحد أو ثلاثة (3) .
  والجواب : أولا : منع القبح الذي ادعاه ، مع نصف القرينة ، نعم يقبح بدون نصب القرينة ، كما يصح قول القائل : ( له علي (4) عشرة إلا تسعة ) و : ( أكرم الناس إلا الجهال ) وإن كان العالم واحدا ، اتفاقا ، من غير نقل خلاف من أحد ، مع أنه لا يصح أن يقول : ( له علي عشرة ) و : ( أكرم الناس ) ، وفسر العشرة بواحد ، والناس بزيد مثلا .
  وثانيا : بأنا لا ندعي صحة استعمال العام في واحد مخصوص من أفراده ، أو في اثنين أو في (5) ثلاثة أو نحو ذلك ، بل المراد بالتخصيص إلى الواحد والاثنين ونحو ذلك : أن يكون العام مستعملا في المعنى الكلي ، ولكن يكون الحكم المتعلق بالعام متعلقا بواحد من أفراده أو إثنين أو نحو ذلك ، بسبب المخصص .
  والفرق ظاهر بين استعمال العام في الواحد المخصوص ، وبين تعلق الحكم


(1) المستصفى : 2 / 91 ، المحصول : 1 / 400 ، المنتهى : 120 .
(2) معارج الاصول : 90 .
(3) معالم الدين : 110 ، والعبارة فيه : وفسره .
(4) كلمة ( علي ) : ساقطة من الاصل ، اثبتناها من باقي النسخ .
(5) كلمة ( في ) : زيادة من ط .

الوافية في اصول الفقه ـ 127 ـ
  بالواحد المخصوص من أفراده ، فنقول : لو قال ( أكلت كل رمانة في البستان إلا الحامض ) ويكون الحلو واحدا ، فهو صحيح ، بخلاف ما لو فسر قوله : ( كل رمانة ) بواحدة حلوة .
  وكذا يصح لو قال (1) : ( أخذت كل ما في الصندوق من الذهب إلا الدمشقيات ) ويكون غير الدمشقي دينارا واحدا .
  وكذا الحال في باقي المخصصات ، من الشرط والصفة وغيرهما .
  ثم لا يخفى ما في مذهب من منع من التخصيص إلى الواحد ، فإن ثمرة هذه المسألة (2) إنما تظهر : إذا ورد نص عام ، له مخصص يخصصه إلى الواحد ، ويكون مستجمعا لشرائط جواز العمل ، وحينئذ : فكيف يجوز للمانع طرح هذا النص لاجل ما ذكره من الاعتبارات الواهية ؟ ! .
  ولو كان هذا النص بحيث لا يوجب مخصصه تخصيصه إلى الواحد ، بل يحتمل الاكثر ، فظاهر عدم جواز القول بأنه مخصص إلى الواحد ، لان التخصيص خلاف الاصل ، فلا يجوز إلا بقدر الضرورة .
  ثم لا يخفى عليك مما مر : أن الاستدلال على المطلوب بتصحيح علاقة المجاز ـ كما مر ـ كان مما شاة وعلى طريق التنزل (3) ، وإلا : فالحق أن العام المخصوص إنما هو مستعمل في معناه الحقيقي الذي هو العموم ، والمخصص إنما أخرج البعض عن الحكم المتعلق به ـ سواء خص بمتصل (4) : من شرط ، أو صفة ، أو غاية ، أو إستثناء ، أو نحوها ، أو بمنفصل : لفظي أو عقلي ـ لعدم الدليل (5) على المجازية ، مثلا قولنا : ( أكرم بني تميم إلى الليل ) أو : ( إن دخلوا


(1) في ط : ما لو قال .
(2) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : المسألتان .
(3) في ط : التنزيل .
(4) في ط : لمتصل .
(5) في ط : الدلالة .

الوافية في اصول الفقه ـ 128 ـ
  الدار ) (1) الحكم على كل واحد من بني تميم ، غايته أنه ليس في جميع الازمنة في الاول ، وليس على جميع الاحوال في الثاني ، وكذا : ( أكرم بني تميم الطوال ) الحكم على كل احد ولكن لا مطلقا بل إذا اتصف بالطول ، أو المراد : أكرم طوال بني تميم ، أي : بعضهم ، وهو يؤيد عمومه ، ولهذا يصح أن يقال : ( وأما القصار منهم فلا تكرمهم ) ، وكذا : ( أكرم بني تميم إلا الجهال منهم ) الحكم على كل واحد بشرط اتصافه بالعلم ، أو الحكم على كل واحد بعد إخراج الجهال منهم .
  وكذا الحال في المنفصل ، مثل : ( أكرم بني تميم ) ، ثم يقول : ( لا تكرم الجهال من بني تميم ) معناه : أكرم علماء بني تميم .
  ولا بد في المنفصل (2) أن تكون في الكلام الاول ، أو معه ـ قرينة مقالية ، أو حالية ، بها يطلع المخاطب على مراد المتكلم ، ولا يكفي المخصص إلا مع اتحاد المجلس ، أو عدم لزوم إفهام المخاطب قبل (3) وقت الحاجة والعمل .
  إذا عرفت هذا ، فاعلم أن العام المخصص : لا بد أن يكون الحكم فيه متعلقا بالامر الكلي ، إلا أنه لا يمتنع أن يكون هذا الكلي منحصرا في فرد أو فردين أو نحو ذلك ، فلذا حسن أن يقول : ( أكلت كل رمانة إلا الحامض ) ويكون الحلو منحصرا في واحد ، وقبح أن يقوله ، ويقول : إن المراد ب‍ ( كل رمانة ) : رمانة واحدة ، فلا تغفل .
  البحث الثاني :
  اختلف في جواز التمسك بالعام قبل البحث عن مخصصه (4) ، وفي مبلغ


(1) كذا في ط ، وفي أ وب : وان دخلوا الدار ، والاصل هنا مشوش .
(2) قوله ( في المنفصل ) : زيادة من ط .
(3) في ط : بعد .
(4) فقد ذهب البيضاوي إلى جواز الاستدلال بالعام ما لم يظهر المخصص ، ولم يوجب طلبه :

الوافية في اصول الفقه ـ 129 ـ
  البحث عنه .
  فقيل : يجب البحث حتى يحصل الظن بعدمه (1) .
  وقيل : حتى يحصل القطع (2) .
  والاكثر على عدم الجواز (3) ، حتى أنه نقل الاجماع عليه (4) ، وما استدلوا به عليه غير منقح .
  والاولى الاستدلال عليه : بأن إطاعة الله ، ورسوله ، والائمة عليهم السلام ، واتباعهم ـ لا تتحقق إلا بالعمل بمرادهم ، فلا بد من العلم أو الظن بمرادهم ، ولا يحصل في العام قبل البحث عن مخصصه (5) ، بل الظن بالتخصيص حاصل ، لشيوع التخصيص .
  والحاصل : أنه لا دليل على وجوب العمل بمدلولات الالفاظ بدون العلم أو الظن بأنها المراد ، والاطاعة الواجبة ونحوها لا تتحقق بدونهما ، ولا أقل من الشك في صدق الاطاعة والانقياد على منهاج الوصول : 87 ، وذهب إلى ذلك أيضا الصيرفي والارموي والبهاري كما في : فواتح الرحموت بهامش المستصفى : 1 / 267 ، وبهذا يعلم عدم استقامة ما فعله ابن الحاجب من حصر محل الخلاف بمبلغ البحث عن المخصص : المنتهى : 144 ، وقال العلامة الحلّي : ( ولا يجب في الاستدلال بالعام استقصاء البحث في طلب المخصص ) : تهذيب الوصول : 40 ، وقد فهم من كلامه هذا أنه يرى جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص مطلقا : معالم الدين : 119 ، ولكن يظهر مما ذكره في الرد على ابن سريج أن ذلك مشروط عنده بالظن بعدم المخصص ، على انه صرح في ( نهاية الوصول ) باختيار عدم جواز العمل بالعام قبل البحث عن المخصص : نهاية الوصول ورقة 100 / أ ( مصورة ).


(1) نسب ابن الحاجب هذا القول إلى الاكثر ، واختاره هو : المنتهى : 144 .
(2) وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني ، كما في المستصفى : 2 / 159 ، المنتهى : 144 .
(3) فقد ذهب إلى ذلك الشيخ الطوسي : عدة الاصول : 2 / 19 والمحقق الحلّي والمحقق الشيخ حسن ما لم يحصل الظن الغالب بعدم المخصص : معارج الاصول : 113 ، معالم الدين : 119 .
(4) حكى الاجماع الغزالي : المستصفى : 2 / 157 ، وابن الحاجب : المنتهى : 144 .
(5) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : مخصص .

الوافية في اصول الفقه ـ 130 ـ
  ذلك التقدير (1) ، فالاطاعة الواجبة لا تتحقق في البحث .
  وفيه نظر ، لمنع عدم حصول الظن في كل فرد ، ولا ينافيه ظن أصل المخصص ، لقلة المخرج غالبا بالنسبة إلى الباقي ، وحال الاجماع عندنا في مثل هذه المسائل غير خفي .
  ويمكن الاستدلال على الجواز : بأن علماء الامصار ـ في جميع الاعصار ـ لم يزالوا يستدلون في المسائل بالعمومات ، من غير ذكر ضميمة نفي المخصص ، ولو لم يصح التمسك بالعام قبل البحث عن المخصص ، لكان للخصم أن يقول : العام لا يكفي في إثبات هذه المسألة ، ولا علم لي ببحثك عن المخصص ، الذي يوجب انتفاؤه دخول هذا الفرد المتنازع فيه ، فيفحم المستدل عن إثباته على الخصم .
  وأيضا : الاصول الاربعماء‌ة (2) ـ التي كانت معتمد أصحاب الائمة عليهم السلام ـ لم تكن موجودة عند أكثر أصحابهم ، بل كان عند بعضهم واحد ، وعند البعض الاثنان ، والثلاثة ، والاربعة ، والخمسة ، ونحو ذلك ، والائمة عليهم السلام كانوا يعلمون أن كل واحد من أصحابهم ، يعمل في الاغلب بما عنده من الاصول ، ومعلوم أن البحث عن المخصص ، لا يتم بدون تحصيل جميع تلك الاصول ، فلو كان واجبا ، لورد من الائمة عليهم السلام أمر بتحصيل كل تلك الاصول ، ونهي عن العمل ببعضها ، إذ معلوم أن جل الاحكام من قبيل العمومات والمطلقات المحتملة للتقييد .
  فالمسألة محل التوقف .
  واعلم : أنه ـ على تقدير وجوب الفحص عن المخصص ، إلى أن يحصل القطع بعدمه ـ لا يجوز العمل بشيء من العمومات والمطلقات ، المجوزة


(1) أي تقدير عدم العلم والظن : ( منه رحمه الله ) .
(2) اقرأ بحثا موسعا عن : ( الاصول الاربعماء‌ة ) في : دائرة المعارف الشيعية / للسيد حسن الامين .

الوافية في اصول الفقه ـ 131 ـ
  للتخصيص ، حتى يفتش (1) عن مخصصه في جميع كتب الأخبار ، كالكتب الاربعة ، والخصال ، والعيون ، والعلل ، والامالي ، وغير ذلك ، من الكتب الاخبارية الموجودة في هذا العصر ، إذ لا يحصل القطع بعدم المخصص بدون ذلك ، وبعد التفتيش : يحصل القطع بالتكليف بالعام ، وإن كان تجويز وجود المخصص في الكتب غير الموجودة في هذا الزمان باقيا .
  وعلى تقدير الاكتفاء بالظن : يكفي ملاحظة الكتب الاربعة ، بل يكفي ملاحظة التهذيب والكافي ، بل لا يبعد الاكتفاء بالتهذيب ، لندرة وجود خبر مخصص في غير التهذيب مع تحقق عامه فيه ، ولا يكفي ملاحظة الكافي فقط (2) .
  وينبغي في فحص مخصص العام المتعلق بشيء من مسائل الطهارة ملاحظة كل واحد من أبوابها في التهذيب ، وكذا الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها ، سيما أبواب (3) الزيادات والنوادر في كل منها ، والاحسن ملاحظة الابواب المناسبة في الكتب الاخر ، أيضا ، فإن :
  في كتاب الطهارة : ما يتعلق بالنكاح ، وبالمكاسب ، وبالصلاة ، وبالصوم ، وبالطلاق ، وبالحج .
  وفي الصلاة : ما يتعلق برمضان ، وبالصوم ، وبالطهارة ، والاطعمة ، والمكاسب ، والنذر ، والميراث ، والزكاة ، والديات .
  وفي الزكاة : ما يتعلق بالصلاة ، والصوم ، والميراث ، والمكاسب ،


(1) في أ : نقيس .
(2) لقد صنفت بعد عصر المؤلف مجاميع حديثية كبرى تحملت أعباء هذه المهمة ، وكفت الفقهاء مؤنة الفحص هذه ، كوسائل الشيعة للشيخ الحرّ العاملي ، ثم المستدرك عليه للشيخ النوري ، والوافي للفيض الكاشاني ، وجامع احاديث الشيعة للسيد البروجردي ، حيث جمع في هذه المصنفات شتات جميع الأحاديث في محل واحد ، تحت عناوين الابواب المناسبة .
(3) كذا في أ ، وفي سائر النسخ : باب .

الوافية في اصول الفقه ـ 132 ـ
  والخمس ، والجهاد ، والضمان ، والفطرة ، والجزية ، والنكاح ، والشهادة .
  وفي الصوم : ما يتعلق بالصلاة ، والنذر ، والطهارة ، والحج ، والحدود ، والكفارات ، والطلاق .
  وفي الحج : من الزكاة ، والجهاد ، والصلاة ، والصوم ، والطهارة والمكاسب ، والذبائح ، والعقيقة ، والاجازة .
  وفي المزار : من الطهارة ، والصوم ، والصلاة ، والاطعمة. وفي الجهاد : من الجزية ، والزكاة .
  وفي الديون وتوابعه : من الزكاة ، والوصية ، والمكاسب ، والاقرار ، والشهادة ، والميراث ، والنكاح .
  وفي القضايا : من الصلاة ، والصلح ، والطلاق ، والضمان ، والحدود .
  وفي المكاسب : من الحج ، والخمس ، والطهارة ، والقضايا ، والجزية ، والوصايا ، والنكاح ، والضمان .
  وفي النكاح : من الميراث ، والطلاق ، والنذر ، والاطعمة ، والمكاسب ، والتدبير ، والقضايا ، والعتق ، والطهارة ، والحدود ، والجزية .
  وفي الطلاق : من الصوم ، والعتق ، والمكاسب ، والشهادة ، والوصية ، والنكاح ، واليمين ، والديات ، والميراث ، والحدود .
  وفي العتق وتوابعه : من المكاسب ، والطلاق ، والميراث ، والزكاة ، والنذر ، والصلاة ، والنكاح ، والوصية ، والشهادة ، والاقرار ، والقضاء ، والديون ، والضمان ، والحجر .
  وفي الايمان وتوابعه : من العتق ، والصدقة ، والطلاق ، والكفارات ، والحج ، والنكاح ، والصوم ، والجهاد ، والقضايا .
  وفي الصيد والذباحة : من الطهارة ، والصلاة ، والزكاة ، والمكاسب ، والنكاح ، والديات ، والشهادة .
  وفي الوقوف : من المكاسب ، والقضاء ، والتدبير .

الوافية في اصول الفقه ـ 133 ـ
  وفي الوصية : من الاقرار ، والقضايا ، والديون ، والضمان ، والنكاح ، والعتق ، والزكاة ، والحج ، والطهارة ، والصوم ، والذباحة ، والمكاسب ، والميراث .
  وفي الفرائض : من الديات ، والنكاح ، والقضايا ، والوصايا (1) ، والطلاق ، والحدود ، والعتق ، والقصاص ، والزكاة ، والخمس ، والكفارة ، والضمان .
  وفي الحدود : من القضايا ، والطلاق ، والنكاح ، والايمان ، والديات ، والاطعمة ، والمكاسب ، والطهارة ، والاشربة ، والذبائح ، والاقرار ، والزكاة ، والديون .
  وفي الديات : من القضايا ، والجزية ، والميراث ، والعتق ، والصلاة ، والكفارات ، والصوم ، والضمان ، والنكاح ، والمكاسب .
  وقد تكفل بجميع ذلك وغيره ، الفهرست الذي جعلته على التهذيب ، وهو من أهم الاشياء لمن يريد الفقه والترجيح ، ولم يسبقني اليه أحد ، والحمد لله .
  البحث الثالث :
  إذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر ، فإما أن يكونا من الكتاب ، أو من السنة ، أو العام من الكتاب والخاص من السنة ، أو بالعكس ، فهذه أربعة أقسام .
  وعلى كل تقدير : فإما أن يكونا قطعيين ، أو ظنيين ، أو العام قطعيا والخاص ظنيا ، أو بالعكس ، فهذه ستة عشر قسما .
  وعلى كل تقدير : فالقطعية والظنية : إما بحسب المتن فيهما ، أو بحسب السند فيهما ، أو بحسب المتن في العام وبحسب


(1) في ب ، والربا ، بدل : والوصايا .

الوافية في اصول الفقه ـ 134 ـ
  السند في الخاص ، أو بالعكس ، فهذه أربعة وستون قسما .
  وعلى كل تقدير ، فالتنافي : إما بين منطوقيهما ، أو مفهوميهما ، أو منطوق العام ومفهوم الخاص ، أو بالعكس ، فهذه ماء‌تان وستة وخمسون قسما .
  وعلى كل تقدير : فإما أن يكون العام والخاص مقترنين ، أو العام مقدما والخاص مؤخرا ، أو بالعكس ، أو كلاهما مجهولي التاريخ ، أو العام فقط ، أو الخاص فقط ، فهذه ألف وخمسماء‌ة وستة وثلاثون قسما .
  والخاص المؤخر : إما بعد وقت العمل ، أو قبله ، فهذه ألف وسبع ماء‌ة وإثنان وتسعون قسما .
  وقد وقع الخلاف في كثير من هذه الاقسام ، في جواز مقاومة الخاص للعام ، وفي كونه مبنيا أو ناسخا .
  وتحقيق الحق في كل واحد (1) على التفصيل ، مما يفضي إلى غاية التطويل (2) ، فنقول : المراد بالظني : ما دل الدليل على حجيته (3) شرعا ، كخبر العدل ، وكذا المفهوم ، المراد به ـ ههنا ـ : ما دل الدليل على اعتباره ، وسيجيء تفصيله إن شاء الله تعالى .
  إذا عرفت هذا ، فاعلم أن كل خاص ، علم وروده بعد وقت العمل بالعام في الكتاب والاخبار النبوية ، فالظاهر : أنه ناسخ لحكم (4) العام في مورد ذلك الخاص ، لقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة من غير داع أصلا.


(1) في أ وب : في كل واحد واحد .
(2) انظر تفصيل بعض هذه الابحاث في : الذريعة : 1 / 315 / 323 ، عدة الاصول : 1 / 153 ، المستصفى : 2 / 137 / 152 ، المحصول : 1 / 440 ـ 447 ، معارج الاصول : 98 / 99 ، نهاية الوصول ورقة 109 / ب ـ 111 ب ( مصورة ) ، تهذيب الوصول : 45 / 46 ، معالم الدين : 142 / 147 .
(3) في أ : حجته .
(4) في ط : بحكم .

الوافية في اصول الفقه ـ 135 ـ
  أللهم ، إلا أن يكون المتكلم عالما بتعذر حكم هذا العام في مورد ذلك الخاص ، فإن الظاهر حينئذ أن الخاص مبين (1) ـ كما في صورة تقديمه مطلقا ـ وهذا (2) هو الوجه في اختصاص التقسيم ـ إلى ما بعد وقت العمل ، وما قبله ـ بالخاص المتأخر في قولنا : ( والخاص المؤخر : إما بعد وقت العمل أو قبله ) .
  وما عدا ذلك : فالظاهر بيانية (3) الخاص للعام ، وتخصيص العام بالخاص في أي قسم كان من الاقسام المذكورة .
  ومنع السيد المرتضى (4) ، والشيخ (5) ، وجماعة من أصحابنا (6) ، ومن العامة (7) : تخصيص الكتاب بخبر الواحد مطلقا (8) .
  وتوقف بعضهم (9) ، وإليه يميل المحقق ، بناء‌ا على عدم ثبوت حجية خبر الواحد على الاطلاق (10) .
  وفصل بعضهم في كل خاص ظني عارض عاما قطعيا ، فقال : إن


(1) في أ : بين .
(2) كلمة ( هذا ) : زيادة من ط .
(3) في أ : مباينة .
(4) الذريعة : 1 / 281 ، حيث قال : ( على أنا لو سلمنا ان العمل بها لا على وجه التخصيص واجب قد ورد الشرع به ، لم يكن في ذلك دلالة على جواز التخصيص بها ) .
(5) عدة الاصول : 1 / 135 .
(6) فهو مذهب كل من منع حجية خبر الواحد. وقد تقدم من المصنف التنصيص عليهم في ص 158 .
(7) وهو قول المعتزلة، كما في المنخول : 174 ، وجماعة من المتكلمين كما في : معارج الاصول : 96 .
(8) وأكثر العامة على جوازه ( فالمنقول عن الائمة الاربعة الجواز مطلقا ، واختاره الامام ـ أي الغزالي ـ واتباعه ، منهم البيضاوي وبه قال امام الحرمين وطوائف وبته الآمدي ) ، كما في الابهاج : 2 / 171 وبذلك صرح الغزالي في ص 174 من المنخول ، واليه أيضا ذهب الفخر الرازي : المحصول : 1 / 432 ، وابن الحاجب : المنتهى : 131 ، واختار الجواز منا العلامة الحلّي مصرحا بوقوعه : تهذيب الوصول : 44 / 45 ، والمحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 140.
(9) وهو القاضي أبوبكر الباقلاني ، كما في : المنخول : 174 ، والمنتهى : 131 .
(10) معارج الاصول : 96 .

الوافية في اصول الفقه ـ 136 ـ
  كان العام خاص من قبل بدليل قطعي ـ متصلا كان ، كالاستثناء ، والشرط ، والغاية ، ونحوها ، أو منفصلا ـ فيجوز تخصيصه مرة اخرى بهذا الظني ، وإلا فلا (1) ، لضعف العموم في الاول ، وقوته في الثاني (2) .
  والاولى : التوقف في تخصيص القرآن بخبر الواحد ، للشك في وجوب اتباع ما يفهم من ظاهر القرآن على الاطلاق ، وحجية خبر الواحد على الاطلاق .
  أما القرآن فلامور : الاول : تجويزنا كون عمومات القرآن ـ حين نزولها ـ مقترنة بقرائن يظهر المقصود بها للمخاطبين في ذلك الوقت ، ومع ذلك التجويز ، فلا يعلم حجية تلك الظواهر بالنسبة إلينا .
  الثاني : لزوم طرح أكثر الأخبار المروية في كتبنا الاخبارية ، مما ورد (3) في تفسير الآيات وفي الاحكام ، يظهر ذلك لمن تتبع الكتب الاربعة وغيرها ، سيما الكافي وتفسير علي بن إبراهيم وعيون أخبار الرضا ، فإن ثلثيها (4) ـ بل أربعة أخماسها ـ مما يخالف الظاهر الذي يفهم بحسب الوضع اللغوي ، كما فسر ( الشمس ) ب‍ : النبي صلى الله عليه وآله ، و( النهار ) ب‍ : علي بن أبي طالب عليه السلام ، و( الليل ) ب‍ : فلان (5) ، وفسر ( السكارى ) ب‍ : سكر النوم (6) ، وغير .


(1) وهو قول عيسى بن أبان ، كما في : المحصول : 1 / 432 ، والمنتهى : 131 .
(2) وقال الكرخي : ان كان قد خص بدليل منفصل صار مجازا ، فيجوز ذلك : وان خص بدليل متصل أو لم يخص أصلا لم يجز ، كذا ذكر في المحصول : 1 / 432 .
(3) في ط : مما يورد .
(4) في أ : ثلثها .
(5) انظر الأحاديث بذلك في : الكافي 8 / 50 ح 12 ، وتفسير فرات بن ابراهيم الكوفي : 212 / 213 ، وتأويل الآيات الظاهرة : 777 .
(6) الكافي : 3 / 299 ح 1 ، وفي ص 371 ح 15 ، التهذيب : 3 / 258 ح 722 .

الوافية في اصول الفقه ـ 137 ـ
  ذلك ، مما هو أكثر من أن يحصى (1) .
  الثالث : الروايات التي تدل على حصر علم القرآن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليهم السلام : منها : ما رواه الكليني ، عن الصادق عليه السلام : ( إنما يعرف القرآن من خوطب به ) (2) .
  ومنها : ما رواه في كتاب الروضة ، بسنده عن أبي عبدالله عليه السلام ، في حديث طويل : ( واعلموا أنه ليس من علم الله ، ولا من أمره : أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ، ولا رأي ، ولا مقائيس ، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء ، وجعل للقرآن ، ولتعلم القرآن ، أهلا ، لا يسع أهل علم القرآن ، الذين آتاهم الله علمه ، أن يأخذوا فيه بهوى ، ولا رأي ، ولا مقائيس ، أغناهم الله تعالى عن ذلك بما آتاهم من علمه ، وخصهم به ، ووضعه عندهم ، كرامة من الله أكرمهم بها ، وهم أهل الذكر ، الذين أمر الله هذه الامة بسؤالهم ) الحديث (3) .
  ومنها : ما رواه في الاصول ، بسنده ( عن الصادق عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : من عمل بالمقائيس ، فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس بغير علم ـ وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه ـ فقد هلك وأهلك ) (4) واختصاص علم ذلك في الائمة عليهم السلام ، ظاهر .
  والظاهر : أن ( المحكم ) ما أريد منه ظاهره ، و( المتشابه ) ما اريد منه غير ظاهره ـ لا ما ذكروه في كتب الاصول (5) من : أن ( المحكم ) ما له ظاهر ، و


(1) في أ وط : من أن يعد ويحصى .
(2) الكافي : 8 / 312 ح 485 كذا ورد الحديث في الكافي ، ولكن في نسخ كتابنا هذا : ( إنما يعلم القرآن إلى آخره ) .
(3) الكافي : 8 / 5 / 6 .
(4) الكافي : 1 / 4 / 3 باب النهي عن القول بغير علم / ح 9 .
(5) المستصفى : 1 / 106 ، المنتهى : 47 .

الوافية في اصول الفقه ـ 138 ـ
  ( المتشابه ) ما لا ظاهر له ، كالمشترك ـ لقوله تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة . . . ) الآية (1) ، إذ اتباع المتشابه بالمعنى الذي ذكروه ، غير معقول .
  ومنها : ما رواه بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام ـ في حديث طويل ، يدعي فيه اختصاص العلم بالاحكام به ـ : ( فما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية من القرآن إلا أقرأنيها ، وأملاها علي ، فكتبتها بخطي ، وعلمني تأويلها ، وتفسيرها ، وناسخها ، ومنسوخها ، ومحكمها ، ومتشابهها ، وخاصها ، وعامها ، ودعا الله أن يعطيني فهمها ، وحفظها ... ) الحديث (2) .
  ومنها : ما رواه بسنده (3) عن بريد بن معاوية (4) ، عن أحدهما عليهما السلام ، في قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) (5) فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الراسخين في العلم ، قد علمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله ، وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله .
  والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم ، فأجابهم الله تعالى بقوله : ( يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) (6) والقرآن خاص وعام ، ومحكم ومتشابه ، وناسخ ومنسوخ ، فالراسخون في العلم يعلمونه ) (7) .
  ومنها : ما رواه ( عن سلمة بن محرز ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام


(1) آل عمران / 7 .
(2) الكافي : 1 / 64 باب اختلاف الحديث / ح 1 ، ورواه الصدوق أيضا في إكمال الدين واتمام النعمة : 284 / 285 .
(3) في ط : باسناده .
(4) كذا في المصدر ( الكافي ) ، وفي النسخ : عن معاوية بن عمار ، بدل : بريد بن معاوية .
(5) آل عمران / 7 .
(6) آل عمران / 7 .
(7) الكافي : 1 / 213 كتاب الحجة / باب الراسخين في العلم هم الائمة (ع) / ح 2 .

الوافية في اصول الفقه ـ 139 ـ
  يقول : إن من علم ما أوتينا : تفسير القرآن وأحكامه ، وعلم تغيير الزمان وحدثانه . . . ) الحديث (1) .
  ومنها : ما رواه ، عن الصادق عليه السلام ـ في حديث طويل ـ :
  ( أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعون منا . . . ) الحديث (2) .
  ومنها : ما رواه في تفسير : ( إنا أنزلناه ) (3) عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : فكذلك لم يمت محمد إلا وله بعيث ونذير ، قال : فإن قلت : لا ، فقد ضيع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من في أصلاب الرجال من امته ، قال : وما يكفيهم القرآن ؟ قال : بلى ، إن وجدوا له مفسرا ، قال : وما فسره رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قال : بلى ، قد فسره لرجل واحد ، وفسر للامة شأن ذلك الرجل ، وهو علي بن أبي طالب . . . ) الحديث (4) .
  ومنها : ما رواه الشيخ ، بسنده عن علي عليه السلام قال : ( يا أيها الناس اتقوا الله ولا تفتوا الناس بما لا تعلمون ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال قولا آل منه إلى غيره ، وقد قال قولا من وضعه [ في ] (5) غير موضعه كذب عليه .
  فقام عبيدة ، وعلقمة ، والاسود ، واناس منهم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، فما نصنع بما قد خبرنا به في المصحف ؟ قال : يسأل عن ذلك علماء آل محمد عليهم السلام ) (6) .
  ومنها : ما ورد (7) أن تفسير القرآن بالرأي غير جائز ، حتى قال الطبرسي


(1) الكافي : 1 / 229 كتاب الحجة / باب انه لم يجمع القرآن كله إلا الائمة (ع) / ح 3 .
(2) الكافي : 2 / 402 كتاب الايمان والكفر / باب الضلال / ذيل الحديث الاول.
(3) القدر / 1 .
(4) الكافي : 1 / 250 ـ كتاب الحجة / باب في شأن ( انا انزلناه في ليلة القدر ) / ح 6 .
(5) كلمة ( في ) : وردت في كل النسخ ، إلا أن المصدر خال منها .
(6) التهذيب : 6 / 295 ح 823 .
(7) في أ : رواه .

الوافية في اصول الفقه ـ 140 ـ
  في مجمعه : ( واعلم أن الخبر قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن الائمة القائمين مقامه عليهم السلام : أن تفسير القرآن ، لا يجوز إلا بالاثر الصحيح ، والنص الصريح ، وروت العامة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال : ( من فسر القرآن برأيه ، فأصاب الحق ، فقد أخطأ ) قالوا : وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي ، كسعيد بن المسيب ، وعبيدة السلماني ، ونافع ، وسالم بن عبدالله ، وغيرهم ) (1) انتهى كلامه .
  وأما الشك في حجية خبر الواحد على الاطلاق :
  فلان (2) عمدة أدلة حجيته : الاجماع ، والاجماع فيما نحن فيه غير متحقق ، لما عرفت من الاختلاف .
  ولورود الروايات بطرح (3) ما خالف القرآن :
  كرواية السكوني : ( عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه ) (4) .
  ورواية عبدالله بن أبي يعفور : ( قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن اختلاف الحديث ، يرويه من نثق به ، ومنهم من لا نثق به ؟ قال إذا ورد عليكم حديث ، فوجدتم له شاهدا من كتاب الله عزوجل ، أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلا فالذي جاء‌كم به أولى به ) (5) .
  وصحيحة أيوب بن الحرّ : ( قال : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو


(1) مجمع البيان : 1 / 13 الفن الثالث .
(2) في ط : فإن .
(3) في ط : بترك .
(4) الكافي : 1 / 69 كتاب فضل العلم / باب الاخذ بالسنة وشواهد الكتاب / ح 1 .
(5) الكافي : 1 / 69 ح 2 .

الوافية في اصول الفقه ـ141 ـ
  زخرف ) (1).   وصحيحة هشام بن الحكم ، وغيره : ( عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال خطب النبي صلى اللله عليه وآله وسلم بمنى ، فقال : أيها الناس ، ما جاء‌كم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاء‌كم يخالف كتاب الله فلم أقله ) (2) .
  ومؤثقة أيوب بن راشد : ( عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ) (3) .
  ويمكن الجمع : بحمل هذه الأخبار على الأخبار النبوية (4) التي روتها (5) العامة .
  أو حمل المخالفة على ما إذا كان مضمون الخبر مبطلا لحكم القرآن بالكلية ، والتخصيص بيان لا مخالفة (6) .
  أو المراد بطلان الخبر المخالف للقرآن ، إذا علم تفسير القرآن بالاثر الصحيح ، إذ لا شك في بطلان المخصص إذا كان إرادة العموم من القرآن معلوما بالنص الصريح ، والمخالفة بدون ذلك غير معلومة لما عرفت .
  وإن كان تأويل الأخبار الاولة ايضا ممكنا ، بأن العلم بكل القرآن منحصر في الائمة عليه السلام لكن الظاهر : أنه خلاف ما اعتقده علماؤنا الاولون ، قال ابن بابويه ـ في كتاب معاني الأخبار في باب معنى العصمة ـ : ( قال أبوجعفر مصنف هذا الكتاب : الدليل على عصمة الامام : [ أنه ] لما كان كل كلام ينقل عن قائله ، يحتمل وجوها من التأويل ، و[ كان ] أكثر القرآن


(1) الكافي : 1 / 69 ح 3 .
(2) الكافي : 1 / 69 ح 5 .
(3) الكافي : 1 / 69 ح 4 .
(4) كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : على النبوية .
(5) في ب : دونها .
(6) في ط : لا مخالف للقرآن .

الوافية في اصول الفقه ـ 142 ـ
  والسنة مما أجمعت (1) الفرق على أنه صحيح ، لم يغير ، ولم يبدل ، ولم يزد [ فيه ] ، ولم ينقص [ منه ] ، محتملا لوجوه كثيرة من التأويل ـ وجب أن يكون مع ذلك مخبر صادق معصوم من تعمد الكذب والغلط ، ينبئ عما عنى الله ورسوله في الكتاب والسنة على حق ذلك وصدقه ، لان الخلق مختلفون في التأويل ، كل فرقة تميل مع (2) القرآن والسنة إلى مذهبها ، فلو كان الله تبارك وتعالى تركهم بهذه الصفة من غير مخبر عن كتابه صادق [ فيه ] ، لكان قد سوغهم الاختلاف في الدين ، ودعاهم اليه ، إذ أنزل كتابا يحتمل التآويل ، وأمرهم بالعمل بها ، فكأنه قال : تأولوا واعملوا ، وفي ذلك إباحة العمل بالمتناقضات ، ولما استحال ذلك على الله ، وجب أن يكون مع القرآن والسنة في كل عصر ـ من يبين عن (3) المعاني التني عناها الله بكلامه ، دون ما تحتمله ألفاظ القرآن من التأويل ، ويبين عن (4) المعاني التي عناها رسول الله صلى الله عليه وآله في سنته (5) وأخباره ، دون التأويلات التي تحتملها ألفاظ الأخبار المروية عنه صلى الله عليه وآله ) (6) .
  وروى الكليني في الصحيح : ( عن منصور بن حازم ، قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه ، بل الخلق يعرفون بالله ، قال : صدقت. قلت : إن من عرف أن له ربا ، فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا ، وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل ، فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة ، وأن لهم الطاعة المفترضة وقلت للناس أليس تعلمون أن رسول


(1) كذا في أ وب والمصدر ، وفي الاصل وط : اجتمعت .
(2) في ب وط : معنى ، بدل : مع ، ولعله الاولى .
(3) و (4) كذا ، في المصدر ، وفي النسخ : من .
(5) في ط : سنة ، وفي المصدر : سنة .
(6) معاني الأخبار : 133 / 134 ، وما وضعناه من هذا النص بين معقوفين فهو اضافة من المصدر لم ترد في متن كتابنا هذا .

الوافية في اصول الفقه ـ 143 ـ
  الله صلى الله عليه وآله كان هو الحجة من الله على خلقه ؟
  قالوا : بلى ، قلت : فحين مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان الحجة فقالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن ، فإذا هو يخاصم به المرجي ، والقدري ، والزنديق الذي لا يؤمن به ، حتى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم ، فما قال فيه من شيء كان حقا ، فقلت لهم : من قيم القرآن ؟
  فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم ، وحذيفة يعلم ، قلت : كله ؟ قالوا : لا .
  فلم أجد أحدا يقال إنه يعرف ذلك كله إلا عليا عليه السلام ، وإذا كان الشيء بين القوم ، فقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : أنا أدري ، فأشهد أن عليا عليه السلام كان قيم القرآن وكانت طاعته مفترضة ، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن ما قال في القرآن فهو حق ، فقال : رحمك الله ) (1) .
  وأيضا : فإن الظن الحاصل بعموم الالفاظ المعدودة في ألفاظ العموم ، مما يشكل طرح خبر الواحد به .
  ويضعف ظن عمومها كثرة الاختلاف الواقع فيها ، حيث ذهب بعضهم إلى أنه لم يوضع للعموم لفظ أصلا (2) وذهب بعضهم إلى اشتراكها لفظا ، وبعضهم معنى ، وتوقف بعضهم (3) ، كما مر .
  وحينئذ ، فطرح خبر الواحد (4) الذي يجب العمل به لولا المخالفة ، بمجرد ظن ضعيف حاصل من الاعتبارات والاستقراء‌ات الناقصة ، في غاية الجرأة .


(1) الكافي 1 / 168 / 169 كتاب الحجة / باب الاضطرار إلى الحجة / ح 2 ، وأورده أيضا في / باب فرض طاعة الائمة (ع) ، ح 15 ص 188 / 189 باختلاف يسير .
(2) انظر ادلتهم ومناقشتها في : المستصفى : 2 / 45 .
(3) المستصفى : 2 / 36 / 37 و46 ، المنتهى : 103 .
(4) في أ وب وط : الخبر الواحد .

الوافية في اصول الفقه ـ 144 ـ
  واحتج من ذهب إلى عدم تخصيص القرآن بخبر الواحد : [ أ ] بأن القرآن قطعي ، وخبر الواحد ظني ، والظني لا يعارض القطعي (1) .
  ويرد عليه :
  أولا : أن التخصيص إنما هو في الدلالة ، وقطعية المتن غير مجد ، والدلالة ظنية ، كما مر (2)
.   وثانيا : بمنع ظنية خبر الواحد ، بل هو أيضا قطعي من جهة الدلالة .
  وثالثا : بمنع أن الظني لا يعارض القطعي ، إذا كان الدليل الدال على حجية ذلك الظنى قطعيا .
  [ ب ] وباستلزام امتناع النسخ بخبر الواحد امتناع التخصيص به ، للاشتراك في مطلق التخصيص (3) .
  والجواب : منع علية المطلق للجواز ، بل هي التخصيص الخاص الافرادي ، لا الازماني (4) ، والسر : أن الاول مبين ، لا الثاني .
  واحتج الذاهب إلى تقديم الخبر : بأن فيه جمعا بين الدليلين ، بخلاف العمل بالعام فإنه يوجب إلغاء (5) الخاص بالمرة (6) .
  والجواب :
  أولا : منع حجية الخبر حينئذ .
  وثانيا : بمنع وجوب الجمع بين الدليلين ، أو أولويته ، إذا كان الجمع مخرجا للدليل القطعي عن معناه الحقيقي .


(1) عدة الاصول : 1 / 135 ، المستصفى : 2 / 115 ، المحصول : 1 / 434 ، المنتهى : 131 .
(2) معالم الدين : 141 ، وقريب منه في : معارج الاصول : 96 .
(3) المحصول : 1 / 434 .
(4) كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : لا الزماني .
(5) في أ : القاء .
(6) المحصول : 1 / 432 ، معالم الدين : 141 .

الوافية في اصول الفقه ـ 145 ـ
  الباب الثالث في الادلة الشرعية وفيه فصول :

الوافية في اصول الفقه ـ 147 ـ
  الفصل الاول : في الكتاب :
  ووجوب اتباعه ، والعمل به ، متواتر ومجمع عليه ، وقد أشبعنا الكلام فيه (1) في البحث المتقدم .
  وقد وقع الخلاف في تغييره :
  فقيل : إن فيه زيادة ونقصانا ، وبه روايات كثيرة ، رواها الكليني (2) ، وعلي بن إبراهيم في تفسيره (3) .
  والمشهور : أنه محفوظ ومضبوط كما أنزل ، لم يتبدل ولم يتغير ، حفظه


(1) في ط : عليه .
(2) الكافي 8 / 50 ح 11 ، وص 183 ح 208 ، وص 290 ح 437 و438 و439 و440 ، وص 377 ح 568 ، وص 368 ح 569 و570 و571 .
(3) تفسير علي بن إبراهيم القمّي / المجلد الثاني ص 295 ، حديث أبي بصير في تفسير الآية 29 / الجاثية ، وكذا في ص 349 حديث أبي عبد الرحمن السلمي ، وحديث أبي بصير ، في تفسير الآية 56 / الواقعة ، وكذا في ص 367 حديث ابن أبي يعفور في تفسير الآية 11 / الجمعة ، وفي ص 451 : ( قال رسول الله : لو أن الناس قرأوا القرآن كما انزل الله ما اختلف اثنان ) ولكن هذه الروايات ونظائرها ساقطة إما سندا وإما دلالة ، انظر تفصيل القول في ابطالها وعدم دلالتها على وقوع التحريف في القرآن : البيان في تفسير القرآن : 245 / 254 .

الوافية في اصول الفقه ـ 148 ـ
  الحكيم الخبير ، قال الله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (1) .
  والحق : أنه لا أثر لهذا الاختلاف ، إذا الظاهر تحقق الاجماع على وجوب العمل بما في أيدينا ، سواء كان مغيرا أو لا ، وفي بعض الأخبار تصريح بوجوب العمل به إلى ظهور القائم من آل محمد عليهم السلام (2) .
  ثم اعلم ـ أيضا ـ أنه وقعت اختلافات كثيرة بين القراء ، وهم جماعة كثيرة ، وقدماء العامة اتفقوا على عدم جواز العمل بقراء‌ة غير السبعة أو العشرة المشهورة (3) ، وتبعهم من تكلم في هذا المقام من الشيعة أيضا (4) ، ولكن لم ينقل دليل ، يعتد به على وجوب العمل بقراء‌ة هؤلاء دون من عداهم .
  وتعلق بعضهم في القراء‌ات السبع ، بما رواه الصدوق في الخصال ، بسنده عن ( حماد بن عثمان ، قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : إن الأحاديث تختلف عنكم ؟ قال : فقال : إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، وأدنى ما للامام أن يفتي على سبعة وجوه ، ثم قال : ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ) ) (5) .
  ولا يخفى عدم الدلالة على القراء‌ات السبع المشهورة ، مع أنه قد روى الكليني ، في كتاب فضل القرآن ، روايات منافية لها : منها : رواية زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : ( إن القرآن واحد ،


(1) الحجر / 9 .
(2) ما عثرنا عليه في هذا الصدد من الأخبار المغياة بظهور القائم (ع) انما هو ما يتعلق بالقراء‌ة ، كالحديث الآتي : ( فقال أبوعبدالله (ع) كف عن هذه القراء‌ة ، إقرأ كما يقرء الناس حتى يقوم القائم ... ) ، وغيره : الكافي : 2 / 633 كتاب فضل القرآن / باب النوادر / ح 23 .
(3) الاتقان : 1 / 258 النوع 22 ، التهميد : 141 ، فواتح الرحموت ( بهامش المستصفى : 2 / 15 .
(4) التبيان : 1 / 7 ، و: مجمع البيان / المقدمة / الفن الثاني ، و : التذكرة : 1 / 115 ، ومنتهى المطلب : 1 / 273 ، والذكرى : 187 في التفريع على المسألة الخامسة .
(5) الخصال : 2 / 358 ح 43 ، والآية من سورة : ص / 39 .

الوافية في اصول الفقه ـ 149 ـ
 نزل من عند واحد ، ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة ) (1) .
  وصحيحة الفضيل بن يسار ، : ( قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام : إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : كذبوا ، أعداء الله ، ولكنه نزل على حرف واحد ، من عند الواحد ) (2) .
  ولا بحث لنا في الاختلاف الذي لا يختلف به الحكم الشرعي.
  وأما فيما يختلف به الحكم الشرعي : فالمشهور : التخيير بين العمل بأي قراء‌ة شاء العامل (3) .
  وذهب العلامة إلى رجحان قراء‌ة عاصم بطريق أبي بكر ، وقراء‌ة حمزة (4) .
  ولم أقف لهم وله على مستند يمكن الاعتماد عليه شرعا.
  فالاولى : الرجوع فيه إلى تفسير حملة الذكر ، وحفظة القرآن ، صلوات الله عليهم أجمعين ، إن أمكن ، وإلا فالتوقف ، كما قال أبوالحسن عليه السلام : ( ما علمته فقل ، وما لم تعلمه فها ـ وأهوى بيده إلى فيه ـ ) (5) ، والامر فيه سهل (6) ، لعدم تحقق محل التوقف .


(1) الكافي 2 / 630 ـ كتاب فضل القرآن / باب النوادر / ح 12 .
(2) الكافي : 2 / 630 ح 13 .
(3) تقدم ذكر مصادر ذلك آنفا .
(4) منتهى المطلب : 1 / 273 كتاب الصلاة / البحث الرابع في القراء‌ة / مسألة : ( وتبطل الصلاة لو أخل بحرف واحد ... ) / الفرع السادس .
(5) المحاسن للبرقي : 213 ، الكافي : 1 / 57 كتاب فضل العلم / باب البدع والرأي والمقاييس / ح 13 .
(6) في ط : العمل .