وهو كالاذن في الفعل ، أمر مشترك بين الاباحة والندب والوجوب .
  فالاباحة : مثل ( واذا حللتم فاصطادوا ) (1) .
  والندب : مثل ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض ) (2) .
  والوجوب : مثل ( فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) (3) .
  لنا : تبادر رفع المنع من الفعل .
  والظاهر أنها مجاز في هذا المعنى ، والتبادر لاجل القرينة ، وهي مسبوقية الصيغة بالمنع المحقق أو المحتمل ، وتعليقها على زوال علة المنع في البعض .
  وأيضا : إجراء أدلة الوجوب والندب لا يتصور فيما نحن فيه ، لانه فرع فهم الطلب من (4) الصيغة ، وفرديتها لمفهوم الامر ، مع أنها ليست كذلك فيما نحن فيه (5) .
  البحث الثاني :
  اختلفوا في دلالة صيغة الامر على الوحدة والتكرار على أقوال :
  ثالثها ـ وهو الحق ـ : عدم دلالتها على شيء منهما .
  لنا : تبادر مجرد طلب الفعل من الصيغة ، من غير فهم شيء من الوحدة والتكرار منها (6) ، كالزمان والمكان وغيرهما من المتعلقات (7) ، والمنكر مكابر .


(1) المائدة / 2 .
(2) الجمعة / 10 .
(3) التوبة / 5 .
(4) في ط : عن .
(5) عبارة ( فيما نحن فيه ) : زيادة من ب .
(6) المحصول : 1 / 238 .
(7) الذريعة : 1 / 100 ، معالم الدين : 53 .

الوافية في اصول الفقه ـ 76 ـ
  وأيضا : لو دلت على التكرار لعمت الاوقات ، لعدم الاولوية (1) ، وهو باطل (2) للاجماع على خلافه .
  وما قيل : بأنها لو لم تكن للتكرار لما تكرر الصوم والصلاة وغيرهما ، ولما كانت مماثلة لصيغة النهي ، حيث اقتضت التكرار ، ولاستلزامها إياها بالنظر إلى الضد ، وتكرار اللازم يستدعي تكرار (3)الملزوم .
  فهو باطل ، لان تكرر (4) ما يتكرر من العبادات ، إنما هو لدليل آخر ، كتعليقه على موجب يتكرر .
  وأيضا : التكرار على هذا النحو مما لا يتصور أن يكون مفهوما من مجرد صيغة الامر .
  وأيضا : ينتقض بما لا يتكرر كالحج ونحوه .
  والثاني : قياس ، وفي اللغة (5) ، ومع الفارق ، إذ النهي يقتضي انتفاء الحقيقة ، والامر اثباتها .
  والثالث : باطل ، لما سيجيء من عدم الاستلزام .
  وبعد التسليم : فالنهي هنا تابع للامر في التكرار وعدمه ، لترتبه عليه ، والقائل بالمرة يتمسك هنا بتحقق الامتثال بالمرة (6) ، ولا يخفى أنه لا ينافي كونها لمجرد الطلب ، لاصالة براء‌ة الذمة .


(1) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : لعدم الاولية .
(2) المحصول : 1 / 239 ، معارج الاصول : 66 .
(3) كذا في أ ، وفي سائر النسخ : تكرار .
(4) كذا في ط ، وفي الاصل وب : تكرير ، وفي أ : تكرر .
(5) في ط : قياس في اللغة .
(6) عدة الاصول : 1 / 74 .

الوافية في اصول الفقه ـ 77 ـ
  تذنيب (1) :
  الحق أن الامر المعلق على شرط أو صفة ، لا يتكرر بتكررهما (2) إلا اذا كانت الشرطية قضية كلية ، مثل : ( كلما جاء‌ك زيد فأكرمه ) ، أو كان الشرط أو الصفة علة موجبة (3) ، مثل : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) (4) ، ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) (5) .
  ووجه الثاني ظاهر ، ولنا على الاول : أن السيد إذا قال لعبده : ( إن دخلت السوق ، أو إذا دخلت السوق ، فاشتر لحما ) (6) فترك الشراء في المعاودة لا يوجب الذم ، وهو ظاهر (7) .
  ولكن أكثر الاوامر المعلقة الواقعة في الاحكام مما يتكرر بتكرر الشرط لفهم العلية غالبا ، ولذا توهم البعض أن ( إذا ) تفيد العموم عرفا ، وإن لم تفده لغة .
  البحث الثالث :
  اختلفوا في دلالة صيغة الامر على الفور أو التراخي ، على أقوال (8) :


(1) في أ وط : تذييل .
(2) عدة الاصول : 1 / 76 ، المحصول : 1 / 243 .
(3) المحصول : 1 / 246 ، تهذيب الاصول : 22 .
(4) المائدة / 6 .
(5) المائدة / 38 .
(6) في ط : فاشتر لنا لحما .
(7) الذريعة : 1 / 115 ، المحصول : 1 / 243 ، معارج الاصول : 67 .
(8) فقد ذهب السيد المرتضى إلى أن الامر المطلق مشترك بينهما : الذريعة : 1 / 132 ، وذهب الشيخ الطوسى إلى انه يقتضي الفور : العدة : 1 / 85 ، وبه قالت الحنفية ، كما في المحصول : 1 / 247 ، المنتهى : 94 ، والحنابلة ، كما في المنتهى : 94 .

الوافية في اصول الفقه ـ 78 ـ
  ثالثها : أنها لا تدل على شيء منهما (1) وهو الحق ، إلا أن الاقوى وجوب التعجيل في الامر المجرد عن القرائن ، فههنا أيضا مقامان : الاول : عدم الدلالة على الفور ولا على التراخي .
  ولنا فيه : أن المتبادر من الامر ليس إلا طلب الفعل من غير فهم شيء من الاوقات والازمان منه ، وهو ظاهر (2) .
  الثاني : وجوب المبادرة إلى امتثال الفعل المأمور به ، وليس المراد بالفور ـ في المقام الثاني ـ المبادرة بالفعل في أول أوقات الامكان ، بل ما يعد به المكلف الفاعل عرفا مبادرا ومعجلا ، وغير متهاون ومتكاسل (3) ، وهذا أمر يختلف بحسب اختلاف الآمر والمأمور والفعل المأمور به ، مثلا : إذا أمر المولى عبده بسقي الماء ، فبتأخيره ساعة تفوت الفورية ، ويعد العبد متهاونا .
  وإذا أمره بالخروج إلى مصر (4) بعيد الغاية ـ كالهند ـ فبتأخر اسبوع بل شهر لا تفوت الفورية ، ولا يعد متهاونا .
  والدليل عليه من وجوه : الاول : أن جواز التأخير على تقديره ليس إلى (5) غاية معلومة ، إذ لا دلالة للصيغة على غاية معلومة ، ولو استفيدت (6) الغاية من أمر خارج ، يخرج عن محل


(1) ذهب اليه الشافعي ، كما في : المنتهى : 94 ، واختاره الفخر الرازي : المحصول : 1 / 247 ، والمحقق الحلّي : معارج الاصول : 65 ، وابن الحاجب : المنتهى : 94 ، والعلامة الحلّي : تهذيب الوصول : 22 : والمحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 56 .
(2) انظر مصادر البحث السابق .
(3) كذا الظاهر ، وفي النسخ : متكاهل .
(4) كذا في ب ، وفي سائر النسخ : سفر .
(5) في ط : ليس له .
(6) كذا في ط ، وفي الاصل وأ : استفاد ، وفي ب : استفادة .

الوافية في اصول الفقه ـ 79 ـ
  النزاع ، لانه يصير من قبيل المؤقت ، والكلام في غيره (1) .
  وما يقال من أن كل أمر ـ على هذا ـ يكون مؤقتا ، فلا يجب الفور في شيء أصلا ، لان الغاية هي ظن الموت ، فإذا حصل ذلك الظن ، تصير العبادة مضيقة .
  فهو باطل :
  لان (2) ظن الموت قلما يحصل ، وعلى تقديره : لا دليل على اعتبار هذا الظن شرعا حتى يمكن الحكم به بتضييق عبادة ثبت من الشرع توسعتها .
  وعلى تقدير التسليم : فبعد حصول هذا الظن ، قلما يتمكن المكلف من الامتثال ، إذ حصول هذا الظن في صحة من الجسم وكمال من العقل ، من خوارق العادة ، بل هو على تقديره إنما يكون عند شدة المرض ، وحينئذ لا يتمكن الانسان من فعل ما يحتاج إلى زيادة إتعاب النفس ، كالحج والصوم والجهاد ، ونحوها ، بل الصلاة أيضا إذا كانت كثيرة ، فنقول في الاستدلال : إن جواز التأخير لا إلى غاية ، يفضي إلى خروج الواجب عن الوجوب فيكون منتفيا (3) فيكون الفور واجبا ، والمقدمتان في غاية الظهور .
  وما يقال من : أن الواجب ما لا يجوز تركه على وجه ما ، فلا يخرج شيء من الوجوب ، إذ يصدق على كل واجب أنه بحيث لو حصل ظن المكلف بفوته ، وتمكن من الفعل ، فهو غير جائز الترك حينئذ .
  فهو من المزخرفات ، لان تحديد الوجه في هذا التعريف ، بحيث يسلم طرده من الندب بل من المباح ، مما لا يكاد يمكن إلا بالتكلفات الباردة البعيدة


(1) الذريعة : 1 / 133 ، المحصول : 1 / 250 .
(2) في ط : لا أن .
(3) في ط : منفيا .

الوافية في اصول الفقه ـ 80 ـ
  جدا .
  وأيضا : قد عرفت ما في غائية الظن بالموت (1) .
  وأيضا : كيف يتصور وصف العبادة بالوجوب باعتبار وصف نادر التحقق فيها ؟ ! وكذا ما يقال من ( أن الواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل ) والعزم هنا واجب ، لان بدلية العزم على الاطلاق توجب إخراج الواجب عن الحتمي .
  وأيضا : لا دليل على وجوب العزم ، ولا على بدليته ، على تقدير الوجوب .
  فإن قلت : هذا الدليل ينتقض بما لو صرح بجواز التأخير ، ولا نزاع في إمكانه .
  قلت : جواز التأخير ـ في جميع أزمنة صحة الجسم والتمكن من الفعل ـ لا نسلم أنه يمكن تصريح الحكيم (2) به ، لانه سفه ومناف لغرضه .
  نعم ، صراحة جواز التأخير على الاطلاق ، توجب أن يدخل في زمن جواز التأخير بعض الازمنة ، التي يعد التارك فيها متهاونا مضيعا ، لولاها .
  الثاني : أن التأخير بما ينافي الفورية المذكورة ، يعد في العرف تهاونا ومعصية (3) ، فيكون حراما ، فيكون الفور واجبا ، إذا كان الآمر ممن ثبت وجوب امتثاله .
  ولا يتوهم من هذا : صيرورة الفورية مدلولا لصيغة الامر ، فينافي ما في المقام الاول .
  لان قضاء العرف بذلك ، لا يلزم أن يكون لاجل وضع اللفظ له ، ولا يلزم أن يكون جميع صفات الشيء وآثاره وأحكامه ، من مدلولات لفظه .


(1) في ب : غايته ، وفي ط : غائته بالموت .
(2) في أ وط : الحكم .
(3) الذريعة : 1 / 132 ، المحصول : 1 / 251 .

الوافية في اصول الفقه ـ 81 ـ
  الثالث : إدعاء (1) السيد الاجل المرتضى ، الاجماع على أن الامر المطلق يحمل على الفور ، حيث قال في الذريعة ، في بحث أن الامر للوجوب ، أولا ؟ : ( ونحن ، وإن ذهبنا إلى أن هذه اللفظة مشتركة في اللغة بين الايجاب والندب ، فنحن نذهب إلى أن العرف الشرعي المتفق المستمر قد أوجب أن يحمل مطلق هذه اللفظة ـ إذا وردت عن الله تعالى أو عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ على الوجوب دون الندب ، وعلى الفور دون التراخي ، وعلى الاجزاء ) (2) ، واحتج عليه ب‍ ( أن الصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين ، حملوا كل أمر ورد في الكتاب والسنة مجردا ، على الفور ، والوجوب ، والاجزاء ، ولم ينكر أحد ذلك ، وإذا احتج واحد بأمر عليه ، لم ينكر خصمه ، بل يسلم منه ذلك ) (3) ثم قال : ( وأما أصحابنا معشر الامامية فلا يختلفون في هذا الحكم الذي ذكرناه ، وقد مر غير مرة : أن إجماعهم حجة ) (4) انتهى .
  فان قلت : الاجماع المنقول بخبر الواحد لا يفيد إلا الظن ، والمسألة من المطالب الكلية ، التي يجب تحصيل العلم بها .
  قلت : إفادة الظن من الخبر الواحد أكثري ، وقد يفيد القطع اذا احتف بالقرائن ، والظاهر كون هذا الخبر كذلك .
  ولو سلم ، فلا نسلم كون المسألة من المطالب العلمية ، بل هي من المطالب المتعلقة بمقتضيات الالفاظ ، وقد صرحوا بالاكتفاء بالظن فيها ، لعدم إمكان تحصيل القطع فيها .
  ولو سلم كونها من غير تلك المطالب ، فلا نسلم وجوب تحصيل القطع في غير المعارف الالهية.


(1) في ط : ادعى .
(2) الذريعة : 1 / 53 .
(3) هذا تلخيض لكلام السيد في الذريعة : 1 / 54 .
(4) الذريعة : 1 / 55 .

الوافية في اصول الفقه ـ 82 ـ
  ولو سلم ، فلا نسلم وجوب تحصيل القطع فيما لا يمكن فيه ذلك ، لانه تكليف بالمحال ، والمسألة كذلك ، إذ كل من القول بالفور والتراخي والاشتراك وطلب الماهية والتوقف ، مبني على الادلة الظنية ، كما لا يخفى .
  وأيضا : اشتراط القطع في الاصول مطلقا ، وسيما في اصول الفقه ـ كعدمه ـ مبني (1) على الادلة الظنية ، كالآيات القرآنية ونحوها ، والاصل ونحوه .
  فإن قلت : كلام المرتضى ـ كما فهمه بعض الاصحاب (2) ـ دال على أن الوجوب والفور والاجزاء ، من مدلولات الامر في الشرع ، فليس الاجماع واردا على المدعى .
  قلت : لا ظهور لكلام السيد في ذلك ، إذ هو ما زاد على القول بوجوب حمل الامر عليه ، ولم يذكر بأنه مما وضع له اللفظ في العرف الشرعي ، فتأمل .
  الرابع : قوله تعالى : ( فاستبقوا الخيرات ) (3) ، ولا شك أن فعل المأمور به من الخيرات .
  وقوله تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض ) (4) ، حيث إن مسارعة العبد إلى المغفرة غير متصورة ، لانها من فعل الله تعالى ، فالمراد ـ والله أعلم ـ سببها ، وفعل المأمور به سببها ، كما قال تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) (5) .
  وإضمار سبب خاص ـ كالتوبة ـ ترجيح بلا مرجح ، لا دليل عليه .
  وأيضا : حذف المفعول هنا ، إنما هو ليذهب ذهن السامع كل مذهب ،


(1) زاد في ط : أيضا .
(2) الظاهر انه صاحب المعالم كما يظهر ذلك مما ذكره في الرد على استدلال السيد المرتضى : معالم الدين : 58 .
(3) المائدة / 48 .
(4) آل عمران / 133 .
(5) هود / 114 .

الوافية في اصول الفقه ـ 83 ـ
  وكل سبب للمغفرة (1) .
  وما قيل : (2) : ( بأن ذلك محمول على أفضلية المسارعة والاستباق ، لا على وجوبهما ، وإلا لوجب الفور ، فلا تتحقق المسارعة والاستباق ، لانهما إنما يتصوران في الموسع دون المضيق ، ألا ترى أنه لا يقال لمن قيل له : ( صم غدا ) فصام ـ : إنه سارع إليه واستبق ، والحاصل أن العرف قاض بأن الاتيان بالمأمور به ، في الوقت الذي لا يجوز تأخيره عنه ، لا يسمى مسارعة واستباقا ، فلابد من حمل الامر في الآيتين على الندب ، وإلا لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما تقتضيه المادة ، وذلك ليس بجائز ، فتأمل ) (3) انتهى كلامه بعبارته .
  فوهنه وضعفه ظاهر ، لانه مبني على اشتباه المؤقت بغيره ، فإنه توهم أن الواجب الفوري يصير مؤقتا مضيقا كالصوم ، وليس كذلك ، إذ المؤقت ـ موسعا كان أو مضيقا ـ يصير قضاء‌ا بخروج وقته ، وقد يسقط به كصلاة العيد ، بخلاف غير المؤقت كإزالة النجاسة من المسجد ، وقضاء الصلوات اليومية على المشهور ، والحج ، ونحوها ، فإن فيه وإن حصل الاثم بالتأخير ، إلا أنه أداء لازم الفعل في كل وقت ، فالاستباق والمسارعة يتصوران في المضيق غير الموقت ، وقضاء العرف بما ادعاه فيه ظاهر البطلان .
  وما توهم من منافاة مادة الامر فيها لصيغته حينئذ ـ بناء‌ا على أن المادة تقتضي إمكان التأخير ، وصورته تقتضي المنع من التأخير ـ فهو باطل ، إذ المادة لا تقتضي إلا كون الفعل أداء‌ا ، وصحيحا على تقدير التأخير ، ولا تقتضي جواز التأخير ومشروعيته (4) .
  وهو في غاية الظهور ، ولا يبعد كون أمره بالتأمل ، إشارة إلى ما ذكرناه .



(1) الذريعة : 1 / 134 ، المحصول : 1 / 249 .
(2) والقائل هو صاحب المعالم تبعا لغيره ، ( منه ) .
(3) معالم الدين : 57 ـ 58 .
(4) في أ : وصورته تقتضي المنع من التأخير ومشروعيته ، بدل قوله : ولا تقتضي إلى آخره .

الوافية في اصول الفقه ـ 84 ـ
  واحتج من قال بالدلالة على الفور ، بأدلة : بعضها غير مناف لما مر ، وبعضها غير صحيح ، كالقياس على النهي ، وعلى الايقاعات ، ولزوم ثبوت بدل ـ هو العزم ـ على تقدير التراخي ، من غير دليل ، ونحو ذلك (1) .
  واحتج من قال بالتراخي ـ بمعنى جواز التأخير لا وجوبه ، إذ لم يذهب اليه أحد على الظاهر ـ بأن الامر المطلق لا توقيت فيه ، فلو أراد وقتا معينا لبينه ، فإذا فقدنا البيان ، علمنا أن الاوقات متساوية في إيقاعه (2) .
  والجواب :
  بالوفاق ، إن أراد نفي الدلالة على الفور .
  وإن أراد نفيه مطلقا ، فنقول : البيان بعدم تساوي الاوقات ، موجود في العقل والنقل كما مر .
  البحث الرابع :
  في أن الامر بفعل في وقت معين ، هل يقتضي فعله فيما بعد ذلك الوقت ـ على تقدير فوات ذلك الفعل في وقته ـ أو لا ؟ .
  فيه مذهبان : الاقتضاء (3) ، وعدمه .
  وقوي الاكثر الثاني (4) ، قائلين بأن القضاء لا يجب إلا بأمر مجدد ، نحو :


(1) تجدها في : الذريعة : 1 / 132 ـ 134 ، المحصول 1 / 249 ـ 251 ، معالم الدين : 56 ـ 58 ، وقد استدل الشيخ الطوسي بالاخير منها : العدة : 1 / 86 .
(2) حكاه في : الذريعة : 1 / 141 .
(3) ذهب اليه الحنابلة وبعض الفقهاء ، كما في : المنتهى : 98 .
(4) الذريعة : 1 / 116 ، العدة : 1 / 77 ، المستصفى : 2 / 11 ، المحصول : 1 / 324 ، المعارج : 75 ، تهذيب الوصول : 30 .

الوافية في اصول الفقه ـ 85 ـ
  ( من نام عن صلاة (1) أو نسيها ، فليصلها إذا ذكرها ) (2) .
  لنا : أن الامر بصوم يوم الخميس ، لا إشعار فيه بوجوب صوم غير يوم الخميس ، ولا يقتضيه معنى (3) لاختلاف الاوقات ـ كالكيفيات ـ في المصلحة ، فقد تكون العبادة في وقت خاص لمصلحة (4) ، دون غيره من الاوقات (5) .
  احتجوا :
  [ أ ] بأن هناك مطلوبين : أحدهما الصوم ، والآخر إيقاعه في يوم الخميس ، فبفوت الثاني لا يسقط الاول ، إذ (6) لا يسقط الميسور بالمعسور (7) .
  والجواب : لا نسلم تعدد المطلوب ، بل هو الصوم المقيد بيوم الخميس ، فلا يمكن إيقاع هذا المطلوب في غيره .
  [ ب ] وبأن الدين المؤجل يسقط بالتأخير ، فكذا المأمور به (8) .
  والجواب : أن ضرب الاجل في الدين إنما هو لرفع الوجوب قبله ، لا لرفعه بعده ، وهو معلوم عادة ، والعقل يحكم بأن الغرض (9) في الدين متعلق بإحقاق الحق ، ولا مدخلية للاجل إلا لرفع تقاضي صاحب الحق قبله ، بخلاف المأمور به .
  على أنه قياس ، لا نقول به .


(1) في ط : من نام في وقت صلاة .
(2) المستصفى : 2 / 11 ، غوالي اللآلي : 1 / 201 / الفصل التاسع ح 17 .
(3) المنتهى : 98 .
(4) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : مصلحة .
(5) الذريعة : 1 / 117 ، العدة : 1 / 77 .
(6) كذا في ط : وفي سائر النسخ : ( و) بدل ( اذ ) .
(7) روى ابن أبي جمهور عن النبي صلى الله عليه وآله مرسلا : ( لا يترك الميسور بالمعسور ) غوالي اللآلي : 4 / 58 ح 205 .
(8) المستصفى : 2 / 11 .
(9) في ط : الفرض .

الوافية في اصول الفقه ـ 86 ـ
  هذا ، و (1) لكن التتبع يورث الظن بثبوت القضاء في كل مؤقت ، إذا كان واجبا لا مندوبا ، إذ لا يكاد يوجد في الاحكام ما تعلق به الامر في وقت إلا وثبت الامر بقضائه على تقدير فوته (2) ، غير صلاة العيدين والجمعة ونحوهما (3) .
  فالظن يحكم بأن منشأ تعلق الامر المجدد ، هو الامر الاول .
  وأيضا : إلحاق الفرد المجهول بالاعم الاغلب يوجبه .
  ولكن الحكم بمدركية هذا الظن للاحكام الشرعية مشكل ، والله أعلم .
  تذنيب :
  على ما اخترناه ـ من أن الامر للفور ـ لو أخر المكلف المأمور به عن الوقت الذي يتحقق فيه الفور ، فهل يجب عليه الاتيان به فيما بعد ذلك الوقت ؟ مع عدم القرينة على الاعتداد به فيه ، ولا على عدمه ؟
  فيه مذهبان (4) ، والاقوى وجوب الاتيان به فيما بعد .
  لنا : أنا لو خلينا وظاهر الاوامر المطلقة ، نحكم بجواز الاتيان بالمأمور به في كل وقت أداء‌ا (5) ، من دون ترتب الاثم على الاتيان به في وقت ما ، والادلة الدالة على الفور لا تقتضي إلا ترتب الاثم على التأخير ، وهو لا يوجب سقوط الفعل فيما بعد .
  والحاصل : أن الامر المطلق يقتضي بظاهره شيئين : الاول : أدائية (6)


(1) الواو زيادة من أ .
(2) في أ وط : فواته .
(3) كذا في أ ، وفي سائر النسخ : ونحوها .
(4) الذريعة : 1 / 131 ، معالم الدين : 59 .
(5) زاد في ب في هذا الموضع كلمة : وقضاء‌ا .
(6) في أ : دائمية .

الوافية في اصول الفقه ـ 87 ـ
  الفعل المأمور به في كل وقت ، والثاني : رفع (1) الاثم والحرج بالاتيان به في أي وقت من الاوقات ، وأدلة الفور إنما تقتضي صرفه عن ظاهره في الشيء الثاني دون الاول ، إذ لا منافاة بين الاعتداد بالفعل المأمور به في أي وقت أتى به ، وبين ترتب الاثم على التأخير به ، فلا يجوز صرف الامر عن ظاهره في كلا الشيئين من دون موجب .
  ولا يتوهم جريان الدليل في المؤقت ، لانه لا يقتضي الشيء الاول ، بل ولا الاعتداد بالمأمور به في كل وقت .
  نعم ، يبقى الاشكال في الامر المطلق ، إذا علم توقيته بوقت محدود (2) من خطاب آخر ، إذ لا يبعد (3) أن يقال : إن التوقيت مطلقا ظاهر في نفي الادائية والاعتداد به فيما بعد .
  والفرق بين الفورية والتوقيت : أن الوقت ـ في التوقيت ـ لابد أن يكون منشأ لمصلحة الفعل ، بخلاف الفورية ، فإن الوقت فيها (4) لا ارتباط له بالفعل ، إلا لاجل أن الفعل الزماني لابد وأن يكون في زمان ، حتى لو أمكن إيقاع الفعل لا في زمان ، لحصل (5) الامتثال .
  وكذا يبقى (6) الاشكال فيما يفيد الفور بالامر الاول ، كأن يقول : ( إفعل معجلا ، أو بسرعة ) ، فهل يجب الاتيان به فيما بعد وقت الفور حينئذ ، أو لا ؟ .
  أو يقول : ( إفعل ) بناء‌ا على أن الامر بنفسه يفيد الفور والاقرب الثاني ، لما مر في المؤقت ، إلا أنه لا يكاد يوجب في الاحكام .


(1) في أ : دفع .
(2) في ب : معلوم .
(3) في ط : ولا يبعد .
(4) كذا الظاهر ، وفي النسخ : فيه .
(5) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : يحصل .
(6) في ب : لا يبقى .

الوافية في اصول الفقه ـ 88 ـ
  الشرعية أمر فوري ، إلا وهناك قرينة على عدم السقوط فيما بعد .
  هذا ، وقد يورد في بعض كتب الاصول في بحث الامر مباحث اخرى ، رأينا عدم إيرادها هنا أولى : إما لان البعض سيجيء ذكره في مباحث الادلة العقلية ، مثل : بحث مقدمة الواجب ، واستلزام الامر بالشيء النهي عن الضد ، وبحث المفاهيم .
  وإما لكونه من المسائل الكلامية التي لا تليق بهذه الرسالة ، وإن كانت من المبادئ الفقهية ، مثل : صحة التكليف بفعل علم الآمر انتفاء شرطه ، مع جهل المأمور أو علمه أيضا ، ووجود الواجب الموسع والكفائي ، وامتناع تكليف ما لا يطاق ، وتعلق الامر بالمعدوم ، وتكليف الغافل والمكره ، ونحو ذلك مما يتعلق بمباحث العدل من علم الكلام .
  وإما لقلة فائدته ، مثل بحث الواجب التخييري ، وبقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ، وغير ذلك .

الوافية في اصول الفقه ـ 89 ـ
  المقصد الثاني : في النواهي وفيه مباحث :
  البحث الاول :   اختلفوا في مدلول صيغة النهي حقيقة ، على نحو اختلافهم في الامر (1) .
  والحق ههنا ـ أيضا ـ نظير ما مر (2) في الامر ، من أنها حقيقة في طلب الترك .
  ولكن تحمل نواهي الشرع على التحريم : لما مر في الامر .
  ولقوله تعالى : ( وما نهاكم عنه فانتهوا ) (3) ، وقد مر أن أوامر الشرع


(1) قال الغزالي : ( اعلم أن ما ذكرنا من مسائل الاوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة وزان من النهي عن العكس ) ، المستصفى : 2 / 24 والنظر : الذريعة : 1 / 174 ، المحصول : 1 / 338 ، المنتهى : 100 ، المعارج : 76 ، المعالم : 90 .
(2) في ب : يظهر مما مر .
(3) الحشر / 7 .

الوافية في اصول الفقه ـ 90 ـ
  محمولة على الوجوب .
  وقوله تعالى في مقام الذم والوعيد : ( ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ) (1) الآية .
  وغير ذلك ، نحو قوله تعالى في مقام الذم : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) (2) .
  وقوله تعالى : ( فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) (3) .
  البحث الثاني :
  الحق أن النهي الشرعي المجرد عن القرائن يجب حمله على الدوام : (4) لان حمل النهي المطلق على حصة معينة من الاوقات ، محدودة الاول والآخر ، من دون مرجح ، غير معقول .
  ولان العلماء لم يزالوا يستدلون على عموم التحريم بمطلق النهي .
  البحث الثالث :
  هل يجوز تعلق الامر والنهي بشيء واحد ، أو لا ؟ (5) .


(1) المجادلة / 8 .
(2) الانعام / 28 .
(3) الاعراف / 166 .
(4) الذريعة : 1 / 176 ، معالم الدين : 92 ، ونقله الفخر الرازي عن المشهور ، لكنه خالف فيه : المحصول : 1 / 338 ، ونسبه ابن الحاجب إلى المحققين : المنتهى : 101 ، كما خالف في ذلك العلامة في تهذيب الوصول : 33 ، وإن وافقهم على ذلك في كتابه نهاية الوصول على ما حكاه عنه المحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 92. (5) المحصول : 1 / 340 .

الوافية في اصول الفقه ـ 91 ـ
  والحق عدم الجواز (1) .
  واعلم أن للمسألة صورا :
  الاولى : أن يتعلق الامر الايجابي العيني ، والنهي التحريمي العيني ، بأمر واحد شخصي .
  ولا شك ولا نزاع لاحد في امتناعه ، بناء‌ا على امتناع التكليف بما لا يطاق (2) ، سواء كان منشأ تعلق الحكمين ذات ذلك الشيء أو وصفين لازمين له .
  أما لو أمكن اتصافه بعرضين مفارقين ، مع بقاء وحدته في الحالين ، فيجوز تعلق الامر باعتبار أحد الوصفين ، والنهي باعتبار الآخر ، فيجب حينئذ إيقاعه على الوصف الاول ، ويحرم إيقاعه موصوفا بالوصف الثاني ، كلطم اليتيم تأديبا ، وظلما ، والسجود لله ، ولغيره ، فإنه يختلف بالقصد والنية .
  الثانية : أن يتعلق الامر الايجابي التخييري ، والنهي التحريمي العيني بأمر شخصي ، بحيث يكون منشأ الوجوب والحرمة واحدا ، أو أمرين متلازمين .
  والحق امتناعه ، والظاهر أنه لا نزاع فيه أيضا ، وسيجيء ما يحققه .
  الثالثة : أن يتعلق الامر الحتمي ، والنهي كذلك ، كل واحد بكلي ، ولكن يكون بين الكليين العموم من وجه ، فيختار المكلف ما يندرج في كل منهما ، فهل يحصل الامتثال باعتبار الامر ، أو لا ؟ .
  فيه خلاف ، وقد مثل بالصلاة في الدار المغصوبة ، فإن الصلاة مأمور بها ، والغصب منهي عنه ، والصلاة في الدار المغصوبة فرد لكل منهما ، أما بالنسبة إلى الصلاة فباعتبار نفسها ، وأما بالنسبة إلى الغصب فباعتبار جزئها ، لان القيام على أرض الغير ، والسجود عليها ، مع عدم رضائه أو بدون إذنه ،


(1) المحصول : 1 / 340 .
(2) المحصول : 1 / 341 .

الوافية في اصول الفقه ـ 92 ـ
  تصرف متصف بالغصب ، بل هو نفس الغصب ، وكذا الحركات والسكنات ، إذ الكون ـ وهو شغل الحيز ـ جنس للحركة والسكون ، وجزئيتهما للصلاة تستلزم جزئيته .
  وقد وقع النزاع في صحة هذه الصلاة وبطلانها ، بناء‌ا على أنه هل تعدى الامر المتعلق (1) بمطلق الصلاة إلى هذا الفرد المتعلق (2) للنهي ؟ أو لا ؟ (3) .
  وهذه الصورة في الحقيقة ترجع إلى الصورة الثانية ، لان النهي عن الكلي نهي عن جميع جزئياته ، والامر به أمر بواحد من جزئياته ، فكل واحد (4) من جزئياته يصير واجبا تخييريا .
  والحق : امتناع تعلق الامر ـ العام (5) لجميع (6) الجزئيات المحصي لها (7) ـ بما هو فرد للمنهي عنه ، وأن الدعوى بينة ، غنية عن الدليل ، إذ امتناع كون الشيء الواحد مرادا ـ ولو على جهة التخيير ـ وغير مراد ـ بل مبغوضا ـ لشخص واحد ، في غاية الظهور .
  وتعلق الوجوب التخييري به ، يوجب الرخصة من الحكيم باختياره ، مع استلزامه حينئذ (8) امتناع الاطاعة في طرف النهي .
  وأيضا : هذا ينافي اللطف ، إذ المكلف حينئذ مقرب للمكلف إلى معصيته (9) ، كما لا يخفى .


(1) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : المطلق .
(2) في ط : المعين ، بدل : المتعلق .
(3) المحصول : 1 / 343 ، وقد ذهب الشيخ الطوسي إلى الاول : عدة الاصول : 1 / 100 .
(4) كلمة ( واحد ) : زيادة من ب .
(5) كذا في ب ، وفي سائر النسخ : امر العالم .
(6) كذا في أ ، وفي سائر النسخ : بجميع .
(7) كذا في الاصل وب ، وفي أ وط : بها .
(8) ( حينئذ ) : زيادة من أ وط .
(9) كذا في أ وب ، وفي الاصل : لا معصيته ، وفي ط : معصية .

الوافية في اصول الفقه ـ 93 ـ
  واختلاف الجهة غير مجد مع اتحاد المتعلق .
  احتج المخالف بوجهين (1) :
  الاول : أن السيد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ، ثم خاطه في ذلك المكان ، فإنا نقطع بأنه مطيع عاص ، لجهتي الامر والنهي .
  الثاني : أنه لو امتنع الجمع ، لكان باعتبار اتحاد متعلق الامر والنهي ـ إذ لا مانع سواه اتفاقا ـ واللازم باطل ، إذ لا اتحاد في المتعلقين (2) ، فإن متعلق الامر الصلاة ، ومتعلق النهي الغصب ، وكل منهما يتعقل انفكاكه عن الآخر ، وقد اختار المكلف جمعهما ، مع إمكان عدمه ، وذلك لا يخرجهما عن حقيقتيهما اللتين هما متعلقا الامر والنهي (3) حتى لا تبقيا مختلفتين .
  والجواب عن الاول :
  أولا : بمنع حصول الاطاعة على التقدير المذكور ، والسر في توهم هذا الحصول : أن غرض الآمر وفائدة الخياطة حاصلة على أي حال اتفقت الخياطة ، فيشتبه (4) حصول الغرض بحصول الاطاعة .
  وثانيا : بأن المتعلق في المثال المذكور مختلف ، فإن الكون ليس جزء‌ا من الخياطة ، بخلاف الصلاة ، وتحقيقه : أن الخياطة أمر حاصل من الحركات ، فهي بمنزلة المعدات له .
  ولا يمكن أن يقال : إن الصلاة ـ أيضا ـ أمر حاصل من الحركات


(1) حكاهما المحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 94 ـ 95 .
(2) في ط : للمتعلقين .
(3) عبارة ( اللتين هما متعلقا الامر والنهي ) : زيادة من ب ، وهي مثبتة في المصدر أيضا : المعالم 95 .
(4) في ب وط : فيشبه .

الوافية في اصول الفقه ـ 94 ـ
  والسكنات ، فهي الاذكار (1) الواقعة على الانحاء الخاصة .
  للاجماع على أن القيام ، ورفع الرأس من الركوع ، والسجود ، وملاصقة الجبهة بالارض ـ من أجزاء الصلاة وأركانها .
  لا يقال : اختلاف المتعلق غير مجد مع التلازم ، إذ تعلق النهي باللازم ، والامر بالملزوم ـ غير جائز ، ومطلق الكون من لواز مطلق الخياطة ، والكون في المكان المغصوب من لوازم الخياطة فيه ، كالكون مع الصلاة في الجزئية .
  لانا نقول ـ بعد تسليم أن الكون من لوازم الخياطة لا من لوازم الخياط ـ : إنا لا نسلم أن الكون في المكان المغصوب من لوازم الخياطة فيه ، بل الكون المطلق لازم لها ، وليس للكون الخاص مدخلية في تشخص الخياطة ، بل شخص الخياطة في المكان المغصوب يمكن حصوله في غير ذلك المكان ، بخلاف الصلاة ، فإن أشخاصها تتبدل بتبدل الاكوان في الاماكن المختلفة .
  وعن الثاني : أن اتحاد المتعلق لازم ، بملاحظة أن التكاليف المتعلقة بالماهيات ، متعلقة في الحقيقة بجزئياتها .
  الرابعة (2) : أن يتعلق الامر الايجابي الحتمي والنهي التنزيهي ، بأمر واحد شخصي ، وهذا ـ أيضا ـ غير جائز ، لما مر .
  الخامسة : أن يتعلق الامر الايجابي التخييري ، والنهي التنزيهي ، بأمر واحد شخصي ، كالصلاة في الحمام ، ونحوه من الاماكن المكروهة (3) ، وهذا أيضا ممتنع ، إذا كان المكروه بمعناه المعروف ، وهو راجحية (4) الترك ، فما تعلق به هذا النهي من العبادات ، فالظاهر بطلانه ما لم يدل دليل على صحته ، وما


(1) زاد في ط في هذا الموضع كلمة : الخاصة .
(2) أي : من الصور المذكورة لاجتماع الامر والنهي .
(3) الفقيه : 1 / 241 ح 725 ، الكافي : 3 / 390 باب الصلاة في الكعبة ... ح 12 ، المحاسن للبرقي : 365 ح 110 .
(4) في ب : ارجحية .

الوافية في اصول الفقه ـ 95 ـ
  دل الدليل على صحته ، يجب حمل النهي (1) فيه على غير معناه الحقيقي ، ولهذا اشتهر أن متعلق الكراهة ليس نفس العبادة ، بل أمر آخر ، كالتعرض للنجاسة ، أو لكشف العورة ، ونحو ذلك ، في كراهة الصلاة في الحمام ، فاختلف المتعلق .
  ويقولون : إن الحرمة غالبا تتعلق بالذات ، والكراهة (2) بالوصف .
  وهذا خلاف ظواهر النصوص ، الدالة على تعلق الكراهة بنفس الفعل ، مثل : ( لا تصل في الحمام ) ونحوه .
  والحق : هو ما اشتهر من أن الكراهة في العبادات ، بمعنى كونها (3) أقل ثوابا بنسبة خاصة .
  وتحقيقه : أن العبادة قد تكون بحيث لم يتعلق بها نهى ولا أمر ـ غير الامر الذي تعلق بأصلها ـ كالصلاة اليومية في البيت للبعيد عن المسجد ، أو عند المطر (4) ، نحو ذلك .
  وهذه ربما تتصف بالاباحة ، بمعنى عدم مرجوحية أوصافها وأجزائها (5) ، وعدم راجحيتها أيضا ـ غير الراجحية الناشئة من راجحية أصلها ـ فيقال : الصلاة اليومية في البيت مثلا مباحة .
  وقد تكون بحيث تعلق بها أمر آخر ، باعتبار اشتمالها أو اتصافها على أمر راجح أو به .
  وهذا الرجحان : قد ينتهي إلى حد الوجوب ، كالصلاة في المسجد مع نذر إيقاعها فيه ، فيجتمع حينئذ وجوبان ، وقد لا ينتهي إليه ، كالصلاة اليومية


(1) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : الكراهة .
(2) في ط : الكراهية .
(3) في ط : أنها .
(4) الفقيه : 1 / 377 ح 1099 .
(5) كذا في أ وط ، وفي الاصل وأ : أو أجزائها .

الوافية في اصول الفقه ـ 96 ـ
  في المسجد لا مع النذر ولا مع عذر مسقط للندب ، فيجتمع (1) حينئذ الوجوب مع الندب .
  وقد تكون بحيث يتعلق بها نهي بالاعتبار المذكور .
  وهذه المرجوحية : قد تنتهي إلى حد التحريم ، كصلاة الحائض ، والصلاة في الدار المغصوبة ، وغير ذلك ، وقد مر أنها تستلزم الابطال ، وقد لا تنتهي إليه ، وهذه أيضا تستلزم الابطال ، إن كان النهي باعتبار جزء ، أو وصف لازم ، لما مر في النهي التحريمي .
  فلا بد من حمل الكراهة على أقلية الثواب ، بمعنى كون العبادة ـ باعتبار الاشتمال أو الاتصاف المذكور ـ أقل ثوابا منها نفسها لو لم تكن كذلك ، بل كانت متصفة بالاباحة المذكورة ، فالصلاة في الحمام مكروهة ، بمعنى أنها أقل ثوابها منها في البيت ، لا في المسجد .
  وعلى هذا التحقيق لا يرد ما يقال : إن الكراهة بمعنى أقلية الثواب ، توجب كون الصلاة في جميع المساجد والمواضع ـ مكروهة ، غير المسجد الحرام ، لانها أقل ثوابا منها فيه .
  وقد علم مما مر صورة اجتماع الامر الايجابي معه ، ومع الندب ، ومع الاباحة ، بل صورة اجتماع الامر الندبي مع الايجاب ، والندب ، والاباحة ، والكراهة ، والتحريم ، فهذه ثلاث عشر صورة .
  تتميم :
  فإن قلت : كيف حكمت ببطلان العبادة ، عند فرديتها للمأمور به والمنهي عنه ؟ وحكمت باستثنائها عن بقية أفراد المأمور به في تعلق الامر ، ولم لا


(1) في ط : فيجمع .

الوافية في اصول الفقه ـ 97 ـ
  يجوز دخولها في المأمور به ، وخروجها عن المنهي عنه ؟ مثلا :
  الصلاة في الدار المغصوبة ، تكون صحيحة ، ويكون كل غصب منهيا عنه إلا الصلاة إذا كانت غصبا ، وأي فرق بين قولك : ( كل صلاة مأمور بها إلا اذا كانت غصبا ) ، وبين قولنا : ( كل غصب منهي عنه إلا اذا كان صلاة ) ؟! قلت : هذا الاحتمال (1) لا يخلو عن قرب ، سيما (2) مع ضميمة ما دل على صحة الصلاة المذكورة ، مثل قوله تعالى : ( إن الارض لله ) (3) ، وما ورد من أن الارض مهر لفاطمة الزهراء عليها السلام (4)إلا أن أصحابنا لم ينقلوا خلافا في بطلان الصلاة المذكورة.
  ولعل الوجه فيه : أن تعلق الامر بمثل العبادة المذكورة ، بطريق التخيير ، على ما مر ، وتعلق النهي بها ، بطريق الحتم والعين ، فيكون استثناؤها من الامر أولى من استثنائها من النهي ، إذ ظاهر (5) : أن الاهتمام بفعل فرد خاص من الواجب التخييري ، ليس مثل الاهتمام بترك الحرام العيني .
  أو الوجه فيه : أن العبادة اذا صارت محتملة لكل من الوجوب والتحريم ، رجح جانب التحريم ، لا لما قيل واشتهر من : أن دفع المفسدة أهم من جلب المنفعة ـ إذ هذا إنما يتم مع تعارض الندب والتحريم ، لا الواجب معه ، لان ترك الواجب أيضا كفعل الحرام مفسدة ـ بل لما ورد من التوقف عند تعارض الامر والنهي ، ومصداقه الكف .
  وأيضا : من تتبع ظهر عليه أن كل أمر مردد (6) بين الوجوب والتحريم ،


(1) كذا في أ وب وط ، وفي الاصل : احتمال .
(2) في ب : لا سيما .
(3) الاعراف / 128 .
(4) كشف الغمة : 1 / 472 ، المحتضر : 133 .
(5) في ط : الظاهر .
(6) كذا في أ ، وفي الاصل : أن كل مردد ، وفي ط : ان كل أمر تردد ، وفي ب : ان كل امر ورد .

الوافية في اصول الفقه ـ 98 ـ
  رجح الشرع جانب الكف عنه ، كصلاة الحائض في أيام الاستظهار ، وكف الوضوء عن الاناء‌ين (1) المشتبهين عند نجاسة أحدهما ، وغير ذلك .
  وقال السيد في الذريعة : ( وقد يصح أن تقبح من المكلف جميع أفعاله على وجه ، وتحسن على وجه آخر ، وعلى هذا الوجه يصح القول : بأن من دخل زرع غيره على سبيل الغصب ـ أن له الخروج عنه بنية التخلص ، وليس له التصرف بنية الفساد ، وكذلك من قعد على صدر حي ، إذا كان انفصاله منه يؤلم ذلك الحي كقعوده ، وكذلك المجامع زانيا ، له الحركة بنية التخلص ، وليس له الحركة على وجه آخر ) (2) .
  وقال في موضع آخر ، بعد الاستدلال على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة : ( وقد قيل في التمييز (3) بين الصلاة وغيرها ، في هذا الحكم : إن كل عبادة ليس من شرطها أن يتولى الفعل بنفسه ، بل ينوب فعل الغير مناب فعله ، أو ليس من شرطها أن تقع منه بنية الوجوب ، أو ليس من شرطها النية اصلا ، لم يمتنع في المعصية منها أن تقوم مقام الطاعة ، وهذا قريب ) (4) انتهى .
  ثم قال : ( وأما الضيعة المغصوبة ، فالصلاة فيها مجزية ، لان العادة جرت بأن صاحبها لا يحظر على أحد الصلاة فيها ، والتعارف يجري مجرى الاذن ، فيجب الرجوع إليه ) .
  وقال : ( فأما من دخل وليس بغاصب ، لكنه داخل الدار المغصوبة مختارا (5) ، فيجب أن لا تفسد صلاته ، لان المتعارف بين الناس أنهم يسوغون


(1) كف صاحبه عن مجاوزته إلى غيره : منعه ، وهو أصل المعنى ، انظر : معجم الافعال المتعدية بحرف : 315 ، هذا ، والمناسب أن تكون العبارة كما يلي : والوضوء بالاناء‌ين إلى آخره ، عطفا على المثال الاول.
(2) الذريعة : 1 / 178 .
(3) كذا في أ وط ، وفي الاصل وب : التميز .
(4) الذريعة : 1 / 193 .
(5) كذا في النسخ ، ولكن في المصدر : مجتازا .

الوافية في اصول الفقه ـ 99 ـ
  ذلك لغير الغاصب ، ويمنعونه في الغاصب ) (1) انتهى .
  ويفهم من كلامه الاول : أن الفعل الواحد يمكن أن يتصف بالوجوب والحرمة ، سيما في مثاله بالقعود على صدر الحي .
  وكلامه الثاني ظاهر في صحة الوجوب الكفائي في المكان المغصوب.
  واعلم أن الشهيد رحمه الله ، نقل في قواعده (2) ، عن السيد المرتضى : صحة الصلاة الواقعة على جهة الرياء ، وعدم ترتب الثواب عليها ، لكن تسقط المؤاخذة بفعلها (3) ، وهو يؤذن بتجويزه تعلق الامر والنهي بشيء واحد من جهتين ، إلا أن يقول : إن الرياء أمر غير الصلاة ، وفيه تأمل .
  ونقل الكليني في كتاب الطلاق ، عن الفضل بن شاذان : التصريح بصحة الصلاة في الدار المغصوبة ، حيث قال : ( وإنما قياس الخروج والاخراج [ للمعتدة الرجعية من بيتها ] (4) كرجل داخل دار قوم بغير إذنهم ، فصلى فيها ، فهو عاص في دخوله الدار ، وصلاته جائزة ، لان ذلك ليس من شرائط الصلاة ، لانه منهي عن ذلك ، صلى أو لم يصل ) (5) انتهى كلامه .
  وغرضه : أن ما كانت الصلاة سببا للنهي عنه (6) ، فاقترانه للصلاة مفسد لها ، كالصلاة في الثوب النجس ، وما كان النهي فيه عاما غير مختص بالصلاة ، فاقترانه غير مفسد ، كالصلاة في الثوب المغصوب ، وذكر أمثلة اخرى غيرها .
  ثم اعلم : أن هذه المسألة من المسائل العدلية من علم الكلام ، أوردتها هنا لنفعها في بعض مسائل هذا العلم ، فهي من المبادئ التصديقية ، وإيرادها


(1) الذريعة : 1 / 194 .
(2) القواعد والفوائد : 1 / 79 ـ الفائدة الثالثة .
(3) الانتصار : 17 .
(4) ما بين المعقوفين غير مثبت في نسخة ط ، كما ان المصدر الكافي خال منه .
(5) الكافي : 6 / 94 / كتاب الطلاق / باب الفرق بين من طلق على غير السنة .
(6) كلمة ( عنه ) : زيادة من أ .

الوافية في اصول الفقه ـ 100 ـ
  في الادلة العقلية أيضا غير بعيد ، إلا أنها لا يستدل بها إلا على نفي الحكم الشرعي ، كأصالة براء‌ة الذمة .
  البحث الرابع :
  اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهي عنه ، على أقوال :
  عدم الدلالة مطلقا ، نقله في المحصول عن أكثر الفقهاء (1) ، والآمدي عن أكثر المحققين (2) .
  والدلالة مطلقا (3) ، واختاره ابن الحاجب من العامة (4) ، والسيد المرتضى منا لكن قال : إن دلالته على الفساد شرعا لا لغة (5) ، واختاره الشهيد في قواعده (6) ، والمحقق الشيخ علي في شرح القواعد (7) ، بشرط عدم رجوع النهي إلى وصف غير لازم.
  ( واختاره بهذا الشرط الفخر الرازي في المعالم ، ونقله في الوجيز ، عن الشافعي ، ونقله الآمدي عن أكثر أصحاب الشافعي ، واختاره هو ) (8) .


(1) المحصول : 1 / 344 .
(2) الاحكام : 2 / 407 ، التمهيد : 292 .
(3) العدة : 1 / 101 ـ 102 .
(4) كذا حكى الإسنوي في التمهيد : 292 ، ولكن ابن الحاجب قد فصل بين النهي عن الشيء لعينه فيدل على الفساد شرعا لا لغة ، وبين النهي عن الشيء لوصفه ، وحكم في هذه الصورة بالفساد مطلقا : المنتهى : 100 ـ 101 ، وشرح العضد على المختصر : 1 / 209 ( المتن ) .
(5) الذريعة : 1 / 180 .
(6) القواعد والفوائد : 1 / 99 قاعدة 57 .
(7) المسمى ب‍ : جامع المقاصد : 2 / 116 .
(8) ما بين القوسين نص عبارة الإسنوي في التمهيد : 293 .