الوافية في اصول الفقه ـ 54 ـ
الوافية في اصول الفقه ـ 55 ـ
الوافية في اصول الفقه
للفاضل التوني
المولى عبد الله بن محمد البشروي الخراساني
المتوفى سنة 1071 ه
تحقيق
السيد محمد حسين الرضوي
الكشميري
الوافية في اصول الفقه ـ 57 ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على جزيل آلائه ، والشكر له على جميل نعمائه ، والصلاة والسلام على أشرف
(1) أصفيائه ، وأكرم أنبيائه ، محمد وآله .
أما بعد
(2) ، فهذه رسالة وافية ، وجملة شافية ، محتوية على تحقيق المهم من المسائل الاصولية ، سيما
(3) مباحث الادلة العقلية ، ومباحث الاجتهاد والتقليد ، وباب التراجيح.
وهي مشتملة على مقدمة وأبواب :
(1) زاد في الاصل ههنا كلمة : الانبياء .
(2) في أ وط : وبعد ، وهي ساقطة من ب .
(3) في ط : لا سيما .
الوافية في اصول الفقه ـ 59 ـ
المقدمة :
في تحقيق ما ينبغي العلم به قبل الشروع في المقصود ،
وفيها أبحاث :
الاول : الاصول ـ لغة ـ : ما يبنى عليه
(1) الشيء .
ومضافا إلى الفقه : هو العلم بجملة طرق الفقه إجمالا ، وبأحوالها ، وكيفية الاستدلال بها ، وحال المفتي والمستفتي
(2) .
الثاني : اللفظ إن استعمل فيما وضع له ، فهو حقيقة ، وإلا فمجاز ، والاول : إن كان استفادة المعنى منه
(3) بوضع الشارع ، فحقيقة شرعية .
وإن كان بوضع أهل اللغة ، فلغوية ، وإن كان بوضع طار غير الشرع ، فحقيقة
(1) في أ وب وط : يبتني ، بدل يبنى ، وفي الاصل : عليها ، بدل : عليه .
(2) قارن هذا التعريف بما جاء في الذريعة : 1 / 7 ، والمستصفى : 1 / 5 ، والمحصول : 1 / 12 ، والمعارج : 47 ، وتهذيب الوصول : 3 ، لترى إنفراده به وعدم متابعتهم فيما ذكروه من التعاريف .
(3) كذا في ب وط ، وفي الاصل وأ : عنه .
الوافية في اصول الفقه ـ 60 ـ
عرفية : عامة أو خاصة .
ولا ريب في وجود الاخيرتين .
وأما الشرعية : ففي وجودها خلاف
(1) ، والحق : وجودها .
لنا : تبادر الاركان المخصوصة من لفظ الصلاة ، والقدر المخرج من المال من لفظ الزكاة ، والقصد الخاص من لفظ الحج
(2) ، ونحو ذلك ، مع أن هذه الالفاظ موضوعة في اللغة لمعان اخر .
والتبادر من أمارات الحقيقة ،
فإن قلت : أردت التبادر في كلام الشارع ، أو المتشرعة ـ أعني الفقهاء ـ ؟ الاول ممنوع ، والثاني مسلم ، ولا يثبت به إلا الحقيقة العرفية .
قلت : إنكار التبادر في كلام الشارع ، مكابرة باللسان لما يحكم به الوجدان ، فإنه لا شك في حصول هذه المعاني في الأذهان من مجرد (3) سماع هذه الالفاظ في أي كلام كان .
غايته أنك تقول : إن هذا التبادر لاجل المؤانسة بكلام المتفقهة .
فنقول : هذا غير معلوم ، بل الظاهر أنه لكثرة استعمال الشارع هذه الالفاظ في هذه المعاني .
والحاصل : أنا نقول إن التبادر معلوم ، وكونه لاجل أمر غير الوضع ، غير معلوم ، فنحكم بالحقيقة ، وإلا لم تثبت أكثر الحقائق اللغوية والعرفية ، إذ احتمال كون التبادر بواسطة أمر خارج
(4) ، جار في الاكثر ،
واعلم : أن هذه المسألة قليلة الفائدة ، إذ صيرورة هذه الالفاظ حقائق
(1) الذريعة : 1 / 10 ، المحصول : 1 / 119 ، المنتهى : 19 ، معارج الاصول : 52 ، تهذيب الوصول : 13 ، معالم الدين : 34 .
(2) في أ : من لفظ الصوم والحج .
(3) في ب : بمجرد .
(4) في ب : بواسطة امر آخر ، وفي ط : بواسطة آخر.
الوافية في اصول الفقه ـ 61 ـ
في معانيها الشرعية في كلام الائمة الاطهار صلوات الله عليهم أجمعين مما يبعد النزاع فيه غاية البعد .
واستقلال القرآن والاخبار النبوية ـ المنقولة من غير جهة الائمة عليهم السلام ، بحكم ـ مما لا يكاد يتحقق بدون نص من الائمة عليهم السلام على ذلك الحكم .
الثالث : الاصل في اللفظ أن يكون مستعملا فيما وضع له حتى يثبت المخرج ، فإذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز ، رجحت الحقيقة .
وكذا إذا دار بينها
(1) وبين النقل ، أو التخصيص ، أو الاشتراك ، أو الاضمار .
ولكن إن وقع التعارض بين واحد من هذه الخمسة مع آخر منها ـ كما قيل
(2) في آية ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء )
(3) حيث إن الحكم بتحريم معقودة الاب على الابن من الآية موقوف على مجازية النكاح في الوطئ ، إذ على تقدير الاشتراك يجب التوقف ، كما يتوقف في حمل كل مشترك على واحد من معانيه بدون القرينة ـ فقد قيل : بتقديم
(4) المجاز على الاشتراك وغيره عدا التخصيص ، و : بتقديم
(5) الاشتراك على النقل ، وقيل : بالعكس ، و : بتقديم
(6) التخصيص على غيره ، و : بتساوي الاضمار والمجاز
(7) .
والاولى : التوقف في صورة التعارض ، إلا مع أمارة خارجية أو داخلية توجب صرف اللفظ إلى أمر معين ، إذ مما ذكروا في ترجيح البعض على البعض ، من كثرة المؤنة (8) وقلتها ، وكثرة الوقوع وقلته ، ونحو ذلك ، لا يحصل الظن بأن
(1) في ب : بينهما .
(2) التمهيد : 190 ، الابهاج : 1 / 329 ، شرح البدخشي : 1 / 386 .
(3) النساء / 22 .
(4 ـ 5 ـ 6) كذا في ب ، وفي سائر النسخ : بتقدم .
(7) شرح العضد : 1 / 50 ، شرح البدخشي : 1 / 388 ، تهذيب الوصول : 16 .
(8) في ط : المؤن .
الوافية في اصول الفقه ـ 62 ـ
المعنى الفلاني هو المراد من اللفظ في هذا الموضع .
وبعد تسليم الحصول ـ أحيانا ـ لا دليل على جواز الاعتماد على مثل هذه الظنون في الاحكام الشرعية ، فإنها ليست من الظنون المسببة
(1) عن الوضع .
الرابع : إطلاق المشتق ـ كاسم الفاعل والمفعول ونحوهما ـ على المتصف بمبدئه بالفعل حقيقة ، إتفاقا ، كالضارب لمباشر الضرب .
وقبل الاتصاف بالمبدأ ؟ المشهور : أنه مجاز ، وادعى جماعة الاتفاق عليه ، وقال صاحب الكوكب الدرّي : ( إطلاق النحاة يقتضي أنه إطلاق حقيقي )
(2) .
وأما بعد زوال المبدأ ، كالضارب لمن انقضى عنه الضرب ؟ ففيه أقوال :
أولها : مجاز مطلقا .
ثانيها : حقيقة مطلقا
(3) .
ثالثها : إن كان مما يمكن
(4) بقاؤه فمجاز ، وإلا فحقيقة (5) .
وتوقف جماعة كابن الحاجب
(6) والآمدي
(7) .
وذكر الرازي
(8) والآمدي
(9) والتبريزي ـ في اختصار المحصول (10) ـ وجماعة اخرى
(11) : أن محل الخلاف ما إذا لم يطرأ على المحل وصف وجودي
(1) في أ : المسببية ، وفي ط : المستثناة .
(2) الكوكب الدرّي : 233 .
(3) يشعر به كلام العلامة : تهذيب الوصول : 10 ، وكلام المحقق الكركي : رسائل المحقق الكركي : 2 / 82 .
(4) في أ : لا يمكن .
(5) حكاه ابن الحاجب : المنتهى : 25 .
(6) المنتهى : 25 .
(7) الاحكام : 1 / 48 ـ 50 .
(8) المحصول : 1 / 91 ، ويفهم هذا من جوابه على ( قوله رابعا ) .
(9) الاحكام : 1 / 50 .
(10) حكاه عنه الإسنوي : التمهيد : 154 .
(11) الابهاج : 1 / 229 .
الوافية في اصول الفقه ـ 63 ـ
يناقض المعنى الاول أو يضاده ، كالسواد مع البياض ، والقيام مع القعود ، ومع الطريان مجاز إتفاقا
(1) .
وفي تمهيد الاصول : ( إن النزاع إنما هو فيما اذا كان المشتق محكوما به ، كقولك : زيد مشرك
(2) ، أو قاتل ، أو متكلم ، فإن كان محكوما عليه ـ كقوله تعالى ( الزانية والزاني فاجلدوا ... )
(3) ، ( والسارق والسارقة فاقطعوا . . . )
(4) و( فاقتلوا المشركين ... ) (5) ونحوه ـ فإنه حقيقة مطلقا : سواء كان للحال أو لم يكن )
(6) .
والحق : أن إطلاق المشتق باعتبار الماضي حقيقة ، إذا (7) كان إتصاف الذات بالمبدأ أكثريا ، بحيث يكون عدم الاتصاف بالمبدأ مضمحلا في جنب الاتصاف ، ولم تكن الذات (8) معرضة عن المبدأ ، أو راغبة عنه ، سواء كان المشتق محكوما عليه أو محكوما به ، وسواء طرأ الضد أم لا (9) ، لانهم يطلقون المشتقات على المعنى المذكور من دون نصب القرينة ، كالكاتب والخياط والقارئ والمتعلم والمعلم ونحوها ، ولو كان المحل متصفا بالضد الوجودي كالنوم ونحوه ،
والقول : بأن الالفاظ المذكورة ونحوها كلها موضوعة لملكات هذه
(1) يلاحظ ان المصنف قد اعتمد في حكاية هذه الاقوال المذكورة على الإسنوي : التهميد : 154 .
(2) زاد في أ : أو قائم .
(3) النور / 2 .
(4) المائدة / 38 .
(5) التوبة / 5 .
(6) التمهيد : 154 .
(7) في ط : إن .
(8) في ب : بالذات .
(9) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : أولا.
الوافية في اصول الفقه ـ 64 ـ
الافعال (1) .
مما يأبى عنه الطبع السليم في أكثر الامثلة ، وغير موافق لمعنى مبادئها على ما في كتب اللغة .
وقال الشارح الرضي
(2) ، نقلا عن أبي علي والرماني (3) : ( إن اسم الفاعل مع اللام فعل في صورة الاسم ) قال : ( ونقل ابن الدهان ذلك أيضا عن سيبويه ، ولم يصرح سيبويه بذلك ، بل قال : الضارب زيدا بمعنى ضرب ) انتهى
(4) .
والحاصل : أن استعمال اسم الفاعل بمعنى الماضي في كلامهم أكثر من أن يحصى ، والاصل في الاستعمال الحقيقة ، وكذا غيره من المشتقات .
ومن فروع المسألة ما لو قال أحد : ( وقفت الشيء الفلاني على سكان موضع كذا ) فهل
(5) يبطل حق الساكن بالخروج عن الموضع مدة قليلة أو كثيرة ، على وجه الاعراض أو غير وجه الاعراض ؟
وقد عرفت التحقيق .
(1) في ب : الالفاظ .
(2) في أ : الشيخ الرضي .
(3) في ب : المازني ، وهو خطأ .
(4) شرح الكافية : 2 / 201 .
(5) في أ : قيل .
الوافية في اصول الفقه ـ 67 ـ الاول في الامر :
وفيه مباحث :
الاول : في أن صيغة الامر هل تقتضي الوجوب أو لا ؟ .
اختلف الناس في ذلك ، فقيل : إنها للوجوب
(1) ، وقيل : للندب
(2) ، وقيل : للقدر المشترك بينهما وهو الطلب
(3) ، وقيل : باشتراكها بينهما لفظيا (4) ، وقد تدرج الاباحة فيها (5) لفظيا أو معنويا
(6) باعتبار الاذن في الفعل ، وقد يدرج
(1) ذهب اليه الغزالي : المنخول : 107 ، والفخر الرازي : المحصول 1 / 204 ، والمحقق الحلّي : معارج الاصول : 64 ، والعلامة الحلّي : تهذيب الاصول : 21 ، والبيضاوي ، كما في الابهاج : 2 / 22 ، وابن الحاجب : المنتهى : 91 ، وشرح العضد : 1 / 191 ( المتن ) ، والمحقق الشيخ حسن : معالم الدين : 46 .
(2) ذهب اليه ابوهاشم ، كما في : شرح العضد 1 / 191 .
(3) ذهب اليه الجبائي ، حكاه عنه في : المنخول : 104 .
(4) ذهب اليه الشافعي ، حكاه عنه في : المستصفى : 1 / 426 ، وقال به السيد المرتضى أيضا : الذريعة : 1 / 53 .
(5) كذا في ط ، وفي النسخ : فيهما ، حكاه الإسنوي دون أن يسمي قائله : التمهيد
: 268 .
(6) كذا في ب ، وفي سائر النسخ : ومعنويا .
الوافية في اصول الفقه ـ 68 ـ
التهديد فيها لفظيا
(1) ، وقيل : بالوقف
(2) في الاولين
(3) ، وقيل للوجوب شرعا لا لغة (4) .
والحق : أنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، وهو الطلب ، ولكن دل الشرع على وجوب امتثال الاوامر الشرعية فيحكم بالوجوب عند التجرد عن قرائن الندب
(5) ، فههنا مقامان :
الاول : أنها حقيقة في الطلب ،
والدليل عليه من وجوه :
الاول : أن المفهوم من الصيغة ليس إلا طلب الفعل ، وربما لا يخطر بالبال الترك ، فضلا عن المنع عنه
(6) ، ولهذا عرف النحاة
(7) وأهل الاصول
(8) الامر بأنه : طلب الفعل على سبيل الاستعلاء أو العلو
(9) .
الثاني : ضعف دليل مثبتي الفصول المميزة ـ من الوجوب والندب ـ في
(1) قال الإسنوي في التمهيد : 268 : حكاه الغزالي في المستصفى ، ولكن في المستصفى : ( وقال قوم هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر كلفظ العين والقرء ) : المستصفى : 1/419 .
(2) في ط : بالتوقف .
(3) ذهب اليه الآمدي ، حيث قال ( وهو الاصح ) : الاحكام : 2 / 369 ، وابوالحسن الاشعري ، والقاضي الباقلاني ، كما في المنخول : 105 ، و: شرح العضد : 1 / 192 .
(4) اختلف في القائل بذلك ، للاختلاف في فهم كلمات الاصوليين ، ولعل المصنف أراد به قول الشافعي ، انظر : الابهاج : 2 / 25 ، وقد ذهب الشيخ الطوسي إلى انها تقتضي الايجاب إن صدرت عن الحكيم : العدة 1/63 ، وقد يكون هذا القول هو مراد من ذكر هذا الاحتمال والله العالم .
(5) الذريعة : 1 / 53 ، المنخول : 108 ، المنتهى : 91 .
(6) في ب : المنع من الترك .
(7) شرح المفصل : 7 / 58 .
(8) التمهيد : 265 ، معارج الاصول : 62 ، تهذيب الاصول : 20 .
(9) عبارة ( أو العلو ) ساقطة من أ ، ومع فرض وجودها تكون اشارة إلى الخلاف بين الاصوليين في اشتراط العلو ، أو اشتراط الاستعلاء ، أو عدم اشتراط شيء منهما ، انظر تفصيل هذه الاقوال وادلتها في : المحصول : 1 / 198 ـ 199 .
الوافية في اصول الفقه ـ 69 ـ
حقيقة صيغة الامر ، كما ستطلع عليه .
الثالث : كثرة ورود الامر في الأحاديث متعلقا بأشياء بعضها واجب وبعضها مندوب ، من دون نصب قرينة في الكلام ، وهذا غير جائز لو لم يكن حقيقة في القدر المشترك .
وكذا كثرة وروده متعلقا بالامور الواجبة وكذا بالمندوبة ، من دون نصب القرينة في الكلام .
لا يقال : على تقدير كون الصيغة حقيقة في القدر المشترك ، كيف يجوز استعمالها في الواجب
(1) أو الندب ، بدون القرينة ؟! إذ المجاز مما لابد له من القرينة ؟ !
لانا نقول : الصيغة ليست مستعملة إلا في الطلب ، وإنما يعرف كون متعلقه
(2) جائز الترك أو غير جائز الترك ، من موضع آخر
(3) ، فليست إلا مستعملة في معناها الحقيقي .
والقول باحتمال اقترانها بالقرينة حين الخطاب وخفائها علينا الآن ، مما يأبى عنه الوجدان ، لبعد خفائها في هذه المواضع على كثرتها ، ولاشتراك التكاليف بيننا وبينهم
(4) .
(1) كذا في النسخ ، والظاهر انه : الوجوب .
(2) كذا في أ ، وفي سائر النسخ : كون متعلق الصيغة .
(3) في ط : مواضع اخر .
(4) فان قلت : فالمنع من الترك والاذن فيه مراد للشارع ليكون داخلا فيما استعمل فيه الصيغة ، فيكون استعمال الصيغة في جل المواضع مجازا ، قلت : المنع من الترك والاذن فيه ليسا من صفات الطلب ولا الفعل المطلوب حقيقة ، بل من صفات الطالب ، وظاهر انه لا يختلف معنى الصيغة باختلاف صفات المتكلم بها ، بل نقول : المنع من الترك مما لا ينفك عن حقيقة صيغة الامر ، غاية الامر أن المنع في بعض المواضع تنزيهي كما في المندوبات ، وفي البعض تحريمي غير كبيرة ، كما في الواجبات التي تركها من الصغائر ، وفي البعض تحريمي كبيرة ، كما في ما تركه يوجب الكفر ك ( آمن به ) ونحوه ، فلو كان كون الصيغة للطلب يوجب مجازيتها في هذه المواضع ، كان كونها للايجاب أيضا يوجب مجازيتها في اغلب مواضع الايجاب ، وهم ينكرونه ، فالحق ما عرفت من أن العقاب على ترك الفعل أو حرمان الثواب عليه ، أو الثواب على الفعل ، ليسا مما يتعقل دخوله في معنى الصيغة ، فتأمل جدا ، ( منه رحمه الله ) .
الوافية في اصول الفقه ـ 70 ـ
حجة من قال بأنها حقيقة في الوجوب أمور :
أحدها : أن السيد إذا قال لعبده : ( إفعل كذا ) ولم يكن هناك قرينة أصلا ، فلم يفعل ، عد عاصيا ، وذمه العقلاء لتركه الامتثال ، فتكون للوجوب
(1) .
والجواب : لا نسلم تحقق العصيان والذم على تقدير انتفاء القرينة ، والقرائن في مثل هذه المواضع لا يكاد يمكن انتفاؤها ، إذ الغالب علمه بالعادة العامة ، أو عادة مولاه ، أو فوت منفعة مولاه ، ولهذا لو أمره مولاه بما
(2) يختص بمصالحه ، من غير أن يعود على السيد منه نفع ولا ضرر ، لما ذمه العقلاء إذا لم يفعل ، وهذا ظاهر .
والادلة الباقية : آيات قرآنية ، تدل على عدم جواز ترك ما تعلق به أمر الشارع
(3) ، وسيجيء بعضها .
والجواب : أن هذه الآيات لا تدل على كون الصيغة حقيقة في الوجوب ، كما لا يخفى .
وحجة من قال بأنها للندب أمران :
أحدهما : قول النبي صلى الله عليه وآله ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم
(4) ) أي ما شئتم
(5) .
(1) معارج الاصول : 64 .
(2) في أ : لما .
(3) : الذريعة : 1 / 57 ـ 58 ، المحصول : 1 / 205 ـ 234 .
(4) غوالي اللآلي : 4 / 58 ح 206 ، صحيح مسلم : 2 / 975 ح 1337 ، مسند أحمد : 2 / 247 السنن الكبرى : 1 / 215 .
(5) المنتهى : 92 .
الوافية في اصول الفقه ـ 71 ـ
وجوابه ظاهر ، لبطلان تفسير الاستطاعة بالمشيئة .
وثانيهما : مساواة الامر والسؤال إلا في الرتبة ، والسؤال إنما يدل على الندب ، فكذا الامر
(1) .
وجوابه : منع المساواة أولا ، ونص أهل اللغة عليها غير ثابت ، ومنع دلالة السؤال على الندب ثانيا .
المقام الثاني :
إن امتثال الاوامر الشرعية واجب إلا مع دليل يدل على جواز ترك الامتثال ، والدليل عليه أيضا من وجوه :
الاول : أن امتثال الامر طاعة ، إذ ليس معنى الطاعة إلا الانقياد كما صرح به أرباب اللغة ، وحصول الانقياد بامتثال الامر بديهي ، وترك الطاعة عصيان ، لتصريح أهل اللغة بأن العصيان خلاف الطاعة
(2) ، والعصيان حرام ، لقوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم )
(3) .
الثاني : قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم )
(4) مع الآيات الدالة على ذم ترك الطاعة ، كقوله تعالى : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا )
(5) وغيرها .
الثالث : قوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )
(6) .
(1) المحصول : 1 / 235 ، منهاج الوصول : 75 .
(2) المفردات في غريب القرآن : حرف العين / ص 337 .
(3) الجن / 23 .
(4) النساء / 59 .
(5) النساء / 80 .
(6) النور / 63 .
الوافية في اصول الفقه ـ 72 ـ
والتهديد على مخالفة مطلق الامر لا يصح إلا مع وجوب امتثال مطلق الامر .
الرابع : ما ذكره السيد المرتضى رحمه الله من حمل الصحابة كل أمر ورد في القرآن أو السنة على الوجوب
(1) .
والظاهر كون باعث حملهم هو ما ذكرناه في هذا المقام ، لما مر (2) في المقام الاول ، ولاصالة عدم النقل .
واعلم أن صاحب المعالم قال في أواخر هذا البحث : ( فائدة : يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الائمة عليهم السلام ، أن استعمال صيغة الامر في الندب كان شائعا في عرفهم ، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الامر به منهم عليهم السلام )
(3) انتهى كلامه أعلى الله مقامه .
وأنت بعد خبرتك بما ذكرنا تعلم أن صيغة الامر في كلام الائمة عليهم السلام ليست مستعملة إلا فيما استعملت فيه في كلام الله تعالى (4) ، وكلام جدهم صلى الله عليه وآله ، وكيف يتصور عنهم نقل لفظ كثير الاستعمال عن معناه الحقيقي في كلام جدهم صلى الله عليه وآله من غير تنبيه وإعلام لاحد : أن عرفنا في هذا اللفظ هذا المعنى ؟! حاشاهم عن ذلك ، بل الصيغة في كلامهم أيضا مستعملة في طلب مبدأ الصيغة ، وإنما يعلم العقاب على الترك وعدمه من أمر خارج.
وورودها في كلامهم أيضا مجردة ، محمولة على الوجوب المذكور ، لفرض
(1) الذريعة : 1 / 54 .
(2) في ط : لا ما مر .
(3) معالم الدين : 53 .
(4) في أ : إلا فيما استعمل فيه كلام الله .
الوافية في اصول الفقه ـ 73 ـ
طاعتهم أيضا ، لما مر ، ولما رواه الكليني ، في باب فرض طاعة الائمة عليهم السلام من الكافي ، بسنده عن بشير العطار ، قال : ( سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : نحن قوم فرض الله طاعتنا ، وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته )
(1) .
وبسنده ( عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزوجل : ( وآتيناهم ملكا عظيما ) )
(2) قال : ( الطاعة المفروضة ) (3) .
وفي الصحيح : عن أبي الصباح الكناني ، ( قال : قال أبوعبدالله عليه السلام : نحن قوم فرض الله عزوجل طاعتنا ... ) الحديث
(4) .
وروى الحسين بن أبي العلاء ، في الصحيح : ( قال : ذكرت لأبي عبدالله عليه السلام قولنا في الاوصياء : إن طاعتهم مفترضة ؟ قال : فقال : نعم ، هم الذين قال الله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم ) (5) وهم الذين قال الله عزوجل ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) )
(6) .
وفي الصحيح : ( عن معمر بن خلاد قال : ( سأل رجل فارسي أبا الحسن عليه السلام ، فقال : طاعتك مفترضة ؟ فقال : نعم .
قال : مثل طاعة علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ فقال : نعم ) (7) .
وفي الموثق : ( عن أبى بصير ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : سألته عن
الوافية في اصول الفقه ـ 74 ـ
الائمة هل يجرون في الامر والطاعة مجرى واحد ؟ قال : نعم ) (1) .
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المذكورة في هذا الباب وفي غيره ، ولا شك أن الانقياد لمطلوبهم
(2) طاعة ، وطاعتهم واجبة ، فامتثال أوامرهم واجب مطلقا إلا ما دل دليل على جواز عدم العمل به ، وهذا ظاهر .
تذنيب :
اختلفوا في صيغة الامر إذا وردت بعد الحظر ، على أقوال :
الوجوب
(3) ، والندب ، والاباحة
(4) ، وتابعية ما قبل الحظر ، والتوقف (5) .
والحق : أن صيغة الامر ـ إذا وردت بعد الحظر أو الكراهة (6) ، أو في مقام مظنة الحظر أو الكراهة ، بل في موضع تجويز السائل واحدا منهما
(7) ، كأن يقول العبد : هل أنام أو أخرج ؟ أو نحو ذلك ، فيقول المولى له : ( إفعل ذلك )
(8) ـ لا تدل إلا على رفع ذلك المنع التحريمي أو التنزيهي المحقق أو المحتمل
(9) .
(1) الكافي : 1 / 186 ح 9 .
(2) كذا في ط ، وفي سائر النسخ : ان انقياد مطلوبهم .
(3) ذهب اليه الفخر الرازي ، المحصول : 1 / 236 ، والبيضاوي : منهاج الوصول : 76 ، والعلامة الحلّي : تهذيب الوصول : 21 .
(4) حكاه ابن الحاجب : المنتهى : 98 ، والبيضاوي : منهاج الوصول : 76 .
(5) حكاه ابن الحاجب : المنتهى : 98 ، وذهب السيد المرتضى : الذريعة : 1 / 73 ، والشيخ الطوسي : العدة : 1 / 68 ، والمحقق الحلّي : معارج الاصول : 65 ، إلى أن حكم الامر الواقع بعد الحظر هو حكم الامر المبتدأ .
(6) كذا في ب ، وفي سائر النسخ : والكراهة .
(7) في ط : منها .
(8) في ط : افعل كذا .
(9) هذا قريب مما ذهب اليه الغزالي : المستصفى 1 / 435 .
الوافية في اصول الفقه ـ 75 ـ
وهو كالاذن في الفعل ، أمر مشترك بين الاباحة والندب والوجوب
فالاباحة : مثل ( واذا حللتم فاصطادوا )
(1) .
والندب : مثل ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض ) (2) .
والوجوب : مثل ( فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم )
(3) .
لنا : تبادر رفع المنع من الفعل
والظاهر أنها مجاز في هذا المعنى ، والتبادر لاجل القرينة ، وهي مسبوقية الصيغة بالمنع المحقق أو المحتمل ، وتعليقها على زوال علة المنع في البعض .
وأيضا : إجراء أدلة الوجوب والندب لا يتصور فيما نحن فيه ، لانه فرع فهم الطلب من
(4) الصيغة ، وفرديتها لمفهوم الامر ، مع أنها ليست كذلك فيما نحن فيه (5) .
البحث الثاني :
اختلفوا في دلالة صيغة الامر على الوحدة والتكرار على أقوال :
ثالثها ـ وهو الحق ـ : عدم دلالتها على شيء منهما .
لنا : تبادر مجرد طلب الفعل من الصيغة ، من غير فهم شيء من الوحدة والتكرار منها
(6) ، كالزمان والمكان وغيرهما من المتعلقات
(7) ، والمنكر مكابر .
(1) المائدة / 2 .
(2) الجمعة / 10 .
(3) التوبة / 5 .
(4) في ط : عن .
(5) عبارة ( فيما نحن فيه ) : زيادة من ب .
(6) المحصول : 1 / 238 .
(7) الذريعة : 1 / 100 ، معالم الدين : 53 .