المسألة الخامسة   بِدءُ الحياة الاِنسانية
   السؤال المقصود بالاِجابة هنا هو أنّه متى تبدء الحياة الاِنسانية، وستعلم في الابحاث الآتية أنّ مطلق الحياة ثابتة في مني الرجل والمرأة وبعد التحامهما وصيرورتهما خلية ، ثمّ إلى كتلة خلايا ، ثمّ إلى حوصلة عالقة بالرحم ، ثمّ منغرسة فيه والروح لم تنفخ بعد في جنين ميّت .
   وإليك عدّة من الآراء في المقام:
   (القول الاَوّل): المشهور في ألسنة المسلمين وأذهانهم أنّ الحياة الاِنسانية تبدء بنفخ الروح في الجنين، والمشهور عند أهل النظر منهم أنّه بعد أربعة أشهر من الحمل.
   واعترضه بعض الاَطّباء الماهرين المتدينين بأنّ علم الطب لا يرى لاستقبال الروح أثر، وقال: مسألة: إنّ الجنين آنذاك يكتسب الاِدراك أو الخيال أو تبدو عليه أمارات الرضاء والغضب ، هي للاَسف الشديد من باب الفولكلور أو من باب التحمس لوجهة نظر معينة ، ومحاولة تأييدها علمياً بغير سند علمي (1).
   أقول: اعتراضه متين لكنه مقلوب عليه، فكما لا يصل الطبيب إلى أثر للروح بعد أربعة أشهر من الحمل كذا لا يصل إلى نفيه أيضاً، فلا يحق له انكاره أيضاً.
   والخلط بين حدود العلوم التجربية والفلسفة أو الدين أوجب


(1) ص 57 الحياة الانسانية بدايتها ونهايتها.

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 29
  زلّة جماعات كثيرة من الماديين فضّلوا وأضّلوا، وتوضيح المقام محتاج إلى بسط في الكلام لكنه لا يناسب هذا الكتاب.
(القول الثاني): لحظة التحام الحيوان المنوي بالبويضة هي بداية الحياة الاِنسانية، اختاره بعض الاَطباء المشار إليه آنفاً، واستدلّ عليه بتحقّق كائن في هذا الدور تنطبق عليه جميع الشروط التالية:
   1 ـ أنْ تكون له بداية واضحة معروفة.
   2 ـ أنْ يكون قادراً على النمو ما لم يحرم أسبابه.
   3 ـ أنْ يفضي نموه إلى الاِنسان جنيناً ووليداً وطفلاً وصبياً وشاباً وشيخاً وكهلاً إنْ نسأ الله له في الاَجل.
   4 ـ أنّ ما سبقه من دور لا يمكن أنْ ينمو فيفضي إلى إنسان.
   5 ـ أنْ تكتمل له الحصيلة الارثية لجنس الانسان عامة، وكذلك له هو فرداً بذاته مختلفاً عن غيره من الاَفراد منذ بدء الخليقة وحتّى قيام الساعة.
   وقال: هذه الشروط الخمسة تتوفّر جميعاً في البويضة (البيضة) الملقّحة، وهي لا تتوفّر في غيرها ولا تنطبق على ما قبلها ولا ما بعدها .
   واستشهد عليه أيضاً بتأجيل عقوبة الاعدام شرعاً إنْ كان المحكوم عليها حاملاً دون تقييد الحمل بزمان خاص، كما استشهد بقوله تعالى: ( وإذْ أنْتُم أجِنَّةٌ في بُطُونِ اُمَّهاتِكم) (1)، قال مَن هؤلاء الاَجنّة؟ أنتم وانا الانسان (2) وأنكر أن تكون حياة الجنين قبل تمام أربعة أشهر نباتية أو حيوانية ، فإنّ النبات ـ تعريفاً ـ ليس له جهاز حركي فعّال ، ولا جهاز عصبي، وأُسلوبه الغذائي مختلف ، وهو يقتأت على الضوء ويستهلك ثاني


(1) النجم آية 32 .
(2) ص 303 الحياة الانسانية بدايتها ونهايتها .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 30
  أُوكسيد الكربون ويفرز الاوَكسجين.
   وأحجم أنْ يصفها بأنّها حياة حيوانية، وقد يسعد جماعة داروين أنْ نقرر أنّ جنين الانسان بدور حيواني!!! (1).
   أقول: الشرائط الخمسة لا تثبت أنّ حياة البييضة الملقّحة حياة انسانية لعدم الملازمة بينهما عرفاً وطباً وعقلاً وشرعاً، فهي ليست شروطاً للحياة الاِنسانية، حتّى تترتّب عليها ترتب المعلول على علّتها، وتأجيل اعدام الحامل إنّما هو لاَجل أنّ حملها في مصيره إلى الاِنسانية لا أنّه إنسان بالفعل حتّى في شهره الاَول، وهذا الاشتباه قد صدر من غير واحد من أعضاء الندوة كما يظهر من مطالعة الكتاب (أي كتاب بداية الحياة الانسانية ونهايتها) وغيرها، نعم حرمة الاِجهاض ولزوم تأخير إعدام الحامل وحكم الخروج عن العدّة وامثالها، أحكام شرعية تتّبع موضوعاتها ولا معنى للتلاعب بعناوينها .
   والاستدلال بقوله تعالى: (وإذْ أنْتُم أجِنَّةٌ في بُطُونِ اُمَّهاتِكم) (2) ضعيف ، إذْ لا شك في أنْ المراد به: أنَّكم كنتم أجنّة.
   أو ما يؤدّي معناه ولا يراد به أنَّكم الآن أجنّة!! كما أنّ الاِنسان كان تراباً ولم يكن بإنسان .
   على أنّ لازم هذا القول أنْ يكون نهايته الحياة الاِنسانية بموت خلاياه

(1) ادعى بعض الباحثين : ان 125 مليون خلية تموت في جسم الانسان كل دقيقة وتحل محلها خلايا جديدة . . . وتتساقط الخلايا من الجسم كما تتساقط أوراق الشجر الميتة من اشجارها وان الذرات التي تكون جسم أي انسان منا غير موقوفة عليه . . . فهي تأتي من مصادر شتى . . . وبعد أن تغادر الجسم تذهب الى مصادر شتى . فجسم الانسان يموت ويحيى ثم يموت ويحيى في الحياة الدنيا والانسان نفسه حي يرزق . . . اذن فسر الحياة غير معلق بموت الجسم أو حياته . ص 365 نفس المصدر .
(2) النجم آية 32 .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 31
  لا بموت المخ كما ذهب إليه أطبّاء الاَعصار الاخيرة.
   ثمّ المفهوم من الآية الخامسة في سورة الحجّ بطلان هذا القول، فإنّ مدلولها أنّ الاِنسان خُلِق ونشأ من النطفة والعلقة والمضغة، لا أنّه عينها .
   على هذا القائل اشكال آخر تعرض له ولم يقدر على حله ودفعه فلاحظ .
(القول الثالث): أنّ الحياة على أقسام:
   1 ـ الحياة الخلية، وهي حياة البويضة المخصبة.
   2 ـ الحياة النسيجية، وهي انقسام الخلية المتكررة وانغراسها في جدار الرحم واستمرار نموّها.
   3 ـ الحياة الاِنسانية في الاِسبوع الثاني عشر من وقت تخصيب البويضة الذي أصبح فيه للجنين كيان أو وجود، فهو يقفز ويلعب وينام ويصحو ويحس ويفزّع، كلّ ذلك تزامناً مع اكتمال تكوين المخ وبداية قيامه بوظائفه من ظهور محركات التنفّس وإشارات المخ الكهربائية الدالّة على نشاط وعمل قشرة المخ والنصفين الكرويين، وهذه المرحلة تقف كعلامة هامة على طريق نمو وتطور الجنين، كما أنّ هذه العلامات والظواهر التي تحدث هي عكس العلامات التي توصف في مرحلة وفاة المخ عند موت الانسان. ومن هنا يمكننا أنْ نصفها بمرحلة ميلاد المخ أو بداية الحياة الاِنسانية.
   وفي نهاية هذا الاسبوع يكون الجنين قد بلغ تسع سنتيمترات طولاً و45 جراماً وزناً .
   ومن السهل التعرّف على هذه المرحلة وتحديدها على وجه الدقة بالفحص بجهاز السونار لبيان الحركات التنفسية وانشطة الجنين المختلفة (1).


(1) ص 69 نفس المصدر .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 32
   ويزيد هذا القائل: وفي أثناء الاسبوع الثاني عشر تظهر على الجنين خمسة مظاهر جديدة وهامة، كلّها تشير إلى اكتمال تكوين مخ الجنين وبداية ظهور الكيان الاِنساني في الجنين، ويبدو ذلك من:
   1 ـ تتصور حركات الجنين حركات مركبة متوافقة، لا انقباضات تشنجية مثل ثني الظهر ورفع الرأس والالتفات بالوجه إلى الجانبين، وكذلك حركات مركبة للفم والشفتين واللسان والفكين شبه حركات الرضاعة.
   2 ـ ظهور الحركات التنفسية. وليس المقصود هنا أنّ الجنين يتنفّس الهواء، فالرئتان لا تعملان في فترة الحمل، إلاّ أنّ هذه الحركات التنفسيّة تؤدي إلى التنفّس بعد الولادة.
   3 ـ مرور الجنين في هذه المرحلة بفترات متتابعة ومنتظمة من النشاط والحركة، بعضها فترات روحة وسكون، وقد تكون فترات يقظة ونوم .
   4 ـ بدء عمل ونشاط قشرة المخ كما سبق ذكره .
   5 ـ بداية ظهور حركات بناء على تنبيهات من الخارج.
   وهذا يعني أنّ مراكز عليا في المخ قد تدخلت (1) في حدوث هذه الحركة، وذلك بناءً على انفعالات حسية في مخ الجنين أدرك بها حدوث شيء غير مألوف ، ويستنتج من هذا وجود الحس كذلك الوعي بالمحيط الذي يوجد فيه الجنين (2).


(1) ص 67 و ص68 نفس المصدر ، وقال في محل آخر : وكذلك التفاعل معه بالحركة الذاتية النابعة من ارادته . ص 65 نفس المصدر.
(2) وقال في محل آخر ( ص210 نفس المصدر) : وأي علمي جديد يعتمد على اعتبار اكتمال تكوين المخ . . . ولا اقصد هنا بالطبع اكتمال نضوج المخ أقول :
  =

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 33
   أقول: صحّ ما ذكره أولا فهو لا يدلّ على مدّعاه ، لاَنّ الحس والحركة الاِرادية تجامعان الحياة الحيوانية وتنفيان الحياة النباتية فقط ، ولا تتطلبان الحياة الانسانية بخصوصها حتّى يقال: إنّ مخه يدرك الكليات أو يحاول أنْ يثبت ملزوم إدراك الكليات وهو تعلق الروح الانسانية بالجنين، فهذا القائل لم يقدر على إثبات مدّعاه هذا إذا فرضنا وجود نفس حيوانية في الانسان، منحازة عن الروح الانسانية وكانت هي المصدر للحس والحركة الاِرادية، وأمّا إذا لم يكن الاَمر كذلك وان الحس والحركة الاِرادية وان كانا في الحيوانات مستندين الى النفس الحيوانية لكنهما في الانسان مستندان إلى النفس الناطقة الانسانية فقط، ولا روح حيوانية مستقلة في الانسان، فصحة هذا القول يثبت مدعى قائله لا محالة، فلا بدّ من بلوغ ما ادّعاه إلى درجة القطع، فإنّه بالفعل مشكوك .
   والمظنون أنّ ما تقدّم من إيراد بعض الاَطباء على القول الاَوّل ناظر الى ادّعاء هذا القائل، حيث وصفه بأنّه من باب الفلكلور أو من باب التحمس لوجهة نظر معينة ومحاولة تأييدها علمياً بغير سند علمي .
(القول الرابع): أنّ بدء الحياة الانسانية ليس لحظة الالتحام بل وقت العلوق، إذ ليست كلّ بويضة (بييضة) ملقّحة هي لا بدّ أنْ تنغرس في الرحم، يمكن أن يتسبّب اللولب لتصريفها ، لانّه لا تبدأ الحياة فعلاً إلاّ حين تصبح ملتصقة بالاُم وبالرحم ، أي: إذا انغرست في الرحم، وهو ما عبّر عنه بعض الاَطباء بالاندغام ، مأخوذاً من كلمة العلوق (1).


=
  اكتمال تكوين المخ في الاسبوع الثاني عشر محتاج الى آراء حسية للاطباء فلا بد من الفحص والرجوع .
(1) ص 324 نفس المصدر.

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 34
(القول الخامس): إنّه تستغرق رحلة الانسان من خلية واحدة إلى 16 خليّة في المعمل حوالي 4 ـ 5 أيام (ومن خلية إلى 6 بلايين خلية ـ فترة الحمل ـ حوالي 283 يوماً).
   ولقد اصطلح طبياً (علمياً) على أنّ تسمّى مرحلة نمو الانسان داخل الرحم منذ أنْ تأخذ الخلية الملحقة في الاِنقسام إلى الثمانية (8) أسابيع الاَُولى من الحياة بالجنين ، ويسمّى الجنين في الفترة الباقية من الحمل بالمولود !
   والسبب في هذه التسمية هو أنّ الجنين في مرحلة نموّه داخل الرحم يمرّ بمرحلتين هامّتين من التكوين:
   الاَُولى والتي تمتد ثمانية أسابيع يكون الجنين فيها في حالة تكوين وتشكيل ونمو مضطرد في الخلايا.. والناظر اليه في تلك المرحلة يجد كتلة من الخلايا التجاويفية والقنوات.. (على شكل علقة ثم مضغة) ليس لها سمة الاِنسان السوي، وأهم ما يميّز هذه المرحلة من الناحية التشريحية هو ظهور (الميزاب العصبي) وهو بداية تكوين الجهاز العصبي (الحسّي) عند الجنين ، وبعد هذه المرحلة يأخذ الجنين داخل الرحم مظهراً آخر في النمو، ويمكن للناظر إليه (أي بعد مرحلة الثمانية الاَسابيع الاَُولى) أنْ يميّز شكل إنسان آخذ في النمو... وقد وصف ذلك في آية الخلق والتطور داخل الرحم:...(ثُمَّ أنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أحْسَنُ الخَالِقِين).
   اذا يمكن القول بان الجنين هو انسان في الاَسابع 6 ـ 8 الاَولى في حياته داخل الرحم أو في انبوبة اختبار في محمل طفل الانابيب .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 35
   أقول: هذه الاَقوال الاَربّعة لعلماء الطب الذي هو في حال تطوّره وطريق تكامله ، وقد عرفت أنها ضعيفة غير قابلة للاعتماد ، وقبل الانتقال إلى القول الحق لا بدّ من بيان أمر هام يجب الالتفات إليه ومراعاته في كلّ باب ، وهو أنّ ما ذكره أهل الطب وساير العلوم التجربية على أقسام:
   منها ما ثبت بالحس والتجربة بحيث لا يقبل الترديد، وهذا مما لا شك في قبوله بحكم العقل والفطرة، فإنْ وجد في القرآن المجيد أو الاَحاديث المعتبرة ما يخالفه بظاهره وجب ردّ علم هذا الظاهر من الكتاب والسنة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا معنى للتعبد به على خلاف الحس كما بيّن ذلك في علم الكلام بأوضح برهان .
   ومنها ما هو استنباطات وآراء ظنية من هؤلاء العلماء الاختصاصيين، ولا عبرة بها كما لا قيمة بآراء الفقهاء والاُصوليين والمجتهدين من علماء الدين، بل وآراء الصحابة العدول والسلف الصالح (رض) في مقابل الاَدلة الشرعية من ظواهر الكتاب والسنة، ولا يجوز لنا تقليدهم بحال، فإنّ قداسة أحدٍ، أمرٌ وتقليده أمرٌ آخرٍ ولا ملازمة بينهما .
   ومنها ما هو مبني على الاحصائيات المحدودة محلاً ووقتاً، وهذا أيضاً لا اعتبار به، فليس كلّ ما ذكر أو بني عليه في العلوم أمراً حسياً وحقيقة واقعية يجب قبوله كما ربما يتخيّل من لا فهم له، كما أنه لا يجوز ردّ ما ثبت بطريق حسّي أو قطعي كالحس لاَجل فتوى سلف أو حديث ضعيف بل معتبر ، فإنّ الاَحاديث كظواهر الكتاب ظنية، والظن يضمحل عند العلم بخلافه، اللّهم إلاّ عند من لا عقل له .
   إذا تقرر هذا فاعلم أنّ البحث هنا عن عدّه أُمورٍ تناسب المقام على نحو الاختصار:

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 36
   1 ـ أقسام الحياة وحقيقتها، ومعنى حياة الجنين في أدواره وأطواره.
   2 ـ الفوارق الرئيسية بين الحيوان والانسان عند الفلاسفة.
   3 ـ تركّب الانسان من البدن والنفس .
   4 ـ الروح والنفس تتحّدان أو تتعدّدان .
   5 ـ متى تبدء الحياة الاِنسانية.
   فأقول مستعيناً بالله تعالى ومتوكّلاً عليه في أصابة الحق:
(البحث الاَوّل): من الخير والحقّ أنْ نعترف صريحاً بأنّه لا علم بحقيقة الحياة كما لا علم لنا بحقيقة منبعها وهو الروح، وانما نعرف الحياة بآثارها المذكورة في البيولوجيا، من التغذية والتنمية والتنفس وتوليد المثل والحس والحركة ونحوها .
   ومن المشهور بل المحسوس أنّ الحياة ثلاثة أقسام: نباتية وحيوانية وإنسانية، فإنْ دلّ دليل عقلي أو علمي على انحصار الحياة بهذه الاَقسام فنقول: إنّ حياة الجنين ما لم يكن له حس وحركة إرادية حياة نباتية (1)، وحينما وجد له الحس والحركة الارادية فحياته حيوانية (2)، ولا محذور فيه، ولا تعلّق لهذا القول بقول داروين وأصحابه بوجه، ولا تتحقّق الحياة الانسانية دون تعلق الروح الانسانية به كما ستعرف .
   وإنْ لم يدلّ دليل عليه فلا مانع من جعل حياة الخلايا المذكورة المسمّاة بالجنين قسماً رابعاً .
   والاِنسان في سيره العلمي ربما يصل إلى أقسام اُخر من الحياة، وهذا هو الاَظهر، إذْ لنا أنْ نقول بأنّ حياته تعالى وحياة الملائكة نوعان آخران


(1) وإن ثبت ان حياة كل خلية حياة حيوانية فتأمل .
(2) ذكرنا ما يتعلق بالمقام في آخر القول الثالث عن قريب فلا تغفل منه .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 37
  من الحياة.
(البحث الثاني): ذكر بعض الحكماء المتعمّقين أُموراً من خواص الاِنسان:
   1 ـ النطق والبيان (1).
   2 ـ استنباط الصنائع العملية الغريبة. وأمّا ما يصدر من الحيوانات سيما من النحل في بناء البيوت المسدسة فهو ليس من تدبير نفسها الشخصية الجزئية عن استنباط وإلاّ لم يكن على وتيرة واحدة بل صدورها عن الهام وتسخير من مدبرات أمرها!
   3 ـ الحالة الانفعالية المسماة بالتعجّب وما يتبعه من الضحك التابعة لاِدراكه للاَشياء النادرة، ويتبع إدراكه للاَشياء المؤذيّة انفعال يسمّى الضجرة ويتبعه البكاء.
   4 ـ أنّ المشاركة المصلحية تقتضي المنع من بعض الاَفعال والحث على بعضها الآخر، ثمّ إنّ الانسان يعتقد ذلك من حين صغره ويستمر نشوؤه عليه، فحينئذ يتأكد فيه اعتقاد وجوب الامتناع من أحدهما والاقدام على الآخر، فيسمى الاَول قبيحاً والثاني حسناً جميلاً.
   وأمّا مثل أنّ الاَسد المعلّم لا يأكل صاحبه، والفرس العتيق النجيب لا يسافح أُمه، فليس ذلك من جهة اعتقاد في النفس بل لهيئة نفسانية اُخرى.
   5 ـ الخجالة، فإنّها حالة انفعالية تحصل عند ادراكه بان الغير اطّلع على أنّه ارتكب قبيحاً .


(1) الصغار والخرس لا يتكلمون . والقرآن يخبر عن نطق الهدهد والنملة ، والعلم الحديث أيضاً ربما يبحث عن نطق بعض الحيوانات كما اشرنا في كتابنا مقالات .
  وفي المقام بحث .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 38
   6 ـ 7 ـ الخوف والرجاء، فإنّ الانسان إذا ظنّ أنّ أمراً يحدث في المستقبل يضره فيعرض له الخوف أو ينفعه فيعرض له الرجاء، وأمّا سائر الحيوانات فإنّهما يحصلان لها بالفعل لا لاَجل الظن بحدوث موجبيهما في المستقبل، كنقل النمل البر بالسرعة إلى حجرها منذرة بالمطر ، فإنها أما ان يتخيل أن هناك مؤذ يكون ، أو مطر ينزل...
   وبالجملة: إنّ الاَفعال الحكمية والعقلية إنّما تصدر من الانسان من جهة نفسه الشخصية، ومن سائر الحيوانات من جهة عقلها النوعية تدبيراً كليّاً .
   8 ـ ما يتّصل بما ذكر من أنّ الانسان له أنْ يروي في أُمور مستقبلة هل ينبغي أنْ يفعلها أو لا ينبغي؟ فحينئذٍ يفعل وقتاً ما حكمت به رؤيته وتدبيره أنْ يفعله، ولا يفعل هذا وقتاً آخر بحسب ما يقتضي رؤيته إلاّ يفعله، ما كان يصح ان يفعله في الوقت الاَوّل، وكذا العكس، وأمّا الحيوانات الاُخرى فليس لها ذلك وإنّما لها من الاعدادات ما يكون على ضرب واحد مطبوع فيها وافقت عاقبتها أو خالفت .
   9 ـ تذكر أُمور غابت عن ذهن الانسان، والحيوانات الاُخرى لا تقدر على مثله .
   10 ـ أخصّ خواصّ الانسان تصور المعاني الكلية المجرّدة عن المادة والاهتداء الى التصديقات والتصورات المجهولة، وأخصّ من هذا اتصال النفوس الانسانية بالعالم الالهي بحيث تفنى عن ذاتها وتبقى ببقائه ، وحينئذٍ يكون الحق سمعه وبصره ورجله ويده، وهناك التخلق باخلاق الله تعالى (1).


(1) لا حظ ص 78 الى ص 82 ج9 من اسفار الشيرازي.

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 39
   أقول: لم يكن للقدماء من الفلاسفة وغيرهم علم تجربي دقيق بخصوصيات الحيوانات وانما يعرفون منها أُمور كلية عامة لا غير ، فلا اعتماد بآرائهم في جميع الموضوعات التي لا تعرف بمجرد العقل، ولذا أخطأوا خطأ كثيراً في الاجسام العلوية والافلاك والنجوم، وأصبح اليوم معرفة الشباب المتعلمين بالسماويات أكثر من معرفة الفارابي وابن سينا والسهروردي وصدر الدين الشيرازي وسائر مشاهير الفلسفة، ولعله لا لوم على أحد إذا ادّعى أنّه لا معرفة صحيحة لهؤلاء الحدسيين من الفلاسفة بالسماء وكواكبها ونجومها وما يتعلق بها أصلاً!!! وعلة الاشتباه أنهم غلطوا في تمييزهم بين حدود الفلسفة والعلوم فحاولوا اثبات ما يحتاج اثباته الى الحس والتجربة بالعقل المجرد وظنوا أنّ لهم الصلاحية في جميع أقسام العلوم، كما أنّ المادّيّين اليوم مشوا على عكس ذلك، فإذا لم يجدوا شيئاً في حقلهم العلمي نفوه مطلقاً تخيلاً منهم انّه لا حقائق خارج الحس ، والحق أنّ للحس مداراً خاصاً وللعقل مركزاً خاصاً ، ولا بد من مراعاة ذلك حتى لا يضل الباحث ولا يطمث معالم الحق، وتفصيل البحث في محله .
   وعلى كلّ مجموع هذه الخواص يكفي لتمييز الانسان عن الحيوان، ولا نستطيع أنْ ندّعي أنّ شيئاً من تلك الخواص لا يوجد في الحيوانات، بل البحوث الحديثة تثبت خلاف ذلك، وربما تثبت التجربة العلمية في المستقبل حقائق أهم وأكثر وأعجب للحيوانات مما أكتشفته لحد الآن.
   والذي أراه مميزاً جوهرياً بين الانسان والحيوان بعد اشتراكهما في الاحساس والحركة الارادية وجملة من الاَُمور الاُخر هو تعلق الروح بالانسان المستتبع لقدرته على الادراكات الكلية الكثيرة التي أوجبت تحول حياة الانسان من المرحلة الابتدائية المظلمة الشبيهة بحياة الحيوانات إلى

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 40
  هذه المرحلة ثمّ في المستقبل الى المراحل التي لا تقع في ذهننا اليوم، ومن المحسوس عجز الحيوانات عن هذا التحول.

(البحث الثالث) في حقيقة الانسان:
  إنّ الاِنسان له بدن مادي محسوس وله نفس انسانية سوى البدن، والكلام فيه تارة من جهة العقل، واُخرى من جهة دلالة القرآن، وثالثة من جهة العلم.
   ونحن نذكر في الجهة الاُولى، كلام بعض المفسرين من أهل المعقول، وإنْ كان لنا نقاش أو ايراد على بعض كلامه .
   ثم إنّ بحثه وان كان في تجرد النفس لكنه يفي بالمقام، قال:
   هل النفس مجرّدة عن المادة؟ (ونعني بالنفس ما يحكى عنه كلّ واحد منا بقوله: أنا ، وبتجرّدها عدم كونها أمراً مادياً ذا انقسام وزمان ومكان).
   إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه: بـ: أنا، ولا نشك أنّ كلّ إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتنا وشعورنا ، وليس هو شيئاً من أعضائنا وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة ، فإنا ربما نغفل عن كل واحد منها وعن كلّ مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن ولا نغفل قط عن المشهود الذي نعبر عنه: بـ: أنا، فهو غير البدن وغير أجزائه.
   وأيضاً: لو كان هو البدن أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه أو خاصة من الخواص الموجودة فيها ـ وهي جميعاً مادية، ومن حكم المادة التغير


الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 41
  التدريجي وقبول الانقسام والتجزي ـ لكان مادياً متغيراً وقابلاً للانقسام، وليس كذلك، فإنّ كل أحد إذا رجع الى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه وجده معنىً مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدد وتغير كما يجد بدنه وأجزاء بدنه والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة في مادتها وشكلها وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنىً بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزي كما يجد البدن وأجزائه وخواصه ـ وكل مادة وأمر مادي كذلك ـ ، فليست النفس هي البدن ولا جزءاً من أجزائه ولا خاصة من خواصه، سواء أدركناه بشيء من الحواس أو بنحو من الاستدلال أو لم ندرك، فإنها جميعاً مادية كيفما فرضت ، ومن حكم المادة التغير وقبول الانقسام، والمفروض أنْ ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شيء من هذه الاَحكام، فليست النفس بمادية بوجه .
   وأيضاً هذا الذي نشاهده نشاهده أمراً واحداً بسيطاً ليس فيه كثرة من الاجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف، فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه ويرى أنّه هو وليس بغيره ، فهذا المشهود أمرٌ مستقل في نفسه لا ينطبق عليه حد المادة ولا يوجد فيه شيء من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرد عن المادة متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحاداً ما له بالبدن، وهو التعلق التدبيري، وهو المطلوب .
   وقد أنكر تجرّد النفس جميع الماديين وجمع من الاِلهيين من المتكلمين والظاهريين من المحدثين، واستدلوا على ذلك وردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلف من غير طائل .
   قال الماديون: إنّ الاَبحاث العلمية على تقدّمها وبلوغها اليوم إلى غاية

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 42
  الدقّة في فحصها وتجسّسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلاّ وجدت علّتها المادية، ولم تجد أثراً روحياً لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتّى تحكم بسببها بوجود روح مجرّدة .
   قالوا: وسلسلة الاَعصاب تؤدّي الاِدراكات الى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزائها ولا يدرك بطلان بعضها وقيام الآخر مقامه، وهذا الواحد المتحصّل هو نفسنا التي نشاهدها ونحكي عنها بـ: أنا.
   فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلاّ أنّه لا يثبت أنّه غير البدن وغير خواصّه، بل هو مجموعة متّحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الاَعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت، والذي نرى أنّه ثابت صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الاَمر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الاِدراكية وسرعة ورودها، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائماً، فما فيه من الماء يجده الحس واحداً ثابتاً وهو بحسب الواقع لا واحدٌ ولا ثابت، وكذا يجد عكس الاِنسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحداً ثابتاً وليس واحداً ثابتاً بل هو كثيرٌ متغير تدريجاً بالجريان التدريجي الذي لاَجزاء الماء فيه ، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس.
   قالوا: فالنفس التي يقام البرهان على تجرّدها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية، وهي الاِدراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية وجزء المركّب العصبي، ووحدتها وحدة إجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 43
   أقول: أما قولهم: « إن الاَبحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح ولا وجدت حكماً من الاَحكام غير قابل التعليل إلاّ بها » فهو كلام حق لا ريب فيه لكنّه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي اقيم البرهان على وجودها، فإنّ العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة وإثبات ما هو من سنخها، وكذا الخواص والاَدوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادية إنما لها أن تحكم في الاَُمور المادية، وأما ما وراء المادة والطبيعة فليس لها أن تحكم فيها نفياً ولا إثباتاً، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان، وعدم الوجدان غير عدم الوجود، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمراً مجرداً خارجاً عن سنخ المادة وحكم الطبيعة.
   والذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أنّ المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الاَعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعاً مبدئاً لهذه الاَفاعيل، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجهٌ للقول بها. ونظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.
   وهو اشتباه فاسد ، فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الاَفاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة وبعضها الى النفس فيما علله مجهولة، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها، وإنما أسندوا الى النفس ما لا يمكن إسناده الى البدن ألبتة، وهو علم الاِنسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 44
   وأما قولهم: « إنّ الاِنية المشهودة للاِنسان على صفة الوحدة هي عدة من الاِدراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة ـ ولها وحدة اجتماعية ـ » فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية الى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الاثار التالية، وليت شعري إذا فرض أنّ هناك أُموراً كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتة، وهذه الاَُمور الكثيرة التي هي الادراكات أُمور مادية ليس ورائها شيء آخر إلاّ نفسها، وأنّ الاَمر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه الادراكات الكثيرة، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره؟! ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عياناً؟!
   والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد، فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة وإنما وحدتها في الحس أو الخيال ـ كالدار الواحد والخط الواحد مثلاً ـ لا في نفسه، والمفروض في محلّ كلامنا أنّ الاِدراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها، فلازم قولهم: إنّ هذه الاِدراكات في نفسها كثيرة لا ترجع الى وحدة أصلاً، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعاً، وليس هناك أمر آخر له هذه الاِدراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية، فإنّ المفروض أنّ مجموع الاِدراكات الكثيرة في نفسها نفس الاِدراك النفساني الواحد في نفسه ، ولو قيل: إنّ المدرك هاهنا الجزء الدماغي يدرك الاِدراكات الكثيرة على نعت الوحدة.
   كان الاِشكال بحاله، فإن المفروض أنّ إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الاِدراكات الكثيرة

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 45
  المتعاقبة بعينها لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الاِدراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صوراً حسية، فافهم ذلك.
   والكلام في كيفية حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجزّئَ في نفسه كالكلام في حصول وحدته، مع أنّ هذا الفرض أيضاً ـأعني أن يكون الاِدراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة ـ نفسه فرض غير صحيح، فما شأن الدماغ والقوة التي فيه والشعور الذي لها والمعلوم الذي عندها؟! وهي جميعاً أُمور مادية ، ومن شأن المادة والمادي الكثرة والتغير وقبول الانقسام، وليس في هذه الصورة العلمية شيء من هذه الاَوصاف والنعوت ، وليس غير المادة والمادي هناك شيء .
   وقولهم: « إنّ الاَمر يشتبه على الحس أو القوة المدركة، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحداً بسيطاً ثابتاً» غلط واضح، فإن الغلط والاشتباه من الاَُمور النسبية التي تحصل بالمقايسة والنسبة لا من الاَُمور النفسية، مثال ذلك أنا نشاهد الاَجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض ونغلط في مشاهدتنا هذه على ما تبينه البراهين العلمية وكثير من مشاهدات حواسنا، إلاّ أنّ هذه الاَغلاط إنما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات، وأما ما عند الحس في نفسه فهو أمرٌ واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطاً ألبتة.
   والاَمر فيما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ حواسّنا وقوانا المدركة إذا وجدت الاَُمور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 46
  بالقياس الى المعلوم الذي في الخارج، وأما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتة، ولا يمكن أن يقال للاَمر الذي هذا شأنه: إنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة.
   فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الحجة التي أوردها المادّيون من طريق الحس والتجربة إنما ينتج عدم الوجدان، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود (وهو مدَّعاهم) مكان عدم الوجدان، وما صوّروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق لا الاُصول المادية المسلمة بالحس والتجربة ولا واقع الاَمر الذي هو عليه في نفسه .
   وأما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس وهو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية من الاِدراك والاِرادة والرضا والحب وغيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة، فلا كلام لنا فيه، فإن لكلّ باحث أنّ يفترض موضوعاً ويضعه موضوعاً لبحثه، وإنما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه، وهو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.
   وقال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين: إنّ الذي يتحصل من الاَُمور المربوطة بحياة الاِنسان كالتشريح والفيزيولوجي إنّ هذه الخواص الروحية الحيوية تستند الى جراثيم الحياة والسلولات التي هي الاُصول في حياة الاِنسان وسائر الحيوان وتتعلق بها، فالروح خاصة وأثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة، فالذي يسمّيه الاِنسان روحاً لنفسه ويحكي عنه بـ: أنا، مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 47
  والاجتماع، ومن المعلوم أنّ هذه الكيفيات الحيوية والخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم والسلّولات وتفسد بفسادها، فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني، غاية الاَمر أنّ الاُصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحياة كان لنا أن نقول: إنّ العلل الطبيعية لا تفي بإيجاد الروح، فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة، وأما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضاً فشيء لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم، لعدم اعتمادها على غير الحس والتجربة، هذا.
   أقول: وأنت خبير بأنّ جميع ما أوردناه على حجّة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق، ونزيدها أنها مخدوشة أولاً: بأنّ عدم وفاء الاُصول العلمية المكتشفة الى اليوم ببيان حقيقة الروح والحياة لا ينتج عدم وفائها أبداً ولا عدم انتهاء هذه الخواص الى العلل المادية في نفس الاَمر على جهل منا، فهل هذا إلاّ مغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم؟!
   وثانياً: بأنّ استناد بعض حوادث العالم ـ وهي الحوادث المادية ـ الى المادة وبعضها الآخر ـ وهي الحوادث الحيوية ـ إلى أمر وراء المادة ـ وهو الصانع ـ قول بأصلين في الاِيجاد، ولا يرتضيه المادي ولا الاِلهي، وجميع أدلة التوحيد يبطله .
   وهنا إشكالات أُخر أوردوها على تجرّد النفس مذكورة في الكتب الفلسفية والكلامية غير أنّ جميعها ناشئة عن عدم التأمل والاِمعان فيما مرّ من البرهان وعدم التثبت في تعقل الغرض منه ، ولذلك أضربنا عن إيرادها والكلام

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 48
عليها، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع الى مظانها، والله الهادي (1) انتهى كلامه .
   وأمّا الكلام في الجهة الثانية ـ وهي دلالة القرآن والسنة على أنّ للاِنسان روحاً ونفساً غير البدن فنقتصر فيه على نقل جملة من الآيات الكريمة:
   1 ـ ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (آل عمران 169 ـ 171).
   2 ـ (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) (البقرة 154).
   3 ـ (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) ( المؤمن 45ـ46).
   واعلم أنّ هذه الآيات الثلاث تدلّ على أمرين: أولهما الحياة البرزخية للشهداء وائمة الكفر فقط دون غيرهما، أي لا يستفاد منها عموم الحياة البرزخية للجميع، والاستدلال عليه بآيات أُخر لا يخلو عن منع واشكال .
   ثانيهما أنّ للاِنسان شيء آخر وراء البدن لا يموت بموت البدن وفنائه وهو المستحق للثواب والعذاب، وهو الذي يسمى بالروح والنفس .
   4 ـ (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) ( الواقعة 83 )


(1) ص 364 الى 370 ج1 تفسير الميزان .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 49
   5 ـ (كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ) (القيامة 26)
   6 ـ (أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (السجدة 10).
   أقول: ملك الموت لا يتوفى الجسم الذي يدفن في الاَرض ويضلّ فيها، بل يتوفى النفس.
   7 ـ (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ..) (الانعام 94).
   8 ـ (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) (الزمر 42)(1)


(1) وقد يقال أن قوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) (الانعام 60) يدل على موت الانسان في المنام والحال أنه حي نائم .
وقد يجاب عنه بأن الموت والنوم يشتركان في انقطاع تصرف النفس في البدن كما ان البعث بمعنى الايقاظ بعد النوم يشارك البعث بمعنى الاحياء بعد الموت في عود النفس الى تصرفها في البدن بعد الانقطاع فلاجله عدت الانامة توفيا وان شئت فقل ان التوفي على قسمين توفي مؤقت وهو الانامة وتوفي يستمر وهو الاماتة كما يستفاد من قوله تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى . . ) (الزمر آية 40).
  ويقول بعض الاطباء ان حياة النوم ليست بها حس ولا وعي ولا حركة . ويجب أن نعرف ان للنوم درجات ، والدرجات السطحية منه يخالطها بعض اليقظة وبعض الحس والحركة من تقليب وخلافه . وأما الدرجات العميقة فلا ، ونفس الشيء يحدث في التخدير وفقد الوعي المؤقت وفقد الوعي الدائم كتلف قشرة المخ الكامل ( ص 344 الحياة الانسانية ) .
  أقول : وبعد فقد بقى الفرق العلمي بين الموت والنوم ، واخواته المشار اليها وكذا الجنون وبيانه على عهدة العلوم . وسيأتي في الفصل الثاني من المسألة التاسعة
=

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 50
(البحث الرابع) النفس والروح مفهومان لحقيقة واحدة فهما موجود واحد قطعاً، ومهما قيل في الفرق بينهما فهو بلحاظ الاعتبارات والمراتب لا غير، فإنّ كلّ انسان يدرك من ضميره أنّه واحد لا اثنان!، وتخيل التعدد من أوهام العوام ومن بحكمهم من مدعي العلم المبتلين بالجهل المركب.
   ويناسب هنا أنْ نرجع الى الكتاب والسنة لنرى رأيهما في حقهما وما يتعلّق بهما من خصوصياتهما .
   أما الروح فقد استعملت في القرآن في معان مختلفة غير ما به حياة الانسان وشخصيته ، بل ليس فيه ان آدم عليه السلام اعطاه الله روحاً ، وإنّما فيه أنّه تعالى نفخ في آدم من روحه (الحجر 29 ـ ص72) كما ورد (مثله) في حق عيسى عليه السلام ، فلعل المراد من النفخ هو الاحياء فقط لا ان آدم وعيسى صاحبا روح(1).
   وأما قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) فالمراد بها مجهول ، ويحتمل أنها الروح الاَمين أو روح القدس (2)، أو أُريد به ما أُريد بقوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ)، وبقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا)، أو روح الانسان. لكن في الاَحاديث أنّه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل... (3).
   وأما قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ) (المجادلة 22) فهي الروح المؤيدة للمؤمنين ـ رزقنا الله بفضله ـ


=
  عشرة حول النسيج الشبكي ما ينفع للمقام . وكذا في الفصل الرابع في جواب الاشكال السابع .
(1) نعم الاحاديث تدل على أن للانسان روحاً كما تأتي .
(2) بناء على أنه غير الروح الاعلين أي جبرئيل وفيه بحث .
(3) لاحظ ج18 وغيره من بحار الانوار .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 51
  وليست بروح تنشأ منها الحياة الاِنسانية كما لا يخفى .
   وأما النفس والاَنفس فقد وردت في القرآن كثيراً، وإليك بعض ما يتعلق بها:
   1 ـ النفس هي المسؤولة عن أعمال الانسان كقوله تعالى: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ) (البقرة 128)، وقوله ( وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (1).
   والآيات الدالّة عليه كثيرة (2).
   2 ـ أنها تذوق الموت وإليها أسند القتل، كقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران 180) (الانبياء 25) (العنكبوت 57).
   3 ـ أنّها تلهم فجورها وتقواها .
   4 ـ أنّها المكلّفة: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة 286)، ولاحظ سور الانعام 152 والاعراف 42 والمؤمنون 62 والطلاق 7 .
   5 ـ أنّها أمّارة بالسوء، وأنّها لوامة ومطمئنة وترجع الى ربها راضية مرضية .
   6 ـ أنّها متنعمة في الجنة، (الزخرف 71 ـ فصلت 31)(3).
   وأما الاحاديث المعتبرة الواردة في المقام فقد استوفيناها في موسوعتنا الحديثية (معجم الاحاديث المعتبرة) وذكرنا بعضها في سائر كتبنا (گوناگون ج1 ـ عقايد براى همه وغيرها)، وإليك جملة منها:
   1 ـ صحيح أبي ولاّد المروي في الكافي عن الاِمام الصادق عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر


(1) آل عمران أية 25 .
(2) البقرة 48 ، 123 ، 281 ، آل عمران 25 ..
(3) ونسب الى النفس أيضاً زائداً على ما في المتن الايمان والتفريط في جنب الله والوسوسة والتوسول والشح والاشتهاء والهوى والاكنان والحرج والاخفاء والاستيقان في آيات اُخر .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 52
  حول العرش، فقال: لا، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير (و) لكن في أبدان كأبدانهم (1).
   2 ـ صحيح محمّد بن قيس المروي في الخصال عن الاِمام الباقر عليه السلام قال: سأل الشامي... عن العين التي تأوي إليها أرواح المشركين؟ فقال: هي عين يقال لها سلمى (2).
   3 ـ صحيح الكناسي المروي في الكافي عن الباقر عليه السلام ...: إنّ لله جنّة خلقها الله في المغرب... واليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كل مساء... وإنّ لله ناراً في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار... (3).
   4 ـ صحيح الاَحول المروي فيه قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الروح التي في آدم قوله : (فاذا سويته ونفخت فيه من روحي) (4)، قال: هذه روح مخلوقة، والروح في عيسى مخلوقة (5).
   5 ـ حسنة حمران قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: (وروح منه) (6) قال: هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى (7).
   6 ـ صحيح أبي بصير المروي في الكافي قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (8) ،


(1) ص 268 ج6 بحار الانوار .
(2) ص 274 نفس المصدر .
(3) ص 290 المصدر .
(4) الحجر آية 29 .
(5) ص 133 ج1 الكافي .
(6) النساء آية 171 .
(7) الكافي 1 : 133 .
(8) الاسراء آية 85 .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 53
  قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل (1)...
   7 ـ معتبرة ابن أبي يعفور المرويّة في العلل عن الصادق عليه السلام : إنّ الارواح جنود مجندة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف ههنا، وما تناكر منها في الميثاق اختلف ههنا (2).
   أقول: هذا المضمون وارد في عدة من الاحاديث لكن أكثرها ضعيفة سنداً فتكون مؤيدة لها .
   8 ـ موثّقة ابن بكير عن الباقر عليه السلام ...: وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام (3).
   أقول: خلقة الاَرواح قبل الاَبدان بألفي عام وردت في جملة من الاَحاديث (4) ولا يبعد حصول الاطمئنان بصدور بعضها عن الائمة عليهم السلام ، والظاهر أنها تنافي قول بعض الفلاسفة: إنّ الروح جسمانية الحدوث روحانية البقاء، ولذا أوله في الاسفار تأويلاً باطلاً .
   واعلم أنّ الروح لا تطلق على الانسان المركّب منها ومن البدن بل يطلق على نفسها فقط ، بخلاف النفس، فإنها تطلق على خصوص معناها كما تطلق على معنى يعبر عنه بالفارسية بكلمة (خود، خودتان، خودما)، أي: على مجموع الانسان، كقوله تعالى: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ) (5)، بل ربما على ما استحال البدن والنفس فيه كما في حقّه تعالى: (ويحذركم الله نفسه) (6) .


(1) الكافي 1 : 273 ، نسخة الكومپيوتر .
(2) ص 139 ص 58 البحار .
(3) ص 138 ج 1 الكافي .
(4) النور آية 61 .
(5) لاحظ ج58 وغيره من بحار الانوار .
(6) آل عمران آية 28 و 30 .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 54
   بقي شيء وهو أنّ عوام المسلمين يزعمون أنّ الروح لاتأمر بالشر بل تأمر بالخير دائماً وأما النفس فهي تأمر بالخير والشر، ولعلّ وجه هذا الزعم أنّ القرآن اسند الشر الى النفس ولم يسنده الى الروح، لكن القرآن لم يفصل القول في الروح الانسانية كما عرفت، وما تقدم من الاحاديث المعتبرة يكفي في ضعف الزعم المذكور.
   وبالجملة: هما مفهومان لمصداق واحد كما عرفت .
   وأما الكلام في الجهة الثالثة ـ وهي دلالة العلم على وجود الروح ـ فهو طويل نقتصر فيه هنا على كلام بعض الفضلاء فقط حتى لا يطول بنا المقام:
   والمادة التي يتكون منها الدماغ هي عين المادة التي تنشأ منها بقية اعضاء الجسد ونوع الحياة الذي يتسبب في نشؤ الجميع واحد، فان اصل الجنين خلية واحدة ثم تتكثر، وعليه يلزم ان تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف اعضاء الجسم من جنس واحد دون اختلاف تخصصاتها، وهي وظائف غير إرادية ولا فكرية، لاَنها اللارادة، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته ان يتولد ـ بصورة آليةـ المريد غير المريد والمفكر من غير المفكر.
  وماقيل من ان الارادة والفكر والشعور وغيرها من الاَنشطة الانسانية الاختيارية انما تنشأ من الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية ، غير صحيح ، فان كل تفاعل لابد له من عامل فهو ان كان خارجياً يلزم استناد إرادته وافكاره ومشاعره المختلفه غير اختيارية له، مع ان الماديين لم يستطيعوا ـ ولن يستطيعواـ ولا مرة واحدة ان يضعوا العناصر والمركبات في انابيب الاختبار ثم يدفعونها بالتأشيرات المعنوية بدلاً من العوامل المادية المعهودة .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 55
   وان كان داخلياً فما هو؟ هل هو مجرد احتكاك الخلايا والاَعصاب أم هو مجرد وصول الدماء الى عروق الدماغ أم هو شي آخر؟ فليكن أي شيء فلماذا تتحدد، وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم باختلاف الاشخاص من جهة، وباختلاف الاَزمان والساعات والاحوال في الشخص الواحد من جهة اخرى؟.
   ان محتويات الاَدمغة واحدة في الاَشخاص والاَزمان وانشطتهما المادية واحدة فلماذا تتعدد اذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها؟ فتتعدد الافكار وتتعدد المشاعر والاحاسيس وتعدد الاكتشافات وتتعدد المواهب عند الاشخاص بل وتعدد عند الشخص الواحد في ساعتين... ، اقول: ولا تفسير له سوى الاقرار بوجود الروح ...(1) انتهى ما أردنا نقله .
   واعلم ان الاعتقاد بوجود الروح لا ينقص من اهمية المخ وعظم عمله فلا تغفل، ويقول طبيب مسلم ان كثيراً من العلماء ذكروا ان المظاهر النفسية كالوعي والادراك والانفعال والذاكرة والقدرة على التعلم والاحساس النهائي للذة والاَلم وكل هذه المظاهر النفسية لم يثبت علمياً الى الآن ان مراكزها النهائية موجودة في خلايا المخ. والحقيقة اننا نتعلم الطب حسب المدرسة الغربية التي ينفصل عندها العلم عن الدين، فهي ترى ان المظاهر النفسية عبارة عن تفاعلات كيمياوية معقدة تحدث داخل خلايا المخ وهذا أمر لم يثبت علمياً للآن (2).
   أقول ولتأثير الروح والمخ وأهميته كلتيهما لنضرب مثلاً ونشبه

(1) ص 127 الى ص131 رؤية اسلامية لزراعة بعض الأعضاء البشرية نقلنا عنها بعض القليل مع الاختصار .
(2) ص86 نفس المصدر .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 56
  الروح بالمصور وخلايا المخ بجهاز التصوير والصورة كما تحتاج الى المصور تحتاج الى آلة التصوير ولايغني احدهما عن الآخر في انتاج الصورة.
(البحث الخامس) في بدء حياة الانسان.
   المتدبّر في البحثين الاَخيرين يقتنع بسهولة أنّ الحياة الانسانية إنما هي بتعلق الروح بالبدن كما أن موت الانسان بانقطاع هذا التعلق نهائياً، ولا ربط لحياة الخلايا بحياة الانسان ولا موته بموتها ، وهذا الذي اعتقده علماء الاسلام هو الصحيح المطابق للبراهين العقلية أيضاً .
  وإنْ شئت فقل: إنّ قوام انسانية الانسان بروحه لا ببدنه وان فرض موجوداً تاماً في الخارج وكان جميع خلاياه حية، فالجنين مهما تكامل وتنامى فهو ـ قبل تعلق الروح ـ جنين الانسان وما يؤل الى الانسان وليس بانسان نفسه .

  هذا هو السؤال المهم في المقام، ولا يصلح علم الطب وعلم الاجنة وسائر العلوم للاجابة عليه لحد الآن، ولا أظن اهتداء العقل اليه أيضاً، فلا بد من الرجوع الى الدين فيه ، لكن القرآن الكريم ـ وحسب فهمي ـ ليس فيه ما يدلّ على توقيت تعلق الروح بالبدن ، سوى قوله تعالى: ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (1) ، ولا بعد في إرادة تعلق الروح بالجنين من هذه الآية، إذ انشاء الجنين مخلوقاً آخر لا يناسب إلاّ صيرورته ذات روح ، ويؤكده قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ... ) ، بل يدلّ على إرادة التعلق المذكور بعض الروايات المعتبرة الآتية، لكن لا يستفاد أنّ تعلق الروح

(1) المؤمنون آية 14 .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 57
  بالجنين في أي شهر من شهور الحمل، وإنما يستفاد من الآية المذكورة أنه بعد كسوة العظام لحماً .
   وان قدّر الطب بشكل دقيق محسوس على تعيين زمن كسوتها لحماً لم يقدر على زمان تعلق الروح بالجنين، إذ لا دليل على أنّه بعدها بلا فصل ، بل ظاهر قوله: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ)، الفصل بينهما ، فلا يبقى أمامنا للحصول على جواب السؤال المذكور سوى الاحاديث فنقول:
   1 ـ الصحيح المرويّ في التهذيب عن أمير المؤمنين عليه السلام ...: فإذا انشيء فيه خلق آخر وهو الروح فهو حينئذٍ نفس، ألف دينار كاملة ان كان ذكراً وان كان اُنثى فخمسمائة دينار (1).
   2 ـ صحيح محمّد بن مسلم المرويّ في الكافي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام ... قلت: فما صفة النطفة التي تعرف بها؟ فقال: النطفة تكون بيضاء مثل النخامة الغليظة فتمكث في الرحم إذا صارت أربعين يوماً ، ثمّ تصير الى علقة ، قلت: فما صفة خلقة العلقة التي تعرف بها؟ فقال: هي علقة كعلقة الدم المحجمة الجامدة تمكث في الرحم بعد تحويلها عن النطفة أربعين يوماً. ثم تصير مضغة، قلت: فما صفة المضغة وخلقتها التي تعرف بها؟ قال: هي مضغة لحم حمراء فيها عروق خضر مشتبكة، ثم تصير الى عظم ، قلت: فما صفة خلقته إذا كان عظماً؟ فقال: إذا كان عظماً شق له السمع والبصر ورتبت جوارحه ، فاذا كان كذلك فان فيه الدية كاملة (2) ورواه الشيخ في تهذيبه بتفاوت (3).
   أقول: لم يذكر في هذا الصحيح توقيت المضغة بأربعين يوماً، ولا

(1) ص 285 ج 10 نسخة الكومپيوتر .
(2) ص 345 ج 7 الكافي .
(3) ص 475 ج 26 جامع الاحاديث .

الـفِـقـهُ والمَـسـائِـل الطِـبـيـَة 58
  يضر ، فإنه مذكور في صحيح زرارة وغيره الآتية في مسألة الاجهاض (1).
   ولم يذكر تعلق الروح بالجنين أيضاً.
   أقول لايفهم من هذه الاَحاديث مع الآية أنّ بدء الحياة الانسانية، في أوّل الشهر الخامس من الحمل، أي في اليوم 121 من الحمل، بل يحتمل نفخ الروح بأطول من ذلك كما لا يخفى ، بل في رواية أبي شبل: هيهات يا أبا شبل إذا مضت الخمسة الاَشهر فقد صارت فيه الحياة وقد استوجب الدية (2)، ولعله اشتباه ومحرف الاَربعة الاشهر، لكنه محتمل، إذ لا يخالفه نص معتبر، سوى معتبرة ابن الجهم الآتية (3)، ولا بد لك أن تلاحظ ما يأتي من الآية والاحاديث في المسألة الآتية مع هذه الاحاديث جمعاً .
   ومقتضى النظر الدقيق أنّ جميع الاحاديث لا تدلّ على ان نفخ الروح يكون في أول الشهر الخامس من الحمل، حتى معتبرة ابن الجهم في المطلب الاوّل من المسألة الآتية وإنْ كانت مشعرة بها، نعم مدلولها نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر، فلاحظ وتأمل جيداً والله العالم.
   ولعله لاَجل ما ذكرنا قال صاحب الجواهر قدس سره في باب الدية (ص365 ج43): بل عن ظاهر الاَصحاب عدم اعتبار مضي الاَربعة أشهر في الحكم بحياته على وجه يترتب عليه الدية.
   وان قال الصادق عليه السلام في خبر زرارة: السقط إذا تم له أربعة أشهر غسل (4).
   وافتى الاَصحاب بمضمونه، إلاّ ان ذلك لا يقتضي تحقق العنوان في المقام.
   أقول: أي حياة الجنين لوجوب الدية الكاملة .

(1) لاحظ ص 64 هذا الكتاب .
(2) جامع الاحاديث 26 | 481 .
(3) الكافي 7 : 346 ، نسخة الكومپيوتر .
(4) الكافي 3 : 206 .