الناشر
  ( السيد محمد باقر الصدر) التعريف عنه يبقى موجزا مهما طال وتشعب ، وما قدمه للفكر الانساني عامة والاسلامي بوجه خاص يغني عن أي تعريف فمن كتاباته ( البنك اللاربوي في الاسلام ) الى كتاب ( فلسفتنا ) الى كتاب ( اقتصادنا ) ثم ( الاسس المنطقية للاستقراء ) اضافة الى العديد من كتاباته الاخرى التي أصبحت مرجعاً فلسفياً يعتمد عليه اساتذة الفلسفة الحديثة على اختلاف اتجاهاتها ، حتى اعتبر ( مجدداً ) بحق ، ولم تكن جهوده هذه كل همه فكانت جنبا الى جنب مع مساعيه من دروس ومحاضرات يلقيها على طلبة العلوم الدينية في النجف الأشرف .
  فكان بحد ذاته مدرسة يعتمد عليها في مختلف العلوم .
  وهذا الكتاب الذي بين يديك أخي القارئ( مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ) يمثل محاضرات ألقاها سماحته متوجا فيها أعماله باتجاه تجديدي يكون مكملا لجهود المفسرين باضافته الاتجاه الموضوعي في التفسير الى الاتجاه التجزيئي ، وليكون بذلك أثباتا فعليا وعصريا لمقولة( الاسلام نظام شامل وكامل للحياة ) .
  وقد قام بعض الافاضل من تلامذته بمراجعة هذه الدروس وتحقيقها لتكون على شكل كتاب ، فجزاه الله واياهم عن الاسلام أفضل الجزاء .

تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم

  وأفضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
  ربنا فقهنا في كتابك وأكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك وأزح عن بصائرنا غشاوة الدنيا وبريقها الكاذب لكي تملأ قلوبنا بهداك واجعلنا من حملة قرآنك وسنة نبيك والسائرين على طريق طاعتك .
  ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا أنك على كل شيء قدير ، ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو اخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا اصراً كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وانصرنا ، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ، ربنا وأغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا للايمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ، ربنا انك رؤوف رحيم .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 2 _

الدرس الاول :
  لا شك في تنوع التفسير واختلاف مذاهبه وتعدد مدارسه والتباين في كثير من الاحيان بين اهتماماته واتجاهاته ، فهناك التفسير الذي يهتم بالجانب اللفظي والادبي والبلاغي من النص القرآني وهناك التفسير الذي يهتم بجانب المحتوى والمعنى والمضمون وهناك التفسير الذي يركز على الحديث ويفسر النص القرآني بالمأثور عن الرسول وأهل بيته (عليه السلام) أو بالمأثور عن الصحابة والتابعين .
  وهناك التفسير الذي يعتمد العقل أيضاً كأساس من أسس التفسير وفهم كتاب الله سبحانه وتعالى ، وهناك التفسير المتميز الذي يتخذ مواقف مذهبية مسبقة ويحاول أن يطبق النص القرآني على أساسها .
  وهناك التفسير غير المتحيز الذي يحاول أن يستنطق النص القرآني ويطبق الرأي على القرآن لا القرآن على الرأي والى غير ذلك من الاتجاهات المختلفة في التفسير الاسلامي .
  الا ان الذي يهمنا ونحن على أبواب هذه الدراسة القرآنية أن نركز على ابراز اتجاهين رئيسيين لحركة التفسير في الفكر الاسلامي ونطلق على أحدهما اسم ( الاتجاه التجزيئي في التفسير ) وعلى الآخر اسم ( الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير ) الاتجاه الاول : الاتجاه التجزيئي المنهج الذي يتناول المفسر ضمن اطاره القرآن الكريم آية فآية وفقا لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف ، والمفسر في نطاق هذا المنهج يسير مع المصحف ويفسر قطعاته تدريجياً بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير من الظهور أو المأثور من الاحاديث أو العقل أو الآيات الاخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم بالقدر الذي يلقي ضوءا على مدلول القطعة القرآنية التي يراد تفسيرها مع أخذ السياق الذي وضعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار في كل تلك الحالات .
   وطبعا نحن حينما نتحدث عن التفسير التجزيئي نقدمه في أوسع وأكمل صوره التي انتهى اليها فان التفسير التجزيئي تدرج تاريخيا الى أن وصل الى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئية وكان قد بدأ في عصر الصحابة والذي يعين على مستوى شرح تجزيئي لبعض الآيات القرآنية وتفسير لمفرداتها ، وكلما امتد الزمن ازدادت الحاجة الى تفسير المزيد من الآيات الى أن انتهى الى الصورة التي قدم فيها ابن ماجة والطبري وغيرهما كتبهما في التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع وكانت تمثل أوسع صورة للمنهج التجزيئي في التفسير .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 3 _
  فالمنهج التجزيئي في التفسير حيث أنه كان يستهدف فهم مدلول اللفظ ، وحيث أن فهم مدلول اللفظ كان في البداية ميسرا لعدد كبير من الناس ثم بدأ اللفظ يتعقد من حيث المعنى بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم الخبرات والتجارب وتطور الاحداث والاوضاع من هنا توسع التفسير التجزيئي تبعا لما أعتبر النص القرآني من غموض ومن شك في تحديد مدلول اللفظ حتى تكامل بالطريقة التي نراها في موسوعات التفسير حيث ان المفسر يبدأ من الآية الاولى من سورة الفاتحة الى سورة الناس فيفسر القرآن آية آية ، لان كثير من الآيات بمرور الزمن أصبح معناها ومدلولها اللفظي بحاجة الى ابراز أو تجربة أو تأكيد ونحو ذلك ، هذا هو التفسير التجزيئي ، طبعا نحن لا نعني بالتجزيئية في هذا المنهج التفسيري ان المفسر يقطع نظره عن سائر الآيات ولا يستعين بها في فهم الآية المطروحة للبحث ، بل انه قد يستعين بآيات أخرى في هذا المجال كما يستعين بالاحاديث والروايات ، ولكن هذه الاستعانة تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث ، فالهدف في كل خطوة من هذا التفسير فهم مدلول الآية التي يواجهها المفسر بكل الوسائل الممكنة أي أن الهدف ( هدف تجزيئي ) ، لانه يقف دائما عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني ولا يتجاوز ذلك غالبا ، وحصيلة تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كله تساوي على أفضل تقدير مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية أيضا ، أي أنه سوف نحصل على اعداد كبيرة من المعارف والمدلولات القرآنية ، لكن في حالة تناثر وتراكم عددي دون أن نكتشف أوجه الارتباط ، دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الافكار ، دون أن نحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة فهناك تراكم عددي للمعلومات ، الا أن الخيوط بين هذه المعلومات ، أي الروابط والعلاقات التي تحولها الى مركبات نظرية ومجاميع فكرية بالامكان ان نحصر على أساسها نظرية القرآن لمختلف المجالات والمواضيع ، أما هذا فليس مستهدفا بالذات في منهج التفسير التجزيئي وان كان قد يحصل احيانا ، وقد أدى هذا التناثر ونزعه الاتجاه التجزيئي الى ظهور التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الاسلامية ، لانه كان يكفي ان يجد هذا المفسر أو ذاك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله.

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 4 _
  الانصار والاشياع كما وقع في كثير من المذاهب الكلامية كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلا ، بينما كان بالامكان تفادي كثير من هذه التناقضات لو أن المفسر التجزيئي خطى خطوة أخرى ولم يقتصر على هذا التجميع العددي كما نرى ذلك في الاتجاه الثاني .
  الاتجاه الثاني : ونسميه الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير .
  هذا الاتجاه لا يتناول تفسير القرآن آية فآية في الطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئي ، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية فيبين ويبحث ويدرس ، مثلا عقيدة التوحيد في القرآن أو يبحث عقيدة النبوة في القرآن او عن المذهب الاقتصادي في القرآن او عن سنن التاريخ في القرأن او عن السماوات والارض في القرآن الكريم وهكذا .
  ويستهدف التفسير التوحيدي او الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم وبالتالي للرسالة الاسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة او الكون ، وينبغي ان يكون واضحا أن الفصل بين الاتجاهين المذكورين ليس حديا على مستوى الواقع العملي والممارسة التاريخية لعملية التفسير لان الاتجاه الموضوعي بحاجة قطعا الى تحديد المدلولات التجزيئية في الآيات التي يريد التعامل معها ضمن اطار الموضوع الذي يتبناه ، كما أن الاتجاه التجزيئي قد يعثر في اثناء الطريق بحقيقة قرآنية من حقائق الحياة الاخرى ، ولكن الاتجاهين على أي حال يظلان على الرغم من ذلك مختلفين في ملامحهما واهدافهما وحصيلتهما الفكرية ، ومما ساعد على شيوع الاتجاه التجزيئي للتفسير وسيطرته على الساحة قرونا عديدة ، النزعة الروائية والحديثية للتفسير حيث أن التفسير لم يكن في الحقيقة وفي البداية الا شعبة من الحديث بصورة او بأخرى وكان الحديث هو الاساس الوحيد تقريباً ، مضافا الى بعض المعلومات اللغوية والادبية والتاريخية ، التي يعتمد عليها التفسير طيلة فترة طويلة من الزمن ، ومن هنا لم يكن بامكان تفسير يقف عند حدود المأثور من الروايات عن الصحابة والتابعين وعن الرسول والائمة أن يتقدم خطوة اخرى وان يحاول تركيب مدلولات القرآن والمقارنة بينها واستخراج النظرية من وراء هذه المدلولات اللفظية .
  التفسير كان بطبعه تفسيرا لفظيا تفسيرا للمفردات وشرح بعض المستجد من المصطلحات وتطبيق بعض المفاهيم على اسباب النزول ومثل

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 5 _
  هذه العملية لم يكن بامكانها ان تقوم بدور اجتهادي مبدع في التوصل الى ما وراء المدلول اللغوي واللفظي في التوصل الى الافكار الاساسية التي حاول القرآن الكريم ان يعطيها من خلال المتناثر من آياته الشريفة ويمكننا ان نقرب الى اذهانكم فكرة هذين الاتجاهين المختلفين في تفسير القرآن الكريم بمثال من تجربتكم الفقهية ، فالفقه هو بمعنى من المعاني تفسير الأحاديث الواردة عن النبيين والأئمة ( عليهم السلام ) ونحن نعرف من البحث الفقهي ان هناك كتبا فقهية شرحت الاحاديث حديثا حديثا ، تناولت كل حديث وشرحته وتكلمت عنه دلالة او سندا أو متنا ، أو دلالة وسندا ومتنا على اختلاف اتجاهات الشراح كما نجد ذلك في شراح الكتب الاربعة وشراح الوسائل غير ان القسم الاعظم من الكتب الفقهية والدراسات العلمية في هذا المجال لم تتجه هذا الاتجاه بل صنف البحث الى مسائل وفقا لوقائع الحياة وجعلت في اطار كل مسألة الاحاديث التي تتصل بها وفسرتها بالقدر الذي يلقي ضوءا على تلك المسألة ويؤدي الى تحديد موقف الاسلام من تلك الواقعة التي تفترضها المسألة المذكورة وهذا هو الاتجاه الموضوعي على الصعيد الفقهي بينما ذاك هو الاتجاه التجزيئي في تفسير الاحاديث على هذا الصعيد .
  كتاب الجواهر في الحقيقة شرح كامل شامل لروايات الكتب الاربعة ولكنه ليس شرحا يبدأ بالكتب الاربعة رواية رواية وانما يصنف روايات الكتب الاربعة وفقا للحياة ، وفقا لمواضيع الحياة ، كتاب البيع ، كتاب الجعالة ، كتاب احياء الموات ، كتاب النكاح ، ثم يجمع تحت كل عنوان من هذه العناوين الروايات التي تتصل بذلك الموضوع ويشرحها ويقارن فيما بينها فيخرج بنظرية لانه لا يكتفي بأن يفهم معنى الرواية فقط بصورة مفردة ، ومعنى هذه الرواية بصورة منفردة مع هذه الحالة من الفردية لا يمكن ان يصل الى الحكم الشرعي .
  وانما يصل الى الحكم الشرعي عن طريق دراسة مجموعة من الروايات التي تحمل مسؤولية توضيح حكم واحد أو باب واحد من ابواب الحياة ثم عن طريق هذه الدراسة الشاملة تخرج نظرية واحدة من قبل مجموعة من الروايات لا من قبل رواية واحدة .
  هذا هو الاتجاه الموضوعي في شرح الاحاديث ومن خلال المقارنة بين الدراسات القرآنية والدراسات الفقهية نلاحظ اختلاف مواقع الاتجاهين على الصعيدين فبينما انتشر الاتجاه الموضوعي والتوحيدي على الصعيد الفقهي وما خطا الفقه والفكر الفقهي خطوات في مجال تطوره حتى ساد هذا.

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 6 _
  الاتجاه جل البحوث الفقهية نجد ان العكس هو الصحيح على الصعيد القرآني حيث سيطر الاتجاه التجزيئي للتفسير على الساحة عبر ثلاثة عشر قرنا تقريبا اذ كان كل مفسر يبدأ كما بدأ سلفه مفسرا القرآن آية آية .
  اذن الاتجاه الموضوعي هو الذي سيطر على الساحة الفقهية بينما الاتجاه التجزيئي هو الذي سيطر على الساحة القرآنية واما ما ظهر على الصعيد القرآني من دراسات تسمى بالتفسير الموضوعي احيانا من قبيل دراسات بعض المفسرين حول موضوعات معينة تتعلق بالقرآن الكريم كاسباب النزول في القرأن أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن فليست من التفسير التوحيدي والموضوعي بالمعنى الذي نريده فان هذه الدراسات ليس في الحقيقة الا تجميعا عدديا لقضايا من التفسير التجزيئي لوحظ فيما بينها شيء من التشابه وفي كلمة اخرى ليست كل عملية تجميع أو عزل دراسة موضوعية .
  وانما الدراسة الموضوعية هي التي تطرح موضوعا من موضوعات الحياة العقائدية او الاجتماعية او الكونية وتتجه الى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده .
  واكثر ظني ان الاتجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه بامتداده وانتشاره ساعد بدرجة كبيرة على تطوير الفكر الفقهي واثراء الدراسات العلمية في هذا المجال بقدر ما ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على اعاقة الفكر الاسلامي القرآني عن النمو المستمر وساعد على اكسابه حالة تشبه الحالات التكرارية حتى تكاد تقول ان قرونا من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والطوسي لم يحقق فيها الفكر الاسلامي مكاسب حقيقية جديدة وظل التفسير ثابتا لا يتغير الا قليلا من خلال تلك القرون على الرغم من الوان التغير التي حفلت بها الحياة بمختلف الميادين وسوف يتضح انشاء الله تعالى من خلال المقارنة بين الاتجاهين السبب والسر الذي يكمن وراء هذه الظاهرة .
  لماذا كانت الطريقة التجزيئية عاملا في اعاقة النمو ولماذا تكون الطريقة الموضوعية والاتجاه التوحيدي عاملا في النمو والابداع وتوسيع نطاق حركة الاجتهاد لكي نعرف لماذا كان هذا ولماذا كان ذاك ، يجب أن نكون انطباعات أوضح وأكثر تحديدا عن هذين الاتجاهين ، وان يتضح ذلك بعد ان نشرح بعض اوجه الاختلاف بين هذين الاتجاهين التفسيريين فيما يلي : اولا: ان دور المفسر التجزيئي سلبي على الاغلب فهو يبدأ اولا بتناول النص القرآني المحدد آية مثلا أو مقطعا قرآنيا من دون أي افتراضات او طروحات مسبقة .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 7 _
  ويحاول أن يحدد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من القرائن المتصلة والمنفصلة العملية في طابعها العام ، عملية تفسير نص معين وكان دور النص فيها دور المتحدث ودور المفسر هو الاصغاء والتفهم وهذا ما نسميه بالدور السلبي ، المفسر هنا شغله ان يستمع لكن بذهن مضيء ، بفكر صاف ، بروح محيطة بآداب اللغة واساليبها ، في التعبير بمثل هذه الروح ، بمثل هذه الذهنية وبمثل هذا الفكر يجلس بين يدي القرآن ليستمع وهو ذو دور سلبي والقرآن ذو دور ايجابي والقرآن يعطي حينئذ وبقدر ما يفهم هذا المفسر من مدلول اللفظ يسجل في تفسيره .
  وخلافا لذلك المفسر التوحيدي والموضوعي فانه لا يبدأ في عمله من النص بل من واقع الحياة فيركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية او الاجتماعية او الكونية ويستوعب ما اثارته تجارب الفكر الانساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الانساني من حلول وما طرحه التطبيق التاريخي من اسئلة ومن نقاط فراغ ثم يأخذ النص القرآني ، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة الى النص دور المستمع والمسجل فحسب ، بل ليطرح بين يدي النص موضوعا جاهزا مشرقا بعدد كبير من الافكار والمواقف البشرية ويبدأ مع النص القرآني حوارا ، المفسر يسأل والقرأن يجيب المفسر على ضوء الحصيلة التي استطاع ان يجمعها من خلال التجارب البشرية النافعة وهو يستهدف من ذلك ان يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بامكانه ان يستلهمها من النص من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من افكار واتجاهات ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائما بتيار التجربة البشرية لانها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الاسلامية بشأن موضع من مواضيع الحياة ومن هنا ايضا كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له ، وليست عملية استجابة سلبية بل استجابة فعالة وتوظيفا هادفا للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى ، قال امير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يتحدث عن القرآن الكريم ( ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكن أخبركم عنه ، ألا ان منه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم ) التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن (عليه السلام) اروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي بوصفها حوارا مع القرآن الكريم وطرحا للمشاكل الموضوعية عليه بقصد الحصول على الاجابة القرآنية عليها ، اذن فاول اوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتجاه التجزيئي في التفسير والاتجاه الموضوعي

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 8 _
  في التفسير ان الاتجاه التجزيئي يكون دور المفسر فيه دورا سلبيا يستمع ويسجل بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كنهه وانما وظيفة التفسير الموضوعي دائما في كل مرحلة وفي كل عصر ان يحمل كل تراث البشرية الذي عاشه ، يحمل افكار عصره ، يحمل المقولات التي تعلمها من تجربته البشرية ثم يضعها بين يدي القرآن الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسر ان يفهمه من خلال مجموعة آياته الشريفة ، اذن فهنا يلتحم القرآن مع الواقع ، واقع الحياة ، لان التفسير يبدأ من الواقع وينتهي الى القرآن لا انه يبدأ من القرآن وينتهي في القرآن فيكون عملية منعزلة عن الواقع ، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرأن بوصفه القيم والمصدر الذي يجدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة الى ذلك الواقع ومن هنا تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة والعطاء المستجد بشكل دائم فالقرآن الكريم دلت الروايات على انه لا ينفد وصرح القرآن نفسه بأن كلمات اله لا تنفد ، عطاء القرآن لا ينفد بينما التفسير اللغوي ينفد لان اللغة لها طاقات محدودة وليس هناك تجدد في الملول اللغوي ولو وجد تجدد في المدلول اللغوي فلا معنى لتحكيمه على القرآن ، ولو وجدت لغة اخرى بعد القرآن فلا معنى لان يفهم القرآن من خلال لغة جديدة او ألفاظ تحمل مصطلحات جديدة استحدثت بعد القرآن اذن فحالة عدم النفاد تكمن في منهج التفسير الموضوعي لاننا نستنطق القرآن وفيه علم ما كان وعلم ما يأتي ودواء دائنا ، ونظم ما بيننا ، ما يمكن ان نستشف منه مواقف السماء تجاه تجربة الارض.
   فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادرا على التطور والنمو لان التجربة البشرية تثريه والدرس القرآني والتأمل القرآني على ضوء التجربة البشرية يجعل هذا الثراء محولا الى فهم اسلامي قرآني صحيح والحمد لله رب العالمين.

الدرس الثاني :
  ان الاتجاهات الفقهية سارت في الاتجاه الموضوعي بينما الابحاث التفسيرية سارت في الاتجاه التجزيئي طبعا لم نكن نعني من ذلك ايضا ان البحث الفقهي استنفذ طاقة الاتجاه الموضوعي فالبحث الفقهي اليوم مدعو ايضا الى ان يستنفذ طاقة هذا الاتجاه الموضوعي افقيا وعموديا باعتبار ان الاتجاه الموضوعي كما قلنا عبارة عن ان الانسان يبدأ من الواقع وينتهي الى الشريعة .
  هكذا كان ديدن العلماء والفقهاء كانوا يبدأون بالحياة ، يبدأون من الواقع ، وقائع الحياة كانت تنعكس عليهم على شكل جعالة ومضاربة ومزارعة ومساقات ليستنبطوا الحكم من مصادرها ثم يردونها الى الشريعة هذا اتجاه موضوعي لانه يبدأ بالواقع وينتهي الى الشريعة في مقام التعريف على حكم هذا الواقع لكن هنا لا بد ان يمتد الفقه افقيا على هذه الساحة اكثر لان العلماء الذين ساهموا في تكوين هذا الاتجاه الموضوعي عبر قرون متعددة كانوا حريصين على ان يأخذوا هذه الوقائع ويحيلوها الى الشريعة ليستنبطوا احكام الشريعة المرتبطة بتلك الوقائع لكن وقائع الحياة تتكاثر وتتجدد باستمرار وتتولد ميادين جديدة فلابد لهذه العملية من النمو باستمرار فتبدأ من الواقع لكن لا ذاك الواقع الساكن المحدود والذي كان يعيشه الشيخ الطوسي او المحقق الحلي ، لان ذاك الواقع كان يفي بحاجات عصرهما فالاجار والمضاربة والمزارعة والمساقات كانت تمثل السوق قبل ألف سنة أو قبل ثمانمائة سنة لكن ابواب السوق قد اتسعت ففيها العلاقات الاقتصادية اوسع واكثر تشابكا من هذا النطاق ، فلا بد للفقه من ان يكون كما كان على يد هؤلاء العلماء الذين كانوا حريصين على ان يعكسوا كل ما يستجد من وقائع الحياة على الشريعة ليأخذوا حكم الشريعة ، لا بد ايضا من ان هذه العملية تسير افقيا كما سارت افقيا في البداية هذا من الناحية الافقية .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 9 _
  من الناحية العمودية ايضا لا بد من ان يتوغل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه ، لا بد وان يتوغل ، لا بد وان ينفذ عموديا ، لا بد وان يصل الى النظريات الاساسية ، لا بد وان لا يكتفي بالبناءات العلوية وبالتشريعات التفصيلية ، لا بد وان ينفذ من خلال هذا التشريعات التي تمثل وجهة نظر الاسلام لاننا نعلم ان كل مجموعة من التشريعات في كل باب من ابواب الحياة ترتبط بنظريات اساسية ، ترتبط بتطورات رئيسية لأحكام الاسلام ، تشريعات الاسلام ، في المذهب الاقتصادي بالاسلام ، احكام الاسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة مع الرجل ترتبط بنظرياته الاساسية عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل هذه النظريات الاساسية التي تشكل القواعد النظرية لهذه الابنية العلوية ، لا بد ايضا من التوغل اليها ، لا ينبغي ان ينظر الى ذلك بوصفه عملا منفصلا عن الفقه ، بوصفه ترفا ، أدبا ، بل بوصفه ضرورة وينبغي اكتشافها بقدر الطاقة البشرية .
  الان نعود الى التفسير بما ذكرناه من اوجه الخلاف بين التفسير الموضوعي والتفسير التجزيئي ، تبينت عدة افضليات تدعو الى تفضيل المنهج الموضوعي في التفسير على المنهج التجزيئي في التفسير فان المنهج الموضوعي في التفسير على ضوء ما ذكرناه يكون اوسع افقا وأرحب وأكثر عطاء باعتبار ان يتقدم خطوة عن التفسير التجزيئي كما أنه قادر على التجدد باستمرار ، على التطور والابداع باستمرار ، باعتبار ان التجربة البشرية تغني هذا التفسير بما تقدمه من مواد ، ثم هذه المواد تطرح بين يدي القرآن الكريم وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الاساسية للاسلام وللقرآن ازاء موضوعات الحياة المختلفة وقد يقال بأنه ما الضرورة الى تحصيل هذه النظريات الاساسية ، ما الضرورة الى ان نفهم نظرية الاسلام في النبوة مثلا بشكل عام او نفهم نظرية الاسلام في سنن التار التغير الاجتماعي بشكل عام او ان نفهم سنن الاسلام والارض ، ما الضرورة الى ان ندرسيخ او في ونحدد هذه النظريات فاننا نجد بان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يعط هذه النظريات على شكل نظريات محدودة وصيغ عامة ، وانما اعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين ، ما الضرورة الى ان نتعب انفسنا في سبيل هذه النظريات وتحديدها بعد ان لا حظنا ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اكتفى باعطاء هذا المجموع ، هذا الشكل المتراكم بهذا الشكل ما الضرورة ان نستحصل هذه النظريات الحقيقة بأنه هناك اليوم ضرورة اساسية لتحديد هذه النظريات ولتحصيل هذه النظريات ولا يمكن ان يفترض الاستغناء عنها .
  النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعطي هذه النظريات ولكن من خلال التطبيق من خلال المناخ القرآني العام الذي كان بينه في الحياة الاسلامية.

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 10 _
  وكان كل فرد مسلم في إطار هذا المناخ ، كان يحمل نظرية ولو فهما اجماليا ارتكازيا لان المناخ والاطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي الذي وصفه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قادرا على ان يعطي النظرة السليمة ، والقدرة السليمة على تقييم المواقع والمواقف والاحداث اذا اردنا ان نقرب هذه الفكرة نقول : قايسوا بين حالتين حالة الانسان الذي يعيش داخل عرف لغة من اللغات وانسان يريد ان يعرف ابناء هذه اللغة ، ابناء هذا العرف ، كيف تتمثل اذهانهم هذه المعاني الى الالفاظ ، كيف يحددون المعاني من الألفاظ ، هنا توجد حالتين احداهما : ان تأتي بهذا الانسان وتجعله يعيش في اعماق هذا العرف وفي اعماق هذه اللغة واذا صار كذلك واستمرت به الحياة في اطار هذا العرف وهذه اللغة فترة طويلة من الزمن سوف يتكون لديه الاطار اللغوي ، والعرفي الذي يستطيع من خلاله ان يتحرك ذهنه وفقا لما يريده العرف واللغة منه لان مدلولات تكون موجودة وجودا اجماليا ارتكازيا في ذهنه ، النظرة السليمة والتفهم السليم للكلمة الصحيحة ، وتمييزها عن الكلمة غير الصحيحة تكون موجودة عنده باعتبار انه عاش عرف اللغة ووجدانها في ممارساته بينما اذا كان الانسان خارج جناح تلك اللغة وعرفها واردت ان تنشئ في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح فلا تستطيع التمييز اللغوي حينئذ الا عن طريق الرجوع الى قواعد تلك اللغة ، والى العرف الذي تربى فيه الانسان لكي تستنتج منه القواعد العامة والنظريات الشاملة ومثاله ما وقع بالنسبة الى علوم العربية كيف ان ابن اللغة لم يكن بحاجة الى ان يعلم علوم العربية في البداية لانه كان يعيش في اعماق عرف اللغة ، لكن بعد ان ابتعد عن تلك الاعماق واختلفت الاجواء وضعفت اللغة ، وتراكمت لغات اخرى اندست الى داخل حياة هؤلاء ، بدأ هؤلاء بحاجة الى علم لللغة ، الى نظريات لللغة لان الواقع لا يسفعهم بنظرة سليمة فلا بد حينئذ من علم لا بد من نظريات لكي يفكروا ولكي يناقشوا ولكي يتصرفوا لغويا وفقا لتلك القواعد والنظريات هذا المثال مثال تقريبي لأجل توضيح الفكرة .
  اذا الصحابة الذين عاشوا في كنف الرسول الاعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اذا كانوا لم يتلقوا النظريات بصيغ عامة فقد تلقوها تلقيا اجماليا ارتكازيا ، انتقشت في اذهانهم وسرت في افكارهم ، كان المناخ العام الاطار الاجتماعي والروحي والفكري الذي يعيشونه كله كان اطارا مساعدا على تفهم هذه النظريات ولو تفهما اجماليا وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقييم .
  اما حيث لا يوجد ذلك المناخ ، ذلك الاطار اذا تكون الحاجة الى دراسة لنظريات القرآن الكريم في الاسلام ، تكون حاجة حقيقية ملحة خصوصا مع بروز نظريات عديدة من خلال التفاعل بين انسان العالم الاسلامي وانسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد عظيم ومن ثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية حينما وقع هذا التفاعل بين انسان العالم الاسلامي وانسان العالم الغربي وجد الانسان المسلم نفسه امام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة فكان عليه لكي يحدد موقف الاسلام من هذه النظريات ، كان لا بد وان يستنطق نصوص الإسلام ، ويتوغل في اعماق هذه النصوص ليصل الى مواقف الاسلام سلبا وايجاباً لكي يكتشف نظريات الاسلام التي تعالج نفس هذه المواضيع التي عاش بحثها التجارب البشرية الذكية في مختلف مجالات الحياة .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 11 _
  اذن فالتفسير الموضوعي في المقام هو افضل الاتجاهين في التفسير الا ان هذا لا ينبغي ان يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي ، هذه الافضلية لا تعني استبدال اتجاه باتجاه او طرح التفسير التجزيئي رأسا والاخذ بالتفسير الموضوعي ، وانما اضافة اتجاه الى اتجاه لان التفسير الموضوعي ليس الا خطوة الى الامام بالنسبة الى التفسير التجزيئي ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي باتجاه الموضوعي .
  وانما هي مسألة ضم الاتجاه الموضوعي في التفسير الى الاتجاه التجزيئي في التفسير ، يعني افتراض خطوتين خطوة هي التفسير التجزيئي وخطوة وأخرى هي التفسير الموضوعي .

الدرس الثالث :
  ستعرضنا فيما سبق المبررات الموضوعية والفكرية لايثار التفسير الموضوعي التوحيدي على التفسير التجزيئي التقليدي باعتبار أن التفسير الموضوعي أغنى عطاءا وأكثر قدرة على التحرك والأبداع وعلى تحديد المواقف النظرية الشاملة للقرآن الكريم ... الآن أود أن أذكر مبررا عمليا وهو ان شوط التفسير التقليدي شوط طويل جدا لانه يبدأ من سورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس وهذا الشوط الطويل بحاجة من أجل اكماله الى فترة زمنية طويلة ايضا ولهذا لم يحض من علماء الاسلام الاعلام الا عدد محدود بهذا الشرف العظيم ، شرف مرافقة الكتاب الكريم من بدايته الى نهايته ونحن نشعر بأن هذه الايام المحدودة المتبقية لا تفي بهذا الشوط الطويل ولهذا كان من الافضل اختيار أشواط أقصر لكي نستطيع ان نكمل بضعة أشواط من هذا الجولان في رحاب القرآن الكريم .
  من هنا سوف نختار موضوعات متعددة من القرآن الكريم ونستعرض ما يتعلق بذلك الموضوع وما يمكن أن يلقي عليه القرآن من أضواء .
  وسوف نحاول أن يكون البحث مربوطا بقدر الامكان لكي نستطيع أن نصل الى عدد من المواضيع المهمة .
  فنقتصر على الافكار الاساسية والمبادئ الرئيسية بالنسبة الى كل موضوع وسوف أحرص على أن لا يستوعب كل موضوع الا عددا محدودوا من المحاضرات .
  أرجو أن يكون بين خمس محاضرات الى عشر محاضرات لكي نستطيع أن نستوعب مواضيع متنوعة من القرآن الكريم ... الان نواجه هذا السؤال : ما هو الموضوع الاول الذي سوف نبدأ به الان انشاء الله تعالى ؟ الموضوع الاول الذي سوف نختاره للبحث هو ( سنن التاريخ في القرآن الكريم ) ! هل للتاريخ البشري سنن في مفهوم القرآن الكريم ، هل له قوانين تتحكم في مسيرته وفي حركته وتطوره ، ما هي هذه السنن التي تتحكم في التاريخ البشري ، كيف بدأ التاريخ البشري ، كيف نما ، كيف تطور ، ما هي العوامل الاساسية في نظرية التاريخ ، ما هو دور الانسان في عملية التاريخ ، ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة الاجتماعية .
  هذا كله ما سوف ندرسه تحت هذا العنوان ، عنوان سنن التاريخ في القرآن الكريم ، وهذا الجانب من القرآن الكريم قد بحث الجزء الاعظيم من مواده ومفرادته القرآنية لكن من زوايا مختلفة ، فمثلا قصص الانبياء ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي تمثل الجزء الاعظم من هذه المادة القرآنية ، بحثت قصص الانبياء من زاوية تاريخية تناولها المؤرخون واستعرضوا الحوادث والوقائع التي تكلم عنها القرآن الكريم ، وحينما لا حظوا الفراغات التي تركها هذا الكتاب العزيز ، حاولوا ان يملؤا هذه الفراغات بالروايات والاحاديث ، او بما هو المأثور عن أديان سابقة ، أو بالاساطير والخرافات فتكونت سجلات ذات طابع تاريخي لتنظيم هذه المادة القرآنية ، كذلك أيضاً بحثت هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى ، من زاوية منهج القصة في القرآن ، مدى ما يتمتع به هذا المنهج من أصالة وقوة وابداع ، ما تزخر به القصة القرآنية من حيوية ، من حركة ، من أحداث ، هذا أيضا زاوية أخرى للبحث في هذه المادة يضاف الى زوايا عديدة ، نحن الآن نريد ان نتناول هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى ، من زاوية مقدار ما تلقي هذه المادة من أضواء على سنن التاريخ ، على تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكم في عملية التاريخ اذا كان يوجد في مفهوم القرآن شيء من هذه النواميس والضوابط والقوانين .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 12 _
  الساحة التاريخية كأي ساحة أخرى زاخرة بمجموعة من الظواهر كما ان الساحة الفلكية ، الساحة الفيزيائية ، الساحة النباتية زاخرة بمجموعة من الظواهر ، كذلك الساحة التاريخية بالمعنى الذي سوف نفصل من التاريخ انشاء الله بعد ذلك ، زاخرة بمجموعة من الظواهر ، كما ان الظواهر في كل ساحة أخرى من الساحات لها سنن ولها نواميس فمن حقنا أن نتساءل : هل ان هذه الظواهر التي تزخر بها الساحة التاريخية ، هل هذه الظواهر ايضا ذات سنن وذات نواميس ، وما هو موقف القرآن الكريم من هذه السنن والنواميس ، وما هو عطاؤه في مقام تأكيد هذا المفهوم ايجابا أو سلبا ، اجمالا أو تفصيلا ، وقد يخيل الى بعض الاشخاص ، اننا لا ينبغي ان نترقب من القرآن الكريم أن يتحدث عن سنن التاريخ ، لان البحث في سنن التاريخ بحث علمي كالبحث في سنن الطبيعة والفلك والذرة والنبات ، والقرآن الكريم لم ينزل كتاب اكتشاف بل كتاب هداية ، القرآن الكريم لم يكن كتابا مدرسيا ، لم ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بوصفه معلما بالمعنى التقليدي من المعلم لكي يدرس مجموعة من المتخصصين والمثقفين ، وانما نزل هذا الكتاب عليه ليخرج الناس من الظلمات الى النور ، من ظلمات الجاهلية الى نور الهداية والاسلام .
   اذن فهو كتاب هداية وتغيير وليس كتاب اكتشاف ، ومن هنا لا نترقب من القرآن الكريم ان يكشف لنا الحقائق والمبادئ العامة للعلوم الاخرى ولا نترقب من القرآن الكريم ان يتحدث لنا عن مبادئ الفيزياء أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان ، صحيح أن في القرآن الكريم اشارات الى كل ذلك ، ولكنها اشارت بالحدود التي تؤكد على البعد الالهي للقرآن ، وبقدر ما يمكن أن يثبت العمق الرباني لهذا الكتاب الذي أحاط بالماضي والحاضر والمستقبل والذي استطاع أن يسبق التجربة البشرية مئات السنين في مقام الكشف عن حقائق متفرقة في الميادين العلمية المتفرقة ، لكن هذه الاشارات القرآنية انما هي لاجل غرض عملي من هذا القبيل لا من أجل تعليم الفيزياء والكيمياء .
   القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن قدرة الانسان الخلاقة ، عن مواهبه وقابلياته في مقام الكدح ، الكدح في كل ميادين الحياة بما في ذلك ميدان المعرفة والتجربة ، القرآن لم يطرح نفسه بديلا عن هذه الميادين ، وانما طرح نفسه طاقة روحية موجهة للانسان ، مفجرة طاقاته ، محركة له في المسار الصحيح .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 13 _
  فاذا كان القرآن الكريم كتاب هداية وتوجيه وليس كتاب اكتشاف وعلم فليس من الطبيعي أن نترقب منه استعراض مبادئ عامة لأي واحد من هذه العلوم التي يقوم الفهم البشري بمهمة التوغل في اكتشاف نواميسها وقوانينها وضوابطها ، لماذا ننتظر من القرأن الكريم أن يعطينا عموميات ، أن يعطينا مواقف ، أن يبلور له مفهوما علميا في سنن التاريخ على هذه الساحة من ساحات الكون بينما ليس للقرآن مثل ذلك على الساحات الاخرى ، ولا حرج على القرآن في ان لا يكون له ذلك على الساحات الاخرى .
   لان القرآن لو صار لمقام استعراض هذه القوانين ، وكشف هذه الحقائق لكان بذلك يتحول الى كتاب آخر نوعيا ، يتحول من كتاب للبشرية جمعاء الى كتاب للمتخصصين يدرس في الحلقات الخاصة ، قد يلاحظ بهذا الشكل على اختيار هذا الموضوع الا ان هذه الملاحظة رغم ان الروح العامة فيها صحيحة بمعنى ان القرآن الكريم ليس كتاب اكتشاف ، ولم يطرح نفسه ليجمد في الانسان طاقات النمو والابداع والبحث ، وانما هو كتاب هداية ، ولكن مع هذا يوجد فرق جوهري بين الساحة التاريخية وبقية ساحات الكون ، هذا الفرق الجوهري يجعل من هذه الساحة ومن سنن هذه الساحة أمرا مرتبطا أشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هداية ، خلافا لبقية الساحات الكونية والميادين الاخرى للمعرفة البشرية ، وذلك ان القرآن الكريم كتاب هداية وعملية تغيير هذه العملية التي عبر عنها في القرآن الكريم بأنها اخراج للناس من الظلمات الى النور ، وعملية التغيير هذه فيها جانبان ( الجانب الاول) جانب المحتوى المضمون اليه هذه العملية التغييرية من احكام ، من مناهج ، ما تتبناه من تشريعات ، هذا الجانب من عملية التغيير جانب رباني ، جانب الهي سماوي ، هذا الجانب يمثل شريعة الله سبحانه وتعالى التي نزلت على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحدت بنفس نزولها عليه كل سنن التاريخ المادية لان هذه الشريعة كانت اكبر من الجو الذي نزلت عليه ، ومن البيئة التي حلت فيها ، ومن الفرد الذي كلف بأن يقوم بأعباء تبليغها . هذا الجانب من عملية التغيير ، جانب المحتوى والمضمون ، جانب التشريعات والاحكام والمناهج التي تدعو اليها هذه العملية ، هذا الجانب جانب رباني الهي ، لكن هناك جانب آخر عملية التغيير التي مارسها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه الاطهار ، هذه العملية حينما تلحظ بوصفها عملية متجسدة في جماعة من الناس وهم النبي والصحابة ، بوصفها عملية اجتماعية متجسدة في هذه الصفوة ، وبوصفها عملية قد واجهت تيارات اجتماعية مختلفة من حولها واشتبكت معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائدي والاجتماعي والسياسي والعسكري ، حينما تؤخذ هذه العملية التغييرية بوصفها تجسيدا بشريا على الساحة التاريخية مترابطا مع الجماعات والتيارات الاخرى التي تكتنف هذا التجسيد والتي تؤيد أو تقاوم هذا التجسيد ، حينما تؤخذ العملية من هذه الزاوية تكون عملية بشرية ، يكون هؤلاء اناسا كسائر الناس تتحكم فيهم الى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكم في بقية الجماعات وفي بقية الفئات على مر الزمن .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 14 _
  اذن عملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي ومصادر الوحي ، هي ربانية ، هي فوق التاريخ ولكن من حيث كونها هي عملا قائما على الساحة التاريخية ، من حيث كونها جهدا بشريا يقاوم جهودا بشرية اخرى ، من هذه الناحية يعتبر هذا عملا تاريخيا تحكمه سنن التاريخ وتتحكم فيه الضوابط التي وضعها الله سبحانه وتعالى لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة المسماة بالساحة التاريخية ولهذا نرى ان القرآن الكريم حينما يتحدث عن الزاوية الثانية ، عن الجانب الثاني من عملية التغيير يتحدث عن أناس ، يتحدث عن بشر ، لا يتحدث عن رسالة السماء ، بل يتحدث عنهم بوصفهم بشرا من البشر تتحكم فيهم القوانين التي تتحكم في الاخرين حينما أراد أن يتحدث عن انتصار المسلمين في غزوة أحد بعد ان احرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر ، بعد ذلك انكسروا وخسروا المعركة في غزوة أحد ، تحدث القرآن الكريم عن هذه الخسارة ، ماذا قال ، هل قال بان رسالة السماء خسرت المعركة بعد ان كانت ربحت المعركة ؟ لا ... لان رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى المادي ، رسالة السماء لا تهزم ، ولن تهزم ابدا ، ولكن الذي يهزم هو الانسان ، الانسان حتى ولو كان هذا الانسان مجسدا لرسالة السماء ، لان هذا الانسان تتحكم فيه سنن التاريخ ، ماذا قال القرآن ؟ قال ( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) (1) .
   هنا اخذ يتكلم عنهم بوصفهم اناسا قال بان هذه القضية هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ ، المسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضوعية للنصر بحسب منطق سنن التاريخ تفرض ان ينتصروا ، وخسروا المعركة في اُحد حينما كانت الشروط الموضوعية في معركة اُحد تفرض عليهم ان يخسروا المعركة .
  ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ) (2) ، ( وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) لا تتخيلوا ان النصرن حق الهي لكم ، وانما النصر حق طبيعي لكم بقدر ما يمكن ان توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى كونيا لا تشريعيا ، وحيث انكم في غزوة اُحد لم تتوفر لديكم هذه الشروط ولهذا خسرتم المعركة .
  فالكلام هنا كلام مع بشر ، مع عملية بشرية لا مع رسالة ربانية ، بل يذهب القرآن الى اكثر من ذلك ، يهدد هذه الجماعة البشرية التي كانت انظف واطهر جماعة على مسرح التاريخ ، يهددهم بانهم اذا لم يقوموا بدورهم التاريخي ، واذا لم يكونوا على مستوى مسؤولية رسالة السماء فان هذا لا يعني ان تتعطل رسالة السماء ، ولا يعني ان تسكت سنن التاريخ عنهم بل انهم سوف يستبدلون ، سنن التاريخ سوف تعزلهم وسوف تأتي بأمم اخرى قد تهيأت لها الظروف الموضوعية الافضل لكي تلعب هذا الدور ، لكي تكون شهيدة على الناس اذا لم تتهيأ لهذه الامة الظروف الموضوعية لهذه الشهادة ( إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3).
--------------------
(1) سورة آل عمران : الآية (140) .
(2) نفس الآية السابقة .
(3) سورة التوبة : الآية ( 39 ) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 15 _
  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (1) .
  اذن فالقرآن الكريم انما يتحدث مع الجانب الثاني من عملية التغيير ، يتحدث مع البشر في ضعفه وقوته ، في استقامته وانحرافه ، في توفر الشروط الموضوعية له وعدم توفرها ، من هنا يظهر بان البحث في سنن التاريخ مرتبط ارتباطا عضويا شديدا بكتاب الله بوصفه كتاب هدى ، بوصفه اخراج للناس من الظلمات الى النور لان الجانب العملي من هذه العملية ، الجانب البشري يخضع لسنن التاريخ ، فلا بد اذن ان نستلهم ، ولا بد اذن ان يكون للقرآن الكريم تصورات وعطاءات في هذا المجال لتكوين اطار عام للنظرة القرآنية والاسلامية عن سنن التاريخ .
  اذن هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات ، تلك السنن ليست داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التاريخ ولكن هذه السنن داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التغيير .
  باعتبار الجانب الثاني ، اذن لا بد من شرح ذلك ولا بد ان نترقب من القرآن اعطاء عموميات في ذلك ، نعم لا ينبغي ان نترقب من القرآن ان يتحول ايضا الى كتاب مدرسي في علم التاريخ وسنن التاريخ بحيث يستوعب كل التفاصيل وكل الجزئيات حتى ما لا يكون له دخل في منطق عملية التغيير التي مارسها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانما القرآن الكريم يحتفظ دائما بوصفه الاساسي والرئيسي ، يحتفظ بوصفه كتاب هداية ، كتاب اخراج للناس من الظلمات الى النور ، وفي حدود هذه المهمة الكبيرة العظيمة التي مارسها يعطي مقولاته على الساحة التاريخية ويشرح سنن التاريخ بالقدر الذي يلقي ضوءا على عملية التغيير التي مارسها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقدر ما يكون موجها وهاديا وخالقا لتبصر موضوعي للاحداث والظروف والشروط .
  ونحن في القرآن الكريم نلاحظ ان الساحة التاريخية عامرة بسنن كما عمرت كل الساحات الكونية الاخرى بسنن هذه الحقيقة نراها واضحة في القرآن الكريم ، فقد بينت هذه الحقيقة باشكال مختلفة وبأساليب متعددة في عدد كثير من الآيات بينت على مستوى اعطاء نفس هذه المفهوم بالنحو الكلي ، ان للتاريخ سنن وان للتاريخ قوانين ، وبينت هذه الحقيقة في آيات اخرى على مستوى عرض هذه القوانين وبيان مصاديق ونماذج وامثلة من هذه القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية للانسان وبينت في سياق آخر على نحو تمتزج فيه النظرية مع التطبيق أي بين المفهوم الكلي وبين في اطار مصداقه وفي آيات اخرى حصل الحث الاكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية وشحذ الهمم لايجاد عملية استقراء للتاريخ وعملية الاستقراء للحوادث كما تعلمون هي عملية علمية بطبيعتها ، تريد ان تفتش عن سنة عن قانون والا فلا معنى للاستقراء من دون افتراض سنة او قانون .
  اذن هناك السنة متعددة درجت عليها الآيات القرآنية في مقام توضيح هذه الحقيقة وبلورتها .
--------------------
(1) سورة المائدة : الآية ( 54 ) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآنء _ 16 _
الدرس الرابع :
  قلنا ان هذه الفكرة القرآنية عن سنن التاريخ بلورت في عدد كثير من الآيات باشكال مختلفة وألسنة متعددة في بعض هذه الآيات اعطيت الفكرة بصيغتها الكلية وفي بعض الآيات اعطيت على مستوى التطبيق على مصاديق ونماذج ، في بعض الآيات وقع الحث على الاستقراء وعلى الفحص الاستقرائي للشواهد التاريخية من اجل الوصول الى السنة التاريخية وهناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل وآخر وسوف نقرأ جملة من هذه الآيات الكريمة وبعض هذه الآيات التي سنستعرضها واضح الدلالة على المقصود والبعض الآخر له نحو دلالة بشكل وآخر او يكون معززا ومؤيدا للروح العامة لهذه الفكرة القرآنية ... فمن الآيات الكريمة التي اعطيت فيها الفكرة الكلية ، فكرة ان التاريخ له سنن وضوابط ما يلي : ( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (1) .
  ( لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (2) .
  نلاحظ في هاتين الآيتين الكريمتين ان الاجل اضيف الى الامة ، الى الوجود المجموعي للناس ، لا الى هذا الفرد بالذات او هذا الفرد بالذات ، اذن هناك وراء الاجل المحدود المحتوم لكل انسان بوصفه الفردي ، هناك أجل آخر وميقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الافراد ، للامة بوصفها مجتمعا ينشيء ما بين افراده العلاقات والصلات القائمة على مجموعة من الافكار والمبادىء المسندة بمجموعة من القوى والقابليات .
  هذا المجتمع الذي يعبر عنه القرآن الكريم بالامة ، هذا له أجل ، له موت ، له حياة ، له حركة ، كما ان الفرد يتحرك فيكون حيا ثم يموت كذلك الامة تكون حية ثم تموت ، وكما ان موت الفرد يخضع لاجل ولقانون ولناموس كذلك الامم لها آجالها المضبوطة وهناك نواميس تحدد لكل امة هذا الاجل ، اذن هاتان الآيتان الكريمتان فيهما عطاء واضح للفكرة الكلية ، فكرة ان التاريخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصية التي تتحكم في الافراد ، بهوياتهم الشخصية ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) (3) ، ( مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَِ ) (4) ، (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) (5).
--------------------
(1) سورة يونس : الآية (49) .
(2) سورة الاعراف : الآية (34) .
(3) سورة الحجر : الآية : (4 ـ 5) .
(4) سورة المؤمنون : الآية (43) .
(5) سورة الاعراف : الآية (185) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 17 _
  ظاهر الآية الكريمة ان الاجل الذي يترقب ان يكون قريبا او يهدد هؤلاء بأن يكون قريبا هو الاجل الجماعي لا الاجل الفردي لان قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وانما الجماعة بوجودها المعنوي الكلي هو الذي يمكن ان يكون قد اقترب أجله .
  فالاجل الجماعي هنا يعبر عن حالة قائمة بالجماعة لا عن حالة قائمة بهذا الفرد او بذاك ، لان الناس عادة تختلف آجالهم حينما ننظر اليها بالمنظار الفردي ، لكن حينما ننظر اليهم بالمنظار الاجتماعي بوصفهم مجموعة واحدة متفاعلة في ظلمها وعدلها ، في سرائها وضرائها ، حينئذ يكون لها أجل واحد .
  فهذا الاجل الجماعي المشار اليه انما هو أجل الامة وبهذا تلتقي هذه الآية الكريمة مع الآيات السابقة ... (1) .
  ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )(2) .
  ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ) (3).
  في هاتين الآيتين الكريمتين تحدث القرآن الكريم عن انه لو كان الله يريد ان يؤاخذ الناس بظلمهم وبما كسبوا لما ترك على ساحة الناس من دابة ولا هلك الناس جميعا .
  وقد وقعت مشكلة في كيفية تصوير هذا المفهوم القرآني حيث ان الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة ، فيهم الانبياء ، فيهم الائمة الاوصياء هل يشمل الهلاك الانبياء والائمة العدول من المؤمنين ، حتى ان بعض الناس أستغل هاتين الآيتين لانكار عصمة الانبياء ( عليهم السلام ) والحقيقة ان هاتين الآيتين تتحدثان عن عقاب دنيوي لا عن عقاب أخروي ، تتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه امة عن طريق الظلم والطغيان ، هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من ابناء المجتمع بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هوياتهم وعلى اختلاف انحاء سلوكهم .
  حينما وقع التيه على بني اسرائيل نتيجة ما كسب هذا الشعب بظلمه وطغيانه وتمرده ، هذا التيه لم يختص بخصوص الظالمين من بني اسرائيل وانما شمل موسى ( عليه السلام ) شمل اطهر الناس واذكى الناس ، واشجع تكسبه امة عن طريق الظلم والطغيان ، هذه النتيجة الطبيعية لا تختص حينئذ بخصوص الظالمين من ابناء المجتمع بل تعم أبناء المجتمع على اختلاف هوياتهم وعلى اختلاف انحاء سلوكهم .
  الناس في مواجهة الظلمة والطواغيت ، لان موسى ( عليه السلام ) جزء من تلك الامة وقد حل الهلاك بها قد قرر نتيجة ظلمهم ان يتيهوا أربعين عاما وبهذا شمل التيه موسى ( عليه السلام ) .
  حينما حل البلاء والعذاب بالمسلمين نتيجة انحرافهم فاصبح يزيد بن معاوية خليفة عليهم يتحكم في دمائهم واموالهم واعراضهم وعقائدهم ، حينما حل هذا البلاء لم يختص بالظالمين من المجتمع الاسلامي ، وقتئذ شمل الحسين ( عليه السلام ) ، أطهر الناس وأزكى الناس واطيب الناس وأعدل الناس .
--------------------
(1) سورة الكهف : الآية (58ـ59) .
(2) سورة النحل : الآية (61) .
(3) سورة فاطر : الآية (45) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 18 _
  شمل الامام المعصوم ( عليهم السلام ) فقتل تلك القتلة الفظيعة هو واصحابه وأهل بيته ، هذا كله هو منطق سنة التاريخ والعذاب حينما يأتي في الدنيا على مجتمع وفق سنن التاريخ ، لا يختص بالظالمين من ابناء ذلك المجتمع ولهذا قال القرآن الكريم في آية اخرى ( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (1) بينما يقول في موضع آخر ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (2) .
  فالعقاب الاخروي دائما ينصب على العامل مباشرة ، وأما العقاب الدنيوي فيكون اوسع من ذلك ، اذن هاتان الآيتان تتحدثان عن سنن التاريخ لا عن العقاب بالمعنى الاخروي والعذاب بمقاييس يوم القيامة بل عن سنن التاريخ وما يمكن ان يحصل نتيجة كسب الامة ، سعي الامة ، جهد الامة ... ( وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا )(3) .
  هذه الآية الكريمة أيضا تؤكد المفهوم العام ، يقول ( وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً َ ) ، هذه سنة سلكناها مع الانبياء من قبلك وسوف تستمر ولن تتغير ، أهل مكة يحالون أن يستفزوك لتخرج من مكة لانهم عجزوا عن امكانية القضاء عليك وعلى كلمتك وعلى دعوتك ، ولهذا صار أمامهم طريق واحد وهو اخراجك من مكة .
  وهناك سنة من سنن التاريخ سوف يأتي شرحها بعد ذلك يشار اليها في هذه الآية الكريمة .
  وهي أنه اذا وصلت عملية المعارضة الى مستوى اخراج النبي من هذا البلد بعد عجز هذه المعارضة عن كل الوسائل والاساليب الاخرى فانهم لا يلبثون بعده الا قليلا .
  ليس المقصود من انهم لا يلبثون الا قليلا يعني انه سوف ينزل عليهم عذاب الله سبحانه وتعالى من السماء ، لان أهل مكة اخرجوا النبي بعد نزول هذه السورة .
  استفزوه وارعبوه وخرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مكة اذ لم يجد له أمانا وملجأ فيها فخرج الى المدينة ولم ينزل عذاب من السماء على أهل مكة ، وانما المقصود في أكبر الظن من هذا التعبير أنهم لا يمكثون كجماعة صامدة معارضة يعني كموقع اجتماعي لا يمكثون ، لا كأناس ، كبشر ، وانما هذا الموقع سوف ينهار نتيجة هذه العملية ، لا يمكثون الا قليلا لان هذه النبوة التي عجز هذا المجتمع عن تطويقها سوف تستطيع بعد ذلك ان تهز هذه الجماعة كموقع للمعارضة ، وهذا ما وقع فعلا .
  فان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين أخرج من مكة لم يمكثوا بعده الا قليلا ، اذ فقدت المعارضة في مكة موقعها ، وتحولت مكة الى جزء من دار الاسلام بعد سنين معدودة .
اذن الآية تتحدث عن سنة من سنن التاريخ ، وتؤكد وتقول ( وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) ( فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ) (4) .
--------------------
(1) سورة الانفال : الآية (25) .
(2) سورة فاطر : الآية (18) .
(3) سورة الاسراء : الآية (76ـ77) .
(4) سورة آل عمران : الآية (137).

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 19 _
  تؤكد هذه الآية على السنن وتؤكد على الحق والتتبع لاحداث التاريخ من اجل استكشاف هذه السنن والاعتبار بها ، ( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ) (1) .
  هذه الآية ايضا تثبت قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، تحدثه عن التجارب السابقة ، تربطه بقانون التجارب السابقة توضح له ان هناك سنة تجري عليه وتجري على الانبياء الذين مارسوا التجربة من قبله وان النصر سوف يأتيه ولكن للنصر شروطه الموضوعية : الصبر والثبات واستكمال الشروط ، هذا هو طريق الحصول على هذا النصر ، ولهذا يقول ( فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى اتاهم نصرنا ، لا مبدل لكلمات الله ) اذن هناك كلمة لله لا تتبدل على مر التاريخ هذه الكلمة هي علاقة قائمة بين النصر وبين مجموعة من الشروط والقضايا والمواصفات وضحت في آيات متفرقة وجمعت على وجه الاجمال هنا .
  اذن فهناك سنة للتاريخ ( فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا )(2) .
  ( وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا )(3) .
  هناك آيات استعرضت نماذج من سنن التاريخ ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (4) المحتوى الداخلي النفسي والروحي للانسان هو القاعدة ، الوضع الاجتماعي هو البناء العلوي ، لا يتغير هذا البناء العلوي الا وفقا لتغير القاعدة على ما يأتي انشاء الله شرحه بعد ذلك .
  هذه الآية اذن تتحدث عن علاقة معينة بين القاعدة والبناء العلوي ، بين الوضع النفسي والروحي والفكري للانسان وبين الوضع الاجتماعي ، بين داخل الانسان وبين خارج الأنسان ، فخارج الأنسان يصنعه داخل الانسان ، مرتبط بداخل الانسان ، فاذا تغير ما بنفس القوم تغير وضعهم ، وعلاقاتهم والروابط التي تربط بعضهم ببعض .
--------------------
(1) سورة الانعام : الآية (34) .
(2) سورة فاطر : الآية (43) .
(3) سورة الفجر : الآية (23) .
(4) سورة الرعد : الآية (11) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 20 _
  اذن فهذه سنة من سنن التاريخ ربطت القاعدة بالبناء العلوي ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ )(1) .
  ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (2) .
   يستنكر عليهم ان يأملوا في ان يكون لهم استثناء من سنن التاريخ ، هل تطمعون ان يكون لكم استثناء من سنة التاريخ ! وان تدخلوا الجنة وان تحققوا النصر وانتم لم تعيشوا ما عاشته تلك الامم التي انتصرت ودخلت الجنة من ظروف البأساء والضراء التي تصل الى حد الزلزال على ما عبر القرآن الكريم ، ان هذه الحالات ، حالات البأساء والضراء التي تتعملق على مستوى الزلزال هي في الحقيقة مدرسة للامة ، هي امتحان لارادة الامة ، لصمودها ، لثباتها ، لكي تستطيع بالتدريج ان تكتسب القدرة على ان تكون امة وسطا بين الناس .
  اذن نصر الله قريب لكن النصر له طريق ، هكذا يريد ان يقول القرآن . نصر الله ليس أمرا عفويا ، ليس أمرا على سبيل الصدفة ، ليس امرا عمياويا .
   نصر الله قريب ولكن اهتدي الى طريقه ، الطريق لا بد ان تعرف فيه سنن التاريخ ، لا بد وان تعرف فيه منطق التاريخ لكي تستطيع ان تهتدي فيه الى نصر الله سبحانه وتعالى ، قد يكون الدواء قريبا من المريض لكن اذا كان هذا المريض لا يعرف تلك المعادلة العلمية التي تؤدي الى اثبات ان هذا الدواء يقضي على جرثومة هذا الداء ، لا يستطيع ان يستعمل هذا الدواء حتى ولو كان قريبا منه .
  اذن الاطلاع على سنن التاريخ هو الذي يمكن الانسان من التوصل الى النصر ، فهذه الآية تستنكر على المخاطبين لها ان يكونوا طامعين في الاستثناء من سنن التاريخ ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ )(3) .
  هذه علاقة قائمة بين النبوة على مر التاريخ وبين موقع المترفين والمسرفين في الامم والمجتمعات .
  هذه العلاقة تمثل سنة من سنن التاريخ ، وليست ظاهرة وقعت في التاريخ صدفة والا لما تكررت بهذا الشكل المطرد لما قال ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ) اذن هناك علاقة سلبية ، هناك علاقة تطارد وتناقض ، بين موقع النبوة الاجتماعي في حياة الناس على الساحة التاريخية والموقع الاجتماعي للمترفين والمسرفين ، هذه العلاقة ترتبط في الحقيقة بدور النبوة في المجتمع ودور المترفين والمسرفين في المجتمع .
  هذه العلاقة جزء من رؤية موضوعية عامة للمجتمع ، بما سوف يتضح انشاء الله حينما نبحث عن دور النبوة في المجتمع والموقع الاجتماعي للنبوة ، سوف يتضح حينئذ ان النقيض الطبيعي للنبوة هي موقع المترفين والمسرفين .
  اذن هذه سنة من سنن التاريخ ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا ) (4) .
  هذه الآية أيضا تتحدث عن علاقة معينة بين ظلم يسود ويسيطر وبين هلاك تجر اليه الامة جرا .
  وهذه العلاقة ايضا الآية تؤكد انها علاقة مطردة على مر التاريخ وهي سنة من سنن التاريخ ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) (5) .
--------------------
(1) سورة الانفال : الآية (53) .
(2) سورة البقرة : الآية (214) .
(3) سورة سبأ : الآيات (34ـ35) .
(4) سورة الاسراء : الآية (16ـ17) .
(5) سورة المائدة : الآية (66) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 21 _
  (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (1) .
  ( وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا ) ، (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ )(2) .
  هذه الآيات الثلاث تتحدث عن علاقة معينة هي علاقة بين الاستقامة وتطبيق احكام الله سبحانه وتعالى وبين وفرة الخيرات وكثرة الانتاج ـ وبلغة اليوم بين عدالة التوزيع وبين وفرة الانتاج ـ القرآن يؤكد ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع هذه العدالة في التوزيع التي عبر عنها القرآن ـ تارة ـ ( ألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا) ـ وأخرى ـ ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ ) ـ واخرى ـ بأنهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) ، لان شريعة السماء نزلت من اجل تقرير عدالة التوزيع ، من اجل انشاء علاقات التوزيع على اسس عادلة ، يقول لو انهم طبقوا عدالة التوزيع لما وقعوا في ضيق من ناحية الثروة المنتجة وفي فقر بل لازداد الثراء والمال وازدادت الخيرات والبركات .
  لكنهم تخيلوا ان عدالة التوزيع تقتضي الفقر بينما الحقيقة السنة التاريخية تؤكد عكس ذلك ، تؤكد بأن تطبيق شريعة السماء وتجسيد احكامها في علاقات التوزيع تؤدي دائما وباستمرار الى زيادة الانتاج والى كثرة الثروة ، الى ان يفتح على الناس بركات السماء والارض .
   اذن هذه ايضا سنة من سنن التاريخ ، وهناك آيات اخرى اكدت على الاستقراء والنظر والتدبر في الحوادث التاريخية من اجل تكوين نظرة استقرائية من اجل الخروج بنواميس وسنن كونية للساحة التاريخية ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ) (3) .
   ( أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) (4) ، (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ *أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (5) .
  (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْية هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) (6) .
  من مجموع هذه الآيات الكريمة يتبلور المفهوم القرآني ... وهو تأكيد القرآن على ان الساحة التاريخية لها سنن ولها ضوابط كما يكون هناك سنن وضوابط لكل الساحات الكونية الاخرى .. وهذا المفهوم القرآني يعتبر فتحا عظيما للقرآن الكريم ... لاننا بحدود ما نعلم القرآن اول كتاب عرفه الانسان أكد على هذا المفهوم وكشف عنه وأصر عليه وقاوم بكل ما لديه من وسائل الاقناع والتفهيم ، قاوم النظرة العفوية او النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الاحداث ، الانسان الاعتيادي كان يفسر احداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الاحداث ، يفسرها على اساس الصدفة تارة وعلى اساس القضاء والقدرة والاستسلام لامر الله سبحانه وتعالى .
  القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية وقام هذه النظرة الاستسلامية ونبه العقل البشري الى ان هذه الساحة لها سنن ولها قوانين وانه لكي تستطيع ان تكون انسانا فاعلا مؤثرا لا بد لك ان تكتشف هذه السنن ، لا بد وان تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع ان تتحكم فيها والا تحكمت هي فيك وانت مغمض العينين ، افتح عينيك على هذه القوانين وعلى هذه السنن لكي تكون أنت المتحكم لا لكي تكون هذه السنن هي المتحكمة فيك .
--------------------
(1) سورة الاعراف : الآية (96) .
(2) سورة الزخرف : الآية (22) .
(3) سورة محمد : الآية (10) .
(4) سورة يوسف : الآية (109) .
(5) سورة الحج : الآية (120) .
(6) سورة ق : الآية (36ـ37) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 22 _
  هذا الفتح القرآني الجليل هو الذي مهد الى تنبيه الفكر البشري بعد ذلك بقرون الى ان تجرى محاولات لفهم التاريخ فهما عمليا بعد نزول القرآن بثمانية قرون بدأت هذه المحاولات على أيدي المسلمين انفسهم فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه ثم بعد ذلك بأربعة قرون ( على اقل تقدير ) اتجه الفكر الاوربي في بدايات ما يسمى بعصر النهضة ، بدأ لكي يجسد هذا المفهوم الذي ضيعه المسلمون ، والذي لم يستطع المسلمون ان يتوغلوا الى اعماقه ، هذا المفهوم اخذه الفكر الغربي في بدايات عصر النهضة وبدأت هناك ابحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ وفهم سننه ونشأت على هذا الاساس اتجاهات مثالية ومادية ومتوسطة ومدارس متعددة ، كل واحدة منها تحاول ان تحدد نواميس التاريخ .
  وقد تكون المادية التاريخية اشهر هذه المدارس واوسعها تغلغلا واكثرها تأثيرها في التارخ نفسه ، اذن كل هذا الجهد البشري في الحقيقة هو استمرار لهذا التنبيه القرآني ويبقى للقرآن الكريم مجده في انه طرح هذه الفكرة لاول مرة على ساحة المعرفة البشرية .

الدرس الخامس :
  من خلال استعراضنا السابق للنصوص القرآنية البينة التي اوضحت فكرة السنن التاريخية واكدت عليها ، يمكننا ان نستلخص من خلال المقارنة بين تلك النصوص ثلاث حقائق اكد عليها القرآن الكريم بالنسبة الى سنن التاريخ .
  الحقيقة الاولى :
  هي الاضطراد بمعنى ان السنة التاريخية مضطردة ليست علاقة عشوائية ذات طابع موضوعي لا تتخلف في الحالات الإعيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون وعلى السنن العامة وكان التأكيد على طابع الاضطراد في السنة تأكيدا على الطابع العلمي للقانون التاريخي ، لان القانون العلمي أهم مميز يميزه عن بقية المعادلات والفروض والاضطراد والتتابع وعدم التخلف .
  ومن هنا استهدف القرآن الكريم من خلال التأكيد على طابع الاضطراد في السنة التاريخية ، استهدف ان يؤكد على الطابع العلمي لهذه السنة وان يخلق في الانسان المسلم شعورا على جريان احداث التاريخ متصبرا لا عشوائيا ولا مستسلما ولا ساذجا .
  ( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) (1) ، ( وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ) (2) ، ( وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) (3) هذه النصوص القرآنية تقدم استعراضا تؤكد فيه طابع الاستمرارية والاضطارد أي طابع الموضوعية والعلمية للسنة التاريخية ، وتستنكر هذه النصوص الشريفة كما تقدم في بعضها ان يكون هناك تفكير او طمع لدى جماعة من الجماعات بأن تكون مستثناة من سنة التاريخ ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) (4) هذه الآية تستنكر على من يطمع في أن يكون حالة استثنائية من سنة التاريخ كما شرحنا في ما مضى .
  اذن الروح العامة للقرآن تؤكد على هذه الحقيقة الاولى وهي حقيقة الاضطراد في السنة التاريخية الذي يعطيها الطابع العلمي من اجل تربية الانسان على ذهنية واعية علمية يتصرف في اطارها ومن خلالها مع احداث التاريخ .
--------------------
(1) سورة الاحزاب : الآية (62) .
(2) سورة الاسراء : الآية (77) .
(3) سورة الانعام : الآية (34) .
(4) سورة البقرة : الآية (214) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 23 _
   الحقيقة الثانية :
الحقيقة الثانية التي اكدت عليها النصوص القرآنية هي ربانية السنة التاريخية ، ان السنة التاريخية ربانية مرتبطة بالله سبحانه وتعالى ، سنة الله ، كلمات الله على اختلاف التعبير ، بمعنى ان كل قانون من قوانين التاريخ ، هو كلمة من الله سبحانه وتعالى ، وهو قرار رباني ، هذا التأكيد من القرآن الكريم على ربانية السنة التاريخية وعلى طابعها الغيبي يستهدف شد انسان حتى حينما يريد ان يستفيد من القوانين الموضوعية للكون شده بالله سبحانه وتعالى ، واشعار الانسان بان الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات ، ليس ذلك انعزالا عن الله سبحانه وتعالى لان الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن ، ولان هذه السنن والقوانين هي ارادة الله وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون وقد يتوهم البعض ان هذا الطابع الغيبي الذي يلبسه القرآن الكريم للتارخ وللسنن التاريخية يبعد القرآن عن التفسير العلمي الموضوعي للتاريخ ويجعله يتجه اتجاه التفسير الالهي للتاريخ الذي مثلته مدرسة من مدارس الفكر اللاهوتي على يد عدد كبير من المفكرين المسيحيين واللاهوتيين حيث فسروا تفسيرا الهيا قد يخلط هذا الاتجاه القرآني بذلك التفسير الالهي الذي اتجه اليه أغسطين وغيره من المفكرين اللاهوتيين فيقال بأن اسباغ هذا الطابع الغيبي على السنة التاريخية يحول المسألة الى مسألة غيبية وعقائدية ويخرج التاريخ عن اطاره العلمي الموضوعي ولكن الحقيقة ان هناك خلطا اساسيا بين الاتجاه القرآني وطريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب وفي اسباغ الطابع الغيبي على السنة التاريخية وبين ما يسمى بالتفسير الالهي للتاريخ الذي تبناه اللاهوت ، هناك فرق كثير بين هذين الاتجاهين وهاتين النزعتين وحاصل هذا الفرق هو ان الاتجاه اللاهوتي للتفسير الالهي للتاريخ يتناول الحادثة نفسها ويربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى قاطعا صلتها وروابطها مع بقية الحوادث فهو يطرح الصلة مع الله بديلا عن صلة الحادثة مع بقية الحوادث ، بديلا عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة التاريخية والتي تمثل السنن والقوانين الموضوعية لهذه الساحة بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبي على الحادثة بالذات ولا ينتزع الحادثة التاريخية من سياقها ليربطها مباشرة بالسماء ، ولا يطرح صلة الحادثة بالسماء كبديل عن أوجه الانطباق والعلاقات والاسباب والمسببات على هذه الساحة التاريخية بل أنه يربط السنة التاريخية بالله ، يربط أوجه العلاقات والارتباطات بالله ، فهو يقرر اولا ويؤمن بوجود روابط وعلاقات بين الحوادث التاريخية ، الا ان هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية هي في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى وحسن تقديره وبناءه التكويني للساحة التاريخية اذا أردنا ان نستعين بمثال لتوضيح الفرق بين هذين الإتجاهين من الظواهر الطبيعية .
  نستطيع ان نستخدم هذا المثال : قد يأتي انسان فيفسر ظاهرة المطر التي هي ظاهرة طبيعية فيقول بان المطر نزل بارادة من الله سبحانه وتعالى ، ويجعل هذه الارادة بديلا عن الاسباب الطبيعية التي نجم عنها نزول المطر ، وكأن المطر حادثة لا علاقة لها ولا تنسب لها ، وانما هي مفردة ترتبط مباشرة بالله سبحانه وتعالى بمعزل عن تيار الحوادث ، هذا النوع من الكلام يتعارض مع التفسير العلمي لظاهرة المطر .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 24 _
  لكن اذا جاء شخص وقال بان الظاهرة ، ظاهرة المطر لها اسبابها وعلاقاتها وانها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء مثلا ، يتبخر فيتحول الى غاز والغاز يتصاعد سحابا والسحاب يتحول بالتدريج الى سائل نتيجة انخفاض الحرارة فينزل المطر الا ان هذا التسلسل السببي المتقن ، هذه العلاقات المتشابكة بين الظواهر الطبيعية هي تعبير عن حكمة الله وتدبيره وحسن رعايته فمثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلمي للتفسير الموضوعي لظاهرة المطر لاننا ربطنا هنا السنة بالله سبحانه وتعالى للحادثة مع عزلها عن بقية الحوادث وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها .
   اذن القرآن الكريم حينما يسبغ الطابع الرباني على السنة التاريخية لا يريد ان يتجه اتجاه التفسير الالهي في التاريخ ولكنه يريد ان يؤكد ان هذه السنن ليست خارجة من وراء قدرة الله سبحانه وتعالى وانما هي تعبير وتجسيد وتحقيق لقدرة الله ، هي كلماته وسننه وارادته وحكمته في الكون لكي يبقى الانسان دائما مشدودا الى الله لكي تبقى الصلة الوثيقة بين العلم والايمان فهو في نفس الوقت الذي ينظر فيه الى هذه السنن نظرة علمية ينظر ايضا اليها نظرة ايمانية ، وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية وعدم جعلها مرتبطة بالصدف ، ان نفس العمليات الغيبية أناطها في كثير من الحالات بالسنة التاريخية نفسها أيضا ، عملية الامداد الالهي بالنص ، الامداد الالهي الغيبي الذي يساهم في كسب النص .
   هذا الامداد جعله القرآن الكريم مشروطا بالسنة التاريخية ، مرتبطا بظروفها غير منفك عنها وهذه الروح ابعد ما تكون عن ان تكون روحا تفسر التاريخ على أساس الغيب وانما هي روح تفسر التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم وحتى ذاك الامداد الالهي الذي يساهم بالنص ذاك الامداد أيضا ربط بالنسنة التاريخية .
   قرأنا في ما سبق صيغة من صيغ السنن التاريخية للنص حينما قرأنا قوله سبحانه وتعالى ( اَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ ) والان تعالوا نتحدث عن الامداد الغيبي لنلاحظ كيف ان هذه الآيات ربطت هذا الامداد الالهي الغيبي بتلك السنة نفسها أيضا : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) .
   اذن فمن الواضح ان الطابع الرباني الذي يسبقه القرآن الكريم ليس بديلا عن التفسير الموضوعي وانما هو ربط هذا التفسير الموضوعي بالله سبحانه وتعالى من اجل اتمام اتجاه الاسلام نحو التوحيد بين العلم والايمان في تربية الانسان المسلم .
--------------------
(1) سورة الأنفال الآية (9ـ10) .

مُقدّمَاتٌ في التفسير الموضوعي للقرآن _ 25 _
   الحقيقة الثالثة :
   الحقيقة الثالثة التي اكد عليها القرآن الكريم من خلال النصوص المتقدمة هي حقيقة اختيار الانسان وإرادة الانسان والتأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جدا اذ سوف يأتي انشاء الله تعالى بعد محاضرتين .
  ان البحث في سنن التاريخ خلق وهما ، وحاصل هذا الوهم الذي خلقه هذا البحث عند كثير من المفكرين أن هناك تعارضا وتناقضا بين حرية الانسان واختياره وبين سنن التاريخ ، فاما ان نقول بان للتاريخ سننه وقوانينه وبهذا نتنازل عن ارادة الانسان واختياره وحريته ، واما ان نسلم بان الانسان كائن حر مريد مختار وبهذا يجب ان نلغي سنن التاريخ وقوانينه ونقول بان هذه الساحة قد أعفيت من القوانين التي لم تعفى منها بقية الساحات الكونية .
  هذا الوهم وهم التعارض والتناقض بين فكرة السنة التاريخية أو القانون الترايخي وبين فكرة اختيار الانسان وحريته .
  هذا الوهم كان من الضروري للقرآن الكريم ان يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات ومن هنا اكد سبحانه وتعالى على أن المحور في تسلسل الاعداد والقضايا انما هو ارادة الانسان ، وسوف أتناول انشاء الله تعالى بعد محاضرتين الطريقة الفنية في كيفية التوجيه بين سنن التاريخ وارادة الانسان ، وكيف استطاع القرآن الكريم أن يجمع بين هذين الامرين من خلال فحص للصيغ التي يمكن في اطارها صياغة السنة التاريخية ، سوف اتكلم عن ذلك بعد محاضرتين لكن يكفي الان ان نستمع الى قوله تعالى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (1) ( وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا ) (2) ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ) (3) انظروا كيف أن السنن التاريخية لا تجري من فوق يد الانسان بل تجري من تحت يده ، فان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماءا غدقا )
  اذن هناك مواقف ايجابية للانسان تمثل حريته واختياره وتصميمه وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية ، تستتبع جزاءاتها المناسبة ، تستتبع معلولاتها المناسبة ، اذن فاختيار الانسان له موضعه الرئيسي في التصور القرآني لسنن التاريخ وسوف أعود الى هذه النقطة مرة أخرى بإذن الله تعالى اذن نستخلص مما سبق ان السنن التاريخية ، ان السنن القرآنية في التاريخ ذات طابع علمي لانها تتميز بالاطراد الذي يميز القانوني العلمي ، وذات طابع رباني لانها تمثل حكمة الله وحسن تدبيره على الساحة التاريخية وذات طابع انساني لانها لا تفصل الانسان عن دوره الايجابي ولا تعطل فيه ارادته وحريته واختياره وانما تؤكد اكثر فاكثر مسؤوليته على الساحة التاريخية .
  الان بعد استعرضنا الخصائص الثلاث التي تتميز بها السنن التاريخية في القرآن الكريم نواجه هذا السؤال : ما هو ميدان هذه السنن التاريخية ؟ كنا حتى الان نعبر ونقول بان هذه السنن تجري على الساحة التاريخية ، لكن ، هل أن الساحة التاريخية بامتدادها هي ميدان لسنن التاريخية أو ان ميدان السنن التاريخية يمثل جزأ من الساحة التاريخية بمعنى ان الميدان الذي يخضع للسنن التاريخية بوصفها قوانين ذات طابع نوعي مختلف عن القوانين الاخرى الفيزيائية .
--------------------
(1) سورة الرعد : الآية (11) .
(2) سورة الجن : الآية (16) .
(3) سورة الكهف : الآية (59) .