( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبويين الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) (1) .
   3 ـ إن القرآن نزل على سبيل الإعجاز الدائمي فوجب حفظه تأبيدا ، وتلك الكتب جاءت للبيان التوقيتي فلا يستلزم حفظها كحفظه ، ولم يرد أنها نازلة على سبيل الإعجاز والتحدي .
   ب ـ هناك روايات تشير صراحة إلى أن كل ما وقع في الأمم السابقة ، لا بد أن يقع في هذه الأمة ، ومنه التحريف ، بدلالة ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام :
   « قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ما كان في الأمم السالفة ، سيكون في هذه الأمة مثله ، حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة » (2) .
   وغير هذه من الروايات الدالة على هذا المعنى ويرد عليها ما يلي :
   1 ـ إن هذه الروايات أخبار آحاد ، ولم يدع فيها التواتر ، وإذا كان الأمر كذلك فإنها لا تفيد علما ولا عملا .
   2 ـ على فرض صحة هذه الروايات فإنها تدل على مشابهة الأحداث من بعض الوجوه بين الأمم لا في كل جزئياتها وتفصيلاتها فإن وقع التحريف عندها في كتبها ، فيكفي في وقوع التحريف في هذه الأمة عدم اتباعهم لحدود القرآن وإن أقاموا حروفه (3) .
   3 ـ هناك كثير من الوقائع التي حدثت في الأمم السابقة ولم تقع في أمة محمد ، ولم تصدر من المسلمين أمثالها ونظائرها ، كعبادة العجل ، وتيه بني إسرائيل ، وغرق فرعون ، وملك سليمان عليه السلام ، ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، وموت هارون عليه السلام وهو وصي موسى عليه السلام قبل موت موسى عليه السلام نفسه ، وولادة عيسى عليه السلام من غير أب ، وعذاب الاستئصال وغيرها (4) .
--------------------
(1) المائدة : 44 .
(2) المجلسي ، بحار الأنوار : 8 | 4 .
(3) (4) ظ : الخوئي ، البيان : 221 .

تاريخ القرآن _165 _
   ج ـ تشير روايات الأئمة من أهل البيت عليهم السلام إلى أن عليا كان له مصحف غير المصحف المتداول ، وهذا يعني التغاير بين المصحفين ، أو فرضية الزيادة والنقصان بين النصين ، وروايات هذا الباب كثيرة ، أبرزها ، قول الإمام علي عليه السلام :
   « يا طلحة إن كل آية أنزلها الله تعالى على محمد عندي بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط يدي ، وتأويل كل آية أنزلها الله تعالى على محمد وكل حلال أو حرام ، أو حد ، أو حكم ، أو شيء تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة ، فهو عندي مكتوب بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط يدي ، حتى أرش الخدش ... (1) .
   ومنها ما في احتجاجه عليه السلام على الزنديق من أنه : « أتى بالكتاب كملا مشتملا على التأويل والتنزيل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط منه ألف ولا لام ، فلم يقبلوا ذلك » (2) .
   ومنها ما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري قال : « سمعت أبا جعفر يقول ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب ، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده عليهم السلام » (3) .
   وفي التوفيق بين هذه الروايات وبين نفي التحريف عن القرآن الكريم ، نرى أن الإمام علي عليه السلام ـ كما أسلفنا القول ـ (4) قد جمع القرآن وفق ترتيب خاص ، جمع فيه إلى جنب التنزيل التأويل ، وفصل فيه بين الناسخ والمنسوخ ، ورتب فيه السور أو الآيات ترتيبا تأريخيا بعناية زمن النزول ، ولكن لا يعني ذلك أي اختلاف أو تناقض بين ما جمعه وبين القرآن ، وقد يستفاد من جملة روايات أخرى أنه أول من جمع القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ مع كونه مجموعا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وفق هذا الترتيب الذي لو صح ، لقلنا إن ترتيب القرآن اجتهادي ، أو أن الإمام علي عليه السلام قد علم من
--------------------
(1) ظ : الخوئي البيان : 222 وما بعدها وانظر مصادره .
(2) (3) المصدر نفسه : 222 وما بعدها .
(4) ظ : فيما سبق ، الفصل الثاني نزول القرآن : + الفقرة : 6 من هذا الفصل .

تاريخ القرآن _166 _
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يعلمه غيره ، فكان أن جمع القرآن كما أنزل ، فقد روى السدي عن عبد خير عن الإمام علي :
   « إنه رأى من الناس طيرة عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقسم أن لا يضع عن ظهره رداء حتى يجمع القرآن ، قال : فجلس في بيته حتى جمع القرآن ، فهو أول مصحف جمع فيه القرآن ، جمعه من قبله ، وكان عند آل جعفر » (1) .
   وليس في جميع الروايات دلالة على أن المجموع من قبل علي يختلف عن نص القرآن المتداول اليوم ، إذ لو كان مخالفا له في شيء لظهر أيام خلافته أو عند ورثته من الأئمة عليهم السلام ، فلما لم يكن من هذا شيء يذكر ، علمنا سلامة القرآن .
   د ـ وهناك بعض الروايات عن الأئمة تدل بظاهرها على التحريف ، منها ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
   « يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون ، المصحف والمسجد والعترة . يقول المصحف : يا رب حرفوني ومزقوني ، ويقول المسجد : يا رب عطلوني وضيعوني ، وتقول العترة : يا رب قتلونا وطردونا ، وشردونا » (2) .
   ومنها قول الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام : « أؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه » (3) .
   ولا دليل في هذه الروايات على التحريف بالمعنى المشار إليه ، فهي تحمل أن القرآن قد حرّف بحدوده وضوابطه ، فهو لا يعمل به ، ولم يحرف بنصوصه وأصوله ، فهي ثابتة لم تتغير ، وسالمة لم تتحرف ، أما أن القرآن لا يعمل به ، ويشتكي غدا عند الله ، فهو ما تحمل عليه هذه الروايات دون سواه من المفاهيم .
   هـ ـ وهناك شبهة تتلخص في أن كيفية جمع القرآن ـ بحسب روايات الجمع الموهوم ـ بشهادة الشهود ، وإقامة البينة ، تستلزم نسيان بعض
--------------------
(1) الخوئي ، البيان : 503 .
(2) (3) المصدر نفسه : 288 وانظر مصادره .

تاريخ القرآن _167 _
القرآن ، إما بموت من معه شيء من القرآن فضاع ، وإما على سبيل السهو والخطأ ، وعدم الضبط ، شأنه في ذلك شأن المجاميع الأخرى التي تتعرض للطوارىء .
   والإجابة عن هذه الشبهة ودفعها ، نرى أن القرآن ـ كما سبق بيانه ـ (1) قد جمع متكاملا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانتفت الشبهة جملة وتفصيلا .
   قال السيد المرتضى علم الهدى ( ت : 436 هـ ) :
   « إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجموعا ، مؤلفا على ما هو عليه الآن ، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنه كان يعرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتلى عليه ، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة ختمات ، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مبثوث ، وأن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم ، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث ، نقلوا أخبارا ضعيفة ، ظنوا صحتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته » (2) .
   سادسا : المحاولات ، ما زلت أتذكر ، قبل عشرين عاما خلت ، ونحن طلبة في الجامعة ، أن أستاذنا الجليل الدكتور أحمد عبد الستار الجواري عضو المجمع العلمي العراقي ، قد لفت أنظارنا ـ من على كرسي التدريس ـ إلى حادث خطير ، يجب على العرب والمسلمين أن يحتدوا طاقاتهم لمحاربته ، والوقوف بحزم يدا واحدة لصده ، وهو قيام إسرائيل بمحاولة جادة لتحريف القرآن . وأتذكر أيضا أننا أصبنا بما يشبه وقع الصاعقة ، وقلبنا وجوه الاحتمالات في الموضوع ، وبعد حين ظهر صدق الحديث ، فقد جاء في الإعلام المصري ما يؤيد هذا النبأ الجلل ، وقرأنا آنذاك عن الخطوات التي اتخذت تجاهه .
--------------------
(1) ظ : فيما سبق ، الفصل الثالث ـ جمع القرآن : .
(2) الطبرسي ، مجمع البيان : 1 | 15 .

تاريخ القرآن _168 _
1 ـ في أيلول عام 1960 م أفادت أنباء القاهرة : أن إسرائيل قد قامت بطبع مائة ألف نسخة من القرآن الكريم ، وقد أدخلت عليها التحريف ، وذلك بإحداث أكثر من ألف خطأ مطبعي ولفظي متعمد ، في طبعة محرفة للقرآن ، وقد تم توزيع هذه النسخ المحرفة في جملة من البلدان الآسيوية والإفريقية ، كالمغرب ، وغانا ، وغينيا ، ومالي ، ودول أخرى . وقد اكتشفت سفارة الجمهورية العربية المتحدة في المغرب هذه المحاولة الأثيمة ، فأشعرت بذلك السلطات في القاهرة ، وبعثت إليها ببعض النسخ المحرفة (1) .
   2 ـ وكان نتيجة هذا العمل اطلاعنا على أبرز مظاهر التحريف المهمة ، وهي كالآتي :
   أ ـ حذف الآيتين التاليتين من القرآن الكريم ، ومنع تدريسهما في مدارس العرب والمسلمين في الأرض المحتلة :
   ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّؤهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون * ) (2) .
   ب ـ حذف كلمة « غير » لينقلب المعنى عكسيا من قوله تعالى :
   ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين * ) (3) .
   ج ـ حذف كلمتي « ليست » من الآية الكريمة :
   ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ... * ) (4) .
--------------------
(1) ظ : جريدة الأهرام القاهرية عدد : 28 ديسمبر 1960 + مجلة آخر ساعة ، عدد : 11 يناير 1961 م ، للمقارنة .
(2) سورة الممتحنة : 8 ـ 9 .
(3) سورة آل عمران : 85 .
(4) سورة البقرة : 113 .

تاريخ القرآن _169 _
   د ـ إبدال عبارة « والله عزيز حكيم » بعبارة « والله غفور رحيم » من قوله تعالى :
   ( السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم * ) (1) (2)
   3 ـ لقد أحدث هذا العمل ضجة في الجمهورية العربية المتحدة دون سواها من البلدان العربية والإسلامية آنذاك ، وكان دور الأستاذ الأكبر محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر رحمه الله ، دورا كبيرا مشرفا فبالإضافة إلى تشاوره مع وزير الأوقاف المصري في الإجراءات الإحترازية لصد هذه الظاهرة ، وذلك بتشكيل لجنة مشتركة لمراجعة المصحف المحرّف ، وتعرية الأخطاء المطبعية المتعمدة ، وتحذير المسلمين من تداوله ، فقد أرسل ببرقية إلى الرئيس جمال عبد الناصر يستشير حميته وغيرته ، ومما جاء فيها :
   « إن إسرائيل التي قامت على البغي والطغيان والاعتداء على المقدرات والمقدسات ما زالت تعيش في هذا العبث ، وتحيا في إطار هذا الطغيان ، وإنها ـ بتحريفها القرآن الكريم ـ تريد القضاء على معتقداتنا وديننا ، وهي بذلك تمارس ما كان عليه آباؤهم من تحريف الكلم عن مواضعه ابتغاء كبت الدعوة الإسلامية وإعاقتها .
   إن المسلمين في أنحاء الأرض يهرعون إليكم ـ وكلهم أمل في قوة إيمانكم ، وغيرتكم على دينكم ـ أن تعملوا على حفظ كتاب الله ، فتقفوا في وجه هذا العدوان الأثيم ... » (3) .
   4 ـ وفيما عدا مصر لم نجد صوتا حيويا للبلاد العربية والإسلامية لشجب هذا الاعتداء الساخر ، باستثناء الإفتاء السوداني ، والحكومة الأردنية .
--------------------
(1) المائدة : 38 .
(2) ظ : في المقارنة بين ما أوردناه في كل من : سليمان حسف عبد الوهاب ، تحريف اليهود للقرآن قديما وحديثا ، مقال في مجلة منبر الإسلام المصرية ، عدد جمادى الآخرة ، 1385 + لبيب السعيد ، الجمع الصوتي للقرآن : 473 وما بعدها .
(3) جريدة الأهرام عدد : 29 ديسمبر 1960 + جريدة الجمهورية القاهرة بالتأريخ نفسه .

تاريخ القرآن _170 _
   فقد أمر مفتي الديار السودانية موظفي المحاكم الشرعية وأصحاب المكتبات العامة بضرورة مراجعة المصاحف قبل تداولها للتأكد من سلامتها من التحريف ، وذلك عن طريق تسرب هذا المصحف الذي نشرته إسرائيل (1) .
   وأصدرت الحكومة الأردنية بيانا استنكرت فيه جريمة التحريف ، وبيّنت عرض إسرائيل على الدول الإفريقية التي وزعمت فيها المصحف المحرف ، أن ترسل لها من يقوم بتدريس اللغة العربية في إطار النسخة المشوهة من المصحف (2) .
   ولم تنجح المؤامرة الإسرائيلية في تحريف القرآن ، إذ تم اكتشاف الجريمة مبكرا ، وأمكن القضاء عليها في مهدها ، وتنبه المسلمون في شرق الأرض وغربها إلى هذه الحركة ، فعزلت هذه النسخ المزورة وقضي عليها قضاء نهائيا .
   5 ـ ولقد كان حدثا عالميا كبيرا ما توصل إلى ابتكاره الأصيل ، الأستاذ لبيب السعيد من تفكيره في تسجيل المصحف المرتل ، وبعد محاولات ومشاريع وأوليات وعقبات ، تم تسجيل القرآن الكريم كاملا ، وحفظ صوتا مسموعا مرتلا برواية حفص لقراءة عاصم بن أبي النجود الكوفي ، بصوت المرحوم الشيخ محمود خليل الحصري ، عدا تسجيلات سواه من القراء ، وخصصت مصر وإلى اليوم إذاعة خاصة يتلى بها ليل نهار اسمتها : إذاعة القرآن الكريم .
   لقد تم هذا الحدث في صورته النهائية التنفيذية في : 23 يوليو 1961 (3) .
   وتقرر توزيع اسطوانات المصحف المرتل في الدول التي وزعت فيها اسرائيل المصاحف المحرفة (4) .
--------------------
(1) ظ : جريدة المساء القاهرية ، عدد : 10 فبراير ، 1961 م .
(2) ظ : جريدة الأخبار القاهرية ، عدد : 8 أبريل 1961 م .
(3) ظ : لبيب السعيد ، الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم : 114 .
(4) ظ : جريدة الجمهورية القاهرية ، عدد : 2 يناير 1961 م .

تاريخ القرآن _171 _
   وكأنما جاء هذا الحدث ردا حاسما لدرء محاولة التحريف .
   وبذلك تحقق لسلامة القرآن الكريم عاملان : الكتابة في المصحف كما نزل ، والتلاوة على الأسماع من خلال المصحف المرتل تسجيلاً كاملا ، محافظا فيه على أصول القراءة ، وشرائط العربية ، وترتيل الصوت ، ذلك مضافا إلى الحفظ المتجاوب معه في الصدور .
   لقد تحقق في هذا الزمان بالذات ، وهو زمان ابتعد عن القرآن ، ما لم يتحقق له في الأزمان السالفة ، من ضبط وشكل ، ورسم ، وقراءة ، وتلاوة ، وطباعة ، وعناية من كل الوجوه ، بما يتناسب مع التأكيد الإلهي بقوله تعالى :
   ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (1) .
   وذلك من معاجز القرآن وأسراره .
--------------------
(1) سورة الحجر : 9 .