فالإمامة هو الأصل الرابع من أصول الدين.
  والأصل الخامس هو الإيمان بيوم القيامة : هو الذي يوفر الشرط الثاني من الشروط الأربعة التي تقدمت ، هو الذي يعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الرباني الذي يجدد دائما إرادة الإنسان وقدرة الإنسان ، ويوفر الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية.
  إذن أصول الدين في الحقيقة وبالتعبير التحليلي على ضوء ما ذكرناه هي كلها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الأعلى وفي إعطاء تلك العلاقة الاجتماعية ، بصغتها القرآنية الرباعية التي تحدثنا عنها قبل أيام ، كنا نقول ، ماذا كنا نقول قبل أيام ؟ بأن القرآن الكريم طرح العلاقة الاجتماعية ذات أربعة أبعاد لا ذات ثلاثة أبعاد ، طرحها بصيغة الاستخلاف وشرحنا في ما سبق صيغة الاستخلاف ، وقلنا بأن الاستخلاف يفترض أربعة أبعاد ، يفترض انساناً وانساناً وطبيعة اللّه سبحانه وتعالى وهو المستخلف.
  هذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية هي التعبير الآخر عن صيغة تدمج أصول الدين الخمسة في مركب واحد من اجل أن يسير الإنسان ويكدح نحو اللّه سبحانه وتعالى في طريقة الطويل.

المدرسة القرآنية _ 127 _
  بما ذكرناه توضح دور الإنسان في المسيرة التاريخية ، توضح ان الإنسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية وتوضح ان الإنسان هو مركز الثقل لا بجمسه الفيزيائي وإنما بمحتواه الداخلي ، وهذا المحتوى الداخلي توضح أيضاً من خلال ما شرحناه ، ان الأساس في بناء هذا المحتوى الداخلي هو المثل الأعلى الذي يتبناه الإنسان ، لان المثل الأعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيلية ، والغايات التفصيلية هي المحركات التاريخية للنشاطات على الساحة التاريخية.
  إذن بناء المثل الأعلى وتبني المثل الأعلى هو في الحقيقة الأساس في بناء المحتوى الداخلي للإنسان ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع.

المدرسة القرآنية _ 128 _
  تقدم في تحليل عناصر المجتمع ، إن المجتمع يتكون من ثلاثة عناصر ، وهي : الإنسان والطبيعة والعلاقة الاجتماعية ، وقد تحدثنا عن الإنسان ودوره الأساسي في الحلقة التاريخية وتحدثنا عن الطبيعة وشأنها على الساحة التاريخية.
  وبقي علينا ان نأخذ العنصر الثالث وهو : العلاقة الاجتماعية لنحدد موقفنا من هذه العلاقة الاجتماعية على ضوء ما انتهينا إليه من مواقف قرآنية تجاه دور الإنسان والطبيعة على الساحة التاريخية.
  العنصر الثالث هو العلاقة الاجتماعية ، وقد تقدم ان العلاقة الاجتماعية تتضمن علاقتين مزدوجتين : إحداهما علاقة الإنسان مع الطبيعة.
  والأخرى علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان.
  هذان خطّان من العلاقة الاجتماعية ، وهذان الخطان نؤمن بان كل واحد منهما مختلف عن الآخر ومستقل استقلالا نسبيا عن الآخر مع شي من التفاعل والتأثير المتبادل المحدود الذي سوف نشرحه بعد ذلك ان شاء اللّه تعالى ، من حيث الأساس ، هذان الخطان أحدهما مختلف عن الآخر ، ومستقل استقلالا نسبياً عنه تبعا للاختلاف النوعي في طبيعة المشكلة التي يواجهها كل واحد من هذين الخطين ونوع الحل الذي ينسجم مع طبيعة تلك المشكلة.

المدرسة القرآنية _ 129 _
  فالخط الأول الذي يمثل علاقات الإنسان مع الطبيعة من خلال استثمارها ومحاولة تطويعها وانتاج حاجاته الحياتية منها.
  هذا الخط يواجه مشكلة وهي مشكلة التناقض بين الإنسان والطبيعة ، وهذا التناقض بين الإنسان والطبيعة ، يعني تمرد الطبيعة وتعصيها عن الاستجابة للطلب الإنساني وللحاجة الإنسانية من خلال التفاعل ما بينهما ، هذا التناقض بين الإنسان والطبيعة هو المشكلة الرئيسية على هذا الخط ، وهذا التناقض له حل مستمد من قانون موضوعي يمثل سنة من سنن التاريخ الثابتة ، وهذا القانون هو قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ، ذلك لان الإنسان كلما تضاءل جهله بالطبيعة وكلما ازدادت خبرته بلغتها وبقوانينها ازداد سيطرة عليها وتمكّنا من تويعها وتذليلها لحاجاته وحيث ان كل خبرة هي تتولد في هذا الحقل عادة من الممارسة ، وكل ممارسة تولّد بدورها خبرة ، ولهذا كان قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة قانونا موضوعيا يكفل حل هذا التناقض بين الإنسان والطبيعة ، إذ يتضاءل جهل الإنسان باستمرار وتنمو معرفته باستمرار من خلال ممارسة للطبيعة ، يكتسب خبرة جديدة ، هذه الخبرة الجديدة تعطيه سيطرة على ميدان جديد من ميادين الطبيعة ، فيمارس على الميدان الجديد ، وهذه الممارسة بدورها أيضاً تتحول إلى خبرة ، وهكذا تنمو الخبرة الإنسانية باستمرار ما لم تقع كارثة كبرى طبيعية أو بشرية.
  وهذا القانون بنموه وبتطبيقاته التاريخية يعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة ، فهي مشكلة محلولة تاريخيا ومحلولة موضوعيا ولعل في الآية الكريمة ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ) (1) لعل في الآية الكريمة إشارة إلى هذا الحل الموضوعي المستمد من قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة لان السؤال في الآية الكريمة ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) لا يراد منه الدعاء طبعاً ، السؤال اللفظي الذي هو الدعاء ، لان الآية تتكلم عن الإنسانية ككل عمّن يؤمن باللّه ومن لا يؤمن باللّه ، من يدعو اللّه ومن لا يدعو اللّه ، كما ان الدعاء لا يتضمن حتما تحصيل الشي المدعو به ، نعم كل دعاء له استجابة ، لكن ليس لكل دعاء تحقيق لما تعلق به الدعاء ، بينما هنا يقول ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) هنا إيتاء ، استجابة فعلية بعطاء ما سئل عنه ، فأكبر الظن ان هذا السؤال من الإنسانية ككل وعلى مرّ التاريخ وعبر الماضي والحاضر والمستقبل يتمثل في السؤال الفعلي والطلب التكويني الذي يحقق باستمرار التطبيقات التاريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة ، هذه هي المشكلة التي يواجهها الخط الأول من العلاقات ، وهذا هو الحل الذي يوضع لهذه المشكلة.

--------------------
(1) سورة إبراهيم آية : 34.

المدرسة القرآنية _ 130 _
  واما الخط الثاني من العلاقات ، علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان في مجال توزيع الثروة أو في سائر الحقول الاجتماعية أو في أوجه التفاعل الحضاري بين الإنسان وأخيه الإنسان ، فهذا الخط يواجه مشكلة أخرى ، ليست المشكلة هنا هي التناقض بين الإنسان والطبيعة بل هي التناقض الاجتماعي بين الإنسان وأخيه الإنسان.
  وهذا التناقض الاجتماعي بين الإنسان وأخيه الإنسان يتخذ على الساحة الاجتماعية صيغاً متعددة والواناً مختلفة ولكنه يظل في حقيقته وجوهره ، يظل شيئاً ثابتاً وحقيقة واحدة وروحاً عامة وهي التناقض ما بين القوي والضعيف ، بين كائن في مركز القوة إذا لم يكن قد حل تناقضه الخاص ، جدله الإنساني من الداخل فسوف يفرز لا محالة صيغة من صيغ التناقض الاجتماعي ومهما اختلفت الصيغة في مضمونها القانوني وفي شكلها التشريعي وفي لونها الحضاري فهي بالآخرة صيغة من صيغ التناقض بين القوي والضعيف ، قد يكون هذا القوي فرداً فرعونا ، قد يكون عصابة ، قد يكون طبقة ، قد يكون شعباً ، قد يكون أمة ، كل هذه الوان من التناقض كلها تحتوي روحاً واحدة وهي روح الصراع ، روح الاستغلال من القوي الذي لم يحل تناقضه الداخلي وجدله الإنساني ، الصراع بينه وبين الضعيف ومحاولة استغلال هذا الضعيف.
  هذه أشكال متعددة من التناقض الاجتماعي الذي يواجهه خط العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان وهذه الأشكال المتعددة ذات الروح الواحدة كلها تنبع من معين واحد ، من تناقض رئيسي واحد ، وهو ذلك الجدل الإنساني الذي شرحناه القائم بين حقنة التراب وبين أشواق اللّه سبحانه وتعالى.
  ما لم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الإنساني فسوف يظل هذا الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة حسب الظروف والملابسات ، حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة ، إذن النظرة الإسلامية من زاوية المشكلة التي يواجهها خط العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان ، نظرة واسعة ، منفتحة ، معمقة ، لا تقتصر على لون من التناقض ، ولا تهمل ألواناً أخرى من التناقض ، بل هي تستوعب كل أشكال التناقض على مرّ التاريخ وتنفذ إلى عمقها وتكشف حقيقتها الواحدة ، وروحها المشتركة ثم تربط كل هذه التناقضات ، تربطها بالتناقض الأعمق ، بالجدل الإنساني.

المدرسة القرآنية _ 131 _
  ومن هنا يؤمن الإسلام بأن الرسالة الوحيدة القادرة على حلّ هذه المشكلة التي يواجهها خط علاقات الإنسان مع الإنسان ، هو تلك الرسالة التي تعمل على مستويين في وقت واحد ، تعمل من أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على الساحة لكن في نفس الوقت وقبل ذلك وبعد ذلك تعمل من أجل تصفية ذلك الجدل في المحتوى الداخلي للإنسان من اجل تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية ، ويؤمن الإسلام بأن ترك ذلك المعين من الجدل والتناقض على حاله والاشتغال بتصفية التناقضات على الساحة الاجتماعية بصيغها التشريعية فقط ، هذا نصف العملية ، النصف المبتور من العملية ، إذ سرعان ما يفرز ذلك المعين صيغاً أخرى وفق هذه العملية التي سوف تستأصل بها الصيغ السابقة.
  فلا بد للرسالة التي تريد أن تضع الحل الموضوعي للمشكلة ان تعمل على كلا المستويين ، أن تؤمن بجهادين : جهاد اكبر سمّاه الإسلام ( بالجهاد الأكبر ) وهو الجهاد لتصفية ذلك التناقض الرئيسي ، لحل ذلك الجدل الداخلي.
  وجهاد آخر ، جهاد في وجه كل صيغ التناقض الاجتماعي ، في وجه كل الوان استئثار القوي للضعيف من دون ان نحصر أنفسنا في نطاق صيغة معينة من صيغ هذا الاستئثار ، لان الاستئثار جوهره واحد مهما اختلفت صيغة.

المدرسة القرآنية _ 132 _
  هذه هي النظرة المنفتحة الواقعية التي أثبتت التجربة البشرية باستمرار ، انطباقها على واقع الحياة خلافاً للنظرة الضيقة التي فسرت بها المادية والثوار الماديون التي فسروا بها التناقض.
  فان ماركس على الرغم من ذكائه الفائق إلاّ انه لم يستطع ان يتجاوز حدود النظرة التقليدية للإنسان الأوروبي ، كان بحكم كونه فرداً أوروبياً ، كان رهين هذه النظرة التقليدية.
  الإنسان الأوروبي دائما يرى العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الأوروبية أو الساحة الغربية بتعبير أعم كما يعتقد اليهود بأن الإنسانية هي كلها في إطارهم ( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) (1) أولئك ليسوا بشراً ، ليسوا أناساً ، أولئك أميون ، همج ، كذلك الإنسان الأوروبي اعتاد أن يضع الدنيا كلها في إطار ساحته الأوروبية ، في ساحته الغربية ، لم يتخلص هذا الرجل من تقاليد هذه النظرة الأوروبية ، كما انه لم يتخلص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دوراً في أفكار المادية التاريخية.
  ومن هنا جاء لنا بتفسير محدود ضيق للتناقض الذي تواجهه الإنسانية على هذا الخط ، أعتقد بأن مرد كل التناقضات على الساحة البشرية إلى تناقض واحد ، وهو التناقض الطبقي ، التناقض بين طبقة تملك كل وسائل الإنتاج أو معظم وسائل الإنتاج ، وطبقة لا تملك شيئا من وسائل الإنتاج وإنما تعمل من أجل مصالح الطبقة الأولى تستثمر في تشغيل وسائل الإنتاج التي تملكها الطبقة الأولى ثم هذه الثروة المنتجة التي جسدت عرق جبين هذا العامل المستغل هذه الثورة المنتجة تستولي عليها الطبقة الأولى المالكة ، ولا يعطى للطبقة الثانية منها إلاّ الحدّ الأدنى ، حدّ الكفاف الذي يضمن استمرار حياة هذه الطبقة ، لكي تواصل خدمتها وممارستها ضمن إطار الطبقة الأولى.

--------------------
(1) سورة آل عمران آية : 75.

المدرسة القرآنية _ 133 _
  هذا هو التناقض الطبقي الذي اتخذه قاعدة وأساسا لكل ألوان التناقض الأخرى ، وهذا التناقض يتخذ مدلوله الاجتماعي من خلال صراع مرير بين الطبقة المالكة وما بين الطبقة العاملة ، وهذا الصراع المرير بين هاتين الطبقتين ينمو ويشتد كلما تطورت الآلة ، وكلما نمت الآلة الصناعية وتعقدت ، وذلك لان الآلة كلما نمت ، وكلما تطورت أدت إلى تخفيض في مستوى المعيشة ، وهذا التخفيض في مستوى المعيشة يعطي فرصة للطبقة الرأسمالية المالكة يعطي لها فرصد في ان تخفض أجر العامل لأنها لا تريد ان تعطي العامل اكثر مما يديم به حياته ونفسه.
  إذن باستمرار تتطور الآلة ، باستمرار تنخفض كلفة المعيشة وباستمرار يخفّض الرأسمالي أجرة العامل هذا من ناحية.
  ومن ناحية ثانية ان تطور الآلة وتعقدها يقتضي إمكانية التعويض عن العدد الكبير من العمال بالعدد القليل من العمال ، لان دقة الآلة وعملقة الآلة سوف يعوض عن الجز الآخر من العمال.
  وهذا يجعل الطبقة الرأسمالية تطرد الفائض من العمل باستمرار ، وهكذا يشتد الصراع بين الطبقتين ويحتدم التناقض حتى ينفجر في ثورة ، هذه الثورة تجسدها الطبقة العاملة تقضي بها على التناقض الطبقي في المجتمع وتوحد المجتمع في طبقة واحدة وهذه الطبقة الواحدة تمثل حينئذ كل أفراد المجتمع وفي حالة من هذا القبيل سوف تستأصل كل ألوان التناقض لان أساس التناقض هو التناقض الطبقي ، فإذا أزيل التناقض الطبقي زالت كل التناقضات الأخرى الفرعية والثانوية.

المدرسة القرآنية _ 134 _
  هذا تلخيص سريع جداً لوجهة نظر هؤلاء الثوار تجاه التناقض الذي عالجناه.
  إلا إن هذه النظرة الضيقة لا تنسجم في الحقيقة مع الواقع ولا تنطبق على تيار الأحداث في التاريخ ليس التناقض الطبقي وليد تطور الآلة بل هو وليد الإنسان ، هو من صنع الإنسان الأوروبي ، ليست الآلة هي التي صنعت استغلال الرأسمالي للعامل ، ليست الآلة هي التي خلقت النظام الرأسمالي ، وإنما الإنسان الأوروبي الذي وقعت هذه الآلة بيده أفرز نظاماً رأسمالياً يجسد قيمه في الحياة وتصوراته للحياة.
  وليس التناقض الطبقي هو الشكل الوحيد من أشكال التناقض ، هناك صيغ كثيرة للتناقض على الساحة الاجتماعية ، وليس التناقض الطبقي هو التناقض الرئيسي بالنسبة إلى تلك الأشكال وإنما كل هذه الأشكال من التناقض على الساحة الاجتماعية هي وليد تناقض رئيس وهو جدول الإنسان ، هو الجدل المخبوء في داخل محتوى الإنسان ، ذاك هو التناقض الرئيس الذي يفرز دائماً وأبداً صيغاً متعددة من التناقض.
  تعالوا نلاحظ وتقارن بين هذه النظرة الضيقة وبين واقع التجربة البشرية المعاصرة لنرى أي النظرتين أكثر انطباقا على العالم الذي نعيشه ، ونرى ماذا كنا نتوقع ؟ ماذا كنا ننتظر ؟ لو كانت هذه النظرة وكان هذا التفسير للتناقض ، لو كان صحيحاً وواقعياً ، ماذا كنا ننتظر ؟ وماذا كنا نتوقع ؟ كنا ننتظر ونتوقع أن يزداد يوما بعد يوم التناقض الطبقي

المدرسة القرآنية _ 135 _
  والصراع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في المجتمعات الأوروبية الصناعية التي تطورت فيها الآلة تطوراً كبيراً ، كان من المفروض أن هذه المجتمعات كانكلترا والولايات الامريكية المتحدة وفرنسا وألمانيا أن يشتد فيها التناقض الطبقي والصراع يوما بعد يوم ، ويتزلزل النظام الرأسمالي المستغل ويتداعى يوماً بعد يوم ، كنا نترقب ان يزداد البؤس والحرمان في جانب الطبقة العاملة ويزداد الثراء على حساب هؤلاء العاملين في طبقة لرأسماليين المستغلين من الامريكان والانجليز والفرنسيين وغيرهم ، كنا نترقب حالة من هذا القبيل ، كنا نترقب أن تتضاعف النقمة ، أن يشتد إيمان العامل الأوروبي والعامل الأمريكي بالثورة وبضرورة الثورة وبأنها هي الطريق الوحيد لتصفية هذا التناقض الطبقي ، هذا ما كنا ننتظره لو صحت هذه الأفكار عن تفسير التناقض.
  لكن ماذا وقع خارجاً؟ ما وقع خارجا هو عكس ذلك تماما ، نرى وبكل أسف أن النظام الرأسمالي في الدول الرأسمالية المستغلة يزداد ترسخا يوما بعد يوم ويزداد تمحوراً وعملقة يوماً بعد يوم ، لا تبدو عليه بوادر الانهيار السريع ، تلك التمنيات الطيبة التي تمناها ثوارنا الماديون لانكلترا وللدول الاوروبية المتقدمة صناعيا ، تمنّوا لها الثورة في أقرب وقت بحكم التطور الآلي والصناعي فيها ، تلك التمنيات الطيبة تحولت إلى سراب ، بينما تحققت هذه النبؤات بالنسبة إلى بلاد لم تعش تطوراً آلياً بل لم تعش تناقضاً طبقياً بالمعنى الماركسي لأنها لم تكن قد دخلت الباب العريض الواسع للتطور الصناعي من قبيل روسيا القيصرية والصين.

المدرسة القرآنية _ 136 _
  من ناحية أخرى هل ازداد العمال بؤساً وفقراً ؟ هل أزدادوا استغلالاً ؟ لا بالعكس العمال ازدادوا رخاءاً ، ازدادوا سعة ، اصبحوا مدلّلين من قبل الطبقة الرأسمالية المستغلة ، العامل الامريكي يحصل على ما لا يطمع به إنسان آخر يشتغل بكدّ يمينه ويقطف ثمار عمله في المجتمعات الاشتراكية الأخرى ، هل ازدادت النقمة لدى الطبقة العاملة ؟ العكس هو الصحيح ، العمال ، الهيئات التي تمثل العمال في الدول الرأسمالية المستغلة تحولت بالتدريج أكثر هذه الهيئات تحولت إلى هيئات ذات طابع شبه ديمقراطي ، تحولت إلى أشخاص لهم حالة الاسترخاء السياسي ، تركوا هموم الثورة ، تركوا منطق الثورة ، أصبحوا يتصافحون يداً بيد مع تلك الأيدي المستغلة ، مع أيدي الطبقة الرأسمالية ، أصبحوا يرفعون شعار تحقيق حقوق العمال عن طريق النقابات وعن طريق البرلمانات ، وعن طريق الانتخابات ، هذه الحالة هي لحالة الاسترخاء السياسي ، كل هذا وقع في هذه الفترة القصيرة من الزمن التي نحسها ، كيف وقع هذا كله ؟ هل كان ماركس سيء الظن إلى هذه الدرجة بهؤلاء الرأسماليين ، بهؤلاء المجرمين ، والمستغلين بحيث تنبأ بهذه النبؤات ثم ضاعت هذه النبؤات كلها فلم يتحقق شي منها ؟ هل كان هذا سوء ظن من ماركس لهؤلاء المستغلين ؟ هل ان هؤلاء الرأسماليين المستغلين دخل في نفوسهم الرعب من ماركس ومن الماركسية ومن الثورات التحررية في العالم ؟
  هل دخل في أنفسهم الرعب فحاولوا ان يتنازلوا عن جز من مكاسبهم خوفاً من أن يثور العامل عليهم ؟ هل هذا صحيح ؟ هل ان المليونير الامريكي يخالج ذهنه فعلاً أي شبح من خوف من هذه الناحية ؟ اشد الناس تفاؤلاً بمصائر الثورة في العالم لا يمكنه ان يفكر في ان ثورة حقيقية على الظلم في أمريكا يمكن ان تحدث قبل مئة سنة من هذا التاريخ.
  فكيف يمكن ان نفترض ان المليونير الامريكي أصبح أمامه شبح الخوف والرعب ، وعلى أساس هذا الشبح تنازل عن جز من مكاسبه ؟ هل انه دخلت إلى قلوبهم التقوى فجأة إستنارت قلوبهم بنور الإسلام الذي أنار قلوب المسلمين الأوائل الذين كانوا لا يعرفون حدا للمشاركة والمواساة والذين كانوا يشاطرون إخوانهم غنائمهم واسرّاهم وضرّأهم ؟ هل تحول هؤلاء بين عشية وضحاها إلى مسلمين ، إلى قلوب مسلمة ؟ لا ... لم يتحقق شي من ذلك ، لا كارل ماركس كان

المدرسة القرآنية _ 137 _
  سيّئ الظن بهؤلاء ، كان ظنه منطبقاً على هؤلاء انطباقاً تاماً .
  ولا أن هؤلاء أرعبهم شبح العامل فتنازلوا من أجل إسكاته ولا ان قلوبهم خفقت بالتقوى ، لم تعرف التقوى ولن تعرف التقوى لأنها انغمست في لذّات المال وفي الشهوات ، لم يتحقق شي من ذلك ، إذن ماذا وقع وكيف نفسر هذا الذي وقع ؟ هذا الذي وقع في الحقيقة كان نتيجة تناقض آخر عاش مع التناقض الطبقي منذ البدآية ، لكن ماركس والثوار الذين ساروا على هذا الطريق ، لم يستطيعوا أن يكتشفوا ذلك التناقض ، ولهذا حصروا أنفسهم في التناقض الطبقي ، في التناقض بين المليونير الأمريكي والعامل الأمريكي ، بين الغني الانجليزي والعامل الانجليزى ، ولم يدخلوا في الحساب التناقض الآخر الأكبر الذي أفرزه جدل الإنسان الأوروبي ، افرزه تناقض الإنسان أوروبي فغطى على هذا التناقض الطبقي ، بل جنّده ، بل أوقفه إلى فترة طويلة من الزمن.
  من هو ذلك التناقض ؟ نحن بنظرتنا المنفتحة يمكننا أن نبصر ذلك التناقض ، أن نضع إصبعنا على ذلك التناقض لأننا لم نحصر أنفسنا في إطار التناقض الطبقي ، بل قلنا إن جدل الإنسان دائما يفرز أي شكل من أشكال التناقض الاجتماعي ، ذلك التناقض الآخر وجد فيه الرأسمالي المستغل الأوروبي والأمريكي ، وجد فيه أن من طبيعة هذا التناقض ان يتحالف مع العامل ، مع من يستغله لكي يشكل هو والعامل قطباً في هذا التناقض ، لم يعد التناقض تناقضاً بين الغني الأوروبي والعامل الأوروبي بل ان هذين الوجودين الطبقيين تحالفا معاً وكوّنا قطباً في تناقض اكبر بدأ تاريخيا منذ بدأ ذلك التناقض الذي تحدث عنه ماركس.
  لكن ما هو القطب الآخر في هذا التناقض ؟ القطب الآخر في هذا التناقض هو أنا وأنت هو الشعوب الفقيرة في العالم هو شعوب ما يسمى بـ ( العالم الثالث ) ، هم شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، هذه الشعوب هي التي تمثل القطب الثاني في هذا التناقض.

المدرسة القرآنية _ 138 _
  إن الإنسان الأوروبي بكلا وجودية الطبقيين تخالف وتمجور من أجل أن يمارس صراعه واستغلاله لهذه الشعوب الفقيرة ، وقد انعكس هذا التناقض الأكبر ، انعكس اجتماعيا من خلال صيغ الاستعمار المختلفة التي زخرت بها الساحة التاريخية منذ خرج الإنسان الأوروبي والأمريكي من دياره ليفتش عن كنوز الأرض في مختلف أرجاء العالم ، ولينهب الأموال بلا حساب من مختلف البلاد والشعوب الفقيرة ، هذا التناقض غطى على التناقض الطبقي ، بل جمد التناقض الطبقي لان جدل الإنسان من وراء هذا التناقض كان أقوى من جدل الإنسان من وراء ذلك التناقض ، والثراء الهائل الذي تكدس في أيدي الطبقة الرأسمالية في الدول الرأسمالية لم يكن كله ، بل ولا معظمه نتاج عرق جبين العامل الأوروبي والأمريكي ، وإنما كان نتاج غنائم حرب ، كان نتاج غنائم غارات ، غارات على هذه البلاد الفقيرة ، على بلاد أخرى استطاع الإنسان الأبيض ان يغزوها وان ينهبها ، هذا النعيم الذي تغرق فيه تلك الدول ليس من عرق جبين العامل الأوروبي ، ليس من نتاج التناقض الطبقي بين الرأسمالي والعامل وإنما هذا النعيم هو من نفط آسيا وأمريكا اللاتينية ، هو من ألماس تنزانيا ، هو من الحديد والرصاص والنحاس واليورانيوم في مختلف بلاد أفريقيا ، هو من قطن مصر ، هو من تنباك لبنان ، هو من خمر الجزائر ، نعم من خمر الجزائر ، لان الكافر المستعمر الذي استعمر الجزائر حول أرضها كلها إلى بستان عنب لكي يقطف هذا العنب ويحوله إلى خمر ليسكر به العمال ، وليشعر أولئك العمال بالنشوة والخيلاء ، لأنهم يشربون خمر الجزائر ، يقطفون عنب الجزائر فيحولونه إلى خمر! نعم ذلك النعيم ، كله من هذه المصادر ، من هذه الينابيع ، سكروا على خمر الجزائر ولم يسكروا على عرق جبين العامل الفرنسي أو الأوروبي أو الامريكي.

المدرسة القرآنية _ 139 _
  إذن التناقض الذي جمّد ذلك التناقض والذي أوقف ذلك التناقض هو هذا التناقض الأكبر التناقض بين المحور الرأسمالي ككل بكلتا طبقتيه ، وما بين الشعوب الفقيرة في العالم.
  من خلال هذا التناقض وجد الرأسمالي الأوروبي والأمريكي أن من مصلحته أن يقاسم العامل شيئاً من هذه الغنائم التي نهبها مني ومنك التي نهبها من فقراء الأرض والمستضعفين في الأرض ، وان من مصحلته أن يعطي نعمة منها ، ان يسكر هو ويسكر العمال أيضاً بخمر الجزائر ، ان يتزين بماسّ تنزانيا ويتزين العامل أو زوجته بماسة من ماسات تنزانيا.
  ولهذا نرى أن العامل بدأت حياته تختلف عن نبوءات ماركس ، ليس ذلك لاجل كرم طبيعي في الرأسمالي الاوروبي والأمريكي ، وليس لتقوى ، وإنما هي غنيمة كبيرة كان من المفروض أن يعطي جزا منها لهذا العامل والجز وحده يكفي لاجل تحقيق هذا الرفاه بالنسبة إلى هذا العامل الأوروبي والأمريكي.
  إذن الحقيقة التي يثبتها التاريخ دائما هو ان التناقض لا يمكن حصره في صيغة واحدة ، التناقض له صيغ متعددة وذلك لان كل هذه الصيغ تنبع من منبع واحد وهو التناقض الرئيسي ، الجدل الإنساني ، والجدل الإنساني لا تعوزه صيغة ، إذا حلت صيغة وضع صيغة أخرى مكانها ليس من الصحيح ان نطوق كل التناقضات في التناقض الطبقي ، في التناقض بين من يملك ومن لا يملك ، فإذا حللنا هذا التناقض قلنا بأن التناقضات كلها قد حلت ، التناقض لا يمكن حصره في هذه الصيغة ، التناقض هو استغلال القوي للضعيف.

المدرسة القرآنية _ 140 _
  قلنا إن خط علاقات الإنسان مع الطبيعة مختلف مشكلة وقانونا عن خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، وذكرنا ان هذين الخطين كل واحد منهما مستقل استقلالا نسبيا عن الخط الاخر ، لكن هذا الاستقلال النسبي لاينفي التفاعل والتأثير المتبادل إلى حدما ، بين هذين الخطين ، فلكل منهما لون من التأثير الطردي أو العكسي على الخط الاخر ، وهذا التأثير المتبادل بين الخطين يمكن ابرازه ضمن علاقتين قرآنيتين بين هذين الخطين ، العلاقة الاولى تبرز مدى تأثير خط علاقات الإنسان مع الطبيعة على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان.
  والعلاقة القرآنية الثانية تبرز من الجانب الاخر مدى تأثير علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على علاقات الإنسان مع الطبيعة.
  أما العلاقة الأولى التي تبرز تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة على الخط الاخر فمؤدى هذه العلاقة هو أنه كما نمت قدرة الإنسان على الطبيعة ، واتسعت سيطرته عليها ، وازداد اغتنأاً بكنوزها ، ووسائل انتاجها ، تحققت بذلك امكانية اكبر فاكبر للاستغلال على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) (1) هذه الآية الكريمة تشير إلى هذه العلاقد إلى ان الإنسانية بقدر ما تتمكن وتستقطب الطبيعة وتتوصل إلى وسائل انتاج أقوى وأدوات توليد أوسع ، تكون انعكاسات ذلك على حقل علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، انعكاساته على شكل امكانيات واغرأات وفتح الشهية للاقوياء لكي يستثمروا أداة الانتاج في سبيل استغلال الضعفأ.

--------------------
(1) سورة العلق آية : 6.

المدرسة القرآنية _ 141 _
  تصوروا مجتمعاً يعيش على الصيد باليد والحجارة والهراوة ، مثل هذا المجتمع لا يتمكن من أن يمارس بذور الأقوياء ، بذور الوحوش فيه لا يتمكنون على الأغلب من أن يمارسوا أدواراً خطيرة من الاستغلال الاجتماعي ، لان مستوى الإنتاج محدود والقدرة محدودة وكل إنسان لا يكسب عادة بعرق جبينه إلاّ قوت يومه ، فلا توجد إمكانية استغلال بشكله الاجتماعي الواسع وان كان توجد ألوان أخرى من الاستغلال الفردي ، ولكن لاحظوا من الجانب الآخر مجتمعاً متطوراً استطاع الإنسان فيه أن يصنع الآلة البخارية والآلة الكهربائية ، استطاع فيه أن يخضع الطبيعة لارادته في مثل هذا المجتمع سوف تكون الآلة البخارية والآلة الكهربائية المعقدة المتطورة الصنع تكون أداة إمكانية على ساحة علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان تشكل بحسب مصطلح الفلاسفة ما بالقوة للاستغلال ويبقى ان يخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل وذلك على عهدة الإنسان ودوره التاريخي على الساحة الاجتماعية ، فالإنسان هو الذي يصنع الاستغلال ، هو الذي يفرز النظام الرأسمالي المستغل حينما يجد الآلة البخارية والكهربائية ، ولكن الآلة البخارية والكهربائية هي التي تعطيه إمكانية هذا الاستغلال ، هي التي تهيئ له فرصة تفتح شهيته ، توقظ مشاعره ، تحرك جدله الداخلي وتناقضه الداخلي من اجل أن يبرز صيغة تتناسب مع ما يوجد على الساحة من قوى الإنتاج ووسائل التوريد ، وهذا هو الفرق بيننا وبين المادية التاريخية ، المادية التاريخية اعتقدت بأن الآلة هي التي تصنع الاستغلال ، هي التي تصنع النظام المتناسب لها ، ولكننا نحن لا نرى ان دور الآلة هو دور الصانع ، وإنما دور الآلة هو دور الإمكانية ، دور توفير الفرصة والقابلية ، وأما الصانع الذي يتصرف ايجاباً وسلباً ، أمانة وخيانة ، صموداً وانهياراً ، إنما هو الإنسان وفقاً لمحتواه الداخلي ، لمثله الأعلى ، لمدى التحامه مع هذا المثل الأعلى ، هذه هي العلاقة الأولى.

المدرسة القرآنية _ 142 _
  وأما العلاقة القرآنية الثانية التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة ، فمؤدى هذه العلاقة القرآنية هو أنه كلما جسدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة وكلما استطاعت ان تستوعب قيم هذه العدالة وان تبتعد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الإنسان لأخيه الإنسان ، كلما وقع ذلك ، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها ، وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركات من السماء ، وتفجرت الأرض بالنعمة والرخاء.
  هذه العلاقة القرآنية هي العلاقة التي شرحها القرآن الكريم في نصوص عديدة قال سبحانه وتعالى ( وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ) (1) ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) (2) ، ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (3) ، هذه العلاقة مؤداها ان علاقات الإنسان مع الطبيعة تتناسب عكسياً مع ازدهار العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، فكلما ازدهرت العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان اكثر فأكثر ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة ، وكلما انحسرت العدالة عن الخط الأول انحسر الازدهار عن الخط الثاني ، أي ان مجتمع العدل هو الذي يضع الازدهار في علاقات الإنسان مع الطبيعة ، ومجتمع الظلم هو الذي يؤدي إلى انحسار تلك العلاقات ، علاقات الإنسان مع الطبيعة ، وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط ، نعم نحن نؤمن أيضاً بمحتواها الغيبي ولكن إضافة إلى محتواها الغيبي الرباني هي تشكل سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم وذلك لان مجتمع الظلم ، مجتمع الفراعنة على مرّ التاريخ مجتمع ممزق ، مشتت ، الفرعونية على مرّ التاريخ حينما تتحكم في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان تستهدف تمزيق طاقات المجتمع ، وتشتيت فئاته ، وبعثرة إمكانياته ، ومن الواضح أنه تشتيت وبعثرة وتفتيت وتجزئة من هذا القبيل لا يمكن لأفراد المجتمع ان يحشدوا قواهم الحقيقة والسيطرة على الطبيعة.

--------------------
(1) سورة الجن آية : 16.
(2) سورة المائدة آية : 66.
(3) سورة الأعراف آية : 96.

المدرسة القرآنية _ 143 _
  وهذا هو الفرق بين المثل العليا المنخفضة الفرعونية وبين المثل الأعلى الحق مثل التوحيد سبحانه وتعالى ، فان المثل الأعلى يوحد الجامعة البشرية ويلغي كل الفوارق والحدود باعتبار شمولية هذا المثل الأعلى باعتبار شموليته هو يستوعب كل الحدود وكل الفوارق ، يهضم كل الاختلاف ، يصهر البشرية كلها في وحدة متكافئة ، لا يوجد ما يميز بعضها عن بعض ، لا من دم ولا من جنس ولا من قومية ولا من حدود جغرافية أو طبقية.
  المثل الأعلى بشموليته يوحّد البشرية ولكن المثل العليا المنخفضة تجزئ البشرية وتشتت البشرية انظروا إلى المثل الأعلى كيف يقول ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) ، ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) (2) ، هذا هو منطق شمولية المثل الأعلى التي لا تعترف بحد وبحاجز في داخل هذه الأسرة البشرية انظروا ، استمعوا إلى المثل المنخفض ، إلى مجتمع الظلم وآلهة مجتمع الظلم كيف يقولون ، أو كيف يتحدث عنهم القرآن الكريم ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ) (3) ، فرعون المثل الأعلى المنخفض ، الفرعونية على مرّ التاريخ التي تبني العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس الظلم والاستغلال ، الفرعونية تجزئ المجتمع ، تبعثر إمكانيات المجتمع ، وطاقات المجتمع ومن هنا تهدر ما في الإنسان من قدرة على الإبداع والنمو الطبيعي على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة ، وعملية التجزئة الفرعونية للمجتمع تقسم المجتمع إلى فصائل وجماعات : الجماعة الأولى ظالمون مستضعفون ، هذه الجماعة الأولى في التقسيم الفرعوني هم الظالمون المستضعفون ، في نفس الوقت الظالمون الثانويون أو بحسب تعبير أئمتنا عليهم الصلاة والسلام ( أعوان الظلمة )

--------------------
(1) سورة الأنبياء آية : 92.
(2) سورة المؤمنون آية : 52.
(3) سورة القصص آية : 4.

المدرسة القرآنية _ 144 _
  هؤلاء الظالمون المستضعفون يشكلون حمآية لفرعون وللفرعونية وسنداً في المجتمع لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها واطارها.
  قال اللّه سبحانه وتعالى ( وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) (1).
  هنا القرآن يتحدث عن الظالمين يقول ( إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ ) لكن الظالمين صنفهم إلى قسمين : إلى من استضعف منهم ومن استكبر منهم.
  إذن فالظالمون فيهم مستكبرون وهم الذين يمثلون الفرعونية في المجتمع وفيهم مستضعفون.
  فالطائفة الأولى إذن في التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم هم الظالمون المستضعفون هؤلاء الذين يحشرون يوم القيامة في زمرة الظالمين ثم يقولون للمستكبرين من الظالمين لولا انتم لكنا مؤمنين ، هذه هي الطائفة الأولى التي تشكل الحمآية والسند للفرعونية.
  الطائفة الثانية في عملية التمزقة الفرعونية لمجتمع الظلم ظالمون يشكلون حاشية ومتملقون ، أولئك الذين قد لا يمارسون ظلماً بأيديهم بالفعل ولكنهم دائماً وابداً على مستوى نزوات فرعون وشهوات فرعون ورغبات فرعون يسبقونه بالقول من أجل ان يصححوا مسلكه ومسيرته.
  قال اللّه سبحانه وتعالى ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) (2) ، شكلوا دور الاثارة لفرعون ، هؤلاء كانوا يعرفون انهم بهذا الكلام يضربون على الوتر الحساس في قلب فرعون ، وان فرعون كان بحاجة إلى كلام من هذا القبيل ، فتسابقوا إلى هذا الكلام لكي يجعلوا فرعون يعبر عما في نفسه ويتخذ الموقف المنسجم مع مشاعره وعواطفه وفرعونيته.

--------------------
(1) سورة سبأ آية : 31.
(2) سورة الأعراف آية : 127.

المدرسة القرآنية _ 145 _
  الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم أولئك الذين عبر عنهم الإمام علي عليه الصلاة والسلام ( بالهمج الرعاع ) جماعة هم مجرد آلات مستسلمة للظلم ، لا تحس بالظلم ، لا تدرك إنها مظلومة ولا تدرك ان في المجتمع ظلماً ، هي آلات تتحرك تحركاً آلياً ، تحركاً يشبه التحرك الميكانيكي للآلة ، تحرك التبعية والطاعة دون تدبر ، دون وعي ، سلب فرعون منها تدبرها ، عقلها ، وعيها ، ربط يديها به لاعقلها به ، ولهذا فهي تحرك يدها تحريكاً آلياً وتستسلم للأوامر ، للأوامر الفرعونية دون أن تناقشها حتى دون ان تتدبرها ، حتى بينها وبين نفسها لا بينها وبين الآخرين ، هذه الفئة طبعاً تفقد كل قدرة على الإبداع البشري في مجال التعامل مع الطبيعة ، تفقد كل قابليات النمو لأنها تحولت إلى آلات ، إذا وجد أن هناك إبداع في هذه الفئة إنما هو إبداع من يحرك هذه الآلات ، إبداع تلك الفرعونية التي تحرك هذه الآلات ، وأما هذه الفئة فلم تعد أناساً وبشراً يفكرون ويتدبرون لكي يستطيعوا أن يحققوا لونا من الإبداع على هذه الساحة.
  قال اللّه سبحانه وتعالى ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ ) (1) لا يوجد في كلام هؤلاء ما يشعر بأنهم كانوا يحسون بالظلم أو كانوا يحسون بأنهم مظلومون وإنما هو مجرد طاعة ، مجرد تبعية ، هؤلاء هم القسم الثالث في تقسيم مولانا أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام حينما قال ( الناس ثلاثة : عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق ) وهذا القسم الثالث يشكل مشكلة بالنسبة إلى أي مجتمع صالح وبقدر ما يمكن للمجتمع الصالح أن يستأصل هذا القسم الثالث بتحويله إلى القسم الثاني ، بتحويله إلى متعلم على سبيل النجاة على حد تعبير الإمام ، إلى تابع بإحسان على حد تعبير القرآن ، إلى مقلد بوعي وتبصر على حد تعبير الفقه ، بقدر ما يمكن تحويل هذا القسم الثالث إلى القسم الثاني يمكن للمجتمع الصالح أن يستمر وأن يمتد ولهذا كان من ضرورات المجتمع الصالح في نظر الإمام عليه الصلاة والسلام هو شجب هذا القسم الثالث ، هؤلاء همج ، رعاع

--------------------
(1) سورة الأحزاب آية : 67.

المدرسة القرآنية _ 146 _
  ينعقون مع كل ناعق ليس لهم عقل مستقل ، وارادة مستقلة.
  كان الإمام ـ عليه السلام ـ يرى ان هذا القسم الثالث يجب تصفيته من المجتمع الصالح ، ذلك لا بالقضاء عليه فردياً ، بل بتحويله إلى القسم الثاني ضمن أحد الصيغ الثلاثة التي ذكرناها ، لكي يستطيع المجتمع الصالح أن يواصل إبداعه ، ولكي يستطيع كل أفراد المجتمع الصالح ، أن يشكلوا مشاركة حقيقية في مسيرة الإبداع ، وخلافاً لذلك الفرعونية ، الفرعونية تحاول أن توسع من هذا القسم الثالث ، هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق تحاول الفرعونية ان توسع منهم وكلما توسعت هذه الفئة أكثر فأكثر قدمت المجتمع نحو الدمار خطوة بعد خطوة لان هذه الفئة لا تستطيع بوجه من الوجوه ان تدافع عن المجتمع إذا حلت كارثة في الداخل أو طرأت كارثة من الخارج ، فكلما توسعت هذه الفئة ، هذا القسم الثالث ، هؤلاء الذين ينعقون مع كل ناعق ، كلما توسعوا في المجتمع ازداد خطر فناء المجتمع وبهذا تموت المجتمعات موتاً طبيعياً.
  مفهوم الموت لدى القرآن للمجتمعات وللأقوام وللأمم الموت الطبيعي للمجتمع لا الموت المخروم.
  المجتمع له موتان : موت طبيعي وموت مخروم.
  الموت الطبيعي للمجتمع يكون عن طريق توسع هذه الفئة الثالثة وازديادها نوعياً وعددياً في المجتمع إلى أن تحل الكارثة فينهار المجتمع.
  هذه الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية.

المدرسة القرآنية _ 147 _
  أما الطائفة الرابعة : هم أولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم ، أولئك الذين لم يفقدوا لبهم أمام فرعون والفرعونية فهم يستنكرون الظلم لكنهم يهادنونه ويسكتون عنه فيعيشون حالة التوتر والقلق في أنفسهم وهذه الحالة ، حالة التوتر والقلق أبعد ما تكون عن حالة تسمح للإنسان بالإبداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات الإنسان مع الطبيعة ، هؤلاء يسميهم القرآن الكريم ( ظالمي أنفسهم ) قال اللّه سبحانه وتعالى ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) (1) هؤلاء لم يظلموا الآخرين ، ليسوا من الظالمين المستضعفين كالطائفة الأولى ، وليسوا من الحاشية المتملقين ، وليسوا أيضاً من الهمج الرعاع الذين فقدوا لبهم بل بالعكس هم يشعرون بأنهم مستضعفون.
  ( قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ ) هؤلاء لم يفقدوا لبهم ، يدركون واقعهم ولكنهم كانوا عملياً مهادنين ولهذا عبر عنهم القرآن بأنهم ظلموا أنفسهم هذه الطائفة هل يترقب منها أن تساعد بإبداع حقيقي في مجال علاقات الإنسان مع الطبيعة ؟ طبعاً كلا.
  الطائفة الخامسة : في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هي : الطائفة التي تتهرب من مسرح الحياة ، تبتعد عن المسرح وتتهرب منه وتترهب.
  وهذه الرهبانية موجودة في كل مجتمعات الظلم على مرّ التاريخ وهي تتخذ صيغتين : الأولى صيغة جادة ، رهبانية جادة تريد ان تفر بنفسها لكي لا تتلوث بأوحال المجتمع ، هذه الرهبانية الجادة التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله ( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ) (2) هذه الرهبانية يشجبها الإسلام لأنها موقف سلبي تجاه مسؤولية خلافة الإنسان على الأرض.
  وهناك صيغة مفتعلة للرهبانية ، يترهب ويلبس مسوح الرهبان ولكنه ليس راهباً في أعماق نفسه ، وإنما يريد بذلك ان يخدر الناس ويشغلهم عن فرعون وظلم فرعون ويسطو عليهم نفسياً وروحياً.

--------------------
(1) سورة النساء آية : 97.
(2) سورة الحديد آية : 27.

المدرسة القرآنية _ 148 _
  وهذا هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله ( إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) (1).
  الجماعة السادسة والاخيرة في عملية التجزئة الفرعونية للمجتمع هم : المستضعفون ، الفرعونية حينما جزأت المجتمع إلى طوائف ، فرعون حينما اتخذ من قومه شيعاً استضعف طائفة معينة منهم خصها بالاستضعاف والإذلال وهدر الكرامة لأنها كانت هي الطائفة التي يتوسم ان تشكل اطاراً للتحرك ضده ولهذا استضعفها بالذات ، ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) (2) ، هذه هي الطائفة السادسة وقد علمنا القران الكريم ضمن سنة من سنن التاريخ أيضاً ان موقع أي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب عكساً مع موقعه بعد انحسار الظلم ، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ ) (3).
  تلك الطائفة السادسة التي كانت هي منحدر التركيب يريد اللّه سبحانه وتعالى ان يجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين وهذه علاقة أخرى وسنة تاريخية أخرى يأتي الحديث عنها إنشاء اللّه تعالى.

--------------------
(1) سورة التوبة آية : 34.
(2) سورة البقرة آية : 49.
(3) سورة القصص آية : 5.

المدرسة القرآنية _ 149 _
  إذن فإلى هنا استخلصنا هذه الحقيقة وهي : ان المجتمع يتناسب مدى الظلم فيه تناسباً عكسياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة ، ويتناسب مدى العدل فيه تناسباً طردياً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة.
  مجتمع الفرعونية المجزأ المشتت مهدور القابليات والطاقات والامكانيات ومن هنا تحبس السماء قطرها ، وتمنع الأرض بركاتها.
  واما مجتمع العدل فهو على العكس تماماً هو مجتمع تتوحد فيه كل القابليات وتتساوى فيه كل الفرص والإمكانيات هذا المجتمع الذي تحدثنا الروايات عنه ، تحدثنا عنه من خلال ظهور الإمام المهدي عليه الصلاة والسلام ، تحدثنا عما تحتفل به الأرض والسماء في ظل الإمام المهدي ( عليه السلام ) من بركات وخيرات وليس ذلك إلاّ لان العدالة دائماً وأبداً تتناسب طرداً مع ازدهار علاقات الإنسان مع الطبيعة ، هذه العلاقة الثانية بين الخطين.

المدرسة القرآنية _ 150 _
  خرجنا مما سبق بنظرية تحليلية قرآنية كاملة لعناصر المجتمع ولا دوار هذه العناصر وللعلاقة القائمة بين الخطين المزدوجين في العلاقة الاجتماعية ، خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة ، وانتهينا على ضوء هذه النظرية القرآنية الشاملة إلى ان هذين الخطين أحدهما مستقل عن الآخر استقلالا نسبيا ولكن كل واحد منهما له نحو تأثير في الآخر على الرغم من ذلك الاستقلال النسبي وهذه النظرية القرآنية في تحليل عناصر المجتمع وفهم المجتمع فهما موضوعيا تشكل أساسا للاتجاه العام في التشريع الإسلامي ، فان التشريع الإسلامي في اتجاهاته العامة وخطوطه يتأثر ويتبثق ويتفاعل مع وجهة النظر القرآنية والإسلامية إلى المجتمع وعناصره وادوار هذه العناصر والعلاقات المتبادلة بين الخطين ، هذه النظريات التي قرأناها والتي انتهينا إليها على ضوء المجموعة المذكورة سابقا من النصوص القرآنية هذه النظريات هي في الحقيقة الأساس النظري للاتجاه العام للتشريع الإسلامي فان الاستقلال النسبي بين الخطين ، خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة ، هذا الاستقلال النسبي يشكل القاعدة لعنصر الثبات في الشريعة الإسلامية والأساس لتلك المنطقة الثابتة من التشريع التي تحتوي على الأحكام العامة المنصوصة ذات الطابع الدائم المستمر في التشريع الإسلامي بينما منطقة التفاعل بين الخطين ، بين خط علاقات الإنسان مع الطبيعة وخط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ، منطقة التفاعل والمرونة تشكل في الحقيقة الأساس لما أسميناه في كتاب (اقتصادنا) بمنطقة الفراغ تشكل الأساس للعناصر المرنة والمتحركة في التشريع الإسلامي ، هذه العناصر المرنة والمتحركة في التشريع الإسلامي ، هذه العناصر المرنة والمتحركة في التشريع الإسلامي هي انعكاس تشريعي لواقع تلك المرونة وذلك التفاعل بين الخطين ، والعناصر الأولى الثابتة والصامدة في التشريع الإسلامي هي انعكاس تشريعي لذلك الاستقلال النسبي الموجود بين الخطين ، بين خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان وخط علاقات الإنسان مع الطبيعة ، ومن هنا نؤمن بأن الصورة التشريعية الإسلامية الكاملة لمجتمع هي في الحقيقة تحتوي على جانبين ، تحتوي على عناصر ثابتة ، وتحتوي على عناصر متحركة ومرنة وهذه العناصر المتحركة والمرنة التي ترك للحاكم الشرعي ان يملاها فرضت أمامه مؤشرات إسلامية عامة أيضاً لكي يملا هذه العناصر المتحركة وفقا لتلك المؤشرات الإسلامية العامة ، وهذا بحث يحتاج إلى كلام اكثر من هذا ، تفصيلا واطنابا ، من المفروض ان نستوعب هذا البحث إنشاء اللّه تعالى لكي نربط الجانب

المدرسة القرآنية _ 151 _
  التشريعي من الإسلام بالجانب النظري التحليلي من القرآن الكريم لعناصر المجتمع وبعد ذلك يبقى علينا بحث آخر في نظرية الإسلام عن أدوار التاريخ ، عن أدوار الإنسان على الأرض فان القرآن الكريم يقسم حياة الإنسان على الأرض إلى ثلاثة أدوار : دور الحضانة ، ودور الوحدة ، ودور التشتت والاختلاف.
  وهذه أدوار ثلاثة تحدث عنها القرآن الكريم ، بين لكل دور الحالات والخصائص والمميزات التي يتميز بها ذلك الدور ، هذا أيضاً بحث سوف نخرج منه بنظرية شاملة كاملة لهذا الجانب من تاريخ الإنسان ، كل ذلك لا يمكن ان يسعه يوم واحد وبحث واحد فمن الأفضل آن نؤجل ذلك ، وننصرف الآن من منطقة الفكر إلى منطقة القلب ، من منطقة العقل إلى منطقة الوجدان ، أريد أن نعيش معا لحظات بقلوبنا لا بعقولنا فقط ، بوجداننا ، بقلوبنا ، نريد ان نعرض هذه القلوب على القرآن الكريم بدلا عن ان نعرض أفكارنا وعقولنا ، نعرض صدورنا ، لمن ولاؤها ؟ ما هو ذاك الحب الذي يسودها ويمحورها ويستقطبها ؟ ان اللّه سبحانه وتعالى لا يجمع في قلب واحد ولاين ، لا يجمع حبين مستقطبين.
  أما حب اللّه واما حب الدنيا ، أما حب اللّه وحب الدنيا معا فلا يجتمعان في قلب واحد ، فلنمتحن قلوبنا ، فلنرجع إلى قلوبنا لنمتحنها ، هل تعيش حب اللّه سبحانه وتعالى ، أو تعيش حب الدنيا ، فان كانت تعيش حب اللّه زدنا ذلك تعميقا وترسيخا ، وان كانت ( نعوذ باللّه ) تعيش حب الدنيا ، حاولنا ان نتخلص من هذا الداء الوبيل ، من هذا المرض المهلك.
  ان كل حب يستقطب قلب الإنسان يتخذ إحدى صيغتين وإحدى درجتين.
  الدرجة الأولى ان يشكل هذا الحب محورا وقاعدة لمشاعر وعواطف وآمال وطموحات هذا الإنسان قد ينصرف عنه في قضاء حاجة في حدود خاصة ولكن يعود ، سرعان ما يعود إلى القاعدة لأنها هي المركز ، وهي المحور ، قد ينشغل بحديث ، قد ينشغل بكلام ، قد ينشغل بعمل ، بطعام ، بشراب ، بمواجهة ، بعلاقات ثانوية ، بصداقات ، لكن يبقى ذاك الحب هو المحور ، هذه هي الدرجة الأولى ، والدرجة الثانية من الحب المحور ان يستقطب هذا الحب كل وجدان الإنسان ، بحيث لا يشغله شي عنه على الإطلاق ومعنى انه لا يشغله شي عنه انه سوف يرى محبوبه وقبلته وكعبته أينما توجه ، أينما توجه سوف يرى ذلك المحبوب ، هذه هي الدرجة الثانية من الحب المحور هذا التقسيم الثنائي ينطبق على حب اللّه وينطبق على حب الدنيا ، حب اللّه سبحانه وتعالى ، الحب الشريف للّه المحور يتخذ هاتين الدرجتين ، الدرجة الأولى يتخذها في نفوس المؤمنين الصالحين الطاهرين الذين نظفوا نفوسهم من أوساخ هذه الدنيا الدنية هؤلاء يجعلون من حب اللّه محورا لكل عواطفهم ومشاعرهم وطموحاتهم وآمالهم ، قد ينشغلون بوجبة طعام ، بمتعة من المتع المباحة ، بلقاء مع صديق ، بتنزه في شارع ، ولكن يبقى هذا هو المحور الذي يرجعون إليه بمجرد ان ينتهي هذا الانشغال الطارئ ، واما بالدرجة الثانية فهي الدرجة التي يصل إليها أولياء اللّه من الأنبياء والائمة عليهم أفضل

المدرسة القرآنية _ 152 _
  الصلاة والسلام ، ( علي بن ابي طالب ) الذي نحظى بشرف مجاورة قبره ، هذا الرجل العظيم كلكم تعرفون ماذا قال ، هو الذي قال ( بأني ما رأيت شيئا إلاّ ورأيت اللّه معه وقبله وبعده وفيه ) لان حب اللّه في هذا القلب العظيم استقطب وجدانه إلى الدرجة التي منعه من ان يرى شيئا آخر غير الله حتى حينما كان يرى الناس ، كان يرى فيهم عبيدا للّه ، حتى حينما كان يرى النعمة الموفورة كان يرى فيها نعمة اللّه سبحانه وتعالى دائما هذا المعنى الحرفي ، هذا الربط باللّه دائما وابدا يتجسد أمام عينه لان محبوبه الأوحد ، ومعشوقة الأكمل ، قبلة آماله وطموحاته ، لم يسمح له بشريك في النظر ، فلم يكن يرى إلاّ اللّه سبحانه وتعالى.
  هذه هي الدرجة الثانية نفس التقسيم الثنائي يأتي في حب الدنيا ، الذي هو رأس كل خطيئة على حد تعبير رسول اللّه (ص) ، حب الدنيا يتخذ درجتين : الدرجة الأولى أن يكون حب الدنيا محورا للإنسان ، قاعدة للإنسان في تصرفاته وسلوكه يتحرك حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتحرك ويسكن حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يسكن ، يتعبد حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتعبد وهكذا ، الدنيا تكون هي القاعدة ، لكن أحيانا أيضاً يمكن ان يفلت من الدنيا ، يشتغل اشغال أخرى نظيفة ، طاهرة ، قد يصلي للّه سبحانه وتعالى ، قد يصوم للّه سبحانه وتعالى ، لكن سرعان ما يرجع مرة أخرى إلى ذلك المحور وينشد إليه ، فلتات يخرج بها من إطار ذلك الشيطان ثم يرجع إلى الشيطان مرة أخرى ، هذه درجة أولى من هذا المرض الوبيل ، مرض حب الدنيا ، واما الدرجة الثانية من هذا المرض الوبيل فهي الدرجة المهلكة ، حينما يعمي حب الدنيا هذا الإنسان ، يسد عليه كل منافذ الرؤية ، يكون بالنسبة إلى الدنيا كما كان سيد الموحدين وأمير المؤمنين بالنسبة إلى اللّه سبحانه وتعالى ، انه لم يكن يرى شيئا إلاّ وكان يرى اللّه معه وقبله وبعده حب الدنيا في الدرجة الثانية يصل إلى مستوى بحيث ان الإنسان لا يرى شيئا إلاّ ويرى الدنيا فيها وقبلها وبعدها ومعها ، حتى الأعمال الصالحة تتحول عنده وبمنظاره إلى دنيا ، تتحول عنده إلى متعة ، إلى مصلحة شخصية حتى الصلاة ، حتى الصيام ، حتى البحث ، حتى الدرس ، هذا الألوان كلها تتحول إلى دنيا لا يمكنه ان يرى شيئا إلاّ من خلال الدنيا ، إلاّ من خلال مقدار ما يمكن لهذا العمل ان يعطيه ، يعطيه من حفنة مال أو من كومة جاه لا يمكن ان يستمر معه إلاّ بضعة أيام معدودة ، هذه هي الدرجة الثانية وكل من الدرجتين مهلكة ولدرجة الثانية أشد هلكة من الدرجة الأولى ولهذا قال رسول الله (ص) : ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( الدنيا كماء البحر من ازداد شربا منه ازداد عطشا ) ، لا تقل فلاخذ هذه الحفنة من الدنيا ثم أنصرف عنها فلا حصل على هذه المرتبة من جاه الدنيا ثم انصرف إلى اللّه ليس الأمر كذلك فان أي مقدار تحصل عليه من مال الدنيا ، من مقامات هذه الدنيا الزائلة ، سوف يزداد بك العطش والنهم إلى المرتبة الأخرى ، ( الدنيا كماء البحر ) ، ( الدنيا رأس كل خطيئة ) ، الرسول (ص) يقول : (من أصبح واكبر همه الدنيا فليس

المدرسة القرآنية _ 153 _
  له من اللّه شي ).
  هذا الكلام يعني قطع الصلة مع اللّه ، يعني ان ولائين لا يجتمعان في قلب واحد من كان ولاؤه للدنيا ، فليس له من الله شي ، ليس له صلة مع الله سبحانه وتعالى لان ولائين لا يجتمعان في قلب واحد ، ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) لان حب الدنيا هو الذي يفرغ الصلاة من معناها ويفرغ الصيام من معناه ويفرغ كل عبادة من معناها ، ماذا يبقى من معنى لهذه العبادات ، إذ استولى حب الدنيا على قلب الإنسان ، أنا وانتم نعرف ان أولئك الذين نآخذهم على ما عملوا مع أمير المؤمنين ، أولئك لم يتركوا صلاة ، ولم يتركوا صياما ، ولم يشربوا خمرا ، على الأقل عدد كبير منهم لم يقوموا بشي من هذا القبيل ، لكنهم مع هذا ما هي قيمة العفة عن شرب الخمر إذا كان حب الدنيا هو الذي يملا القلب. ما قيمة صلاة عبد الرحمن بن عوف ، عبدالرحمن بن عوف كان صحابيا جليل القدر ، كان من السابقين إلى الاسلام ، كان ممن أسلم والناس كفار ومشركون تربى على يد رسول اللّه (ص) ، عاش مع الوحي مع القرآن ، مع آيات اللّه تترى ، لكن ماذا دهاه ؟ ماذا دهاه حينما فتح اللّه على المسلمين بلاد كسرى وقيصر ، وكنوز كسرى وقيصر ، ماذا دهى هذا الرجل المسكين ؟ هذا الرجل المسكين ملا قلبه حب الدنيا ، كان يصلي وكان يصوم ، ولكن ملا قلبه حب الدنيا حينما وقف في خيار واحد بين عثمان وعلي ( عليه السلام ) ، اما أن يكون عثمان خليفة المسلمين واما ان يكون علي خليفة المسلمين إلى أبد الدهر ولكنه يعلم أيضاً انه حينما يعطيها إلى عثمان فقد فتح بذلك باب الفتن إلى آخر الدهر يعلم بذلك وقد سمع ذلك من عمر نفسه أيضاً ، ولكنه في هذا الخيار غلب حب الدنيا على قلبه ، ضرب على يد عثمان وترك يد علي مبسوطة تتنتظر من يبايع ، جعل عثمان خليفة ، وأقصى عليّا ( عليه السلام ) عن الخلافة ، قد تقولون إن هذه معصية هذا كترك الصلاة ، لان رسول اللّه (ص) جعل عليه خليفة بعده بلا فصل هذا صحيح ، تولي علي بن أبي طالب أهم الواجبات ولكن افرضوا وفرض المحال ليس بمحال ، لو أن رسول اللّه لم ينص على علي بن ابي طالب .
  أكان هذا الموقوف من عبد الرحمن بن عوف مهضوما ؟ أكان هذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف صحيحا ؟ ، لو تركنا كل نصوص الرسول وتركنا حديث الغدير وحديث الثقلين ! لو تركنا كل ذلك ، لكن بمنطق حب اللّه وحب الدنيا ، بمنطق الحرص على الإسلام بمنطق الغيرة على الدين والمسلمين ، أكان هذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف سليما ، ان يطرح يد علي ( عليه السلام ) مبسوطة دون أن يبايعها ويبايع انسانا غير جدير بأن يتحمل الأمانة ، ان يبايع عثمان بن عفان.
  اذن المسألة هنا ليست فقط مسألة نص وإنما المسألة هنا مسألة حب الدنيا ، مسألة خيانة الأمانة لان حب الدنيا يعمي ويصم ، حب عبد الرحمن بن عوف للدنيا أفقد الصلاة معناها ، افقد الصيام معناه ، أفقد شهر رمضان معناه ، أفقد كل شي مغزاه الحقيقي ومحتواه النبيل الشريف ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) وحب اللّه سبحانه وتعالى اساس كل كمال ، حب اللّه هو الذي يعطي للانسان الكمال ، العزة ، الشرف ،

المدرسة القرآنية _ 154 _
  الاستقامة ، النظافة ، القدرة على مغالبة الضعف في كل الحالات ، حب اللّه سبحانه وتعالى هو الذي جعل اولئك السحرة ، يتحولون إلى رواد على الطريق ، فقالوا لفرعون : ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) (1) كيف قالوا هكذا ؟ لام حب اللّه اشتعل في قلوبهم فقالوا لفرعون بكل شجاعة وبطولة ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) حب اللّه هو الذي جعل عليا عليه الصلاة والسلام دائما يقف مواقف الشجاعة ، مواقف البطولة ، هذه الشجاعة ، شجاعة علي ( عليه السلام ) ليست شجاعة السباع ، ليست شجاعة الاسود ، وإنما هي شجاعة الايمان وحب اللّه ، ميدان الحرب ، بل كانت احيانا شجاعة الرفض ، احيانا شجاعة الصبر ، علي بن ابيٍّ طالب ضرب المثل الاعلى في شجاعة المبارزة في ميدان الحرب شد مزامه وهو ناهز الستين من عمره الشريف وهجم على الخوارج وحده فقاتل أربعة آلاف انسان ، هذه قمة الشجاعة في ميدان المبارزة لان حب اللّه اسكره ! فلم يجعله يلتقت أن هؤلاء أربعة آلاف وهو واحد ! وضرب قمة الشجاعة في الصبر ، في السكوت عن الحق ، حينما فرض عليه الاسلام أن يصبر عن حقه وهو في قمة شبابه ، لم يكن في شيخوخته ، كان في قمة شبابه ، كانت حرارة الشباب مل وجدانه ، ولكن الاسلام قال له اسكت ، اصبر عن حقك حفاظا على بيضة الدين ، ما دام هؤلاء يتحملون حفظ الشعائر الظاهرية للاسلام وللدين ، سكت ما دام هؤلاء كانوا يتحفظون على الظواهر والشعائر الظاهرية للاسلام والدين ، وكان هذا قمة الشجاعة في الصبر أيضاً ! هذه ليست شجاعة الاسود ، هذه شجاعة المؤمن الذي اسكره حب اللّه ! وكان قمة الشجاعة في الرفض ، وفي الاباء حينما طرح عليه ذلك الرجل أن يبايعه على شروط تخالف كتاب اللّه وسنة رسوله بعد مقتل الخليفة الثاني ، ماذا صنع هذا الرجل العظيم ؟ هذا الرجل العظيم الذي كان يحترق لان الخلافة ذهبت من يده ، يحترق من أجل اللّه !! لا من أجل نفسه ، يقول ( ولقد تقمصها ابن ابي قحافة وهو يعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى ) ، هذا الرجل الذي كان يحترق لان الخلافة خرجت من يده ، لوان انسانا يقراء هذه العبارة وحدها لقال ما اكثر شهوة هذا الرجل إلى السلطان والى الخلافة ! لكن هذا الرجل نفسه ، هذا الرجل بذاته عرضت عليه الخلافة ، عرضت على رئاسة الدنيا فرفضها ! لالشي إلاّ لانها شرطت بشرط يخالف كتاب اللّه وسنة رسوله.
  من هنا نعرف ان ذلك الاحتراق لم يكن من أجل ذاته ، وإنما كان من اجل اللّه سبحانه وتعالى ، اذن هذه الشجاعة شجاعة البراز في يوم البراز ، وشجاعة الصبر في يوم الصبر ، وشجاعة الرفض في يوم الرفض ، هذه الشجاعة خلقها في قلب علي حبه للّه ، لا اعتقاده بوجود اللّه ، هذا الاعتقاد الذي يشاركه فيه فلاسفة الاغريق أيضاً ، أرسطو أيضاً يعتقد بوجود اللّه ، افلاطون أيضاً يعتقد بوجود اللّه ، الفارابي أيضاً يعتقد بوجود اللّه ، ماذا صنع هؤلاء للبشرية ، وماذا صنعوا للدين أو للدنيا ، ليس الاعتقاد وإنما حب اللّه اضافة إلى الاعتقاد ، هذا هو الذي صنع هذه المواقف ونحن أولى الناس بأن نطلّق

--------------------
(1) سورة طه آية : 72.

المدرسة القرآنية _ 155 _
  الدنيا ، إذا كان حب الدنيا خطيئة ، فهو منا نحن الطلبة من اشد الخطايا ، هذا الشي الذي هو خطيئة من غيرنا هو اكثر خطيئة منا ، نحن أولى من غيرنا بأن نكون على حذر من هذه الناحية ، أولا لاننا نصبنا أنفسنا أدلا على طريق الاخرة ، ماهي مهمتنا في الدنيا ، ماهي وظيفتنا في الدنيا ؟ إذا سألك انسان ، ماذا تعمل ، ما هو مبرر وجودك ، ماذا تقول ؟ تقول بأني أريد أن اشد الناس إلى الاخرة ، اشد دنيا الناس إلى الاخرة ، إلى عالم الغيب ، إلى اللّه سبحانه وتعالى.
  اذن كيف تقطع دنياك عن الاخرة ؟ إذا كانت دنياك مقطوعة عن الاخرة فسوف تشد دنيا الناس إلى دنياك لا إلى آخرة ربك ، سوف نتحول إلى قطاع طريق ، ولكن أي طريق ، الطريق إلى اللّه ، لاطريق ما بين بلدوبلد ، هذا الطريق إلى اللّه نحن رواده ، نحن القائمون على الدلالة اليه ، على الاخذ بيد الناس فيه ، فلو اننا أغلقنا باب هذا الطريق ، لو اننا تحولنا عن هذا الطريق إلى طريق آخر اذن سوف نكون حاجبا عن اللّه ، حاجبا عن اليوم الاخر كل انسان يستولي حب الدنيا على قلبه يهلك هو ، أما الطبقة ، أما نحن إذا استولى حب الدنيا على قلوبنا سوف نهلك ونهلك الاخرين ، لاننا وضعنا أنفسنا في موضع المسؤولية ، في موضع ربط الناس باللّه سبحانه وتعالى واللّه لايعيش في قلوبنا ، اذن سوف لن نتمكن من أن نربط الناس باللّه ، نحن اولى الناس واحق الناس باجتناب هذه المهلكة لاننا ندعي أننا ورثة الانبياء وورثة الائمة والاوليأ ، اننا السائرون على طريق محمد (ص) وعلي والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام ، ألسنا نحاول أن نعيش شرف هذه النسبة هذه النسبة تجعل موقفنا أدق من مواقف الاخرين ، لاننا نحن حملة أقوال هؤلاء وافعال هؤلا ، أعرف الناس بأقوالهم ، واعرف الناس بأفعالهم ، ألم يقل رسول اللّه (ص) : ( انا معاشر الانبياء لانورث ذهبا ولا فضة ولا عقاراً ، إنما نورث العلم والحكمة ) ألم يقل علي بن ابي طالب عليه الصلاة والسلام : ( ان امارتكم هذه أو خلافتكم هذه لا تساوي عندي شيئا إلاّ أن أقيم حقا أو أدحض باطلا ).
  ألم يقل علي بن ابي طالب ذلك ، ألم يجسد هذا في حياته ، في كل حياته ، علي بن أبي طالب كاان يعمل للّه سبحانه وتعالى ، لم يكن يعمل لدنياه ، لو كان علي يعمل لدنياه لكان اشقى الناس واتعس الناس ، لان عليا حمل دمه على يده منذ طفولته ، منذ صباه ، يذب عن وجه رسول اللّه (ص) وعن دين اللّه وعن رسالة اللّه ، لم يتردد لحظة في أن يقدم ، لم يكن يحسب للموت حسابا ، لم يكن يحسب للحياة حسابا ، كان دمه دائما على يده ، كان أطوع الناس لرسلو اللّه في حياة رسول اللّه (ص) ، وكان أطوع الناس لرسول اللّه بعد رسول اللّه (ص) ، كان اكثر الناس عملا في سبيل الدين ، ومعاناة من أجل الاسلام.
  ماذا حصل ، ماذا حصل عليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ؟ لوجئنا إلى مقاييس الدنيا ، ماذا حصل عليه هذا الرجل العظيم ؟ ألم يقص هذا الرجل العظيم ، ألم يكن جليس بيته فترة من الزمن ، ألم يسبّ هذا الرجل العظيم ألف شهر على منابر المسلمين ! التي اقيمت اعوادها بجهادة ، بدمه ، بتضحياته ، سب على منابر المسلمين ! اذن لم يحصل على

المدرسة القرآنية _ 156 _
  شي من الدنيا لا على حطام ولا على مال ولا على منصب ولا على كنأ (1) ولا على تقدير ، ولكنه على الرغم من ذلك حينما ضربه عبدالرحمن بن ملجم بالسيف على رأسه (2) ماذا قال هذا الامام العظيم ؟ قال : ( لقد فزت ورب الكعبة ) لو كان علي يعمل لدنياه لقال واللّه اني أتعس انسان لاني لم أحصل على شي في مقابل عمر كله جهاد ، كله تضحية ، كل حب للّه ، لم أحصل على شي ، لكنه لم يقل ذلك ، قال ( لقد فزت ورب الكعبة ) انها واللّه الشهادة ، لانه لم يكن يعمل لدنياه ، كان يعمل لربه ، والان لحظة اللقاء مع اللّه ، هذه اللحظة هي اللحظة التي سوف يلتقي بها علي مع اللّه سبحانه وتعالى فيوفيه حسابه ويعطيه أجره ، يعوضه عما تحمل من شدائد ، عما قاسسى من مصائب ، أليس هذا الامام هو مثلنا الاعلى ، أليست حياة هذا الامام هي السنة ، اليست مصادر التشريع عندنا الكتاب والسنة ، أليست السنة هي قول المعصوم وفعله وتقريره.
  علينا أن نحذر من حب الدنيا ، لانه لادنيا عندنا لكي نحبها! ماذا نحب ؟ نحب الدنيا ؟ تنحن الطلبة ! ماهي هذه الدنيا التي نحبها ونريد ان نعرق انفسنا فيها ونترك رضوانا من اللّه أكبر ، نترك ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا اعترض على خيال بشر ، ماهي هذه الدنيا ؟ هذا الدنيا دنيانا هي مجموعة من الاوهام ، كل دنياوهم ، لكن دنيانا اكثر وهما من دنيا الاخرين ، مجموعة من الاوهام ، ماذا نحصل من الدنيا إلاّ على قدر محدود جدا ، لسنا نحن أولئك الذين نهبوا أموال الدنيا وتحدثنا عنهم سابقا ، لسنا نحن أولئك الذين تركع الدنيا بين أيدينا لكي نؤثر الدنيا على الاخرة ، دنيا هارون الرشيد كانت عظيمة ، نقيس انفسنا بهارون الرشيد ، هارون الرشيد نسبّه ليلا نهارا لانه رق في حب الدنيا ، لكن تعلمون أي دنيا غرق فيها هارون الرشيد ، أي قصور مرتفعة عاش فيها هارون الرشيد ، أي بذخ وترف كان يحصل عليه هارون الرشيد ، أي زعامة وخلافة وسلطان امتد مع أرجاء الدنيا حصل عليه هارون الرشيد ، هذه دنيا هارون الرشيد ، نحن نقول بأننا أفضل من هارون الرشيد ، أورع من هارون الرشيد ، أتقى من هارون الرشيد ، عجباه نحن عرضت علينا دنيا هارون الرشيد فرفضناها حتى نكون أورع من هارون الرشيد.

--------------------
(1) كنأ جمع كنية
(2) ضربه في مسجد الكوفة وهو ساجد في صلاة الفجر.

المدرسة القرآنية _ 157 _
  يا أولادي ، يا إخواني ، ياأعزائي ، يا أبناء علي ... هل عرضت علينا دنيا هارون الرشيد ، لا ... عرض علينا دنيا هزيلة ، محدودة ، ضئيلة ، دنيا ما أسرع ما تتفتت ، ما اسرع ما تزول ، دنيا لايستطيع الإنسان أن يتمدد فيها كما كان يتمدد هارون الرشيد ، هارون الرشيد يلتفت إلى السحابة يقول لها أينما تمطرين يأتيني خراجك ، في سبيل هذا الدنيا سجن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، هل جربنا أن هذه الدنيا تأتي بيدنا ثم لا نسجن موسى بن جعفر ؟ جربنا أنفسنا ، سألنا انفسنا ، طرحنا هذا السؤال على انفسنا ، كل واحد منا يطرح هذا السؤال على نفسه ، بينه وبين اللّه.
  ان هذه الدنيا ، دنيا هارون الرشيد كلفته أن يسجن موسى بن جعفر ، هل وضعت هذه الدنيا أمامنا لكي نفكر بأننا أتقى من هارون الرشيد ، ما هي دنيانا ؟ هي مسخ من الدنيا ،

المدرسة القرآنية _ 158 _
  هي أوهام من الدنيا ، ليس فيها حقيقة رضى اللّه سبحانه وتعالى ، لاحقيقة رضوان اللّه ، كل طالب علم حاله حال علي بن أبي طالب ، إذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس انسان ، لان أبواب الدنيا مفتوحة ، خاصةإذا كان طالب له قابلية ، له امكانية ، له ذكأ ، له قابليات ، هذا أبواب الدنيا مفتوحة له ، فاذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس انسان ، لانه سوف يخسر الدنيا والاخرة ، لادنيا الطلبة دنيا ولا الاخرة يحصل عليها ، فليكن همنا أن نعمل للاخرة ، أن نعيش في قلوبنا حب اللّه سبحانه وتعالى بدلا عن حب الدنيا لانه لادنيا معتد بها عندنا ، الائمة عليهم السلام علمونا بأن نتذكر الموت دائما يكون من العلاجات المفيدة لحب الدنيا ، أن يتذكر الإنسان الموت ، كل واحد منا يعتقد بأن كل من عليها فان ، لكن القضية دائما وابدا لا يجسدها بالنسبة إلى نفسه ، من العلاجات المفيدة ان يجسدها بالنسبة إلى نفسه ، دائما يتصور بأنه يمكن أن يموت بين لحظة واخرى ، كل واحد منا يوجد لديه أصدقاء ماتوا ، اخوان انتقلوا من هذه الدار إلى دار الاخرى ، أبي لم يعش في الحياة اكثر مما عشت حتى الان ، أخي لم يعش في الحياة اكثر مما عشت حتى الان ، أنا الان استوفيت هذا العمر ، من المعقول جدا أن أموت في السن الذي مات فيه أبي ، من المعقول جدا أن أموت في السن التي مات فيها أخي ، كل واحد منا لابد وأن يكون له قدوة من هذا القبيل ، لا بد وان احباب له قد رحلوا ، أعزة له قد انتقلوا لم يبق من طموحاتهم شي ، لم يبق من آمالهم شي ان كانوا قد عملوا للاخرة فقد رحلوا إلى مليك مقتدر ، إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، واذا كانوا قد عملوا للدنيا فقد انتهى كل شي بالنسبة اليهم ، هذه عبر ، هذه العبر التي علمنا الائمة عليهم السلام ان نستحضرها دائما ، تكسر فينا شره الحياة ، ماهي هذه الحياة ، لعلها أيام فقط ، لعلها أشهر فقط ، لعلها سنوات ، لماذا نعمل دائما ونحرص دائما على اساس انها حياة طويلة ، لعلنا لاندافع إلاّ عن عشرة ايام ، إلاّ عن شهر ، إلاّ عن شهرين لا ندري عن ماذا ندافع ، لا ندرى اننا نحتمل هذا القدر من الخطايا ، هذا القدر من الاثام ، هذا القدر من التقصير أمام اللّه سبحانه وتعالى وأمام ديننا ، نتحمله في سبيل الدفاع عن ماذا ، عن عشرة أيام ، عن شهر ، عن أشهر ... هذه بضاعة رخيصة ، نسأل اللّه سبحانه وتعالى ان يطهر قلوبنا وينقي أرواحنا ، ويجعل اللّه اكثر همنا ، ويملاها حبا له ، وخشية منه ، وتصديقا به ، وعملا بكتابه.