والاجراء التاريخي الثالث : ان ينشأ فى اعماق هذه الامة بدور اعادة المثل الاعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه تلك الامة ، هذان الاجراآن ، الاجراء الثاني والاجراء الثالث وقفت الامة امامهما على مفترق طريقين حينما دخلت عصر الاستعمار ، حينما دخلت الامة عصر الاستعمار وقفت على مفترق طريقين : كان هناك طريق يدعوها إلى الانصهار في مثل اعلى من الخارج هذا الطريق الذي طبقة جملة من حكام المسلمين في بلاد المسلمين ( رضاخان ) في ايران و ( أتاتورك ) في تركيا ، حاول هؤلاء ان يجسدوا المثل الاعلى للانسان الاوروبي المنتصر ، ويطبقوا هذا المثل الاعلى ويكسبوا ولا المسلمين انفسهم لهذا المثل الاعلى ، بعد ان ضاع المثل الاعلى في داخل المسلمين.
بينما رواد الفكر الاسلامي في بدايات عصر الاستعمار وفي اواخر الفتوة التي سبقت عصر الاستعمار ، رواد الفكر الاسلامي ورواد النهضة الاسلامية أطلقوا جهودهم في سبيل الاجراء الثالث في سبيل إعادة الحياة إلى الاسلام من جديد ، في سبيل إعادة الحياة إلى الاسلام من جديد ، في سبيل انتشار هذا المثل الاعلى وإعادة الحياة اليه وتقديمه بلغة العصر وبمستوى العصر وبمستوى حاجات المسلمين.
الامة تتحول إلى شبح فتواجه احد هذه الاجراءات الثلاثة.
الان تكلمنا عن امة هذه الالهة المنخفضة ، حينما نتقدم خطوة ، إذا تقدمنا خطوة نجد المثل التكراري يتمزق ان الامة تفقد ولاها ، ان الامة تتحول إلى شبح تواجه احد هذه الاجراءات الثلاثة ، الان نرجع إلى الوراء خطوة.
إذا رجعنا إلى الوراء خطوة ، سوف نواجه النوع الثاني من الالهة من المثل العليا ، أليس قلنا في البدآية ان المثل العليا عكس ثلاثة انواع ، تكلمنا الان عن النوع الاول.
المدرسة القرآنية
_ 103 _
إذا رجعنا خطوة إلى الوراء ـ هذا ما سوف اشرح معناه بعد لحظات ـ سوف نواجه النوع الثاني من الالهة من المثل العليا.
هذا النوع الثاني يعبر عن كل مثل أعلى للامة يكون مشتقا من طموح الامة ، من تطلعها إلى المستقبل.
ليس هذا المثل تعبيراً تكراريا عن الواقع بل هو تطلع إلى المستقبل ، تحفز نحو الجديد نحو الابداع والتطوير ، ولكنّ هذا المثل منتزع عن خطوة واحدة من المستقبل منتزع عن جز من هذا الطريق الطويل المستقبلي ، أي ان هذا الطموح الذي منه انتزعت الامة مثلها ، كان طموحاً محدوداً كان طموحا مقيدا لم يستطيع ان يتجاوز المسافات الطويلة ، وإنما استطاع ان يكوّن رؤية مستقبلية محدودة ، وهذه الرؤية المستقبلية المحدودة انتزع منها مثله الاعلى.
وفي هذا المثل الاعلى جانب موضوعي صحيح ولكنه يحتوي على امكانيات خطر كبير اما الجانب لموضوعي الصحيح فهو ان الإنسان عبر مسيرته الطويلة لايمكنه ان يستوعب برؤيته الطريق الطويل الطويل كله ، لايمكنه ان يستوعب المطلق لان الذهن البشري محدود والذهن البشري المحدود لا يمكن ان يستوعب المطلق وإنما هو دائما يستوعب نفحة من المطلق ، شيئا من المطلق يأخذ بيده قبضة من هذا المطلق تنيرله الطريق ، تنير له الدرب.
فكون دائرة الاستيعاب البشري محدودة ، هذا أمر طبيعي أمر صحيح وموضوعي.
المدرسة القرآنية
_ 104 _
ولكن الخطير في هذه المسألة ان هذه القبضة التي يقبضها الإنسان من المطلق ، هذه القبضة ، هذه الكومة المحدودة ، هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق ، يحولها إلى نور السماوات والأرض ، يحولها إلى مثل اعلى ، يحولها إلى مطلق ، هنا يمكن الخطر لانه حينما يصنع مثله الاعلى وينتزع هذا المثل الاعلى من تصور ذهني محدود للمستقبل ، لكن يحوّل هذا التصور الذهني المحدود إلى مطلق ، حينئذ هذا المثل الاعلى سوف يخدمه في المرحلة الحاضرة سوف يهّيئ له امكانيات النمو بقدر طاقات هذا المثل ، بقدر ما يمثل للمستقبل ، بقدر امكاناته المستقبلية سوف يحرك هذا الإنسان وينشط هذا الإنسان لكن سرعان ما سوف يصل إلى حدوده القصوى إلى حدود هذا المثل القصوى ، وحينئذ سوف يتحول هذا المثل نفسه إلى قيد للمسيرة ، إلى عائق عن التطور ، إلى مجمّد لحركة الإنسان لانه اصبح مثلا ، أصبح الها ، أصبح دينا ، أصبح واقعا قائما ، وحينئذ سوف يكون بنفسه عقبة أمام استمرار زحف الإنسان نحو كماله الحقيقي.
وهذا المثل الذي يعمم خطأ يحول من محدود إلى مطلق خطأ التعميم فيه تارة يكون تعميما افقيا خاطئا وأخرى تعميما زمنيا خاطئا ، هناك تعميمان خاطئان لهذا المثل : هناك تعميم افقي خاطئ وهناك تعميم زمني عمودي خاطئ : التعميم الافقي الخاطئ : ان ينتزع الإنسان من تصوره المستقبلي مثلا ويعتبر ان هذا المثل يضم كل قيم الإنسان التي يجاهد من اجلها ، ويناضل في سبيها.
بينما هذا المثل على الرغم من صحته إلاّ انه لايمثل إلاّ جزا من هذه القيم.
فهذا التعميم تعميم افقي خاطئ هذا المثل يكون معبرا عن جز من افق الحركة بينما جرد منه ما يملاً كل افق الحركة.
المدرسة القرآنية
_ 105 _
الإنسان الاوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلا اعلى وهو الحرية جعل الحرية مثلا اعلى لانه رأى ان الإنسان الغربي كان محطما ومقيدا ، كانت على يديه الاغلال في كل ساحات الحياة ، كان مقيدا في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتعنت الكنيسة ، كان مقيداً في قوته ورزقه بأنظمة الاقطاع ، كان مقيدا اينما يسير ، اراد الإنسان الاوروبي الرائد لعصر النهضة ان يحرر هذا الإنسان من هذه القيود ، من قيود الكنيسة ، من قيود الاقطاع اراد ان يجعل من الإنسان كائناً مختاراً إذا اراد ان يفعل يفعل ، يفكر بعقله لابعقل غيره ويتصور ويتأمل بذاته ولا يستمد هذا التصور كصيغ ناجزة من الاخرين.
وهذا شي صحيح إلاّ ان الشي الخاطئ في ذلك هو التعميم الافقي فان هذه الحرية بمعنى كسر القيود عن هذا الإنسان ، هذا قيمة من القيم ، هذا اطار للقيم ، ولكن هذا وحده لايصنع الإنسان ليس هذا هو المثل الاعلى فان هذا وحده لايصنع الإنسان ، انت لاتستطيع ان تصنع الإنسان بان تكسر عنه القيود وتقول له افعل ما شئت ، لايوجد انسان ولا كائن ، لايوجد اقطاعي ولا قسيس ولا سلطان ولا طاغوت يضطرك إلى موقف او يفرض عليك موقفا ، هذا وحده لايكفي فان كسر القيود إنما يشكل الاطار للتنمية البشرية الصالحة ، يحتاج هذا إلى مضمون إلى محتوى مجرد انه يستطيع ان يتصرف ، يستطيع ان يمشي في الاسواق هذا لايكفي ، اما كيف يمشي ؟ ما هو الهدف الذي من اجله يمشي في الاسواق ؟ المحتوى والمضمون هو الذي فات الإنسان الاوروبي ، الإنسان الاوروبي جعل الحرية هدفا وهذا صحيح ولكنه صيّر من هذا الهدف مثلا اعلى بينما هذا الهدف ليس إلاّ اطارا في الحقيقة وهذا الاطار بحاجة إلى محتوى والى مضمون واذا جرد هذا الاطار عن محتواه سوف يؤدي إلى الويل والدمار ، إلى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار لان الاطار بقي بلا محتوى بقي بلامضمون.
حينئذ هذا هو مثال للتعميم الافقي ، التعميم الافقي للمثل الاعلى.
المدرسة القرآنية
_ 106 _