وقد علمنا التاريخ انه في حالة من هذا القبيل توجد ثلاث اجراءات ، ثلاث بدائل يمكن ان تنطبق على حالة هذه الامة الشبح.
  الاجراء التاريخي الاول : هو ان تتداعى هذه الامة أمام غزو عسكري من الخارج لان هذه الامة التي افرغت من محتواها ، التي تخلّت عن وجودها كأمة ، وبقيت كأفراد كل انسان يفكر في طعامه ، يفكر في لباسه ، يفكر في دار سكناه ولايفكر في الامة لن يبقى هناك من يفكر في الامة ، وإنما كل انسان يفكر في حاجاته حين يفكر اذن في وضع من هذا القبيل يمكن ان تتداعى هذه الامة امام غزو من الخارج ، وهذا ما وقع بالفعل بعد ان فقد المسلمون مثلهم الاعلى وفقدوا ولاهم لهذا المثل الاعلى ووقعوا فريسة غزو التتار حينما سقطت حضارة المسلمين بايدي التتار هذا هو الاجراء التاريخي الاول.
  والاجراء التاريخي الثاني : هو الذوبان والانصهار في مثل اعلى اجنبي في مثل مستورد من الخارج هذه الامة بعد ان فقدت مثلها العليا النابعة منها فقدت فاعليتها وأصالتها حينئذ تفتش عن مثل اعلى من الخارج لكي تعطيه ولائها ، لكي تمنحه قيادتها.
  هذا هو الاجراء التاريخي الثاني.

المدرسة القرآنية _ 102 _
  والاجراء التاريخي الثالث : ان ينشأ فى اعماق هذه الامة بدور اعادة المثل الاعلى من جديد بمستوى العصر الذي تعيشه تلك الامة ، هذان الاجراآن ، الاجراء الثاني والاجراء الثالث وقفت الامة امامهما على مفترق طريقين حينما دخلت عصر الاستعمار ، حينما دخلت الامة عصر الاستعمار وقفت على مفترق طريقين : كان هناك طريق يدعوها إلى الانصهار في مثل اعلى من الخارج هذا الطريق الذي طبقة جملة من حكام المسلمين في بلاد المسلمين ( رضاخان ) في ايران و ( أتاتورك ) في تركيا ، حاول هؤلاء ان يجسدوا المثل الاعلى للانسان الاوروبي المنتصر ، ويطبقوا هذا المثل الاعلى ويكسبوا ولا المسلمين انفسهم لهذا المثل الاعلى ، بعد ان ضاع المثل الاعلى في داخل المسلمين.
  بينما رواد الفكر الاسلامي في بدايات عصر الاستعمار وفي اواخر الفتوة التي سبقت عصر الاستعمار ، رواد الفكر الاسلامي ورواد النهضة الاسلامية أطلقوا جهودهم في سبيل الاجراء الثالث في سبيل إعادة الحياة إلى الاسلام من جديد ، في سبيل إعادة الحياة إلى الاسلام من جديد ، في سبيل انتشار هذا المثل الاعلى وإعادة الحياة اليه وتقديمه بلغة العصر وبمستوى العصر وبمستوى حاجات المسلمين.
  الامة تتحول إلى شبح فتواجه احد هذه الاجراءات الثلاثة.
  الان تكلمنا عن امة هذه الالهة المنخفضة ، حينما نتقدم خطوة ، إذا تقدمنا خطوة نجد المثل التكراري يتمزق ان الامة تفقد ولاها ، ان الامة تتحول إلى شبح تواجه احد هذه الاجراءات الثلاثة ، الان نرجع إلى الوراء خطوة.
  إذا رجعنا إلى الوراء خطوة ، سوف نواجه النوع الثاني من الالهة من المثل العليا ، أليس قلنا في البدآية ان المثل العليا عكس ثلاثة انواع ، تكلمنا الان عن النوع الاول.

المدرسة القرآنية _ 103 _
  إذا رجعنا خطوة إلى الوراء ـ هذا ما سوف اشرح معناه بعد لحظات ـ سوف نواجه النوع الثاني من الالهة من المثل العليا.
  هذا النوع الثاني يعبر عن كل مثل أعلى للامة يكون مشتقا من طموح الامة ، من تطلعها إلى المستقبل.
  ليس هذا المثل تعبيراً تكراريا عن الواقع بل هو تطلع إلى المستقبل ، تحفز نحو الجديد نحو الابداع والتطوير ، ولكنّ هذا المثل منتزع عن خطوة واحدة من المستقبل منتزع عن جز من هذا الطريق الطويل المستقبلي ، أي ان هذا الطموح الذي منه انتزعت الامة مثلها ، كان طموحاً محدوداً كان طموحا مقيدا لم يستطيع ان يتجاوز المسافات الطويلة ، وإنما استطاع ان يكوّن رؤية مستقبلية محدودة ، وهذه الرؤية المستقبلية المحدودة انتزع منها مثله الاعلى.
  وفي هذا المثل الاعلى جانب موضوعي صحيح ولكنه يحتوي على امكانيات خطر كبير اما الجانب لموضوعي الصحيح فهو ان الإنسان عبر مسيرته الطويلة لايمكنه ان يستوعب برؤيته الطريق الطويل الطويل كله ، لايمكنه ان يستوعب المطلق لان الذهن البشري محدود والذهن البشري المحدود لا يمكن ان يستوعب المطلق وإنما هو دائما يستوعب نفحة من المطلق ، شيئا من المطلق يأخذ بيده قبضة من هذا المطلق تنيرله الطريق ، تنير له الدرب.
  فكون دائرة الاستيعاب البشري محدودة ، هذا أمر طبيعي أمر صحيح وموضوعي.

المدرسة القرآنية _ 104 _
  ولكن الخطير في هذه المسألة ان هذه القبضة التي يقبضها الإنسان من المطلق ، هذه القبضة ، هذه الكومة المحدودة ، هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق ، يحولها إلى نور السماوات والأرض ، يحولها إلى مثل اعلى ، يحولها إلى مطلق ، هنا يمكن الخطر لانه حينما يصنع مثله الاعلى وينتزع هذا المثل الاعلى من تصور ذهني محدود للمستقبل ، لكن يحوّل هذا التصور الذهني المحدود إلى مطلق ، حينئذ هذا المثل الاعلى سوف يخدمه في المرحلة الحاضرة سوف يهّيئ له امكانيات النمو بقدر طاقات هذا المثل ، بقدر ما يمثل للمستقبل ، بقدر امكاناته المستقبلية سوف يحرك هذا الإنسان وينشط هذا الإنسان لكن سرعان ما سوف يصل إلى حدوده القصوى إلى حدود هذا المثل القصوى ، وحينئذ سوف يتحول هذا المثل نفسه إلى قيد للمسيرة ، إلى عائق عن التطور ، إلى مجمّد لحركة الإنسان لانه اصبح مثلا ، أصبح الها ، أصبح دينا ، أصبح واقعا قائما ، وحينئذ سوف يكون بنفسه عقبة أمام استمرار زحف الإنسان نحو كماله الحقيقي.
  وهذا المثل الذي يعمم خطأ يحول من محدود إلى مطلق خطأ التعميم فيه تارة يكون تعميما افقيا خاطئا وأخرى تعميما زمنيا خاطئا ، هناك تعميمان خاطئان لهذا المثل : هناك تعميم افقي خاطئ وهناك تعميم زمني عمودي خاطئ : التعميم الافقي الخاطئ : ان ينتزع الإنسان من تصوره المستقبلي مثلا ويعتبر ان هذا المثل يضم كل قيم الإنسان التي يجاهد من اجلها ، ويناضل في سبيها.
  بينما هذا المثل على الرغم من صحته إلاّ انه لايمثل إلاّ جزا من هذه القيم.
  فهذا التعميم تعميم افقي خاطئ هذا المثل يكون معبرا عن جز من افق الحركة بينما جرد منه ما يملاً كل افق الحركة.

المدرسة القرآنية _ 105 _
  الإنسان الاوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلا اعلى وهو الحرية جعل الحرية مثلا اعلى لانه رأى ان الإنسان الغربي كان محطما ومقيدا ، كانت على يديه الاغلال في كل ساحات الحياة ، كان مقيدا في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتعنت الكنيسة ، كان مقيداً في قوته ورزقه بأنظمة الاقطاع ، كان مقيدا اينما يسير ، اراد الإنسان الاوروبي الرائد لعصر النهضة ان يحرر هذا الإنسان من هذه القيود ، من قيود الكنيسة ، من قيود الاقطاع اراد ان يجعل من الإنسان كائناً مختاراً إذا اراد ان يفعل يفعل ، يفكر بعقله لابعقل غيره ويتصور ويتأمل بذاته ولا يستمد هذا التصور كصيغ ناجزة من الاخرين.
  وهذا شي صحيح إلاّ ان الشي الخاطئ في ذلك هو التعميم الافقي فان هذه الحرية بمعنى كسر القيود عن هذا الإنسان ، هذا قيمة من القيم ، هذا اطار للقيم ، ولكن هذا وحده لايصنع الإنسان ليس هذا هو المثل الاعلى فان هذا وحده لايصنع الإنسان ، انت لاتستطيع ان تصنع الإنسان بان تكسر عنه القيود وتقول له افعل ما شئت ، لايوجد انسان ولا كائن ، لايوجد اقطاعي ولا قسيس ولا سلطان ولا طاغوت يضطرك إلى موقف او يفرض عليك موقفا ، هذا وحده لايكفي فان كسر القيود إنما يشكل الاطار للتنمية البشرية الصالحة ، يحتاج هذا إلى مضمون إلى محتوى مجرد انه يستطيع ان يتصرف ، يستطيع ان يمشي في الاسواق هذا لايكفي ، اما كيف يمشي ؟ ما هو الهدف الذي من اجله يمشي في الاسواق ؟ المحتوى والمضمون هو الذي فات الإنسان الاوروبي ، الإنسان الاوروبي جعل الحرية هدفا وهذا صحيح ولكنه صيّر من هذا الهدف مثلا اعلى بينما هذا الهدف ليس إلاّ اطارا في الحقيقة وهذا الاطار بحاجة إلى محتوى والى مضمون واذا جرد هذا الاطار عن محتواه سوف يؤدي إلى الويل والدمار ، إلى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار لان الاطار بقي بلا محتوى بقي بلامضمون.
  حينئذ هذا هو مثال للتعميم الافقي ، التعميم الافقي للمثل الاعلى.

المدرسة القرآنية _ 106 _
  واما التعميم الزمني أيضاً ، كذلك على مر التاريخ توجد خطوات ناجحة تاريخيا ولكنها لا يجوز ان تحول من حدودها كخطوة إلى مطلق ، إلى مثل اعلى يجب ان تكون ممارسة تلك الخطوة ضمن المثل الاعلى لا ان تحول هذه الخطوة إلى مثل اعلى حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الاسر فشكلوا القبيلة ، حينما اجتمعت مجموعة من القبائل فشكلت عشيرة ، حينما اجتمعت مجموعة من القبائل فشكلت عشيرة ، حينما اجتمعت مجموعة من العشائر فشكلت أمة ، هذه الخطوات صحيحة في تقدم البشرية وتوحيد البشرية ولكن كل خطوة من هذه لا يجب ان تتحول إلى مثل اعلى لا يجوز ان تتحول إلى مطلق ، لا يجوز ان تكون العشيرة هي المطلق الذي تحارب من أجله هذا الإنسان ، وإنما المطلق الذي يحارب من اجله الإنسان يبقى هو ذاك المطلق الحقيقي ، يبقى هو اللّه سبحانه وتعالى ، الخطوة تبقى كأسلوب ولكن المطلق يبقى هو اللّه سبحانه وتعالى هذا التعميم الزمني أيضاًً هو شكل من التعميم الخاطئ حينما يحول هذا المثل المنتزع من خطوة محدودة عبر الزمن يحول إلى مثل اعلى.
  وحال هذا الإنسان الذي يحول هذه الرؤية المحدودة من عبر الزمن يحولها إلى مطلق حاله حال الإنسان الذي يتطلع إلى الافق فلا تساعده عينه الاعلى النظر إلى مسافة محدودة فيخيل له بأن الدنيا تنتهي عند الافق الذي يراه ، ان السماء تنطبق على الأرض على مسافة قريبة منه وقد يخيل له وجود الماء ، وجود السراب على مقربة منه.
  إلاّ ان هذا في الحقيقة ناشئ من عجز عينه عن ان يتابع المسافة الارضية الطويلة الامد.

المدرسة القرآنية _ 107 _
  كذلك هنا هذا الإنسان الذي يقف على طريق التاريخ الطويل ، على طريق المسيرة البشرية ، له افق بحكم قصوره الذهني ، بحكم محدودية الذهن البشري ، له افق كذلك الافق الجغرافي ولكن هذا الافق يجب ان يتعامل معه كافق ، لاكمطلق كما اننا نحن على الصعيد الجغرافي لانتعامل مع هذا الافق الذي نراه على بعد عشرين متراً او مائتي متر انه نهآية الأرض ، وإنما نتعامل معه بأنه أفق ، كذلك أيضاًً هنا يجب ان يتعامل هذا الإنسان معه كافق لايحول هذا الافق التاريخي إلى مثل اعلى والا كان من قبيل من يسير نحو سراب.
  انظروا إلى التمثيل الرائع في قوله سبحانه وتعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (1) ، يعبر القرآن عن كل هذه المثل المصطنعة من دون اللّه سبحانه وتعالى بانها كبيت العنكبوت يقول سبحانه وتعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (2).
  اذا قارنا بين هذين النوعين من المثل العليا : المثل العليا من الواقع والمثل العليا المشتقة من طموح محدود ، يمكننا ان نلاحظ ان المثل العليا المشتقة من الواقع كثيرا ما تكون قد مرت بمرحلة هذه المثل العليا التي تعبر عن طموح محدود ، يعني كثيرا ما تكون تلك المثل من النوع الاول امتدادا للمثل من النوع الثاني ، بأن يبدأ المثل ويبدأ هذا المثل الاعلى مشتقا من طموح ، لكن حينما يتحقق هذا الطموح المحدود ، حينما تصل البشرية إلى النقطة التي أثارت هذا المثل ، يتحول هذا المثل إلى واقع محدود بحسب الخارج ، حينئذ يصبح مثلا تكراريا.

--------------------
(1) سورة النور آية : 39.
(2) سورة العنكبوت آية : 41.

المدرسة القرآنية _ 108 _
  من هنا قلنا في ماسبق أننا لو رجعنا خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى آلهة النوع الاول ، مثل النوع الاول ، لورجعنا خطوة إلى الوراء لوجدنا آلهة النوع الثاني فالمسألة في كثير من الاحيان تبدأ هكذا ، تبدأ بمثل اعلى له طموح مشتق من طموح مستقبلي ثم يتحول هذا المثل الاعلى إلى مثل تكراري ، ثم يتمزق هذا المثل التكراري كما قلنا وتتحول الامة إلى شبح أمة.
  في هذه الفترة الزمنية تمر الامة بمراحل في الحقيقة ، يمكننا تلخيصها في أربعة مراحل :
  المرحلة الأولى : هي مرحلة فاعلية هذا المثل بحكم انه قد بدأ مشتقا من طموح مستقبلي ومن نظرة مستقبلية فهذا المثل يكون له في المرحلة الأولى فاعلية وعطاء وتجديد بقدر مايكون له من ارتباط بالمستقبل ، ولكن طبعا هذه الفاعلية وهذا العطاء وهذا التجديد هو عطاء يسميه القرآن بالعاجل ، مكاسب عاجلة ، وليست مكاسب على الخط الطويل.
  هذه المكاسب مكاسب عاجلة لان عمر هذا المثل قصير ، لان عطاء هذا المثل محدود ، لان هذا المثل سوف يتحول في لحظة من اللحظات إلى قوة ابادة لكل ما اعطاه من مكاسب ولهذا يسمى هذا بالعاجل.

المدرسة القرآنية _ 109 _
  انظروا إلى قوله تعالى ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (1) اللّه سبحانه وتعالى خير محض ، عطاء محض ، جود كله ، فبقدر ما تتبنى الامة مثلا قابلا للتحريك ، اللّه سبحانه وتعالى أيضاً يعطي ، لكنه يعطي بقدر قابلية هذا المثل يعطي شيئا عاجلا لا اكثر.
  في حالة من هذا القبيل تكون السلطة التي تمثل هذا المثل ، تكون هذه السلطة ذات مثل اعلى ، ذات مثل يعطي ويبدع وتكون قيادة موجهة للامة في حدود هذا المثل وتكون للامة دور المشاركة في صنع هذا المثل وفي تحقيق هذا المثل.
  هذه المرحلة سوف تؤدي إلى مكاسب ، ولكنها في النظر القرآني العميق الطويل الأمد مكاسب عاجلة تعقبها جهنم ، جهنم في الدنيا وجهنم في الآخرة.
  هذه المرحلة الأولى مرحلة الإبداع والتجديد.
  المرحلة الثانية : حينما يتجمد هذا المثل الأعلى حينما يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء حينئذ يتحول هذا المثل إلى تمثال ولا يبقى مثلاً وإنما سوف يتحول إلى تمثال ، والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على أساسه يتحولون إلى سادة وكبراء لا إلى قادة ، وجمهور الامة يتحول إلى مطيعين ومنقادين لا إلى مشاركين في الابداع والتطوير وهذه المرحلة هي المرحلة التى عبر عنها القرآن الكريم بقوله : ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ ) (2).

--------------------
(1) سورة الإسراء آية : 18 ـ 20.
(2) سورة الأحزاب آية : 67.

المدرسة القرآنية _ 110 _
  ثم تأتي المرحلة الثالثة : مرحلة الامتداد التاريخي لهؤلا ، هذه السلطة تتحول إلى طبقة بعد ذلك تتوراث مقاعدها عائليا او طبقيا وراثيا بشكل من اشكال الوراثة ، وحينئذ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من الاغراض الكبيرة ، المشغولة بهمومها الصغيرة وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (1) هؤلاء نتاج آباء ، هؤلاء امتداد تاريخي لابألهم تاريخ وهم امتداد تاريخي ، وهذا الامتداد التاريخي تحول من مستوى مثل وعطاء إلى مستوى طبقة مترفة تتوراث هذا المقعد بشكل من اشكال التوراث.
  هذه هي المرحلة الثالثة.
  ثم حينما تتفتت الامة ، حينما تتمزق الامة ، حينما تفقد ولاها لذلك المثل التكراري على ضوء ماقلناه تدخل في مرحلة رابعة وهي اخطر مراحلها ففي هذه المرحلة يسيطر عليها مجرموها ، يسيطر عليها اناس لايرعون عهداً ولاذمة وهذا ماعبر عنه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ ) (2) ، حينئذ يسيطر مجموعة من هؤلاء المجرمين ، يسيطر هتر والنازية مثلا في جز من أوروبا لكي يحطم كل ما في أوروبا من خير وكل ما في اوروبا من ابداع ، لكي يقضي على كل تبعات ذلك المثل الاعلى الذي رفعه الإنسان الاوروبي الحديث والذي تحول بالتدريج إلى مثل تكراري ثم تفسخ هذا المثل لكن بقيت مكاسبه في المجتمع الاوروبي ، يأتي شخص كهتلر لكي يمزق كل تلك المكاسب ويقضي على كل تلك المكاسب.

--------------------
(1) سورة الزخرف آية : 23.
(2) سورة الأنعام آية : 123.

المدرسة القرآنية _ 111 _
  الان نصل إلى النوع الثالث من المثل العليا.
  النوع الثالث من المثل العليا هو المثل الاعلى الحقيقي وهو اللّه سبحانه وتعالى.
  في هذا المثل التناقض الذي واجهناه سوف يحل بأروع صورة كنا نجد تناقضا وحاصل هذا التناقص هو ان الوجود الذهني للانسان محدود ، والمثل يجب ان يكون غير محدود فكيف توفير المحدود وغير المحدود وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود ، هذا التنسيق بين المحدود وغير المحدود سوف نجده في المثل الاعلى الذي هو اللّه سبحانه وتعالى ... لماذا ؟ لان هذا المثل الاعلى ليس من نتاج الإنسان ، ليس افرازا ذهنيا للانسان ، بل هو مثل أعلى عيني له واقع عيني ، هو موجود مطلق في الخارج ، له قدرته المطلقة وله علمه المطلق وله عدله المطلق.
  هذا الموجود العيني بواقع العين يكون مثلا اعلى لانه مطلق لكن الإنسان حينما يريد ان يستلهم من هذا النور ، حينما يريد ان يمسك بحزمة من هذا النور ، حينما يريد ان يمسك بحزمة من هذا النور ، طبعا هو لايمسك إلاّ بالمقيد ، إلاّ بقدر محدود من هذا النور إلاّ انه يميز بين ما يمسك به وبين مثله الاعلى ، المثل الاعلى خارج حدود ذهنه ، لكنه يمسك بحزمة من النور ، هذه الحزمة مقيدة لكن المثل الاعلى مطلق.

المدرسة القرآنية _ 112 _
  ومن هنا حرص الاسلام على التمييز دائما بين الوجود الذهني وما بين اللّه سبحانه وتعالى الذي هو المثل الاعلى.
  فرق حتى بين الاسم والمسمى وأكد على انه لايجوز عبادة الاسم ، وإنما العبادة تكون للمسمى لان الاسم ليس إلاّ وجودا ذهنيا ، إلاّ واجهة ذهنية للّه سبحانه وتعالى ، بينما الواجهات الذهنية دائما محدودة ، العبادة يجب ان تكون للمسمى لاللاسم ، لان المسمى هو المطلق اما الاسم فهو مقيد ومحدود ، الواجهات الذهنية تبقى كواجهات ذهنية محدودة مرحلية واما صفة المثل الاعلى تبقى قائمة باللّه سبحانه وتعالى.
  وهذا ما يأتي انشاء اللّه توضيحه.

المدرسة القرآنية _ 113 _
  قال اللّه سبحانه وتعالى ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (1) ، هذه الآية الكريمة تضع اللّه سبحانه وتعالى هدفاً أعلى للانسان والإنسان هنا بمعنى الإنسانية ككل ، فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو اللّه سبحانه وتعالى والكدح كدح الإنسانية ككل ، نحو اللّه سبحانه وتعالى ، يعني السير المستمر بالمعاناة وبالجهد وبالمجاهدة ، لان هذا السير ليس سيراً اعتياديا ، بل هو سير إرتقائي ، هو تصاعد وتكامل ، هو سير تسلق.
  فهؤلاء الذين يتسلقون الجبال ليصلوا إلى القمم يكدحون نحو هذه القمم ، يسيرون سير معاناة وجهد.
  كذلك الإنسانية حينما تكدح نحو اللّه فانما هي تتسلق إلى قمم كمالها وتكاملها وتطورها إلى الافضل باستمرار.

--------------------
(1) سورة الانشقاق آية : 6.

المدرسة القرآنية _ 114 _
  وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار ، هذا السير يفترض طريقا لا محالة فان السير نحو هدف يفترض حتماً طريقاً ممتدا بين السائر وبين ذلك الهدف ، وهذا الطريق هو الذي تحدثت عنه الآيات الكريمة في المواضع المتفرقة تحت اسم سبيل اللّه واسم الصراط واسم صراط اللّه ، هذه الصيغ القرآنية المتعددة كلها تتحدث عن الطريق الذي يفترضه ذلك السير وكما ان السير يفترض الطريق ، كذلك الطريق يفترض السير أيضاً وهذه الآية الكريمة ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (1) تتحدث عن حقيقة قائمة ، عن واقع موضوعي ثابت ، فهي ليست بصدد ان تدعو الناس إلى أن يسيروا في طريق اللّه سبحانه وتعالى ، ليست بصدد الطلب والتحريك كما هو الحال في آيات أخرى في مقامات وسياقات قرآنية أخرى.
  الآية الكريمة لا تقول يا أيها الناس تعالوا إلى سبيل اللّه ، توبوا إلى اللّه ، بل تقول : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) ، لغة الآية لغة التحدث عن واقع ثابت وحقيقة قائمة وهي أن كل سير وكل تقدم للإنسان في مسيرته التاريخية الطويلة الأمد ، فهو تقدم نحو اللّه سبحانه وتعالى وسير نحو الله سبحانه وتعالى حتى تلك الجماعات التي تمسكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة واستطاعت ان تحقق لها سيراً ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل ، حتى هذه الجماعات التي يسميها القرآن بالمشركين حتى هؤلاء هم يسيرون هذه الخطوة نحو اللّه ، هذا التقدم بقدر فاعليته وبقدر زخمة هو اقتراب نحو اللّه سبحانه وتعالى ، لكن فرق بين تقدم مسؤول وتقدم غير مسؤول ( على ما يأتي شرحه ان شاء اللّه ) ، حينما تتقدم الإنسانية في هذا المسار واعية على المثل الأعلى وعياً موضوعيا يكون التقدم تقدماً مسؤولاً ،

--------------------
(1) سورة الانشقاق آية : 6.

المدرسة القرآنية _ 115 _
  يكون عبادة بحسب لغة الفقه ، لونا من العبادة يكون لهم امتداد على الخط الطويل وانسجام مع الوضع العريض للكون ، وأما حينما يكون التقدم منفصلاً عن الوعي على ذلك المثل فهو تقدم على أي حال ، سير نحو اللّه على أي حال ، ولكنه تقدم غير مسؤول على ما يأتي تفصيله.
  إذن كل تقدم هو تقدم نحو اللّه ، حتى أولئك الذين ركضوا وراء سراب كما تحدثت الآية الكريمة فان هؤلاء الذين يركضون وراء السراب الاجتماعي ، وراء المثل المنخفضة ، هؤلاء حينما يصلوا إلى هذا السراب لا يجدون شيئا ، ويجدون اللّه سبحانه وتعالى فيوفيهم حسابهم كما تتحدث الآية الكريمة التي قرأناها فيما سبق.
  واللّه سبحانه وتعالى هو نهآية هذا الطريق ولكنه ليس نهآية جغرافية ليس نهآية على نمط النهايات الجغرافية للطريق الممتدة مكانياً ، كربلاء مثلا نهآية طريق ممتد بين النجف وكربلاء ، كربلاء بمعناها المكاني نهآية جغرافية ، ومعنى انها نهآية جغرافية انها موجدة على آخر الطريق ، ليست موجودة على طول الطريق ، لو أن إنسانا سار نحو كربلاء ووقف في نصف الطريق لا يحصل على شي من كبلاء ووقف في نصف الطريق لا يحصل على شي من كربلاء ، نهآية جغرافية موجودة في آخر الطريق ، ولكن اللّه سبحانه وتعالى ليس نهآية على نمط النهايات الجغرافية ، اللّه سبحانه وتعالى هو المطلق ، هو المثل الأعلى ، أي المطلق الحقيقي العيني ، وبحكم كونه هو المطلق ، إذن هو موجود على طول الطريق أيضاً ، ليس هناك فراغ منه ، ليس هناك انحسار عنه ، ليس هناك حد له ، اللّه سبحانه وتعالى هو نهآية الطريق ولكنه موجود أيضاً على طول الطريق ، من وصل إلى نصف الطريق ، من وصل إلى سرابه ، فتوقف واكتشف انه سراب ، ماذا يجد ؟ ماذا وجد في الآية ؟ ... وجد اللّه فوفّاه اللّه حسابه لان المطلق موجود على طول الطريق وبقدر زخم الطريق وبقدر التقدم في الطريق يجد الإنسان مثله الأعلى ، يلقى اللّه سبحانه وتعالى أينما توقف بحجم سيره ، وبحجم تقدمه على هذا الطريق ، وبحكم أن اللّه سبحانه وتعالى هو المطلق إذن الطريق أيضاً لا ينتهي ، هذا الطريق طريق الإنسان نحو اللّه هو اقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحو اللّه ، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقترابا نسبيا ، يبقى مجرد خطوات على الطريق من دون أن يجتاز هذا الطريق ، لان المحدود لا يصل إلى المطلق ، الكائن المتناهي لا يمكن ان يصل إلى اللامتناهي ، فالفسحة الممتدة بين الإنسان وبين المثل الأعلى هنا ، فسحة لا متناهية ، أي انه ترك له مجال الإبداع إلى اللانهآية ، مجال التطور التكاملي إلى اللانهآية ، باعتبار أن الطريق الممتد طريق لا نهائي.
  وهذا المثل الأعلى الحقيقي حينما تتبناه المسيرة الإنسانية وتوفق بين وعيها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الأعلى حقيقة قائمة كما افترضته الآية ، المسيرة الإنسانية حينما توفق بين وعيها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة بوصفها سائرة ومتجهة

المدرسة القرآنية _ 116 _
  نحو اللّه ، سوف يحدث تغيير كمي وكيفي على هذه المسيرة ، هذه الحركة سوف يحدث فيها تغيير كمي وكيفي :
  أما التغيير الكمي على هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا إليه من أن الطريق حينما يكون طريقاً إلى المثل الأعلى الحق يكون طريقا غير متناهٍ ، أي أن مجال التطور والإبداع ، والنمو قائم أبداً ودائما ، ومفتوح للإنسان باستمرار من دون توقف ، هذا المثل الأعلى حينما يتبنى سوف تمسح من الطريق كل الآلهة المزورة ، كل الأصنام وكل الأقزام المتصنّمة على طريق الإنسان التي تقف عقبة بين الإنسان وبين وصوله إلى اللّه سبحانه وتعالى.
  ومن هنا كان دين التوحيد صراعا مستمرا مع مختلف أشكال الآلهة والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت ان تحدد من كمية الحركة من ان توصل الحركة إلى نقطة ثم تقول قف أيها الإنسان.
  هذه الآلهة التي أرادت أن توقف الإنسان في وسط الطريق ، وفي نقطة معينة كان دين التوحيد على مر التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدها ، هذا المثل الأعلى إذن سوف يُحدث تغييرا كمياً على الحركة لأنه يطلقها من عقالها ، يطلقها من هذه الحدود المصطنعة لكي تسير باستمرار.
  وأما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الأعلى على هذه المسيرة فهذا التغيير الكيفي هو إعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الإنساني ، للتناقض الإنساني ، إعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الإنسان ، الإنسان من خلال إيمانه بهذه المثل الأعلى ووعيه على طريقه بحدوده الكونية الواقعية من هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية ، شعور معمق لديه بالمسؤولية تجاه هذا المثل الأعلى ، لأول مرة في تاريخ المثل البشرية التي حركت البشر على من التاريخ ؟

المدرسة القرآنية _ 117 _
  لماذا ؟
  لان هذا المثل الأعلى حقيقة وواقع عيني منفصل عن الإنسان وبهذا يعطي للمسؤولية شرطها المنطقي فان المسؤولية الحقيقة لا تقوم إلاّ بين جهتين مسؤول ، ومسؤول لديه.
  إذا لم يكن هناك جهة أعلى من هذا الكائن المسؤول وإذا لم يكن هذا الكائن المسؤول مؤمنا بأنه بين يدي جهة أعلى ، لا يمكن ان يكون شعوره بالمسؤولية شعوراً موضوعياً ، شعورا حقيقيا ، مثلاً تلك المثل المنخفضة ، تلك الآلهة ، تلك الأقزام المتعملقة على مرّ التاريخ ، على مرّ المسيرة البشرية هي في الحقيقة لم تكن كما رأينا وكما حللنا إلاّ افرازاً بشريا ، إلاّ إنتاجا إنسانيا ، يعني إنها جز من الإنسان ، جز من كيان الإنسان ، والإنسان لا يمكن ان يستشعر بصورة موضوعية حقيقة ، المسؤولية تجاه ما يفرزه ، هو اتجاه ما يصنعه هو ( إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا ) (1) تلك المثل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية ، نعم قد تصنع قوانين ، قد تصنع عادات ، قد تصنع أخلاق ، ولكنها كلها غطاء ظاهري ، وكلما وجد هذا الإنسان مجالا للتحلل من هذه العادات ، ومن هذه الأخلاق ، ومن هذه القوانين فسوف يتحلل ، بينما المثل الأعلى لدين التوحيد ، للأنبياء على مرّ التاريخ باعتباره واقعا عينيا منفصلا عن الإنسان ، باعتباره جهة أعلى من الإنسان ليست إفرازا بشريا ، ليست إنتاجا إنسانيا ، إذن سوف يتوصل للشعور بالمسؤولية ، شرطه الموضوعي في المقام ، لماذا كان الأنبياء على مر التاريخ أصلب الثوار على الساحة التاريخية ؟ انظف الثوار على الساحة التاريخية ؟ لماذا كانوا على الساحة التاريخية ؟ انظف الثوار على الساحة التاريخية ؟ لماذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة ، فوق كل مهادنة ، فوق كل تململ يمنة أو يسرة ؟ لماذا كانوا هكذا ؟ لماذا انهار كثير من الثوار على مر التاريخ ولم يسمع أن نبياً من أنبياء التوحيد انهار أو تململ أو انحرف يمنة أو يسيرة عن الرسالة التي بيده وعن الكتاب الذي يحمله من السماء ؟ لان المثل الأعلى المنفصل عنه الذي هو فوقه الذي اعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية ، وهذا الشعور بالمسؤولية تجسد في كل كيانه ، في كل مشاعره وافكاره وعواطفه.

--------------------
(1) سورة النجم آية : 23.

المدرسة القرآنية _ 118 _
  ومن هنا كان النبي معصوما على مر التاريخ.
  إذن هذا المثل الأعلى بحسب الحقيقة يحدث تغييرا كيفيا على المسيرة لأنه يعطي الشعور بالمسؤولية ، وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمرا عرضيا ، ليس أمرا ثانويا في مسيرة الإنسان ، بل هذا شرط أساسي في إمكان إنجاح هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الإنساني ، للجدل الإنساني ، لان الإنسان يعيش تناقضا ، الإنسان بحسب تركيبه وخلقته يعيش تناقضاً ، لأنه هو تركيب من حفنة من تراب ونفحة من روح اللّه سبحانه وتعالى كما وصفت ذلك الآيات الكريمة.
  الآيات الكريمة قالت بان الإنسان خلق من تراب ، وقالت بأنه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى.
  إذن فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الإنسان ، حفنة التراب تجره إلى الأرض ، تجره إلى الشهوات إلى الميول ، تجره إلى كل ما ترمز إليه الأرض من انحدار وانحطاط وروح اللّه سبحانه وتعالى التي نفخها فيه تجره إلى أعلى تتسامى بإنسانيته إلى حيث صفات اللّه ، إلى حيث أخلاق اللّه ، تخلقوا بأخلاق اللّه ، إلى حيث العلم الذي لا حد له والقدرة التي لا حد لها ، إلى حيث العدل الذي لا حد له ، إلى حيث الجود والرحمة والانتقام ، إلى حيث هذه الأخلاق الإلهية ، هذا الإنسان واقع في تيار هذا التناقض ، في تيار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي ، بحسب تركيبه الداخلي ، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الإنسان وشرحته قصة آدم على مأتي إنشاء اللّه تعالى ، هذا الجدل الإنساني له حل واحد فقط ، هذا الحل الواحد الذي يمكن ان يوضع لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولية ، لكن لا الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل ، فان الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يحل هذا الجدل ، هو ابن الجدل بل هو

المدرسة القرآنية _ 119 _
  إفراز هذا التناقض وإنما الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكفله إلاّ المثل الأعلى الذي يكون جهة عليا ، يحس الإنسان من خلالها بأنه بين يدي رب قادر سميع بصير محاسب مجاز على الظلم ، مجاز على العدل.
  إذن هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي هو التغيير الكيفي على المسيرة هو في الحقيقة الحل الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الإنسان وتركيب الإنسان.
  دور دين التوحيد إذن هو عبارة عن تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل ، تعبيده ، إزالة العوائق من خلال تنمية الحركة كمياً وكيفياً ، محاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد ان تجمد الحركة من ناحية ، أن تعريها من الشعور بالمسؤولية من ناحية أخرى ، ومن هنا كان حرب الأنبياء كما أشرنا ، كان حرب الأنبياء مع الآلهة المصطنعة على مرّ التاريخ.
  ولما كان كل مثل من هذه المثل العليا التي تتحول إلى تمثال ضمن ظروف تطورها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق ، حينما تتحول إلى تمثال تجد في مجموعة من الناس ، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها باعتبار ان مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم ، ترفهم ، كيانهم المادي والدنيوي ببقاء هذا المثال الذي تحول إلى تمثال ولهذا يقف دائما هؤلاء الذين يرتبطون مصلحيا بهذا التمثال ، يقفون دائما في وجه الأنبياء ليدافعوا عن مصالحهم ، عن دنياهم ، عن ترفهم.

المدرسة القرآنية _ 120 _
  ومن هنا إبراز القرآن الكريم سنة من سنن التاريخ وهي ان الأنبياء دائما كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر في المعارضة مع هذا النبي لان هذا المترف المستفيد من هذا المثال بعد ان تحول إلى التمثال هذا المثال تحول إلى تمثال فمن هو المستفيد منه ؟ المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع ، المنعّون على حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبررا لوجودهم ، من هنا يكون من الطبيعي أنّ هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين نجدهم دائما في الخط المعارض للأنبياء ، ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (1) ، ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ) (2) ، ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ) (3) ، ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) (4).
  إذن دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على آلهتهم وعلى مثلهم التي تحولت إلى تمائيل ، يقطع صلة البشرية بهذه المثل العليا المنخفضة ولكنه لا يقطع

--------------------
(1) سورة الزخرف آية : 23.
(2) سورة سبأ آية : 34.
(3) سورة الأعراف آية : 146.
(4) سورة المؤمنون آية : 33.

المدرسة القرآنية _ 121 _
  صلتها بهذه المثل العليا المنخفضة لكي يطاء برأسها في التراب ، لكي يحولها إلى كومة مادية ليس لها أشواق ، ليس لها طموحات ، ليس لها تطلعات إلى أعلى كما هو شأن الثوار الماديين الذين يستلهمون من المادية التأريخية ومن الفهم المادي للتاريخ ، أولئك أيضاً يحاربون هذه الآلهة المصطنعة ويسمون هذه الآلهة المصطنعة ولكننا نحن نحارب هذه الآلهة المصطنعة لا لكي نحول الإنسان إلى حيوان ، لا لكي نقطع صلة الإنسان بأشواقه العليا ، لا لكي نحول مسار الإنسان من أعلى إلى أسفل ، وإنما نقطع صلة الإنسان بهذه المثل المنخفضة لكي نشده إلى المثل الأعلى ، لكي نشده إلى اللّه سبحانه وتعالى.
  وتبني المسيرة البشرية لهذا المثل الأعلى الحق الذي يحدث هذه التغييرات الكيفية والكمية على اتجاه المسيرة وحجمها ، تبني المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقف على عدة أمور :
  أولاً ـ على رؤية واضحة فكريا وايديولوجيا لهذا المثل الأعلى ، وهذه الرؤية الواضحة لهذا المثل الأعلى هو الذي تقدمه عقيدة التوحيد على مرّ التاريخ ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الإيمان باللّه سبحانه وتعالى ، التي توحد بين كل المثل ، بين كل الغايات ، كل الطموحات ، كل التطلعات البشرية ، توحد بينها في هذا المثل الأعلى الذي هو علم كله ، قدرة كله ، عدل كله ، رحمة كله ، انتقام من الجبارين.

المدرسة القرآنية _ 122 _
  هذا المثل الأعلى الذي تتوحد فيه كل الطموحات وكل الغايات ، هذا المثل الأعلى تعطينا عقيدة التوحيد رؤية واضحة له ، تعلمنا على ان نتعامل مع صفات اللّه واخلاق اللّه لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا كما يتعامل فلاسفة الإغريق ، وإنما نتعامل مع هذه الصفات والأخلاق بوصفها رائدا عمليا ، بوصفها هدفا لمسيرتنا العملية ، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو اللّه سبحانه وتعالى.
  عقيدة التوحيد هي التي توفر هذا الشرط الأول الرؤية الواضحة فكريا وايديولوجيا للمثل الأعلى.
  ثانياً ـ لابد من طاقة روحية مستمدة من هذا المثل الأعلى لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً مستمرا للإرادة البشرية على مرّ التاريخ ، هذه الطاقة الروحية ، هذا الوقود الذي يستمد من اللّه سبحانه وتعالى يتمثل في عقيدة يوم القيامة ، في عقيدة الحشر والامتداد ، عقيدة يوم القيامة تعلم الإنسان ان هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الإنسان مرتبطة ارتباطا مصيرياً بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر ، وان مصير الإنسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبط بدوره على هذه الساحة التاريخية.
  هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية ، ذلك الوقود الرباني الذي ينعش إرادة الإنسان ويحفظ له دائما قدرته على التجديد والاستمرار.

المدرسة القرآنية _ 123 _
  ثالثاً ـ ان هذا المثل الأعلى الذي تحدثنا عنه يختلف عن المثل العليا الأخرى التكرارية والمنخفضة التي تحدثنا عنها سابقا ، على أساس ان هذا المثل منفصل عن الإنسان ، ليس جزا من الإنسان ، هو واقع عيني قائم هناك ، قائم في كل مكان وليس جزءاً من الإنسان ، هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الإنسان وهذا المثل الأعلى.
  لابد من صلة موضوعية بين هذا الإنسان وهذا المثل الأعلى ، بينما المثل الأخرى السابقة كانت إنسانية ، كانت إفرازا بشريا لا حاجة إلى افتراض صلة موضوعية ، نعم هناك طواغيت وفراعنة على مر التاريخ نصبوا من أنفسهم صلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس ، وآلهة الكواكب ولكنها صلة موضوعية مزيفة لان الإله هناك كان وهما ، كان وجودا ذهنيا ، كان إفرازا إنسانيا ، أما هنا المثل الأعلى منفصل عن الإنسان ولهذا كان لابد من صلة موضوعية تربط هذا الإنسان بذلك المثل الأعلى.
  وهذه الصلة الموضوعية تتجسد في النبي في دور النبوة ، فالنبي هو ذلك الإنسان الذي يركب بين الشرط الأول والشرط الثاني بأمر اللّه سبحانه وتعالى ، بين رؤية ايديولوجية واضحة للمثل الأعلى وطاقة روحية مستمدة من الإيمان بيوم القيامة ، يركب بين هذين العنصرين ثم يجسد بدور النبوة ، الصلة بين المثل الأعلى والبشرية ليحمل هذا المركب إلى البشرية بشيرا ونذيراً هذا ثالثاً.

المدرسة القرآنية _ 124 _
  ورابعاً ـ البشرية بعد ان تدخل مرحلة يسميها القرآن مرحلة الاختلاف على ما يأتي ان شاء اللّه شرحه في الدروس القادمة سوف لن يكفي مجي البشير النذير لان مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المثل المنخفضة أو التكرارية ، تعني وجود تلك الآلهة المزورة على الطريق ، وجود تلك الحواجب والعوائق عن اللّه سبحانه وتعالى ، إذن لابد للبشرية من ان تخوض معركة ضد الآلهة المصطنعة ، ضد تلك الطواغيت والمثل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيّما على البشرية وحاجز وقاطع طريق بالنسبة للمسيرة التاريخية ، لابد من معركة ضد هذه الآلهة ، ولابد من قيادة تتبنى هذه المعركة وهذه القيادة هي الإمامة ، هي دور الإمامة ، الإمام هو القائد الذي يتولى هذه المعركة.
  ودور الإمامة يندمج مع دور النبوة في مرحلة من النبوة يتحدث عنها القرآن وسوف نتحدث عنها إنشاء اللّه تعالى ونقول بأنها بدأت في اكبر الظن مع نوح عليه الصلاة والسلام ، ودور الإمامة يندمج مع دور النبوة ولكنه يمتد حتى بعد النبي إذا ترك النبي الساحة وبعدُ لا تزال المعركة قائمة ولا تزال الرسالة بحاجة إلى مواصلة هذه المعركة من اجل القضاء على تلك الآلهة حينئذ يمتد دور الإمامة بعد انتهاء النبي.
  هذا هو الشرط الرابع في تبني المسيرة البشرية لهذا المثل الأعلى.
  على هذا الضوء سوف تكوّن رؤية واضحة لما نسميه بأصول الدين الخمسة ، سوف تقع أصول الدين الخمسة في موقعها الطبيعي ، في موقعها الصحيح السليم من مسار الإنسان ، أصول الدين الخمسة : التوحيد : هو الذي يعطي الشرط الأول هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكريا وأيديولوجيا ، هو الذي يجمع ويعبئ كل الطموحات وكل الغايات في مثل أعلى واحد وهو اللّه سبحانه وتعالى.

المدرسة القرآنية _ 125 _
  العدل : العدل هو جانب من التوحيد ولكن إنما فصل ، العدل صفة من صفات اللّه سبحانة وتعالى حال العدل ، حال العلم ، حال القدرة ، لا يوجد ميزة عقائدية في العدل في مقابل العلم ، في مقابل القدرة ولكن الميزة هنا ميزة اجتماعية ، ميزة القدوة ، لان العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغني المسيرة الاجتماعية والتي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغني المسيرة الاجتماعية والتي تكون للمسيرة الاجتماعية وتغني المسيرة الاجتماعية والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها اكثر من أي صفة أخرى ، أبرز العدل هنا كأصل ثاني من أصول الدين باعتبار المدلول التوجيهي ، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة ، قلنا بان صفات اللّه وأخلاق اللّه علّمنا الإسلام على ان لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزيقية فوقنا لا صلة لنا بها وإنما نتعامل معها كمؤشرات وكمنارات على الطريق ، إذن من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إلى توجيه المسيرة البشرية ولاجل ذلك أفرز.
  وإلاّ العدل في الحقيقة هو داخل في إطار التوحيد العام ، في إطار المثل الأعلى.
  الأصل الثالث النبوة : النبوة هي التي توفر الصلة الموضوعية بين الإنسان وما بين المثل الأعلى ، المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنت المثل الأعلى الحق المنفصل عنها الذي هو ليس من إفرازها ومن إنتاجها المنخفض كانت بحاجة إلى صلة موضوعية ، هذه الصلة الموضوعية يجسدها النبي (ص) ، النبي على مر التاريخ ، الأنبياء صلوات اللّه عليهم هم الذين يجسدون هذه الصلة الموضوعية.
  الإمامة : الإمامة هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة ، النبي إمام أيضاً ، النبي نبي ، والنبي إمام ولكن الإمامة لا تنتهي بانتهاء النبي ، إذا كانت المعركة قائمة وإذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة إلى قائد يواصل المعركة ، إذن سوف يستمر هذا الجانب من دور النبي من خلال الإمامة.