إلا أن الله عز وجل عقب على ذلك بقوله تعالى فرقاناً بين الآمرين « وإثمهما أكبر من نفعهما » إذن : ما فيهما من الإثم أكبر مما فيهما من النفع ، وعبر تعالى بأكبر دون أكثر مع العلم أن الكبر يستعمل في قياس الاحجام ، كما أن الكثرة تستعمل في المعدودات ، فإن الملحظ غير هذا باعتبارهما وصفين يتعلقان بالقياس النظري أو التطبيقي « فهما وصفان إضافيان بمعنى أن الجسم أو الحجم يكون كبيراً بالنسبة إلى آخر أصغر منه ، وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه ، ولولا المقايسة والاضافة لم يكن كبر ولا صغر ، كما لا يكون كثرة ولا قلة ، ويشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في الأحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية ، ثم إنتقلوا من الصور إلى المعاني ، فاطّردوا معنى الكبر والصّغر فيها »
(1) .
وهذا النفع المتصور ينحصر بالمضاربات المالية وما يترتب عليها في البيع والشراء ، وما يصاحب ذلك من العبث واللهو والاسراف في كل من الخمر والميسر ، وكل أولئك منافع على سبيل الحياة الدنيا فهي من المعاني الاعتبارية الزائلة ؛ ولكن الاثم بهما مما يوجب الغضب المطبق في الآخرة ، ويستنزل سخط الباري ، وهذا مما لا يقوم له شيء ، فالأثم إذن أكبر من النفع .
قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) وفي الآية تحريم الخمر من وجهتين : (
أحدهما ) قوله : « وإثمهما أكبر » فإنه إذا زادت مضرة الشيء على منفعته إقتضى العقل الامتناع عنه ، (
الثاني ) أنه بيّن أن فيهما الاثم ، وقد حرم في آية أخرى الأثم فقال :
(
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ آلفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثمَ وَالبَغىَ بِغَيرِ الحَقِّ )
(2) إنتهى كلام الطبرسي أعلى الله مقامه
(3) .
--------------------
(1) محمد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 2 / 196 .
(2) الأعراف : 33 .
(3) الطبرسي ، مجمع البيان : 1 / 316 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 77 _
وآية الأعراف مكية سبقت هذه الآية المدنية ، والإثم هناك منصوص عليه إما بإعتباره خمراً ، وإما بإعتبار الآية تحرم مطلق الاثم ، والخمر أجد مصاديق هذا الاثم ، وفي هذه الآية على إقتراف الاثم ، وإقتراف الاثم من المحرمات ، فالخمر حرام بدلالة الآيتين معاً ، وهذا مَعلَمٌ دقيق المسلك .
رابعاً : ولدى تجاوز المسلمين ـ بعضهم بالطبع ـ بعض هذه التعليمات الصريحة في دلالتها نزل قوله تعالى : (
يَا أَيُّهَا آلَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُم سُكَرَى حَتَّى تَعلَمُوا مَا تَقُولُونَ )
(1) ، وفي الآية نهي صريح عن مقاربة الصلاة حال السكر متلبسين بذلك ، وفيه إشارة إلى تحريم السكر قبل الصلاة لأن الاتجاه بالصلاة إلى الله ينافيه ابطال العمل بالسكر ، فالمعنى ليس لكم أن تسكروا وتتجهوا إلى الصلاة ، فللصلاة مقام عظيم في نهج المرء التعبدي ، وهذا المقام ينبغي أن يضل ملازماً للطهارة الروحية والبدنية ، والسيطرة في تخليص النفس من الرجس العارض لتلك الطهارة إنما يتم بالعقل المسيطر في إدراك علما يقينا بعيدا عن التلوث والتدرن بسكر الخمر ، فإذا لم يعلم ما يقول ، وقد فقد أعز ما يملك وهو العقل الدال على إرادة فعل الصلاة إمتثالاً للأمر المولوي فلا معنى لتلك العبادة الفاقدة لشرائطها في الانتهاء عن الخمر ، فإذا هم انتهوا عن ذلك ، وطهروا نفوسهم عن شربها ، ولا معنى لامتثال أمره تعالى مع عبادة غيره ، لا سيما وأن هذه العبادة بالذات تقتضي حضور القلب ، ولا حضور لغائب العقل حتى يعلم ما يقول ، وكيف له أن يعلم ما يقول وهو يعاقر الخمرة التي تذهب بالعقول ، وليس المراد أن الصلاة قد تصح من السكران لو علم ما قال ، فهذا لا يقول به أحد من المسلمين بل على العكس ، قال الطبرسي « وفي الآية دلالة على أن السكران لا تصح صلاته ، وقد حصل الاجماع على أنه يلزمه القضاء »
(2) .
--------------------
(1) النساء : 43 .
(2) الطبرسي ، مجمع البيان : 2 / 53 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 78 _
وقد تأتي سكارى بالمعنى المجازي ، أو أنها تحمل على المعنى المجازي ، بمعنى إتيان الصلاة متكاسلاً أو متثاقلاً ، أو مستغرقاً بالانصراف عنها بأثار النوم والنعاس كما في تفسير العياشي عن الامام محمد الباقر ( عليه السلام ) أنه قال : « لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً ولا متقاعساً ولا متثاقلاً فإنها من خلل النفاق ، فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى » (1) .
فقد يكون هذا من باب التشبيه التمثيلي للمتكاسل والمتقاعس والمتثاقل بحال السكران ، والله أعلم ، ولا يصح لنا علمياً القول بأن هذه الآية قد نزلت قبل تحريم الخمر كما عن بعض المفسرين ، لأن آية التحريم المكية قد سبقت إلى ذلك ، والآية مدنية بالأجماع ، وقد سبقتها آية البقرة وهي مدنيّة أيضاً .
خامساً : وكان آخر ما نزل بتحريم الخمر قوله تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الخَمرَ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلاَمُ رِجسٌ مِّن عَمَلِ الشَّيطَنِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَنُ أَن يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَوَةَ وَالبَغضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُمْ مُّنتَهُونَ * ) (2) .
هاتان الآيتان بالانضمام للآيات السابقة الناطقة بتحريم الخمر ، قد توحي جميعاً بدلالة تدرج الشارع المقدس بتحريم الخمر ، ولكن ليس التدرج القائل بالسكوت عن حرمة الخمر ، بل ببيان أنها إثم فحسب دون التعقيب على ذلك بالحرمة ، ومن ثم حرّم الاقتراب من الصلاة في حالة السكر ، وحينما إستجابت النفوس ، وتحسست المدراك بضرورة تنفيذ الأوامر الألهية جاء النهي المطلق العام بجميع الحدود والأبعاد في آيتي سورة المائدة .
هذا التدرج التشريعي لما يأتِ بمعنى المرحلية التدرجية من بيان للإثم فحسب ، أو كراهة للاستعمال للضرر ، إلى تحريم نهائي ، إذ لم يكن هناك إيهام فيحتاج إلى بيان ، ولا إبهام فيحتاج إلى تصريح « بل بمعنى أن الآيات تدرجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عام وذلك قوله « والإثم » ثم بالتحريم الخاص في صورة النصيحة : ( قُلْ فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) .
--------------------
(1) الطباطبائي ، الميزان : 4 / 361 ، وانظر مصدره .
(2) المائدة : 90 ـ 91 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 79 _
وقوله تعالى : ( لاَ تَقرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُم سُكَرَى حَتَّى تَعلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم ، ثم بالتحريم الخاص بالتشديد البالغ في آيتي المائدة » (1) .
والآية الأولى من سورة المائدة إعتبرت الخمر رجساً من عمل الشيطان الخاص به ، وعمل الشيطان يدعو إلى الضلال ، وأكدت ذلك « بإنما » حصراً ، وطلبت الاجتناب أمراً ، وعلقت على هذا الاجتناب رجاء الفلاح والسعادة الأبدية ، وعقبت ذلك بأن الشيطان في رجسه هذا يريد إيقاع العداوة والبغضاء بين بني البشر ، ويصد الناس عن ذكر الله ، وختم ذلك بقوله : « فهل أنتم منتهون » دلالة على أن طائفة من المسلمين لم ينتهوا عن شرب الخمر وسواها حتى قرعوا بهذا الإستفهام الإنكاري تأنيباً وتوبيخاً .
والحق أن تحريم الخمر على هذا النمط من التدرج تقتضيه طبيعة المناخ الجاهلي والبيئة العربية لارتباطهما بالخمرة أدبياً وإجتماعياً وتجارياً مما يقتضي التدرج من الصعب إلى الأصعب فقد كان شعر الخمر شائعاً في العصر الجاهلي يتغنى به وتحيا به الأندية والمحافل ، وكانت المقدمة الخمرية متعارفة في التناول والتدوال والايقاع الفني ، ولا أدل على ذلك من مطلع معلقة عمرو بن كلثوم : (2)
ألا هبي بصحنك فأصبحينا ولا تـبقي خمور iiالاندرينا |
على أن النماذج المروية لنا في الخمرة قليلة بالنسبة لغيرها ، والتعليل لهذه الظاهرة أن الاسلام حينما حرم الخمر إمتنع الرواة من رواية الشعر المتمثل لها وبها ، ومن جهة أخرى فإن الخمرة مرتبطة بالسلوك الاجتماعي والمسيرة العرفية في المحفل الجاهلي لدى التشريفات والسهرات تقديماً ومعاقرة وإستئناساً ، ولذا كان الاقلاع عنها ـ والإسلام قريب عهد بالجاهلية ـ يدعو إلى تغيير العادات والتقاليد الموروثة مما يقتضي جهداً مضاعفاً ، وعملاً مرناً في معالجة الموضوع ، فكان التدرج في التحريم وسيلة لذلك .
--------------------
(1) الطباطبائي ، الميزان : 6 / 117 .
(2) الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 165 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 80 _
وهناك عامل مهم يرتبط بالمناخ الاقتصادي لقريش ، فلقريش رحلتان مهمتان للتجارة صيفاً وشتاءً ، وكان الخمر إحدى مفردات هذه التجارة ، فهو مرتبط بأرزاق القوم إرتباطاً وثيقاً ، وكل أمر يصطدم بالرزق يستدعي الرفض والمجابهة ، قال تعالى : ( لإِيلاَفِ قُرَيشٍ * إِلاَفِهِم رِحلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيفِ * فَليَعبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيتِ * الَّذِي أَطعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّن خُوفٍ * ) (1) .
لذلك كان التدرج في التحريم ضرورةً تقتضيه مرحلية هذا المناخ ، فكان التحريم متدرجاً من الشديد إلى الأشد ، وقد ظهر ممّا تقدم حرمة الخمر حرمة تشريعية قد بدأت في مكة حينما حرم الاثم في آية الأعراف ، وفي آية النحل وهي مكية أيضاً إيماء إلى أن السَكَر ليس من الرزق الحسن ، إذ هي لا تتضمن حكماً تكليفياً بل هي في مقام تعداد ما يتخذ من مشتقات النخيل والأعناب طيباً أو غير طيّب ، حسناً أو غير حسن ، سواء أكان ذلك المتخذ من الطيبات أو من الخبائث .
وفي آية البقرة ـ وهي أول سورة مدنية ـ ظهر أن في الخمر إثماً ، وأن إثمه أكبر من نفعه ، وأن التشديد في أداء الصلاة بطهارة نفسية وروحية متكاملة يقتضي الأستمرار في عدم تناول المسكر كما في آية النساء : ( يَا أَيُّهَا آلَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُم سُكَرَى حَتَّى تَعلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) (2) ، وفيها إشارة إلى أن بعض المسلمين لم يكونوا قد إنتهوا من شرب الخمر ، فهم يعاقرونها مع أدائهم الصلاة ، وقد إنتهى هذا الأمر بالتشديد في التحريم مع التوبيخ والزجر والتعنيف في آيتي المائدة .
--------------------
(1) قريش ، الايلاف : 1 ـ 4 .
(2) النساء : 43 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 81 _
ومن خلال هذه الآيات البينات يخلص لنا أن الخمر كما في بعض الروايات « أم الكبائر » وذلك لضررها الفادح الذي يعيث في كيان الفرد والمجتمع معاً ، ويجعل كلاً منهما مترهلاً كسيحاً لا ينتفع منه بشيء ، وإذا تجاوزنا القرآن العظيم إلى الحديث الشريف ، رأيتَ الأمر هائلاً في تحريم الخمر ، وبيان السلبيات ، والنذير الصارخ بإعتبارها من أفظع المآثم ، وقد أحصيت في كتاب الوسائل وحدها أكثر من مئتين وخمسين حديثاً تعالج تحريمها وبيعها وشرائها وأحكامها وأقسامها ومتعلقاتها مما تقف معه أكثر إندهاشاً وأعمق تعجباً (1) .
1 ـ ففي وصية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قال : « يا علي شارب الخمر كعابد وثن » (2) .
2 ـ وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « مدمن الخمر يلقى الله كعابد وثن » (3) .
3 ـ وقيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : إنك تزعم أن شرب الخمر أشد من الزنا والسرقة !! قال : نعم ، « إن صاحب الزنا لعله لا يعدوه إلى غيره ، وإن شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا وسرق ، وقتل النفس التي حرم الله ، وترك الصلاة » (4) .
4 ـ وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ، قال ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « من شرب خمراً حتى يسكر لم يقبل منه صلاته أربعين يوماً » (5) .
5 ـ وعن الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) : « أما الخمر فكل مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر ، وما أسكر كثيره ، فقليله حرام » (6) ، رداً على من اعتبر قليل الخمر حلال ، كما فعل وعّاظ السلاطين لطواغيت العصور .
--------------------
(1) ظ : الحر العاملي ، وسائل الشعية : 17 / 221 ـ 307 .
(2) المصدر نفسه : 17 / 252 .
(3) المصدر نفسه : 17 / 255 .
(4) المصدر نفسه : 17 / 252 .
(5) المصدر نفسه : 17 / 238 .
(6) المصدر نفسه : 17 / 222 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 82 _
6 ـ وقد تحدث الإمام الصادق في مقام إكمال الشرائع فآعتبر تحريم الخمر أصلاً فيها ، وقال : « ما بعث الله نبياً قط ، إلا وقد علم الله أنه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر ، ولم تزل الخمر حراماً » (1) .
7 ـ وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إن الله حرّم الخمر بعينها ، فقليلها وكثيرها حرام ، كما حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير » (2) .
8 ـ وقد وردت البشارة العظمى على لسان الإمام الصادق ( عليه السلام ) لمن ترك المسكر في ذات الله ، فقال : « من ترك المسكر صيانة لنفسه سقاه الله من الرحيق المختوم » (3) .
إن السنة الشريفة شارحة للقرآن ، ومفصلة لمجمله ، ومبينة لإبهامه ، وفيما تقدم من الأحاديث غنية لمن ألقى السمع وهو شهيد ، بعد هذا يمكننا أن نتحدث عن بعض أضرار الخمر في ضوء قوله تعالى : « وإثمهما أكبر من نفعهما » على الوجه الآتي : الضرر فيما يبدو على أنواع ، نوجز الكلام حولها :
1 ـ الضرر الاجتماعي ، وذلك أن شارب الخمر هو عضو في الهيئة الانسانية ويمثل جزءاً من هذه البنية القائمة على أساس التعارف والإجتماع ، إلا أن هذا الجزء قد
أصبح مشلولاً في الفكر والحركة ، بعيداً عن الأحساس والعقل السليم ، همته ملذاته وشهواته ، ووكده نشوته وإنفعالاته ، والمجتمع الإنساني متكافل في الحقوق والواجبات ،
وشارب الخمر لا يعطي من نفسه الحق ، ولا يقوم بواجبه تجاه الآخرين ، وما ذاك إلا أنه انحرف عن المسرى الصحيح ، وأتخذ له طريقاً يبتعد به عن مجتمع الطهر والشرف ،
وإقترب من مجتمع الرجس والآثام ، وإذا توافر هذا النموذج المنحرف في هذا الكيان الإجتماعي ، ذاب المجتمع ، وتهرأت أوصاله في خضم الشهوات الموبقة والذنوب المهلكة.
--------------------
(1) الحر العاملي ، وسائل الشيعة : 17 / 237 .
(2) المصدر نفسه : 17 / 259 .
(3) المصدر نفسه : 17 / 239 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 83 _
2 ـ الضرر الأسري : شارب الخمر في أسرته يرشح هذه الأسرة لاقتراف هذه الكبيرة الموبقة ، ورب الأسرة هو الشاخص الماثل في كيان الأسرة ، يقتدى به ، وينظر إلى تصرفاته ، وفي الأسرة الزوج والولد والأخ ، فأما أن يقتدوا بعمله ، وذلك ما يفتت جسم هذه الأسرة وينذرها بالفناء ، وإما أن يتمردوا عليه ، فيصبح شريداً منبوذاً ، وبذلك أيضاً يتفكك التركيب الأسري ، ويركب كل طريقه دون توجيه ، والحديث يقول : « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » فأين هي المسؤولية هنا ، ورب الأسرة في الهوة الدنيا من الانحراف الاخلاقي ، والأسرة متشرذمة في هذا الجو القاتم .
3 ـ الضرر الفردي : ويتمثل في جناية المرء على نفسه ، وتدهوره صحياً وخلقياً وعقلياً ونفسياً ومالياً ، وهذا مما سنقف عنده قليلاً :
أ ـ الضرر الصحي ، وأطباؤنا أعرف بهذا الضرر على المرء في أمراض شتى ، لعل من أبرزها : أمراض المعدة والكبد والطحال والعيون والأعصاب ؛ أضف إلى ذلك ما تتأثر به الجينات الوراثية ، وما يورثه الأب للأبناء من الاصابات الخطيرة ، حيث ثبت أن ذرية معاقري الخمرة أكثر تعرضاً للأمراض ، والأمراض تشيع فيهم تأصلاً دون غيرهم من الأبناء من ذرية غير المدنيين .
ب ـ الضرر الخلقي ، هناك إنحراف في أخلاقية المتناول للخمر ، فالفحش والبذاء وهما محرمان في الشريعة الإسلامية ملازمان له في الأغلب ، والتطاول على الآخرين بالكلم النابي ، والحديث الفج ، والسليقة المعوجة ، والترهل في التصرفات ، والامبالاة في القول والعمل ، وكل أولئك مما تتقاصر معه الأخلاق ، وتتدانى به التقاليد والأعراف ، وتتآكل فيه بنية الهرم الإنساني فيسود الغضب والاعتداء ، وتتحكم الأنانية والأثرة بأسوأ صورهما .
ج ـ الضّرر العقلي : لا ريب أن معاقرة الخمر مما يفتقد معها العقل كلاً أو جزءاً ، فإذا فقد كلاً فقد خرج المرء عن دائرة بشريته ، وإذا فقد جزءاً ، فهو تضييع للجوهرة الانسانية الفريدة التي وهبها الله لهذا المخلوق دون سائر مخلوقاته « ولقد كرمنا بني آدم » .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 84 _
وإضاعة هذا التكريم إضاعة لأغلى هبة منحها الله لعبده ، والعقل هو مناط التكليف ، وبه تتقدم البشرية ، وتتفاضل المجتمعات الراقية ، وضياع هذا العقل في قارعة الطريق بين موائد الخمر ومباذل الشهوات إجهاز فعلي على إبراز مقومات الروح الانساني .
د ـ الضرر النفسي : وتبدو الآثار النفسية بأبشع صورها عند شاربي الخمور ، وأبرزها الخمول الذهني ، والوهن العصبي ، والتقوقع على الذات ، وفقدان السيطرة على الإرادة ، يلوح عليه التردد ، ويصاحبه الفشل والخذلان ، يتوقع التهرب من الواقع السيء ليقع في واقع أسوأ ، كمن يطفىء النار بالحطب ، لقد صورت الحضارة الغربية للشبان أن التخلص من مشكلات الحياة مقترن بشرب الخمور ، وأن التغلب على مكاره الدهر يكمن في حب الشهوات ، وكلا العلاجين المزعومين لا نصيب لهما من الصحة ، بل على العكس تماماً ، فهو يفرّ من الهموم ليقع في الغموم ، وهو ينفس عن الكربات بأسوأ منها من الموبقات .
هـ ـ الضرر المالي ، ويتمثل بهذا النوع من العبث والاسراف بالمال دونما وضعه في موقعه المشروع الذي يراد منه وله ، والمرء يسأل غداً عن ماله ممّ إكتسبه ، وفيم أنفقه ، فلا يجوز التكسب بالحرام بيعاً وشراء ، والتصرف ببيع الخمور وشرائها من الحرام ، وهو محرم حرمة تشريعية ، وتترتب عليها أحكام فقهية ، يقول الشيخ الأنصاري ( ت : 1281 هـ ) .
« يحرم التكسب بالخمر مسكر مائع إجماعاً نصاً وفتوى » (1) ، ويقول السيد السيستاني مدّ ظله العالي : « لا يجوز التكسب بالخمر ، وباقي المسكرات المائعة . . . ولا فرق بين أنواع التكسب من البيع والشراء وجعلها ثمناً في البيع ، وأجرة في الإجارة ، وعوضاً عن العمل في الجعالة ، وغير ذلك من أنحاء المعاوضة عليها ، وفي حكم ذلك جعلها مهراً في النكاح ، وعوضاً في الطلاق الخلعي ، وكذا هبتها والصلح بلا عوض على الأظهر » (2) .
--------------------
(1) الأنصاري ، المكاسب : 1 / 116 .
(2) السيستاني ، منهاج الصالحين : 2 / 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 85 _