ومن هذه الزاوية الاجتهادية ـ وان كان مجالها الحقيقي في تطبيقات علمي الفقه والأصول ـ كان استناد الشيخ الأكبر إلى مدرسة الكوفة في اللغة والنحو من خلال ظاهرتين :

الأولى : اختياره مذهب الكوفيين في جملة مسائل الخلاف في النحو ، ومواطن الافتراق في اللغة ، ومظاهر التمايز في القراءة ، وتنصيصه على ذلك في كل الكتاب .

الثانية : استعماله المصطلحات الدقيقة عند الكوفيين كالتعبير : عن النفي بالجحد ، وعن الكسر بالخفض ، وعن العطف بالنسق ، وعن الحروف بالأدوات ، وعن الصفة بالنعت ، مما هو مطروح في مباحث الحجة واللغة والاعراب في تفسيره التبيان .

3 ـ أبو علي ، الفضل بن الحسن الطبرسي ( ت : 548 هـ ) في تفسيره الشهير : « مجمع البيان في تفسير القرآن » (1) ، وأصل شهرة هذا التفسير مضافاً إلى النية الصادقة أنه طبع عدة مرات قبل تفسير الشيخ الطوسي ، ومع ما للطبرسي من المكانة العلمية ، والاضطلاع بتصريف شؤون البيان ، إلا أنه استند إلى تفسير الطوسي استناداً حقيقياً ، إن لم يكن قد استنسخه نسخاً فعلياً ، وهذا جارٍ في سيرة السلف الصالح أن ينشر اللاحق علم السابق ، ولكن بإضافات قيمة ، توسع فيها خصوصاً في المقارنة ، ولا أدل على ذلك من إجماع هيأة كبار العلماء في القاهرة على اختياره تفسيراً يجمع آراء المسلمين كافة ، فقرروا طبعه ببادرة من دار التقريب لهذا الملحظ طبعة جديدة غير طبعة صيدا : 1333 هـ .
   ولما كان هذا التفسير حاوياً لعلم الشيخ المؤسس الطوسي ، وجامعاً لتفسيره بكل جزئياته ، مع الاضافات الجوهرية الثمينة ، فما قيل عن « التبيان » فيما سبق ، يقال عن « مجمع البيان » جملة وتفصيلاً ، وبعد هذا العرض التلميحي لمدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم ، يجب أن نضع بين أعيننا جادين ، أن هذه المدرسة هي خلاصة تجارب الامام علي الريادية في التشريع والتفسير والبلاغة والفلسفة وعلم الكلام والفقه والاصول والنحو واللغة ، فهو المؤسس الحقيقي لميادين هذه المدرسة ، جزءاً من إعداده القيادي من قبل الرسول الاعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) القائل بإيجاز : « أنا مدينة العلم وعلي بابها » .

--------------------
(1) طبع عشرات الطبعات ، ومن أفضلها طبعة صيدا ، 1333 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 52 _

أثرُ القرآنِ الكريمِ في الحِفاظِ عَلَى أَصَالَةِ اللغةِ العربيةِ :
   ألقي في المؤتمر العلمي الخامس المنعقد في كلية الفقه في النجف الأشرف / جامعة الكوفة للفترة 5 ـ 7 جمادى الأولى 1410 هـ = 3 ـ 5 / 12 / 1989 م ، تحت شعار « العروبة والاسلام من منظور معاصر » وانعقد المؤتمر في قاعة الإدارة المحلية المجاورة للكلية في النجف الأشرف .
   القدرة البيانية في نصوص القرآن الكريم ، تجاوزت حدود المعرفة الانسانية العجلى ، حتى عادت ضرباً من الاعجاز ، وسنخاً جديداً من البيان العربي الذي لا يدانيه نصٌ أدبي ، الفن القولي في كلام العرب ، ذو أصناف ثلاثة : شعر ونثر وقرآن ، الشعر بما تدرج عنه من قصائد ومقطّعات وأبيات وأراجيز وشواهد ، والنثر بما تفرع عنه من قصص وحكايات وأساطير وأمثال وخطب وأسجاع ورسائل ، والقرآن وإن اشتمل على بحور الشعر كافة ، وتمثلت به أرقى نماذج النثر الفني بعامة ، إلا أننا لا نستطيع أن نسميه شعراً ، كما لا نستطيع أن نسميه نثراً ، لأنه ليس هذا وذاك ، بل هو قرآن وكفى .
   والقرآن اسم علم غير مشتق خاص بكلام الله تعالى كما يراه الشافعي ويرجحه السيوطي وعليه أئمة الأصوليين (1) ، وقد يكون مشتقاً من القراءة ومرادفاً لها باعتباره مصدراً (2) ، وقد يكون مشتقاً من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضاً ، ويشبه بعضها بعضاً كما يراه الفراء (3) .

--------------------
(1) ظ : السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 1 / 51 .
(2) ظ : محمد عبد الله دراز ، النبأ العظيم : 7 .
(3) ظ : الألوسي ، روح المعاني : 1 / 11 .


مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 53 _
   وقد يكون معناه القراءة في الأصل ، أو مصدر قرأت بمعنى تلوت ، وهو المروي عن ابن عباس (1) ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ عَلَينَا جَمعَهُ وَقُرءَانَهُ * فَإِذَا قَرأنَهُ فَاتَّبِع قُرءَانَهُ * ) (2) ثم نقل من هذا المعنى وأصبح إسماً لكلام الله تعالى ، ولا نميل إلى ما رجحه بعض المحدثين من أن العرب عرفوا القراءة لا بمعنى التلاوة ، بل أخذوها عن أصل آرامي لذلك ، وكان ذلك كافياً لتعريبه ، وإستعمال الاسلام له في تسميته كتابه الكريم (3) : بل الله سماه بذلك : ( إِنَّهُ لَقُرءَانٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكنُونٍ * ) (4) وعلى ذلك لغة العرب دون أصل أجنبي (5) .
   وقد سبق في لوح الغيب أن اللغة العربية أشرف اللغات وأنصعها ، فأختارها الله تعالى لأشرف كتبه ، حتى أثبتت الدراسات المعاصرة إمتياز العربية وأولويتها في سلامتها وفصاحتها وأصالتها ، وهي تنطلق من صحارى الجزيرة ، ومفاوز الحجاز ، مخترقة مناخها الاقليمي ، وبقعتها الجغرافية إلى بقاع العالم ، ضاربة بأطنابها صوب المغرب والمشرق ، مما عجزت عن تحقيقه اللغات الحية ، وقصرت عن تناوله فصائل اللغات السامية ، حتى هجر جملة من علماء الاسلام ألسنة لغاتهم الأصلية ، تمحّضوا للغة القرآن فاحصين وباحثين ، فذاع صيتهم في الآفاق ، واشتهروا باسم العربية .
   وكان القرآن الكريم أصل إفتتانهم بلغة العرب ، وأسلوبه مصدر حياتهم اللغوية المتنوعة ، فتعددت المعارف ، وتفتحت المدارك ، فكانت الإسهامات الحضارية ، والنقلة الثقافية تغزو المجتمعات والامم والشعوب والقبائل ، وتحرر العقول والذهنيات والألباب ، قال ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) : « إنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره ، واتسع علمه ، وفهم مذاهب العرب وإفتنانها في الأساليب ، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات » (6) .

--------------------
(1) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 1 / 14 .
(2) القيامة : 17 ـ 18 .
(3) صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : 12 .
(4) الواقعة : 77 ـ 78 .
(5) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : مادة : قرأ .
(6) ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 11 .


مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 54 _
   وكانت لغة قريش هي الأصل الذي نزل به القرآن على أفصح قريش فيما نسب إليه « أنا أفصح العرب بيد أني من قريش » (1) فكانت هذه اللغة مصونة بالقرآن ، ومحفوظة به ، نتيجة تضافر جهود علماء العروبة والاسلام في نفي الشوائب ، ودرئ الأخطار حتى سلمت هذه اللغة من التدهور والانحطاط اللذين عرضا لجملة من لغات العالم ، وعلى العكس من ذلك فقد إرتفعت لغة القرآن عن مستوى الانصهار في غيرها من اللغات ، وإعتصمت بمخزونها عن الدخيل من الألفاظ ، وهي بين هذه وذاك تصارع حركات العامية ، وتدحض شُبه الانقضاض على التراث ، وتسمو عن مسيرة الإذابة بالرطانات الأعجمية واللهجات الاقليمية ، حتى كتب لها الخلود ببركة القرآن العظيم ، وظلت رمز الشموخ الوضاء .
   لا أريد التوسع في هذا الملحظ ، ولا التأكيد على هذا الجانب ، فهما من البداهة بمكان ، بل أحاول الاشارة من خلال ثلاث ظواهر جديرة بلفت النظر العلمي ، كانت أساساً صلباً لحفاظ القرآن المجيد على أصالة العربية :

الظاهرة الأولى :
   وتتجلى في تسيير القرآن الكريم لعلومه المثلى ، وفنون معارفه العليا ، مما أعطى ظاهرة ذات ذائقة جديدة ، ولجت أبواب الوعي العربي في التصنيف والتأليف والبحث الجدي والمتابعة الفذة من قبل فحول العلماء وعلية القوم ، وكان تفسير القرآن يمثل الشطر الاكبر من هذه الظاهرة ، فبدأت مصادره تتألق ، وموارده تتواكب ، فكانت مدرسة مكة المكرمة ، ومدرسة المدينة المنورة ، ومدرسة الكوفة في تفسير القرآن الكريم ، معلماً بارزاً من معالم رفد العربية بكل ما هو أصيل ومبتكر ، فكانت مدرسة مكة ، وهي أندر عطاء ، وأغلى قيمة ، تستمد قوامها من النبي وآله وأصحابه ، وكان قوامها النخبة الرائدة من أصحاب ابن عباس ( ت : 68 هـ ) وابن عباس نفسه ، ومولاه عكرمة ( ت : 104 هـ ) ومجاهد بن جبر ( ت : 103 هـ ) وأمثالهما من الرواد الأوائل ، وكانت مدرسة المدينة المنورة ، قد إمتازت بالتجرد والموضوعية ، والكشف عن مراد الله من كتابه ، فيما أثر عنها من روايات محددة ، وكان قوامها ثلاثة من أئمة أهل البيت هم : الامام علي بن الحسين زين العابدين ( ت : 95 هـ ) والامام محمد الباقر ( ت : 114 هـ ) والامام جعفر الصادق ( ت : 148هـ ) كما اعتمدت طائفة من تلامذة أبي بن كعب ( ت : 105 هـ ) وأصحاب زيد بن أسلم ( ت : 136 هـ ) .

--------------------
(1) ابن سنان الخفاجي ، سر الفصاحة : 60 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 55 _
   وكانت مدرسة الكوفة غنية بعطائها الثّر في إتجاه تدريسي يمثله ابن مسعود ( ت : 32 هـ ) وجملة من تلامذته ، وفي طليعتهم مسروق بن الأجدع ( ت : 63 هـ ) والأسود بن يزيد ( ت : 75 هـ ) والربيع بن خثيم ، وعامر الشعبي ( ت : 105 هـ ) وأمثالهم ، وقد برز في الكوفة إتجاه نصّي يمثله تلامذة الامامين محمد الباقر وجعفر الصادق ( عليهما السلام ) نشأت عنه طبقتان تقيدت بنقل النصوص رواية وكتابة ، وكان في طليعة الرواة : زرارة بن أعين الكوفي ، وفي طليعة المؤلفين فرات بن إبراهيم الكوفي .
   ولا ينسى دور مدرسة البصرة فيما أثر عن أبي عمرو بن العلاء ( ت : 145 هـ ) وعيسى بن عمر الثقفي ( ت : 149 هـ ) وقبلهما الحسن البصري ( ت : 114 هـ ) فيما أُصّلَ عنده من جهود تفسيرية منتشرة في أمهات التفاسير ، كانت هذه المدارس بما أبقت لنا من تراث تفسيري ضخم يعتمد الرواية حيناً ، والاستنباط العقلي حيناً آخر سبيلاً إلى نشوء حركة التفسير التسلسلي المنظم عند العرب والمسلمين فبدأ ذلك متكاملاً في محتوياته عند أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ( ت : 310 هـ ) في تفسيره الشهير ( جامع البيان ) واستمر العطاء الجزل إلى اليوم حافلاً بتفسير القرآن بالقرآن ، والتفسير البياني ، والتفسير التشريعي ، والتفسير المعجمي ، والتفسير الموضوعي ، وكان البعد الاحتجاجي متوافراً في التفسير الكلامي والوعي الفلسفي ، والأثر العرفاني ، والمنهج الاشاري ، وكان المناخ العقلي يتقلب بين شؤون الجدل المنطقي ، وسمات الروح الصوفي ، فصقلت الحياة ، العقلية بمزيج من الآراء الكلامية يتخير من ثمارها العربي ما أراد .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 56 _
   وكان هذا الزخم الحضاري حرياً بطرح كل الفروض الفكرية في رحاب العربية ولغتها الفياضة ، فأنت معه في معين مترافد لا ينضب ، وشعاع متألق لا يخبو ، هذا كله إلى جنب علوم القرآن وما أورثته للعربية من التفتح على آفاق جديدة في ظاهرة الوحي ، وأسباب النزول ، وجمع القرآن ، وخضم القراءات ، وحياة النسخ ، ومجال الامثال ، وطرق التشريع ، وإرساء المصطلح في المحكم والمتشابه ، والمجمل والمبين ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، وما أضاف ذلك من تنظير فجائي في لغة الجدل ، وعالم الحجاج ، مما كانت معه العربية حافلة بقيّم خلاقة جديدة ، نوّرها القرآن في علومه حتى قال ابن مسعود : « من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن » (1) .
   وتثوير القرآن يعني التدبر فيه ، والبحث عن جزئياته ، والعكوف على حيثياته الكبرى ، وفي هذا دعوة واضحة إلى الاجتهاد ، وإعمال الفكر مما تتسع له دائرة علوم القرآن في ميادينها عند رد الأصول إلى الفروع ، والنظم إلى متعلقات التركيب ، واللغة إلى جذورها في التصريف والاشتقاق ، وهكذا ظهر لنا التأريخ الحضاري المشترك بين اللغة العربية والقرآن الكريم مما شكل مظهراً إجتماعياً متلازماً ، فالحفاظ على اللغة يعني الحفاظ على القرآن ، وصيانة لغة القرآن يقتضي صيانة لغة العرب ، لارتباط وجودها التأريخي بوجوده التشريعي ، وأستمرار رقيها بلمح من إستمراره ، ولما كان القرآن الكريم ، معجزة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الخالدة ، وهو مرقوم بهذه اللغة الشريفة ، فالخلود متصل بينهما رغم عادية الزمن ، وهذا أمر يدعو إلى الاطمئنان على سلامة اللغة ، وأصالة منبتها ، وهنا يتجلى أثر تيسير القرآن في تفسيره وعلومه بالكشف عن أسرار العربية وكنوزها دون عناء ومشقة (2) .

--------------------
(1) ابن الاثير ، النهاية في غريب الحديث : 1 / 229 .
(2) ظ : المؤلف ، المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم : 38 .


مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 57 _
الظاهرة الثانية :
   وتبرز ملامحها في تيسير القرآن العظيم ، لمعالم اللغة ، ومعاني النحو ، ودلالة الألفاظ ، مما أوجد حركة لغوية دائبة ، وأصالة إعرابية متجددة ، نشأت عنهما مناهج اللغة من جهة ، ومدارس النحو من جهة أخرى ، فالمنهج اللغوي عند العرب مدين بإرساء قواعده لأصالة القرآن ، فهذا الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : 180 هـ ) وسيبويه ( ت : 180 هـ ) والفراء ( ت : 207 هـ ) وأبو عبيدة ( ت : 210 هـ ) وابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) إنما كتبوا العين ، الكتاب ، معاني القرآن ، مجاز القرآن ، غريب القرآن ، فلأن رائدهم الحثيث إلى هذا التوجه هو العناية بلغة القرآن ، فكان مددهم بمعين المفردات والصيغ والتراكيب في اللغة والحجة والنحو والصرف والقراءات ، ألم يكن مضمارهم في الإبانة عن إستعمالات العرب ، وطرق بيانهم ، فابتنى الأصل اللغوي عندهم بكثير من أبعاده على الغريب والشكل والأوابد والشوارد في الألفاظ والكلمات والمشتقات مما كان أصلاً للبناء اللغوي والنحوي والصرفي ، فكان القرآن عندهم مظنة إستنباط القواعد لاستلهام الحجة إثر الحجة في ميدان المعرفة اللغوية ، وجلاء معاني مفردات العربية ، وكانت إستعمالات القرآن أساس الدربة في البحث عند تتبع غريب العربية ، وإستقصاء معجم ألفاظها اللغوية .
   قال الراغب ( ت : 502 هـ ) : « فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته ، وواسطته وكرائمه ، وعليها إعتماد الفقهاء في أحكامهم وحكمهم ، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم » (1) .
   وكان إستئناس أعلام العرب بمفردات القرآن دليلاً حافزاً لأعلام الأوروبيين في فهرسة ألفاظ القرآن بإطارها العلمي ، المنظّم ، فحينما تأصلت الفكرة عند المستشرق الألماني الأستاذ جوستاف فلوجل ( 1802 م ـ 1870 م ) ألف أول معجم مفهرس للقرآن في اللغة العربية عني بألفاظ القرآن ومفرداته ، وأسماه : « نجوم الفرقان في أطراف القرآن » وطبع لأول مرة عام 1842 م في لا يبزج ، وكان هذا العمل الجليل أساساً محكماً لما إعتمده الاستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في وضع : ( المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ) (2) .

--------------------
(1) الراغب ، المفردات : 6 .
(2) ظ : المؤلف ، المستشرقون والدراسات القرآنية : 62 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 58 _
   وقد إستأنس مجمع اللغة العربية في القاهرة بهذا المنهج الرائد ، فأصدر معجم ألفاظ القرآن الكريم في مجلدين ضخمين ، قام بإعداده جماعة من الأساتيذ والعلماء والمتخصصين ، فعرضوا لمفردات القرآن كافة ، فكان العمل أوسع ، والدائرة أشمل ، والأحصاء أكثر ، فكل كلمة ترد في القرآن تشرح شرحاً لغوياً ، ويحصر تردد ورودها في القرآن ، وينص على المعاني المختلفة للكلمة الواحدة ، ويشار إلى مجازية بعض المفردات ، كما يشار إلى مواطن الاستعمال الحقيقي .
   أما مدارس النحو العربي فكان سعيها وراء ضبط قراءة القرآن وأدائه سليماً على النحو العربي الفصيح ، دون الوقوع في طائلة اللحن ، وتساهل العامة في القراءة ، ليسلم النص القرآني من التحريف والايهام معرباً بإبانة ، ومشرقاً بوضوح ، فبداية الضبط في نقط المصحف من قبل أبي الأسود الدؤلي ، أو يحيى بن يعمر العدواني ، أو نصر بن عاصم (1) إنما كان صيانة للقرآن من اللحن على حد تعبير النووي : « ونقط المصحف وشكله مستحبٌ لأنه صيانة من اللحن والتحريف » (2) .

   وبدأ التحوط على القرآن فيما وضعه أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام من معالم النحو على روايات منها :

أ ـ حينما سمع إعرابياً يقرأ ( لاَّ يَأكُلُهُ إِلاَّ الخَطِئوُنَ * ) (3) ، فوضع النحو .
ب ـ حينما دخل عليه أبو الأسود على الامام علي عليه السلام فوجد في يده رقعة ، يقول أبو الأسود ، فقلت : ما هذه يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إني تأملت كلام العرب فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء يعني الاعاجم ، فأردت أن أضع شيئاً يرجعون إليه ، ويعتمدون عليه ، وإذا الرقعة فيها : الكلام كله : اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبئ به ، والحرف ما أفاد معنى . وقال لي : أنحُ هذا النحو ، وأضف إليه ما وقع إليك » (4) .

--------------------
(1) ظ : ابن عطية ، مقدمتان في علوم القرآن : 276 + الزركشي ، البرهان : 1 / 250 .
(2) السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن .
(3) الحاقة : 37 .
(4) ابن الانباري ، نزهة الالبا : 4 ـ 7 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 59 _
   ومهما يكن من أمر فإن الاستاذ أحمد أمين يميل إلى أن شكل المصحف في نقطه وإعجامه خطوة أولية في سبيل النحو تتمشى مع قانون النشوء ، يمكن أن تأتي من أبي الأسود (1) .
   والحقيقة أن اللحن في قراءة القرآن ـ بعد أن اتسعت رقعة الاسلام ـ كان سبباً مباشراً في تأسيس النحو العربي ، حتى روي لنا لحن الحجاج والحسن البصري (2) ، وكانت البداية التأسيسية ـ بالاضافة إلى ما سبق ـ على يد البصريين حينما ألف عبد الله بن أبي إسحاق ( ت : 117 هـ ) كتاباً في الهمز (3) .
   وتبعه عيسى بن عمر الثقفي ( ت : 149 هـ ) فألف كتابين هما : الأكمال والجامع (4) ، حتى إذا نبغ الخليل ( ت : 175 هـ ) وأخذ بزمام الدرس النحوي ، قامت مدرسة البصرة في النحو على يديه ، ونشأ مترعرعاً في ظلال توجيهه تلميذه سيبويه ( ت : 180 هـ ) فأتسمت ملامح المدرسة بمناهجه ، وتأصلت مسائلها بفضله ، فكان « الكتاب » أول أصل مدرسي جمع مادة النحو العربي ، وكان منهجه متأثراً بالقرآن الكريم جزئياً في توجيه الاعراب حيناً ، وتيسير القواعد حيناً آخر ، لأن القياس هو الأولى عند البصريين ، وإن كان الهدف تقويم اللسان العربي عن اللحن والخطأ ، للحفاظ على سلامة القرآن الأدائية .

--------------------
(1) أحمد أمين ، ضحى الاسلام : 2 / 286 .
(2) ظ : الجاحظ ، البيان والتبيين : 2 / 219 .
(3) ظ : السيوطي ، المزهر : 2 / 398 .
(4) ظ : ابن النديم ، الفهرست : 68 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 60 _
   حتى إذا نشأت مدرسة الكوفة على يد أبي جعفر الرؤاسي ( ت : 148 هـ ) وتلميذه النابه علي بن حمزة الكسائي ( ت : 189 هـ ) وأشهر تلاميذ الكسائي : يحيى بن زياد الفراء ( ت : 207 هـ ) ، كان الاستناد إلى القرآن أكثر شيوعاً والاستدلال بشواهد من آياته أرحب مجالاً ، لأن الكوفيين « يؤمنون أن القرآن جاء بلغات فصيحة ، فهو أحق بالقبول ، وأجدر بالأخذ ، حينما تبنى قاعدة ، أو يقرر حكم ، أو يصحح أسلوب » (1) .
   فكان عمل الكوفة في ظواهر الكتاب حيناً ، وفي القياس النحوي حيناً آخر ، وليتهم إكتفوا بالشاهد القرآني وحده ، ولم يخضعو لسلطان القياس ، لكان القرآن هو المرجع ليس غير ، إن نشوء هاتين المدرستين في ظل العلم العراقي الفياض ، كان هو الأساس لسلامة اللغة العربية ، وعليه سار المتأخرون من النحاة ، فكان الثروة الطائلة في كل زمان ومكان ، لأن مصادر الدرس النحوي في تفتقت عنهما ، وهما وحدهما موارد هذا العلم لمن أراد الإستزادة ، وكان الدافع الحقيقي وراء هذه الجهود المترامية الأطراف هو الدفاع عن القرآن ، وصيانة التراث من الهجمات المضادة ، وإبقاء العربية علماً شامخاً في حياة اللغات .

الظاهرة الثالثة :
   وتتجلى مظاهرها في حياة البلاغة العربية ، فقد نشأت البلاغة العربية في أحضان الاعجاز القرآني ، وتلألأ نجمها في قضايا البيان في القرآن ، فكان الجاحظ ( ت : 255 هـ ) من أوائل من أكدوا هذا الجانب في جملة من أسراره الجمالية ، فخصص كثيراً من مباحثه في « نظم القرآن » لاستيفاء كنوز العبارة القرآنية ، وإستخراج ما فيها من مجاز وتشبيه بمعانيهما الواسعة ، وكذلك صنع في « البيان والتبيين » فتجد المجاز إلى جنب الكناية القرآنية ، والاستعارة مستقاة من تشبيهات القرآن ، وعمله هذا وإن كان مفرقاً ومجزءاً إلا أنه كان مناراً لمعالم الطريق .

--------------------
(1) عبد العال سالم مكرم ، القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية : 123 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 61 _
   حتى إذا جاء ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) وجدناه يؤكد دلائل مادة علمي المعاني والبيان في صدر كتابه « تأويل مشكل القرآن » مستنداً إلى التنظيرات البلاغية من القرآن في ضوء طرق القول ومأخذه عند العرب في الاستعارة والتمثيل والقلب التقديم والتأخير والحذف والتكرار والإخفاء والإظهار والتعريض والافصاح والكناية والايضاح ، مما أورده مستنيراً بآيات القرآن ودلائله في أبواب المجاز (1) .
   وكان علي بن عيسى الرماني ( ت : 386 هـ ) في « النكت في إعجاز القرآن » وحمد بن سليمان الخطابي ( ت : 388 هـ ) في « بيان القرآن » وأبو هلال العسكري ( ت : 395 هـ ) في « الصناعتين » وأبو بكر الباقلاني ( ت : 403 هـ ) في « إعجاز القرآن » والسيد الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) في « تلخيص البيان في مجازات القرآن » قد استمدوا من كتاب العربية الأكبر روافد الاعجاز البياني ، وروائع الفن البلاغي ، فتلمس آثار قضايا الاعجاز ، وتلمح بصمات كتاب الله في ثنيات جوهر البلاغة وأساسها ، والتدوين المشترك بين أصول البلاغة وشواهد الآيات يعطيك نماذج التطبيق .
   فإذا استقريت جهود عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) تجده بحقٍّ مؤسس الفن البلاغي ، ومشيد أركانه في ضوء القرآن العظيم ، فالفاحص لكتاب « دلائل الاعجاز » يلحظ مباحثه منصبَّة بسيولها المتشعبة حول علم المعاني بكل تفريعاته الجمالية والاسلوبية ، والمستقري لكتاب : « أسرار البلاغة » يجده متخصصاً بعلم البيان وصوره كافة ، باستثناء الكناية التي قدم عنها بحثاً مفصلاً في الدلائل ، إن الجزئيات التي أثارها عبد القاهر ، والأبواب التي أستوفى الحديث عنها ؛ تعدّ بحق الحجر التأسيسي لمفاهيم علم البلاغة مستمدة من القرآن ؛ في المستوى التطبيقي والنظري ، وهو بذلك الفكر المخطط الرائد لجملة هذه الأفكار ، والمنظّر المتمكن من هذا الفن .

--------------------
(1) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 15 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 62 _
   من خلال هذا الاختصار فيما قدمت ، تجد التفاعل الحضاري قائماً بين كتاب الله وعلم البلاغة العربية الذي هو جزء متسلسل عن القرآن ، ويتعرف الباحث بتأكيد بالغ أن هذا العلم إنما قام ونهض وترعرع ـ فضلاً عن نشوئه ـ من أجل إثبات بلاغة القرآن ، فكل بلاغة دونها ، وكل بليغ لا يصل إليه ولا يواكب تلاطم أمواجه ، مما يدفع ما وسم به هذا التراث العربي الاسلامي المحض من سمات لا أساس لها ، فلا الأصل اليوناني ينطلق من واقع علمي ، ولا الأثر الاعجمي بحقيقة تأريخية ، بل البلاغة في أصولها وفروعها وتضاعيفها مستندة إلى القرآن في ينابيعه الأولى ، فالعربي على فطرته البدوية الصافية تهزه الكلمة العذبة ، وتطربه العبارة الفصيحة ، وتمتلك نفسه الاستعارة الهادفة ، وتسترعيه الكناية المهذبة ، ويستهويه التشبيه المعبر ، ويقف عند المجاز السيّار ، وكان ذلك من بركات القرآن وجليل آثاره البيانية ، وسبق فنه القولي فنون العرب في الأداء والاسلوب والنظم ورصانة التأليف .
   لقد بهر العرب بجمال القرآن وروعه ، ونظروا إلى التغيير الجذري الذي أحدثه هذا الوحي الهادر ليس في العادات المفاهيم والتقاليد فحسب ، بل في القول وفنون الكلام والنظم البياني ، فقد نظروا إلى لغتهم وهي تتجه ـ فجأة ـ نحو الاستقامة والاستقرار والصعود ، فحدبوا على عطاء هذه اللغة يختزنونه ، وعمدوا إلى مرونتها يستغلونها إستغلال يسر وسماح ، فكان هذا المخزون جمالاً بلاغيَّا لا يبلى ، وكان ذلك الاستغلال موروثاً بيانياً لا ينفد ، وما ذاك إلا نتيجة إستجلائهم دلالات القرآن الادبية ، وتغلغلهم بأعماق فنونه البلاغية ، فالقرآن إلى جانب عطائه اللغوي والاسلوبي قد خلص اللغة من فجاجة الوحشي والغريب ، وهذّب طبع ألفاظها من التنافر والتعقيد ، فلم يعد العربي بعد بحاجة إلى إقصاء ذلك وإستبعاده ، فكأنه لم يكن ، فقد تكفل القرآن بتذليل الصعاب .
   العرب اليوم مدعوون إلى تأكيد هذا التلاحم الفاعل بين كتاب الله تعالى وبين الفن البلاغي ، وذلك بالكشف عن خبايا هذا الكتاب وكنوزه ، وإستكناه وجوه الاعجاز البياني في ظلال آياته ، إذ لا شوائب في لغة القرآن وألفاظه ، ولا معاناة في تحسس جماله العام ، والجهد الكبير المتواصل كفيل بالوصول إلى الأمثلة النادرة ، ففيها وحدها يتقوم الأصل البلاغي الموروث ، بعد أن كان الطبع السليم عند العرب يكشف عن هذا الملحظ بذائقته الخالصة ، وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الأسلوب النفسي لمكافحة الجريمة في
القرآن الكريم
   ألقي في المؤتمر العلمي الرابع المنعقد في كلية الفقه في النجف بشعار « دور العقيدة والتشريع الاسلامي في مكافحة الجريمة بتأريخ 17 ـ 18 مايس 1989 ، ونشر في وقائع مؤتمر اعجاز القرآن نيسان 1990 / بغداد » .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 63 _
الاسلوب النفسي لمكافحة الجريمة في القرآن :
   الجريمة ما يقترفه الجاني من جرم في حق نفسه أو أسرته أو مجتمعه ، أو وطنه أو قومه ، قال الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت : 175 هـ ) : فلان له جريمة ، أي : جرم ، وهو مصدر الجارم الذي يجرم على نفسه وقومه شراً ، والجرم الذنب ، وفعله الاجرام ، والمجرم المذنب ، والجارم : الجاني (1) وكذا في لسان العرب ، فالجريمة هي الجرم مصدر الجارم ، ويأتي بما أورد الخليل لا يزيد عليه (2) .
   وقد وردت الجريمة ـ مادة ـ في القرآن الكريم أكثر من ستين مرة ، ولم ترد بلفظها ولا مرة واحدة (3) ، وردت الألفاظ الآتية : الاجرام ، أجرمنا ، أجرموا ، تجرمون ، مجرمون ، مجرمين ، مجرميها ، من هذه المادة للدلالة على اسم المصدر : الجريمة ، في هذه الالفاظ عرض القرآن الكريم لسيماء المجرمين ، وأوصافهم ، وحالاتهم وأعمالهم ، وحسراتهم ، ومفارقاتهم ، وصورهم ، وانذارهم ، وتحذيرهم ، وارشادهم عن غيهم ، ووازنهم بسواهم من الصالحين والمسالمين والبررة .

--------------------
(1) الخليل ، العين : 6 / 118 ـ 119 .
(2) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : 14 / 375 .
(3) ظ : محمد فؤاد عبد الباقي ، المعجم المفهرس لالفاظ القرآن الكريم : مادة جرم .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 64 _
   هذا الحشد الهائل من المفردات يتسع لأكثر من بحث موضوعي ، وهنا نستطيع أن نلمس فيه صورة متميزة أخاذة للاسلوب النفسي الذي اعتمده القرآن العظيم لمكافحة الجريمة من خلال التأثر والتأثير في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والاصلاح .
   الاجرام كما يصوره لنا القرآن الكريم ذو ظاهرتين :
الأولى : الاجرام الفردي وهو الذي يتحدث به عن المجرم ذاته ، ويراد به كل جنس المجرم أنّى كان جرمه ، ويمثله قوله تعالى :
أ ـ ( يُبَصَّرُونَهُم يَوَدَّ المُجرِمُ لَو يَفتَدِى مِن عَذَابِ يَومِئِذٍ بَبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأتِ رَبَّهُ مُجرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحيَى * ) (2) .
   وقد يبرز الاجرام الفردي في هذا الملحظ مزعوماً ، دون جريمة كقوله تعالى : ( قُل إِنِ افتَرَيتُهُ فَعَلَىَّ إِجرَامِي وَأَنَا بَرِيءُُ مِّمَّا تُجرِمُونَ ) (3) .
   فليس هناك افتراء ، وليس هناك اجرام ، ولو ثبت الافتراء افتراضاً لتحقق الاجرام ، ولو تحقق الاجرام ، فلا تؤخذون بجرمي ولا أؤخذ بجرمكم ، وفيه تأكيد على اجرام الكافرين فيما يبدو .
الظاهرة الثانية : الاجرام الجماعي ، وهو الذي يتحدث به القرآن عن الجماعات المجرمة في مقارفتها الجريمة ومعايشتها ، ويمثله قوله تعالى :
أ ـ ( سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجرَمُوا صَغَارٌ عِندَ آللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمكُرُونَ ) (4) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ أَجرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضحَكُونَ * ) (5) .
جـ ـ ( وَكَذَلِكَ جَعَلنَا فِي كُلِّ قَريَةٍ أَكَابِرَ مُجرِمِيهَا لِيَمكُرُوا فِيهَا ) (6) .

--------------------
(1) المعارج : 16 .
(2) طه : 74 .
(3) هود : 35 .
(4) الانعام : 124 .
(5) المطففين : 29 .
(6) الانعام : 123 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 65 _
   بعد تشخيص هاتين الظاهرتين نجد القرآن متحدياً عن سمات المجرمين وأوصافهم في كل من النشأتين الحياة الأولى ، والحياة الآخرة ، وتبدأ مشخصات الجريمة في القرآن بالقتل المتعمد ، وبقطع الطريق ، وبالسرقة ، وبالزنا ، وكبائر المحرمات ، وأحاول فيما يلي القاء الضوء على بعض هذه المفردات ، ومعالجتها في القرآن نفسياً ، دون الدخول في التفصيلات المضنية .
1 ـ القتل : يعتبر القتل من أبشع الجرائم في القوانين السماوية ، وهو كذلك في القوانين الوضعية ، وقد حدد الله تعالى هذا المعلم بأسبابه ودوافعه ونتائجه ، وهو نوعان : قتل العمد ، وقتل الخطأ ، ولهما في الشريعة الاسلامية حدود في القصاص والديات ، ولا يتعلق حديثنا لمثل هذه الحدود وإنما بالمشخصات الجرمية فحسب .
أ ـ قال تعالى : ( وَلاَ تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِ وَمَن قُتِلَ مَظلُومًا فَقَد جَعَلنَا لِوَلِيّهِ سُلطَنًا فَلاَ يُسرِف فِي القَتلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً * ) (1) .

   فقد حددت هذه الآية عدة معالم لحالة القتل :
الأولى : عدم جواز قتل النفس التي حرم الله الا بالحق .
الثانية : من قتل مظلوماً فلوليه الحق بالقصاص .
الثالثة : الاكتفاء في المقاصة الشرعية عن الاسراف .
   وقد كرّر تعالى الملحظ الأولى في آية أخرى فقال : ( وَلاَ تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَعقِلُونَ ) (2) .
ب ـ وفيما اقتص الله تعالى من خير ابني آدم حددت معالم آخرى لجواز القتل وحرمته مع الارشاد الموحي ، قال تعالى : ( مِن أَجلِ ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَاءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفسًا بِغَيرِ نفسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأَرضِ فَكأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحيَا آلنَّاسَ جَمِيعًا ) (3) .

--------------------
(1) الاسراء : 33 .
(2) الأنعام : 151 .
(3) المائدة : 32 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 66 _
   وتحدد استنباطات الفقهاء ان القتل يجب في مواضع الكفر بعد الايمان على تفصيل به في مسألة الارتداد ، والزنا بعد الاحصان ، والفساد في الأرض كالعصابات المسلحة ، وقطاع الطرق ، وفي حالة القصاص ، والأول والثاني مستفادان من السنة الشريفة ، والثالث والرابع من النص القرآني السابق ، وقد عالج القرآن ظاهرة القتل المتعمد نفسيّاً في عدة ملامح تحذيرية وترغيبية وإصلاحية .

أولاً : حذر القرآن الكريم من قتل الأولاد خشية الفقر بأن ربط الرزق بالله ، فنها عن القتل لهذا الملحظ فقال في آيتين :
أ ـ ( وَلاَ تَقتُلُوا أَولَدَكُمُ مِّن إِملاَقٍ نَّحنُ نرزُقُكُم وَإِيَّاهُم ) (1) .
ب ـ ( وَلاَ تَقتُلُوا أَولَدَكُم خَشيَةَ إِملاَقٍ نَّحنُ نَرزُقُهُم وَإِيَّاكُم ) (2) .
   ويلاحظ هنا الذوق البلاغي في القرآن إذ استعمل في آية الأنعام ( من املاق ) وفي آية الاسراء ( خشية املاق ) وفي الأولى قدم ضمير الخطاب ( نرزقكم ) على ضمير الغائب ( اياهم ) وفي الثانية عكس الامر فاستعمل مكان المخاطب الغائب ( نرزقهم ) ومكان الغائب المخاطب ( اياكم ) وهو ملحظ دقيق تفصيله في غير هذا البحث .

ثانياً : الانكار الشديد بصيغة الاستفهام ، قال تعالى : ( وَإِذَا المَوءُدَةُ سُئِلَت * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت * ) (3) .

ثالثاً : الوعيد بالخلود في النار ، وغضب الله تعالى ولعنه وهو أشد ، وإعداد العذاب العظيم وهو أقطع ، ويمثل هذا الاتجاه قوله تعالى : ( وَمَن يَقتُل مُؤمِنًا مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَلِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً * ) (4) .

--------------------
(1) الأنعام : 151 .
(2) الاسراء : 31 .
(3) التكوير : 8 ـ 9 .
(4) النساء : 93 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 67 _
رابعاً : الثناء المطلق والوعد الجميل مع الوعيد باعتبار الذين يتصفون بعدم القتل من عباد الرحمن ، قال تعالى في صفتهم : ( وَالَّذِينَ لاَ يَدعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا ءَاخَرَ وَلاَ يَقتُلُونَ آلنَّفسَ الَّتِي حَرَمَ آللهُ إِلاَّ بِالحَقِ وَلاَ يَزنُونَ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ يَلقَ أَثَامًا * ) (1) .

خامساً : التبكيت والتسفيه والخسران فيما قال تعالى : ( قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ * ) (2) ، وهكذا نجد القرآن العظيم قد استقطب مختلف الاساليب لدرء جريمة القتل بين الوعد والوعيد وتهيأة المناخ النفسي ليطمئن المجتمع وتصان الأرواح .
2 ـ السرقة : لقد حدد القرآن حكم السرقة ؛ واعتبرها من الجرائم التي يعاقب عليها بقطع اليد بنص قوله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِما كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَآللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * ) (3) .
   هذا الحكم له حدود وله قيود في تعيّن مبلغ السرقة ، وهوية السارق ، ومكان القطع ، وللفقهاء فيه كلام طويل ، وكذلك الحال في نوعية السرقة غصباً أو سلباً أو أغار سراً أو علانية ، لكن المهم هو وقع الحكم على الاسماع وشدته لدى التنفيذ ، وهذا ما دفع بحملة من الأوربيين والمستشرقين إلى تصوير الاسلام بأنه دين وحشي ، وليس الأمر كذلك ، لأن الظروف المعيشية التي سخرها الله لعباده ، هي أكبر وأكثر من ظروف الاعتداء على أموال الآخرين ، ولأن الامانة سر من أسرار الخليقة ، يعود الانسان بدونها متردياً للحضيض الاوهد ، ويحضرني في ردّ هذه الشبهة ، ما أبانه أبو العلاء المعري ، متسائلاً عن حكمة قطع اليد بقوله :

يد بخمس مئين عسجد iiفديت      ما بالها قطعت في ربع دينار
   فأجابه السيد المرتضى علم الهدى ( ت : 436 هـ ) :
عـز الامانة أغلاها وأرخصها      ذل الخيانة فأنظر حكمة الباري
--------------------
(1) الفرقان : 68 .
(2) الأنعام : 14 .
(3) المائدة : 38 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 68 _
3 ـ الزنا ، وهو جريمة يقاربها من لا عائلة له يحافظ على شرفها ، ولا زوجة يصون حرمتها ، ولا بنت يغار عليها ، ولا أخت يثأر لكرامتها لأن الزنا دين كما يقول العرب و « كما تدين تدان » ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى في الزواج غنى عن هذه الجريمة الخلقية في أمراضها وأضرارها ونتائجها ، قال تعالى : ( وَلاَ تَقرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * ) (1) .
   وقد عالج القرآن هذه الظاهرة عملياً بالطرق الشرعية المسنونة ، وشدد عليها عقاباً في البكر فقال تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجلَدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنهُمَا مِائَةَ جَلدَةٍ وَلاَ تَأخُذكُم بِهِمَا رَأفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليَومِ الأَخِرِ وَليَشهَد عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤمِنِينَ * ) (2) .
   ثم هز القرآن الكريم الحمية والغيرة والكرامة ، وأنه ليربأ بالنفس الانسانية عن هذا المسلك الوخيم فقال تعالى : ( الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَ زَانِيَةً أَو مُشرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكَحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَو مُشرِكُُ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤمِنِينَ * ) (3) .
   لهذا كان قذف المحصنات والتشهير بالنساء البريئات من المحرمات التي يعاقب عليها الله تعالى ، وانظر إلى قوله : ( وَالَّذِينَ يَرمُونَ المُحصَانَتِ ثُمَّ لَم يَأتُوا بِأَربَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجلِدوهُم ثَمَانِينَ جَلدَةً وَلاَ تَقبَلُوا لَهُم شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَسِقُونَ * ) (4) .

--------------------
(1) الاسراء : 32 .
(2) النور : 2 .
(3) النور : 3 .
(4) النور : 4 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 69 _
   ولنبتعد قليلاً عن هذا المناخ إلى عظمة قوله تعالى في صد هذا المناخ : ( وَمِن ءَايَتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِتَسكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَّوَدَّةً وَرَحمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ * ) (1) .
   اثرى الهدوء النفسي والاطمئنان الروحي مهيئاً بالزنا وبالمحرمات الاخرى كاللواط والسحاق والعادة السرية ، إنها لموبقات حقاً ، ( وَلاَ تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلَى مَا مَتْعَنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ آلحَيَاةِ الدَّنْيَا ) (2) .
   ألا تنظر إلى قوله تعالى وهو يرغب بنعيم الجنة في ملذاتها الحسية : ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَلِدُونَ ) (3) ، وإلى قوله تعالى : ( وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) (4) .
   إنني أدعو الشباب المثقف إلى الزواج بسن مبكرة من أجل مكافحة جريمة الزنا ، فالزواج المبكر سنّة سار عليها سلفنا الصالح ، وأدعو الآباء والامهات إلى التخفيف من غلاء المهور وشروط الزواج ، فالمسلم كفء المسلمة ، قال تعالى : ( وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُم إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَاللهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ * ) (5) ، والزواج حاجة يحتاج إليها الشباب بخاصة كالاحتياج إلى الاكل والشرب بالضبط ، ولا حياء في الدين (6) .

--------------------
(1) الروم : 21 .
(2) طه : 131 .
(3) البقرة : 25 .
(4) آل عمران : 15 .
(5) النور : 32 .
(6) ظ : للتفصيل في الحث على الزواج ، عز الدين بحر العلوم : الزواج في القرآن والسنة .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 70 _
4 ـ كبائر المحرمات : وهي عبارة عن المحرمات التي ذكرها الكتاب العزيز ونص عليها علماء التشريع الاسلامي مما يعتبر الوقوع فيها منافياً لعدالة المسلم ووصفه بالفسق حيناً ، وبالكفر حيناً آخر ، ولنا في صدد عدها ، فمنها : عقوق الوالدين ، أكل مال اليتيم ، أكل الربا ، شهادة الزور ، كتمان الشهادة ، شرب الخمر ، ترك ما فرض الله تعمداً ، ما تقدم من قتل النفس المحترمة والزنا والسرقة ، قطيعة الرحم ، الكذب ، أكل الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل به لغير الله ، والقمار ، وأكل السحت ، والرشوة ، والبخس في المكيال والميزان ، والغيبة ، والنميمة والبهتان ، وغش المسلمين ، وأمثال ذلك مما يعتبره القرآن جريمة يعاقب عليها في الدنيا أو الاخرة ، وهنا نلقي نظرة فاحصة لسبيل مكافحة الجرائم بتلميح موجز يتعلق بإصلاح المجتمع والنفس الانسانية والعودة بها إلى الفطرة الخالصة النقية من كل وضر وشائبة وذلك أننا في كثير من الدول النامية نعيش أزمة أخلاقية تأثرت بمفاهيم الغرب غير الدقيقة ، هذه المفاهيم هي التي تؤدي إلى الجريمة ، فالخروج عن التقاليد العربية الاصيلة ، والابتعاد عن واقع الرسالة الاسلامية المقدسة ، والتهور ضد الاعراف الانسانية النبيلة كل أولئك مما يوقع في هذه الجرائم آنفة الذكر ، الولد مثلاً لا يعرف قيمة والديه والطالب لا يقدر جهود مربيه ، والصديق يعامل صديقه بالاثرة لا الايثار والاخ يضرب صفحاً عن أخيه ، والجار يطوي كشحاً عن جاره ، والكذب والبهتان والنميمة ديدن الكثيرين ، وأفضل الناس من شغلته عيوبه عن عيوب الآخرين فلسنا معصومين ، والتفاهم في لغة المحبة والاخوة الصادقة عاد ضرباً من الهذيان ، وحب لأخيك ما تحب لنفسك ليست من أخلاقنا ، والكلمة الطيبة صدقة نسخت من معجمات الحديث الشريف و ( وَتَعَاونُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ ) (1) كأنها ليست من كتاب الله .
   وقوله تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (2) لا نجد مفهوماً لها في تعاملنا مع الناس .

--------------------
(1) المائدة : 2 .
(2) فصلت : 34 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 71 _
وقوله تعالى : ( فَبِمَا رَحمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضُّوا مِن حَوْلِكَ ) (1) ، كأنه ليس من أخلاق رسولنا العربي الامين .
   حتى عاد التواضع ضعة واللين ضعفاً ، والاخلاق تملقاً ، والحديث ثرثرة والادب عدم اتزان ، أن درء المفاهيم الخاطئة ، وهذه المتخلفات الذهينية ، هو الذي أن نحارب الجريمة ، ونكافح انتشارها والا فنحن في عداد المجرمين ( إِلاَّ أَصْحَابَ اليَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ المُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * ) (2) .
   قال الزمخشري ( ت : 538 هـ ) : « ما سلككم في سقر ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنما حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ، فيقولون ، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه » (3) .
   وإذا لم يكافح كل منا الجريمة من موقعه ، والانانية الذاتية في داخله ، والقوقعة على النفس ، كان ما قدمناه كلاماً فارغاً لا يسمن ولا يغني من جوع ، ومما توفيقي إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو حسبنا ، ونعم الوكيل .


--------------------
((1) آل عمران : 159 .
(2) المدّثر : 39 ـ 42 .
(3) الزمخشري ، الكشاف : 1874 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 72 _
تحريم الخمر في القرآن الكريم :
   ألقي في المؤتمر الطبي المنعقد في القاعة الكبرى لجامعة الكوفة بشعار « الخمرة وأضرارها الاجتماعية والصحية » في 28 شعبان 1418 هـ = 29 / 12 / 1997 وقد نظمت المؤتمر نقابة الأطباء بالتعاون مع كلية الطب في جامعة الكوفة في النجف الأشرف .
   الخمر لغةً : ما أسكر من عصير العنب لأنها خامرت العقل .
   قال ابن الاعرابي : وسميت الخمر خمراً لأنها تركت فاختمرت ، وإختمارها تغير ريحها .
   والخمر : ما خمر العقل ، وهو المسكر من الشراب ، وهي : خمرة وخمر وخمور بزنةِ : تمرة وتمر وتمور (1) .
   والعرب تسمي العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه ، فالتسمية مجازية ، وعليه حمل قوله تعالى : ( إِنِّي أَراَنِي أَعصِرُ خَمراً ) (2) ، فهو يعصر العنب الذي سيصير خمراً ، والخمرة محرمة شرعاً ، وحرمتها ثابتة تشريعاً في نصوص قرآنية غير قابلة للتأويل ، ومنصوص عليها ، روائياً في أحاديث غير خاضعة للاجتهاد ، فلا إجتهاد مقابل النص .
   ليس لنا بعد هذا أن نبيح ما حرّم الله ، وليس لنا أيضاً أن نحرم ما أباح الله ، سواءً أكان ذلك صادراً عن الله في كتابه ، أو عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في سنته ، أو عن الائمة الطاهرين في صحاح ما روي عنهم ، كل أولئك لما ورد أن : حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة ، « متّفقٌ عليه » .

--------------------
(1) ابن منظور ، لسان العرب : 5 / 339 / مادة : خمر .
(2) يوسف : 36 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 73 _
   هذا التحديد الصارم في المنظور لأحكام الشريعة بعامة ، له منطلق واحد ، واعتبار واحد : إنه قانون السماء الذي لا يصح التحكم في ثوابته المطلقة حساً وعقلاً وتجربة وشرعاً وعرفاً ، ذلك أن قانون السماء مصدر غيبي عتيد لا يخضع للعلم التجريبي ، ولا يقوم على أسس الدساتير الفيزياوية والرياضية ، ولا يكون نتيجة للفرز المختبري ، ولا يصح حيثية للاختيار البشري ، كما هو القانون الوضعي من جهة ، والكشف العلمي من جهة أخرى ، لأن الأنظمة السماوية لها منظورها الخاص الصادر من وراء الغيب ، وطبيعتها الملكوتية النازلة بتعليمات الوحي وإذا كان الامر كذلك ، وهو كذلك فليس لنا أن نقول : لم ؟ وكيف ؟ ولو ؟ فهذه اعتبارات أرضية لا ترتبط بالبعد الآلهي الذي قدّر فهدى .
   وليس للانسان المحدود التعقل والتفكير والاستنتاج أن يتدخل في شؤون ذلك النظام الدقيق الذي تديرهُ القوة الغيبية المدبرة ، لأنه عاجز عن تدبير نفسه إلا باذن من الله مرتبط بالإساءة ، فكيف به لهذا العالم الفسيح الهائل ، في هذا الضوء من الاستقرار يمكننا التحدث عن تحريم الخمر في القرآن الكريم ضمن نصوصه التي لا تقبل الردّ أو الاجتهاد لأنها نصوص مقدسة أملاها الوحي من كلام الله على رسوله الأمين .
   ( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المَنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * ) (1) ، ويتكفل البحث في معالجة هذا الموضوع إنطلاقاً من تلك النصوص بحسب أسبقيتها في النزول ـ مكيّها ومدنيّها ـ لنصل إلى رؤية معاصرة تتولى رعاية هذا الملحظ الجدير بالأهمية .

أولاً : الذي يبدو للبحث أن أول ما نزل في الموضوع : قوله تعالى : ( قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثمَ وَالبَغىَ بِغَيرِ الحَقِّ ) (2) .

--------------------
(1) الشعراء : 192 ـ 195 .
(2) الأعراف : 33 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 74 _
   والفواحش في تصوّر أولي هي تلك المعاصي الكبيرة التي يبالغ في سَوءَتِها إلى درجة التشنيع ، والأثم هو الذنب الذي يورث المرء هواناً وإنحداراً عن الاسراع في تحصيل الثواب . قال الراغب ( ت : 502 هـ ) : « الاثم اسم للأفعال المبطئة عن الثواب » (1) ، هذا في معناه العام ، ولكنه ، قد يخصص بالخمر وحده ، وذلك لاشتهار الخمر عند العرب وفي الشرع باسم الإثم .
   ففي الوسائل : عن علي بن يقطين عن الامام موسى بن جعفر عليه السلام ، وهو يتحدث عن الآية أعلاه ، قال : « وأما الاثم فإنها الخمر بعينها » (2) ، قال أبو علي الطبرسي ( ت : 548 هـ ) : « والأثم : قيل هو الذنوب والمعاصي عن الجبائي ، وقيل : الاثم ما دون الحد عن الفراء ، وقيل : الاثم الخمر ، وأنشد الأخفش :
شربتُ الأثمَ حتى ضلَّ عقلي      كَـذاكَ  الأثمُ يَذهبً iiبالعقول
وقال الآخر :
نـهـانا رسـول الله أن نـقرب iiالـخفا      وأن نشربَ الأثم الذي يوجب الوزرا (3)
   وقد ظهر مما تقدم : أن الاثم لا يخلو من معنيين ، فإما أن يكون هو المعاصي والذنوب ، والخمر أحد مفرداته ، وأبرز مصاديقه وإما أن يكون هو الخمر بعينها كما تسنده الرواية ، ويؤيده لغة الشاهدان الشعريان المتقدمان ، وعلى كلا المذهبين في المعنى ، فالخمر محرمة بهذه الآية ، إما لكونها أحد مصاديق الاثم ، وإما لأنها الاثم بذاته ، وإما بهما معاً كما هو واضح .

ثانياً : وفي مجال إحصاء ما يتخذه الناس من ثمرات النخيل والاعناب قال تعالى : ( وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعنَبِ تَتَّخِذُونَ مِنهُ سَكَراً وَرِزقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لِقَومٍ يَعقِلُونَ * ) (4) .

--------------------
(1) الراغب ، المفردات في غريب القرآن : 10 .
(2) الحر العاملي ، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة : 17 / 241 .
(3) الطبرسي ، مجمع البيان : 2 / 414 .
(4) النحل : 67 .

مَجازُ القُرآنِ خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة _ 75 _
   قال الراغب : « والسُكرُ حالة تعرض بين المرء وعقله ، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب . . . والسَكَر ـ بفتحتين ـ اسم لما يكون منه السكر » (1) ، وفي الآية ـ وهي مكية أيضاً كسابقتها ـ تفصيل لما يتّخذه الناس بعامة ـ دون الخواص ـ من النخيل والأعناب ، وذلك على نوعين : ما هو مسكر كالخمر ومشتقاتها ، وما هو من الرزق الحسن كالتمر والخل والزبيب والدبس وسواها .
   وتقييد الرزق بكونه حسناً ، إشارة دقيقة يلمحها البلاغي في تحقيقه ، والمتشرع في إستنباطه ، إلى أن هناك ما ليس بحسن وهو السَكَر ، فكأن هناك رزقين رزقاً طيباً وصف بالحسن ، وهو المباح من ثمرات النخيل والأعناب كالتمر والزبيب وسواهما ، ورزقاً غير طيب ، وهو المحرم مما تتخذ منه المسكرات ، فكان بين الاثنين مقابلة في البين ، وليس في ذلك أدنى إشارة إلى تحليل المسكرات .
   قال الطباطبائي في الميزان « ولا دلة في الآية على إباحة استعمال المسكر ، ولا على تحسين استعماله ، إن لم تدل على نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن ، وإنما الآية تعد ما ينتفعون به من ثمرات النخيل والأعناب ، وهي مكية بخاطب المشركين ، وتدعوهم إلى التوحيد » (2) .

ثالثاً : وفي عملية لفرز مضار الخمر عن منافعها المتصورة قال تعالى : ( يَسئَلُونَكَ عَن الخَمرِ وَالمَيسَرِ قُلْ فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَّفعِهِمَا ) (3) .
   فبيّن سبحانه وتعالى أن في الخمر والميسر إثماً كبيراً ، والإثم هو الوزر العظيم ، وفيهما أيضاً « منافع للناس » بما يتخيلونه نفعاً من أثمانها في بيعها وشرائها ، وما يتوهمونه من النشوة في شرب الخمر ومعاقرتها ، وما يأخذونه من السحت في لعب القمار ، وما يجدونه من الغلبة حيناً فيها ، وما يتمتعون به من اللهو واللعب والعربدة في الاجتماع عليهما .

--------------------
(1) الراغب ، المفردات في غريب القرآن : 236 .
(2) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 12 / 290 .
(3) البقرة : 219 .