الدكتور
محمد حسين علي الصغير
أستاذ الدراسات القرآنية في جامعة الكوفة

دار المؤرخ العربي
بيروت ـ لبنان




المقدمة :

   يتبوأ القرآن العظيم مقعد صدقٍ في الضمائر المؤمنة الحية ، تستلهم هدايته ، وتستطلع إفاضته ، وتستوحي إشارته .
   والقرآن نص إلهي تفرد بجمال الأسلوب ، ودقة العبارة ، وعمق العطاء ، وهو كتاب الله الذي نصبه مناراً للإعجاز في شتى عوالمه التشريعية والبلاغية والأسلوبية والتأريخية وسواها ، فليس هناك غرابة أن يجتمع فيه تأصيل الغرض الديني بإعتباره كتاب العربية الأكبر .
   إنطوت أربعة عشر قرناً أو تزيد على ميلاد هذا الكتاب المجيد ، وما زال جديداً في عطائه ، وجديداً في أفكاره ، وجديداً في ملامحه البيانية الفذّة ، تحدى الله به الأمم والشعوب والقبائل فوجموا أمام بلاغته العربية ، ونازل به عالم العلماء والعباقرة فآنحنت الرؤوس ، وشخصت الأبصار ، وعنت العقول ، وطاول به النصوص الأدبية والتشريعية فآنهزمت بين يديه ، كل هذا وفوق هذا مما إمتاز به القرآن الكريم ، فلا غرابة إن حديث المشاعر الإنسانية على مدارسته ، ونصب الفكر البشري في إستكناهه ، فما زال الزمان والتقدم الحضاري معاً يوليان هذا المنبع الثّر أهمية خاصة ، فهو الرافد الذي واكب حياة الأجيال ، وهو الشعاع الذي رافق مسيرة الحضارة .
   وقد قدرّ لي أن أرافق طبقة مختارة في الجامعات والمجامع العلمية ، والجماهير المثقفة ، وأرى الجميع يتطلعون إلى شذرات من معارف القرآن ، بل ويسألون بألحاف وإلحاح عن طائفة كبيرة من خصائصه وتعليماته ، ويتشوفون شوقاً إلى الإجابة المعاصرة بعيداً عن الأفق التقليدي المتزمت ، وكنت مغتبط النفس لهذا التوجه ، مطمئن الضمير لصحة المنطلق ، أجيل فكراً نابضاً في إستقراء المجهول ، وأقدم عرضاً متواضعاً في ضوء ما أحسن ، ومن خلال هذه المناظرات والطرح المعاصر لفكر القرآن ، تولدت جملة من الأفكار الصالحة التي يفيد منها الراهب في صومعته ، والمفكّر في مكتبته ، والمثقف في جامعته ، والجمهور في حدود معرفته ، وإستحضرت لذلك المؤتمرات العلمية والندوات المتخصصة ، فكانت ميداناً متسعاً لهذه الأفكار تقابلها بالرضا حيناً ، وبالمناقشة الحرّة حيناً آخر ، وقد تسجل بأجهزة الاعلام ، وقد تصوّر كاملة بأشرطة الفيديو ، فكانت هذا الكتاب .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 2 _

   هذا الكتاب عبارة عن محاضرات علمية في نظرات معاصرة للقرآن الكريم ، ألقيت في المؤتمرات والندوات المتخصصة ، وهي خاضعة للردّ والقبول والنقاش ، ولكنها بأية حال صورة عما أفهم ، وأطروحة لما أؤمن به ، ليس فيها تنطعّ المتزمتين ، ولا إغلاق المتفلسفين ، جاءت كما هي عليه تعبيراً واضحاً مفهوماً بمنأى عن الالتواء والتعنت ، وكانت حصة هذا الكتاب منها سبع محاضرات ، ودّونت بعد عنوانها مكان وزمان إلغائها ، وهي كالآتي :

1 ـ ملامح الإعجاز في القرآن العظيم .
2 ـ البعد العالمي في القرآن .
3 ـ مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم .
4 ـ أثر القرآن الكريم في الحفاظ على أصالة اللغة العربية .
5 ـ الأسلوب النفسي لمكافحة الجريمة في القرآن الكريم .
6 ـ تحريم الخمر في القرآن الكريم .
7 ـ مسيرة الكائن الإنساني ورسالة السماء في القرآن العظيم .

   وقد أسميتها مجتمعة « نظرات معاصرة في القرآن الكريم » أرجو أن يلتمس بها القارئ شيئاً جديداً ، وأن يتطلع لها الشباب بأفق متفتح ، وأن يفيد منها الباحث الموضوعي ، عسى أن تكون لنا ذخراً يوم الدين ، نعدّ فيه من حَمَلَة القرآن ، ونعتبر في بركته من خَدَمَتِهِ ، فيوردنا مورد الكرامة ، ويطلّ بنا على ساحة القدس ، وهذا أكبر رجائنا وأعظم أملنا ، وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم عليه توكلت ، وإليه أنيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
النجف الأشرف         
الدكتور محمد حسين علي الصغير
أستاذ في جامعة الكوفة     

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 3 _
ملامح الإعجاز في القرآن العظيم :
   ألقيت في الحرم الحيدري الشريف عند الرواق في مؤتمر الاعجاز القرآني في النجف الاشرف ليلة 23 رمضان 1410 هـ 18 نيسان 1990 بحضور وفود علماء العرب والاسلام وبحشد حافل من علماء وأدباء النجف الاشرف ، وقد حصل البحث على التقييم الأول ونشر في وقائع المؤتمر ، وأردف البحث بمحاضرة مرتجلة استمرت زهاء الساعة عن « إنسانية القرآن » ألقيت في الندوة العلمية لآل محي الدين في النجف الأشرف مساء يوم 15 رمضان 1417 هـ / الموافق 25 / 1 / 1997 م .

بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم
   الاعجاز بمفهوم بديهي : عبارة عن خرق لنواميس الكون ، وتغيير في قوانين الطبيعة ، وقلب للنظام الثابت في الموازين إلى نظام متحول جديد .
   فالثابت هو الأصل الجاري على سنن الحياة ، والمتحول هو الحالة المغايرة لأنظمة المعادلات الكونية المتكافئة ، هناك إذن مَعْلَمات : معلم طبيعي بسيط ، ومعلم خارق معقد ، والمعلم الطبيعي لا تجد عنه متحولاً ، فهو سنة الله في الإبداع والمعلم الخارق ما تجد فيه قلباً لتك السنن ، ومجابهة لمجريات الأحداث الرتيبة ، بأخرى إعجازية ، فزوجية الكائنات هي الأصل في بعث حقائق الأشياء ، والطريق إلى تسيير حياة الكائنات في العوالم المرئية والمسموعة والمدركة والمتخيلة بدليل قوله تعالى : ( سُبْحاَنَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ * ) (1) .
   وفي هذا الضوء يكون الايجاد الطبيعي للإنسان منسجماً مع نظام الزوجية العام في حالة متأصلة إعتيادية ، ويكون الأصل التكويني للبشرية في خلق آدم من التراب دون الطريق الطبيعي في التناسل هو الحالة الفريدة ، وهي الاعجاز ، ويحمل عليها كلما قابل العادة ، ولم يخضع إلى التجربة كما في إيجاد عيسى عليه السلام بما مثله القرآن : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (2) .

--------------------
(1) يس : 36 .
(2) آل عمران : 59 .


نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 4 _
   وليس السبق في العلم إعجاز بل هو من مفردات إكتشاف المجهول ، وتحقيق الزيادة في أولية الاستقراء والاستنباط ، إذ قد يتوصل الكثيرون إلى ذلك فيما بعد بنظام أفضل ، ومواصفات متكاملة ، فيكون الرائد في الاكتشاف أو الاختراع قد سبق الآخرين وحقق ما لم يحققوه دون إعجاز كما هي الحال في التقنيات الحديثة ؛ وإنما الإعجاز هي التفرد بالشيء في محور إلهي على يد الأنبياء بين يدي رسالاتهم على سبيل التحدي ، فالسبق إلى الاكتشاف كيفية مشتركة بين فرد أو جماعات على نحو الإبتكار ، لا على سبيل التحدي ، والمعجزة مختصة بالنبي على سبيله ، فالمبتكر ـ إذن ـ يحقق سبقاً علمياً ، والمتحدي يحقق إعجازاً إلهياً ، وفرق بين الأمرين .
   والمعجزة الإلهية في هذا الملحظ على نوعين : وقتية ودائمية ، وجميع معاجز الأنبياء وقتية ـ كما يدل عليه الاستقراء ـ ذهبت بذهابهم ، إلا معجزة محمد وهي القرآن فإنها باقية ما بقي الدهر ؛ على أن النبي قد شارك سائر الأنبياء في معاجزهم الموقوتة ، فكان له انشقاق القمر وتسبيح الحصى ، وسعي الأشجار ، وشهادة الغيب . . . الخ .
   ومعجزة كل نبي شيء ورسالته شيء آخر ، فمعجزة موسى عليه السلام في العصا واليد البيضاء والآيات البينات ، ولكن رسالته هي التوراة ، ومعجزة عيسى في إبراء الاكمه والابرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى ، ولكن رسالته هي الانجيل ، إلا نبينا محمد فإن معجزته عين رسالته ، ورسالته هي معجزته ، وهما معاً القرآن (1) .
   وبراعة الإعجاز تتجلى في ملائمة قضية الإعجاز لكل نبي بما يلائم عصره ، وينسجم مع فنون جيله ، ويعزى إلى حياة قومه فيما هو طبيعي أو خارق دون تحد ، وكان الامام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) أول من نبه إلى هذه الحقيقة العالية فيما رواه ابن السكيت ( ت : 244 هـ ) قال ابن السكيت للإمام الرضا ( عليه السلام ) : « لماذا بعث الله موسى بن عمران ( عليه السلام ) بالعصا ويده البيضاء ، وآلة السحر ؟ وبعث عيسى بآلة الطب ؟ وبعث محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالكلام والخطب ؟ فقال الإمام الرضا : إن الله لما بعث موسى ( عليه السلام ) كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم ، وأن الله بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيا به الموتى ، وأبرأ الاكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت به الحجة عليهم .

--------------------
(1) ظ : مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 130 .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 5 _
   وأن الله بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنه قال : الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجة عليهم ؛ قال : فقال ابن السكيت : تالله ما رأيت مثلك قط ، فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال ( عليه السلام ) : العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه ؛ فقال ابن السكيت : هذا والله هو الجواب (1) ، ولم يكن الأنبياء ليستعملوا الطريق الطبيعي في المعجز ، وإنما كانوا يتحدون هذا الطريق ، فموسى تحدى سحر السحرة ( وَأُلقِىَ السَّحَرَةُ ساَجِدِينَ * قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ العَلَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * ) (2) فكان إعترافهم بصحة دعوى موسى دليلاً على إعجازه ، لأن ما جاء به ليس من سنخ ما يعرفون .
   وعيسى لم يستعمل مضادات الأمراض ، وإعطاء الدواء ، فيحقق سبقاً طبياً ، وإنما كان يبرئ الاكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله دون وسائل الأطباء والرسول الأعظم لم يصك العرب ببلاغة القرآن ، إلا لأنهم أئمة البلاغة وأرباب البيان ، ولكنه من الله : ( وَلَو تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِآلْيَمِيِنِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ * ) (3) .
   فكله من عند الله ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وُحْىٌ يُوحَى * ) (4) قال الجاحظ ( ت : 255 هـ ) « ولأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة ـ لتبين له في نظامها ومخرجها ، وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها ، ولو تجدي بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها » (5) ، فعبارة القرآن إذن من سنخ ما يعرفون ويدركون ، ولكنها ليس من جنس ما يحسنون لا كمّاً ولا كيفاً ، فطلب إليهم الأتيان بمثله فما أستطاعوا ، وتنزل على عشر سورة فما أطاقوا ، فتحداهم بسورة واحدة فقال : ( وَإِن كُنتُم في رَيبٍ مّمَّا نَزَّلنَا عَلَى عَبدِنَا فَأتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثلِهِ وَآدعُوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ آللهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ *) (6) وقد دل الاستقراء أن أقصر سور القرآن هي الكوثر بسم الله الرحمن الرحيم : ( إِنَّآ أَعْطَيْناَكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ * ) (7) .

--------------------
(1) الكليني ، الأصول من الكافي : 1 / 24 .
(2) الأعراف : 120 ـ 122 .
(3) الحاقة : 44 ـ 46 .
(4) النجم : 3 ـ 4 .
(5) الجاحظ ، رسائل الجاحظ ، تحقيق السندوبي : 120 .
(6) البقرة : 23 .
(7) الكوثر : 1 ـ 3 .


نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 6 _
   فما بال الأمم لا تأتي بسطر واحد من هذا الجنس ؟ وإذا كان القرآن قد أعجز العرب ، فغير العرب أشد عجزاً لأمرين :
الأول : أن العرب هم أهل اللسان ، وقد عجزوا عن مجاراة القرآن ، فغير أهل اللسان عاجزون من باب أولى .
الثاني : أن اللغة العربية الشريفة ليست لغزاً من الألغاز ، وهي قابلة للتعلم ، وقد نبغ فيها كثير من مسلمي غير العرب ، وأتقنها حملة من المستعربين والمستشرقين حتى ترجموا القرآن إلى لغاتهم وقدموا أفضل الدراسات القرآنية ، وإنما التحدي أو يتحدى الإعجاز القرآني من كل أمة علماءها ، وعلماء الأمم يتمكنون من العربية ، فتوجه إليهم التحدي وعجزوا عن ذلك في كل زمان ومكان .
   ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأتُوا بِمِثلِ هَذَا القُرءَانِ لاَ يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعضُهُمْ لِبَعضٍ ظَهِيراً * ) (1) .
   وقد يقال بأن الله قد صرف قلوب الناس ، وحبس ألسنتهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، فيسمى ذلك إعجازاً بالصرفة ، وهو رأي المعتزلة (2) ، ولكن الرأي الأمثل ، أن الله قد يسر جميع القدرات البيانية ، ووهب مستلزمات البلاغة للناس وتحداهم فلم يتمكنوا من الأتيان بمثل لهذا القرآن ، وذلك أبلغ في الإعجاز ، فما هي وجوه هذا الإعجاز في القرآن وما هي مظاهره ؟ أحاول فيما يلي أن أضع ملخصا بأبرز وجوه الاعجاز ومظاهره على نحو الإجمال .

--------------------
(1) الإسراء : 88 .
(2) ظ : عبد الكريم الخطيب ، الاعجاز في دراسات السابقين : 176 ـ 178 .


نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 7 _
الإعجاز الغيبي :
   ويتمثل بما تحدث عنه القرآن الكريم بضرس قاطع في الأنباء عن الغيب الماضي والمستقبلي :

أ ـ عرض القرآن سيرة الأمم السالفة وجزئيات أحداثها ، وكبريات أنبائها بلهجة الجزم واليقين ، فأخبر عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وذي القرنين وأهل الكهف ، وقوم عاد وثمود ولوط وشعيب ، وجمهرة عظيمة ممن أصابهم عذاب الاستئصال بمجريات أحوالهم بما يعتبر كشفاً لأدق التفصيلات التأريخية بما لا علم لأحد به على وجه الكمال ، وهي حالة لا عهد بها للمجتمع العربي في مكة ، مما كعلهم يتهافتون على هذه الأخبار ، ويتمثلون وقائعها بالمقياس التأريخي للإفادة من عبرها وأحداثها ومواردها .

ب ـ وتحدث القرآن عن الأحداث المستقبلية بلغة التأكيد بعدة مناسبات أبرزها ، وقعة بدر ( سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ *) (1) وغلبة الروم وانتصارها فيما بعد ( الم * غُلِبَتِ الرُّومَ * فِي أَدنَى الأَرضِ وَهُم مِّن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ* ) (2) وعن فتح مكة ( لَتَدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ ءَامِنِينَ ) (3) وهزمت قريش بعليائها وجبروتها في معركة بدر الكبرى ، وانتصر الروم على الفرس بعد سنين من غلبة الفرس (4) ، ودخل النبي مكة فاتحاً ، وقد كان فتح مكة غير وارد في الحساب التخطيطي ، إذ كيف يمكن لهذا المهاجر مع طائفة قليلة من أهل بيته وأصحابه وهو ضعيف مستضعف ، أن يقتحم جبروت قريش ويغزوها في عقر دارها ، وكان ذلك دليلاً واضحاً ومنتشراً في البلاد على الاعجاز الغيبي . . .

--------------------
(1) القمر : 45 .
(2) الروم : 1 ـ 3 .
(3) الفتح : 27 .
(4) ظ : للتفصيل : الخوئي ، البيان في تفسير القرآن : 68 وما بعدها .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 8 _
الإعجاز التشريعي :
   ويتمثل بما فصله القرآن بآيات الأحكام وفقه القرآن بما لا عهد لمناخ الجزيرة بتفصيلاته الدقيقة ، فقد نظم حياة الفرد والأمة بأحكام لا مزيد على إبرامها برباط الحرية دون فوضى وبريقة الامتثال دون إستعباد ، فالأحوال الشخصية قد نظمت بأحكامها الجديدة في الزواج والطلاق والعدة والنفقة والمواريث والوصايا والحدود والديات والجروح والقصاص والديون والعقود بما لم تسبق إليه أعرق الأمم تشريعاً ، وأعمقها تفقهاً ، بل كانت مفردات حياة جديدة متأطرة باطار التطوير الإنساني ثم تكفل القرآن ببيان فروض وواجبات وطقوس منظمة ضمن الحياة اليومية كالصلاة بفرائضها ونوافلها ، وفي جملة من الشهور كالصوم والحج والعمرة ، وفي خلال السنة كالزكاة والخمس في المحاصيل والغنائم ، إن هذه الأبعاد المترامية الأطراف في التشريع لا يمكن أن يصدر تعاليمها إلا خالق هذا الكون ومنظم شؤونه ، إذ لم تعرف الحضارة البشرية هذا التفصيل الدقيق في نوعية الاحكام وجزئيتها .

الإعجاز العلمي :
   ونريد به ما أورده القرآن من نظريات وقوانين توصل إليها العلم الحديث فيما بعد في مسار الأرض وإنشطار النجوم ، وتعدد الأفلاك ، وابعاد السماوات ، وزوجية الكائنات ، دون إستعمال القرآن لقوانين الحس والتجربة والمعادلة وإنما جاء ذلك ابتداء ، وما ورد فيه كان دون سابق معرفة بشرية بالحيثيات المتناثرة فيه حتى ثبت أن القرآن لا يعارض ما يتوصل إليه العلم بل هو الأساس في ذلك فيما أفاده جملة من المتخصصين ، ولا يراد بهذا الاعجاز الاتساع الفضفاض الذي يخرج بالقرآن عن مهمته الأولى والأساسية ؛ فهو كتاب هداية وتشريع لا كتاب صناعة وتقنيات ، مع دعوته للتفكر والتدبر في بدائع السماوات والأرض (1) .

--------------------
(1) للتفصيل في الاعجاز العلمي ظ : طفطفاوي جوهري / تفسير الجواهر .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 9 _
الإعجاز الصوتي :
   ويتمثل في جزء منه في الحروف المقطعة بفواتح بعض السور القرآنية ، فهي حالة فريدة من الاستعمال وقف عندها العرب موقف المتحير ، ولا سابق عهد لهم بأصدائها الصوتية ، مما قطعوا به أن هذه الأصوات المركبة من جنس حروفهم هي نفسها التي تركب منها القرآن ولكن لا يستطيعون أن يأتوا بمثله . وهو ما أفردنا بعمل مستقل (1) .

الإعجاز العددي :
   وقد وفق الأستاذ عبد الرزاق نوفل إلى اشتعراء الإعجاز العددي في القرآن ، في مقارنات سليمة ، وموازنات حسابية دقيقة ، فقد قام بعمليات إحصائية لورود الألفاظ المتناظرة ، والمتقابلة ، والمتضادة ، والمتناقضة ، وقابلها بعضها ببعض بالعدد نفسه ، أو نصيفه ، أو شطره ، أو ما يقاربه ، مما شكل ثروة عددية تنبئ بالضرورة أن القرآن لم يستعملها صدفة ، بل بميزان ، وذلك الميزان لا يمكن أن يكون من صنع البشر ، فهو إذن من أدلة إعجازه (2) .

الإعجاز الاجتماعي :
   إن المتمرس بتأريخ الجزيرة العربية ، في بدء الرسالة الاسلامية ليبهر ـ حقاً ـ بهذا التوحيد المفاجئ ، والتغيير الاجتماعي العاجل ، والتسخير لطاقات العرب في ظل القرآن حتى جعل منهم أمة تحمل هذه الرسالة للأجيال ، فتتناسى حروبها وشحنائها ، وتضرب صفحاً عن عرقيتها وعشائريتها ، لتنتظم في ظل الاسلام وتهتدي بشعلة القرآن ، فيفتح الله على يديها شرق الأرض وغربها ، وتتسلم مقاليد الاسلام بعد الوثنية ، وأولية التوحيد بعد الإشراك وإذا بكيانها ينصهر بتعاليم القرآن فجأة ، وهو ما يحقق الاعجاز الاجتماعي في جملة التغيير الجذري للأعراف والتقاليد والمخلفات .

--------------------
(1) لتفاصيل هذه النظرية ظ : بحثنا : الصوت اللغوي في فواتح السور القرآنية .
(2) ظ : عبد الرزاق نوفل ، الاعجاز العددي في القرآن الكريم .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 10 _
الإعجاز البياني :
   ويتمثل بالتركيبة الخاصة المتميزة لألفاظ القرآن ومعانيه ، وفي مجموعة العلاقات المجازية والاستعارية والتشبيهية والكنائية والرمزية والايحائية بين المعاني والألفاظ ، وذلك السر الأكبر في إعجاز القرآن ، فالعرب أمة بيان ، ورجال بلاغة ، تطربهم الكلمة ، وتهزهم الخطبة ، ويستهويهم الشعر ، وقد وقفوا عند بلاغة القرآن باهتين بما عبر عنه الوليد ( والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر ) (1) .
   والحديث عن الاعجاز البياني مستفيض ينهض بعمل مثقل مستقل ، ويكفي في عظمته أن الإمام علياً عليه السلام من أوائل رواده في الافادة والاستفادة ، وأن ما ورد في نهج البلاغة كان إمتداداً طبيعياً للاعجاز البياني في القرآن لتأثر الامام في القرآن وهذا المنهج مدين إلى علماء الاعجاز كعلي بن عيسى الرماني ( ت : 386 ) (2) وحمد بن سليمان الخطابي ( ت : 388 ) (3) والشريف الرضي ( ت : 406 ) (4) وعبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) (5) حتى تسلمه جار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) فجعل تفسيره الكشاف مضماراً للاعجاز البياني ، وفتح فيه عمق دراسة جديدة في البلاغة القرآنية التطبيقية التي إعتمدت التسلسل المصحفي ، إذ فسر القرآن كاملاً ناظراً فيه الوجوه البيانية ، ومستلهماً المناخ الفني حتى عاد تفسيره كنزاً بيانياً لا تنتهي فرائده ، وقد تجلى فيه ما أضافه من دلالات جمالية في نظم المعاني ، وما بحثه من المعاني الثانوية في تقديم العبارة ، وعائدية الضمائر ومعنى المعنى ، وتعلق البيان بعضه ببعض (6) .

--------------------
(1) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : 19 / 72 .
(2) ظ : النكث في إعجاز القرآن .
(3) ظ : بيان القرآن .
(4) ظ : تلخيص البيان في مجازات القرآن .
(5) ظ : أسرار البلاغة ودلائل الاعجاز .
(6) ظ : المؤلف ـ المبادئ العامة لتفسير القرآن الكريم : 104 .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 11 _
   إن الحضارة الانسانية اليوم بحاجة إلى هذا المنهج في استجلاء جمال القرآن ، وإستقراء خفايا مكنوناته ، أما التعدي على مقام القرآن ووحدته الفنية بالإيغال في النزاعات التقليدية ، والاصحار بمتاهات الخصومات ، فأمر ترفضه عقلية المثقف العصري ، وتلفظه روحية البحث الموضوعي ، وحسبك في كتب الكلام ومصنفات الاحتجاج وصنوف المقالات غنية عن ذلك .
   وللتاريخ فإن صاحب هذا المنهج في القرن العشرين هو أستاذنا العلامة الشيخ أمين الخولي ( ت : 1966 م ) حينما أنيط به تدريس التفسير والأدب معاً في الجامعة المصرية ، فأتى على درس التفسير وجعله كاشفاً عن إعجاز القرآن البياني ، وأوضح منهجه بذلك في مناهج تجديد ، وترجمه بمحاضراته في أمثال القرآن (1) .
   فالقرآن كما يقول : « كتاب العربية الأكبر ، وأثرها الأدبي الأعظم ، فهو الكتاب الذي أخلد العربية ، وحمى كيانها ، وخلد معها ، فصار فخرها ، وزينة تراثها . . . إن التفسير اليوم هو : الدراسة الأدبية الصحيحة المنهج ، الكاملة المناحي ، المتسقة التوزيع ، والمقصد الأول للتفسير أدبي محض صرف » (2) .
   وإتجه لهذا المنهج كوكبة من أساتذة الجامعات في الوطن العربي غيرة منهم على القرآن وترسيخ مبادئ إعجازه ، ومن أبرزهم في هذا المضمار الدكتورة بنت الشاطيء فأصدرت الاعجاز البياني للقرآن الكريم والتفسير البياني للقرآن الكريم .

--------------------
(1) ظ : أمين الخولي ـ مناهج تجديد في التفسير والأدب والنحو + محاضرات في أمثال القرآن ـ مخطوطة في حوزة الدكتور مصطفى ناصف .
(2) أمين الخولي ـ دائرة المعارف الأسلامية ، مادة تفسير : 366 ـ 367 .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 12 _
   وهناك ملحظ مهم يتعلق بهذا المنهج ، وهو الحفاظ على سلامة اللغة العربية من التدهور والضياع فهي لغة كتاب مقدس ، والحفاظ عليها يرتبط بالحفاظ على هذا الكتاب تأريخياً ، وهذا التأريخ المشترك يمثل مظهراً اجتماعياً مركزياً متلازماً ، فالتقصير في جانب يطبع أثره على الجانب الآخر ، وقد مرت اللغة العربية بظروف وبيئات مختلفة ، خضعت معها إلى عوامل اللهجات المتباينة ، وأمتزجت بها ثقافة اللغة الأخرى ، وتطور من مفرداتها ما تطور ، وبقي ما بقي ، وهذه عوامل كان من الممكن أن تخضع اللغة معها إلى كثير من التبدل والتغيير ، وأن تتعرض مفرداتها للنسخ أو التجوز ، ومع هذا فقد بقيت هذه اللغة سليمة لم تتأثر بعوامل الأنحطاط والضعف ، ولم تتلكأ مسيرتها التأريخية بوهن أو خور ، وسبب هذا البقاء والسيرورة يرجع إلى بيان القرآن ، والدفاع عن القرآن ، وصيانة لغة القرآن ، ففي الوقت الذي تتجاوز فيه هذه اللغة موطنها الأصلي ، ويمتد سلطانها إلى أرجاء فسيحة من العالم فإنها تبقى متميزة بمناخ الصحراء لهجة ، وبطابع البداوة مصدراً ، لأنها اللغة الرسمية للقرآن ، وهو لا يتهاون في قدسية لغته ، ولا يجد عنها منصرفاً ، فارتبط وجودها بوجوده ، وإستمرار رقيّها بإستمراره ، ولم يداهمها الفناء أو الاضمحلال أو التقلب ، في حين تنطوي به الأمم ولغاتها ، وتتلاشى الشعوب وتراثها ، بينما تطوي العربية أمدها الطويل سليمة متناسقة تتسنم مدارج الخلود ، وتناطح هجمات الدهر ، ولما كان القرآن الكريم معجزة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الخالدة ، وهو مرقوم بهذه اللغة الشريفة ، فالخلود ملازم لهما رغم عادية الزمن ، وهذا أمر يدعو إلى الاطمئنان على سلامة اللغة ، وأصالة منبتها ، وهنا يتجلى أثر تيسير القرآن وفهمه بيانياً بالكشف عن الأسرار ، فهو يشد إليه الباحث شداً ، دون عسر أو عناء ، وبكل يسر وسماح .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 13 _
البعـد العالمي في القرآن :
   « ألقي البحث في الندوة المتخصصة تحت شعار « عالمية القرآن » التي أقامها قسم علوم القرآن في كلية التربية / جامعة الكوفة / النجف الأشرف بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الجامعة وذلك مساء يوم الاثنين 6 رمضان المبارك 1418 هـ = 5 / 1 / 1998 .
   ما برح القرآن العظيم يتبوأ القمة الشامخة في حياة الانسانية ، وما زالت تعليماته الهادفة تنطلق مع الانسان في مسيرته الواعية ، فهو نبع ثرٌّ من المعارف لا يغور ، وهو ألقٌ حيٌّ من الفضائل لا يخبو ، وهو يجمع إلى عمق النهج الديني أروع مظاهر النهج الفني ، فيلتقي هذان الملحظان بقدر يعجز معه فقه البشر على أن يأتي بشيء من مثله ، وكلما تقدمت الحضارة شوطاً في المعرفة والوعي أدركت في القرآن ما لا يدرك في سواه ، ذلك أنه كلام الله المنزل على نبيه المرسل .
   والمتخصصون في علوم القرآن وعوالم التأويل وحقائق التفسير أولئك وحدهم الذي يصح لهم فنياً خوض غمار هذا البحر المتلاطم الأمواج ، فيغوصون إلى أعماقه الرهيبة ملتقطين غرر جواهره ، ومكتشفين كنوزه الثمينة ومع مسيرة الاجيال المتحررة يتبلور الجديد النابض من عطاء القرآن ، ويتمحور المجهول في كشوفه الابداعية ، فتتـقاطر الأسرار الإلهية زاخرة بالمثل العليا .
   القرآن كتاب هداية وتشريع لا شك في هذا ، ولكنه كتاب استقراء لمجاهيل الكون ، وأثباج الطبيعة ، ومفاوز الفضاء ، ومسالك ما تحت الأرض ، وهو أيضاً المصدر الحقيقي الدقيق لتأريخ الديانات السماوية ، وحياة الرسل والأنبياء والشهداء والصديقين ، وهو كذلك النموذج الأرقى في استيعاب مشكلات الأزمنة المتناقضة بين السلب والايجاب ، يجد حلولها ، ويوفر علاجها .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 14 _
   هذا المنظور الرائع للقرآن يوحي بعالمية القرآن ، وهذا الفهم الرصين لمناخ القرآن يقضي بإنسانية رسالته بعيداً عن النظرة الاقليمية الضيقة ، وهذا الواقع المعاصر في تقييم القرآن هو الذي يؤكد حقيقة الصيغ العالمية في مفاهيم القرآن ، في ضوء هذا المنطلق الرحيب نقول مطمئنين : إن القرآن وإن كان عربي النص إلا أنه عالمي الدلالية ، وهو وإن إنساني الرسالة إلا أنه عربي العبارة ، وهو مع هذين الملحظين التكوينيين يبقى شامخاً بلمح من عربيته المحضة الفصحى ، لأن عربيته الخالصة يمكن فيها الكثير من معالم إعجازه بل الاعجاز البلاغي فيه هو الوجه الناصع لملامح الاعجاز المتعددة الظواهر ، وبإنضمامه إلى إعجازه التشريعي والغيبي والاجتماعي والعلمي والاحصائي والصوتي والكوني والاقناعي يترشح نظام الاعجاز الكلي في القرآن .
   ولما كان الاعجاز بهذا المستوى التكاملي في شتى المجالات كان القرآن بالمستوى العالمي في بعده الموضوعي ، والبعد العالمي في القرآن محور مستفيض من محاور البحث العلمي المتجدد ، والخوض في مشتقاته الفعلية يستدعي التفرغ إلى عمل أكاديمي متطور ينهض بمؤلف ضخم يلم شتاته ، ويجمع متفرقاته ، ويستقرئ جزئياته .

   والخطوط الأولية للموضوع قد تعطي ثمارها التوفيقية ضمن إطار أولي محدد يعنى بالتركيز على ظواهر عالمية القرآن ضمن الاشارة الموحية ، والادراك الفاحص في جملة من المحاور الآتية :
أولاً : إن عالمية الاسلام تعني بالضرورة عالمية القرآن ، وذلك أن القرآن هو رسالة الاسلام ، وهذه العالمية المبرمجة قد خطط لها القرآن نفسه بما لا يقبل الشك في كل آياته التي تشير إلى عالمية الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في رسالته للبشرية جمعاء ، قال تعالى : ( قُل يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ آللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) الأعراف / 158 ، والآية في مقام الأمر للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في إشعار الناس كافة بالقول لهم أنه رسول الله إليهم ، ومعنى هذا عالمية رسالته ، وإستقطابها شعوب الأرض ومختلف الأمم ، فمحمد بهذا رسول الله إلى الأبيض والأسود والأحمر والأصفر ،

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 15 _
   وهوؤلاء هم الناس ورسالته شاملة لأفرادهم ، مستغرقة لأجناسهم دون اختصاص بقوم عن قوم ، ولا أمة دون أمة ، يعضده قوله تعالى : ( وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) سبأ / 28 ، فإذا جمعنا له قوله تعالى : ( وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحمَةً لِّلعالَمِينَ * ) الأنبياء / 107 ، خلص لنا أنه رسول البشرية ، وما إرساله إلا رحمة للعالمين ، وهذا الارسال يحمل في طياته ملامح البشارة الرضية المرضية ، وصرخة النذارة الهادرة المدوية ، ذلك ما يعلنه قوله تعالى : ( إِنَّآ أَرسَلنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ) البقرة / 119 .
   ويؤكده قوله تعالى : ( يَأَيُّهاَ آلنَّبِيُّ إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِراً وَنَذِيراً * ) الأحزاب / 45 ، وهنا تضاف الشهادة إلى البشارة والنذارة لتتم حلقة الوصل العالمية في التدرج البياني ليصل إلى ذروته في التبليغ بقوله تعالى : ( وَأَرسَلنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهيداً ) النساء / 79 ، وقد وضع الله تعالى على الناس ذاته القدسية شهيداً على هذا الارسال العالمي .

ثـانياً : والمنطلق البارز في تشخيص عالمية القرآن نصاً ومضموناً تأكيد القرآن على خطاب الناس ـ كل الناس ـ في تعليماته الإلهية ؛ وهذا المنطلق يتحدث فيه القرآن إلى الناس في مختلف شؤونهم ، ويدعوهم بعامة إلى الأخذ بالأصلح من الأنظمة ازاء تدوير الواقع البشري المتقلب ليقف به على مرفأ الأمان ، ويستقر مستوياً بشاطيء الخلاص ، وأول ما يدعوهم إليه سنن التوحيد المطلق في ظلال ملكوته قال تعالى : ( يَأَيُهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) البقرة / 21 ، يدعم ذلك الملحظ بالكتاب الذي أخرج كل الناس إلى النور . . . ( الر كِتاَبٌ أَنزَلنَهُ إِلَيكَ لِتُخرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) إبراهيم / 1 ، ويوجه هؤلاء الناس نحو الله بإعتبارهم مضطرين له ، فقراء إليه ، وهو في غنى وعز ومنعة عنهم ، يُحمد بغناه ، ويعبد لآياته : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلىَ اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَمِيدُ * ) فاطر / 15 .
   وإذا كان الناس بهذه الفاقة ، محتاجين ولا يحتاج إليهم ، فحري بهم أن يتجهوا نحو الله في الشؤون والشجون والآمال ، ولا يتكلوا على الأحلام والأماني ، فوعد الله حق ، ووعد غيره الغرور . قال تعالى : ( يَأَيُّهاَ النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا ) فاطر / 5 ، ولا يقف القرآن عند هذا الحد في تذكير الناس وتحذيرهم ، وتقويمهم ومتابعتهم ، بل يتسع في الحديث إليهم ،

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 16 _
   بما خولهم به الحياة الدنيا ، وما أسبغه عليهم من نعم ظاهرة وباطنة ، وما سخره لهم من أكوان وأديان وظواهر تصب في محيط واحد هو سعادة الناس في دنياهم ، وسلامتهم من الأهوال في آخراهم ، كل أولئك يتمثل في مراصد قرآنية أبرزها :

1 ـ الايحاء بإدراك نعم الله التي لا تحصى ، والتذكير بآلائه التي لا تستقصى ، بما في ذلك النعم المادية والمعنوية .
   قال تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيكُمْ ) فاطر / 3 ، وقال تعالى : ( وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم وَمَا أَنَزَلَ عَلَيكُم مِّنَ الكِتاَبِ ) البقرة / 231 ، وقال تعالى : ( وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُمْ إِذ كُنتُمْ أَعدَاءً فَـأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ) آل عمران / 103 ، وقال تعالى : ( وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ) المائدة / 7 ، وقال تعالى : ( وَاشكُرُوا نِعمَتَ اللهِ إِن كَنتَمْ إِيَّاه تَعْبُدُونَ ) النحل / 114 ، وقال تعالى : ( وَإِن تَعُدُّوا نِعمَتَ اللهِ لاَ تُحصُوهَا إِنَّ آللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) النحل / 18 ، وقال تعالى : ( وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) لقمان / 20 ، حتى قوله تعالى : ( اليَومَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم وَأَتْمَمتُ عَلَيكُم نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِيناً ) المائدة / 3 ، هذا الحشد الهائل من التأكيد على النعمة يوحي بعظمة قدرها ، وسبوغ رحمتها ، وشيوع مفرداتها ، وشمول ظلالها للناس كافة .

2 ـ الأمر على نحو الاباحة بالتمتع بما خلق الله من الأرزاق الكائنة فيما تنبت الأرض ، وما يخرج منها ، وما يربو فيها ، وما باركه من ثمرها وشجرها ومرافقها وأنهارها ومناخها مما جعله مسخراً للانسان لتيسير مرافق الحياة ، وهو الذي يسره وسخره وفجره وجعله سائغاً هنيئاً مريئاً .
   قال تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي آلأَرضِ حَلَلاً طَيِباً ) البقرة / 168 ، وقال تعالى : ( كُلُوا وَاشرَبُوا مِن رِّزقِ اللهِ وَلاَ تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدِينَ ) البقرة / 60 .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 17 _
   وقال تعالى : ( أَنفِقُوا مِن طَيِّبَتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخرَجنَا لَكُم مِّن الأَرضِ ) البقرة / 267 ، وقال تعالى : ( وَلَقَد مَكَّنّاَكُم فِى الأَرضِ وَجَعَلنَا لَكُم فِيهَا مَعَيِشَ ) الأعراف / 10 ، وقال تعالى : ( وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزقٍ فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا ) الجاثية / 5 ، وقال تعالى : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزقُهَا ) هود / 6 ، وقال تعالى ( هُو أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ) هود / 61 ، وقال تعالى : ( وَفِي الأَرضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعنَابٍ وَزَرْعٌ ) الرعد / 4 ، وقال تعالى : ( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأَرضِ مُخْتَلِفاً أَلوَنُهُ ) النحل / 13 ، إن هذا التأكيد على الأرض وما أخرج منها إنما يكون للبشر كافة فهو الذي أنشأهم منها ، وهو الذي رزقهم فيها ، وهو الذي سخرها لهم .

3 ـ بعد ما سيره القرآن من النعم وإستثمار الأرض ، وما أظهره له من التوسع وبحبوحة النعيم حذرهم الله ظلمهم في الحياة الدنيا ، وأنذرهم العذاب في الحياة الأخرى ، ووجه العناية بهذا الملحظ ليكف الناس عن الباطل ، وليتوجه الجمع نحو الحق .
   قال تعالى : ( وَلَو يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيهَا مِن دَابَّةٍ ) النحل / 61 ، وقال تعالى : ( وَيَومَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ يَقُولُ يَالَيتَنِي اتَّخَذتَ مَعَ آلرَّسُولِ سَبِيلاً *) الفرقان / 27 ، وقال تعالى : ( وَكَم قَصَمْنَا مِن قَريَةٍ كَانَت ظَالِمَةً ) الأنبياء / 11 ، وقال تعالى : ( وَكَذَلكِ أَخذَ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) هود / 102 ، وقال تعالى : ( وَلَو تَرَى إِذِ آلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوتِ ) الأنعام / 93 ، وقال تعالى : ( وَلاَ تَحسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعمَلُ الظَّلِمُونَ ) إبراهيم / 42 ، وقال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُهلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهلُهَا ظَالِمُونَ ) القصص / 59 ، وقال تعالى : ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) البقرة / 270 ، وقال تعالى : ( وَاللهُ لاَ يَهْدِى القَومَ الظَّالِمِينَ ) آل عمران / 86 ، وقال تعالى : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَينَهُم أَن لَّعنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) الأعراف / 44 ، وقال تعالى : ( فَانظُر كَيفَ كَانَ عَقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) يونس / 39 ، وهذا التقريع على الظلم ، والوصف له ، والتحدث عن مآله لا يخص مجتمعاً دون آخر ، ولا يختص بأمة دون أمة ، فهو موجه للناس كل الناس للابتعاد عن معالمه ومهالكه .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 18 _
4 ـ ويتحدث القرآن عن الظواهر الكونية ، والآيات السماوية ويجعل من ذلك مناراً لأولى النهى ، وحديثاً للتدبر والتفكر والتبصر والاعتبار لذوي الألباب والعقول :
   قال تعالى : ( الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيِتِفِكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * ) آل عمران / 191 ، وقال تعالى : ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَ اسْتَوَى عَلَى العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ كُلٌ يَجرِي لأَجَلٍ مُّسَمّىً ) الرعد / 2 ، وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ آثْنَيْنِ يُغْشِي الَّليْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ * ) الرعد / 3 ، وقال تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنشِيءُ بلسَّحَابَ الثِّـقَالَ * وَيُسَبِّحُ آلرَّعدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرسِلُ آلصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُم يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيِدُ المِحَالِ * ) الرعد / 12 ـ 13 ، وقال تعالى : ( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا تُغنِي الأَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَومٍ لاَّ يُؤمِنُونَ * ) يونس / 101 ، وقال تعالى : ( وَءَايَةٌ لَّهُمُ آلَّليلُ نَسلَخُ مِنهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظلِمُونَ * وَالشَّمسُ تَجرِي لِمُستَقَرٍ لَّهَا ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّليْلُ سَابِقٌ آلنَّهَارِ وَكُلٌ فِي فَلَكٍ يَسبَحُونَ * ) يس / 37 ـ 40 ، وقال تعالى : ( يَسئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَللحَجِّ ) البقرة / 189 ، إن هذه الإرهاصات في عالم السموات والأرض والعرش والشمس والقمر ومد الأرض وخلق الرواسي واصطفاق الأنها وزوجية الكائنات والثمرات وحياة الشمس والقمر والأهلة ، كل أولئك ما سخره الله للناس بعامة ، وللمؤمنين بخاصة بقصد الاعتبار والاستبصار .

5 ـ وأخيراً أمر القرآن الناس بدرء الفساد والمكر في الأرض ، ونعى جريمة القتل ، فآعتبر قتل النفس قتلاً للناس ، وعد إحياء الفرد الانساني إحياء للناس أيضاً ، وبذلك تتكامل الصورة العالمية للقرآن في أرسخ حدودها الأفقية :
   قال تعالى : ( مِن أَجلِ ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفسًا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) المائدة / 32 ، وقد يكون هذا القتل وذلك الإحياء مادياً أو معنوياً ، وكلاهما واردان في مقام التفصيل ، والتعليل ليس هذا موقعه .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 19 _
6 ـ ولك أن تعجب كل العجب لترى القرآن يجعل أهم شعيرة من شعائره وهو الحج ، والبيت الحرام وهو أول بيت وضع للناس ، والأذان إلى الحج كل أولئك للناس كافة لا للمسلمين وحدهم .
   قال تعالى : ( وَللهِ عَلَى النَّاس حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً ) آل عمران / 97 ، والحج كما يجب على المسلمين ، فإنه واجب على الكافرين ، إلا أن الكافر يجب عليه الحج ولا يصح منه لا شتراط الايمان في الأداء ، وقال تعالى : ( وَإِذا جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً ) البقرة / 125 ، وقال تعالى : ( وَأَذَنٌ مِّنَ آللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَومَ الحَجِّ الأَكبَرِ ) التوبة / 3 .

ثـالثاً : وتتأكد عالمية القرآن في اطار إهتماماته القصوى بالانسان ، فهو يتابعه ويلاحقه منذ خلقته وتكوينه وولادته حتى حياته ومعاشه إلى حين وفاته ومدفنه ونشره وحشره وعاقبته ، ومعنى هذا أن القرآن ذو عناية خاصة بمسيرة الكائن الانساني منذ البداية وهو معنيٌّ أيضاً بمصير الانسان الجماعي حتى النهاية .
   ففي خلق الانسان وإيجاده خليفة في الأرض ، هناك مدركان بارزان : المدرك الابداعي في التكوين الخلقي من الأرض ، كخلق آدم عليه السلام ؛ والمدرك الرتيب في الخلق عن طريق التزاوج فالتناسل ، وفي هذه المسافة المتباعدة بين الخلقين قد اختصرت الحقيقة التكوينية كلها ، وقال تعالى : ( إِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِنيِ خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينِ * ) ص / 71 ، وقال تعالى متحدثاً عما تحقق : ( وَلَو تَرَى إِذِ المُجرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِم عِندَ رَبِّهِم رَبَّنَا أَبصَرنَا وَسَمِعنَا فَارجِعنَا نَعمَل صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ * ) المؤمنون / 12 ، فبين تعالى الأصل في الخلق من الطين ، وهو عنصر أرضي يحمل بين طياته عناصر أرضية أخرى ، فهو مجموعة عناصر تتمثل فيها الأرض بمركباتها ، وهو البداية الابتداعية لهذا الايجاد المتباعد الأطراف في التركيب والتكوين والتأسيس بما يستوعبه هذا الكلي العام من ملايين الجزيئات المعقدة في العدد والكمية والوزن والمدارك جسمياً وعقلياً ونفسياً وتصويراً وتخييلاً وقابليات ومعدات وأجهرةٌ وتجاويف وعصيات وحفيات وأقواس وجينات وخلايا وأعصاب وعضلات ما ظهر من ذلك وما خفي مما لا يحيط به الادراك الحسّيّ كثيراً .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 20 _
   والذي أجمله تعالى بقوله : ( الَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رَّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَرَ وَالأَفئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشكُرُونَ * ) السجدة / 7 ـ 9 ، ولنقف قليلاً عند الآية الأولى التي تتحدث عن الملحظ الإيجادي في الخلق لا على نحو المثال ، ولا على صيغة من وجود سابق ، إذ لا وجود هناك لهذا المخلوق الجديد لأنه بعد لم يوجد ، فلما وجد قيل له بأنه الانسان .
   قال تعالى : ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهرِ لَمْ يَكُن شَيئاً مَّذكُوراً * ) الانسان / 1 ، والتفسير الأولي أن الانسان جسد وروح ، أي أنه مركب من حقيقتين متغايرتين ، وحينما إتحدا كان الانسان كائناً حياً ، فإذا افترقا كان هذا الانسان نفسه ميتاً وعاد جثماناً ، وهذا وإن كان صحيحاً في حد ذاته ، ومقدماته تبني عن نتائجه ، إلا أن القرآن العظيم يومي إلى أبعد من هذا تحديداً حينما جعل الانسان حقيقة واحدة ، فهو إنسان بروحه وبدنه ، وهو أنسان حين مفارقة روحه لبدنه ، فمثله كمثل الماء والتراب حينما يكونان حقيقة واحدة عند التماسك أو عند الانحلال .
   وقوله تعالى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ آلمَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم ) السجدة / 11 ، فيه دلالة على أن الانسان هو نفس الانسان ، فإذا اتصلت الروح بجسده فهو حيٌّ ، وإذا انفصلت عنه فهو ميت ، إذن هو إنسان في الحالين ، والنص القرآني في مجموعة دلالاته « يفيد أن الروح التي يتوفاها ويأخذها قابض الأرواح هي التي يعبر عنها بلفظة « كم » وهو الانسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع » (1) ، ويصور هذا الملحظ « لم يكن شيئاً مذكوراً » ، فهذا الانسان بالطريق الاعجازي في الخلق إنما كان طيناً لازباً يندك في طول هذه الارض وعرضها ، فلم يكن ذا ذكر فهو غير متعين ولا محدد ، وهو حينما صور هذا التصوير البديع ، في خلقه الأول ، وولجته الروح بأمره تعالى ، عاد إنساناً معلوماً وموجوداً فكان مذكوراً ، فهو باللحاظ الأول شيء غير مذكور ، وهو باللحاظ الثاني كيان مذكور ، وهذا ما تفسره رواية الإمام الباقر ( عليه السلام ) : قال : « كان مذكوراً في العلم ، ولم يكن مذكوراً في الخلق » (2) ، وفي رواية أخرى عنه عليه السلام رواها زرارة بن أعين في تفسير جزء الآية ، يقول الباقر (عليه السلام ) : « كان شيئاً ولم يكن مذكوراً » (3) .

--------------------
(1) الطباطبائي ، تفسير الميزان : 20 / 139 .
(2) (3) الطبرسي : مجمع البيان : 5 / 406 .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 21 _
   فالانسان كان شيئاً في علم الله وتقديره ، وإن كان معدوماً بعد لم يوجد ، ثم صار شيئاً مذكوراً بعد خلقه وتكوينه ، سواءً أنظرنا في ذلك إلى الطريق الاعجازي في الخلق ، أو الطريق الفطري في التكوين المتسلسل المنظور إليه في قوله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسفَلَ ساَفِلِينَ * ) التين / 4 ـ 5 ، وهذا أيضاً طريق إعجازي محض أن يخلق من هذه المادة الميتة إنساناً متكاملاً في أحسن تقويم فكان ذا هيئة حسنة ، وصورة مترفة ، وروعة نادرة ، حتى عاد مستوياً أيام شبابه ونضارته مثلاً ، ثم ردّ إلى الهرم والشيخوخة ، وورد مورد العجز والكبر ، فتسافل في خلقه من قوة إلى ضعف ، ومن نضارة إلى إنهدام ، ومن جمال الفتوة إلى تلاشي القوة ، فبعد أن كان ذا هيئة مشرقة وضاءة إستبدلها بالكبر والانحناء والخور .
   ولكن الشذرات الثمينة المتناثرة في القرآن الكريم ، تقتضي الاضافة لهذا الفهم ـ وإن كان حقاً في واقعه ـ وتريد منا أن نرتفع إلى المستوى الأعظم الذي يحدب على تبليغه القرآن بياناً إلهياً شمولياً لا يغادر شيئاً ، وذلك : أن الانسان قد خلق بإرادة الله تعالى ولطف عنايته خلقاً خاصاً فكان نموذجاً راقياً للتقويم والثبات والكمال ، وهذا كله يقتضي له ان يتصاعد بروحه وتفكيره وتقدير إلى أعلى عليين ، وهو ما قدره له الله تعالى لو تمثل الشكر لنعمه المتواترة ، اعتداداً بهذا العطاء الفياض في الخلق صورة وعلماً وإرادة وتفكيراً واختياراً وإبداعاً وفلسفة ، فهو بهذا حريّ بأن يعرج بمستواه الخلقي في كل وجوه الخلق الظاهرة والباطنة ، المعروفة لديه والمجهولة إلى حيث يصبح من أهل السعادة والنّعيم السرمدي الخالد ، ولكن هذا الانسان ـ إلا القليل من جنسه ـ قد إنحط بنزعانه اللاإنسانية وسلوكه المنحرف إلى سلخ معنى الانسانية عن نفسه فردّ إلى أسفل سافلين ، وهو نهاية ما يمكن أن يردّ به الله إنساناً بإنحطاطه إلى الدرجات السفلى المخصصة لأهل العذاب والشقاء والانهيار التام ، فكتب على نفسه الانحدار والانزلاق في الهوة السحيقة التي كان ينبغي له أن يتجنبها ويكون في أمن من مزلقتها وتدهورها .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 22 _
   هذا الطرح الموضوعي لمعنى الآية هو الذي يلائم الاستثناء المنقطع بعد الآيتين في قوله تعالى : ( إِلاَّ لَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * ) التين / 6 ، بدليل أن حكم الخلق التركيبي للانسان يستوي فيه المؤمن والكافر ، الموحد والملحد ، الصادق والمنافق ، بدليل قوله تعالى : ( وَمَن نُّعَمِّرهُ نُنُكِسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلاَ يَعقِلُونَ * ) يس / 68 ، و « من » من أدوات العموم ، فكل معمّر من الناس ينتكس في الخلق .
   هذه هي الحقيقة الأولى ؛ والحقيقة الثانية أن لله خلقاً آخر من الناس ليس من الطين ، وليس من طريق التزاوج التلقيحي ، ولكنه خلق إعجازي آخر بإرادته التكوينية المطلقة ، ونموذج هذا الخلق هو عيسى بن مريم ( عليه السلام ) ، قال تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كَن فَيَكُونُ * ) آل عمران / 59 . قال ابن عباس والحسن وقتادة : « هذه الآية نزلت في وفد نجران : السيد والعاقب ، قالا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ » (1) ، فبدأ بيان ذلك بالرد على هؤلاء بالأصل التركيبي للأنسان وهو التراب ، وبالأب الأكبر للبشر وهو آدم ، فخاطب القرآن الذائقة الفطرية بالمنطق الفطري ، واستنزل الحجة الصغرى بالحجة الكبرى ، وأبان أن منطق الأعجاز في الخلق يختلف عن المنطق الطبيعي في التكوين لدى التزاوج والتلاقح والتناسل ، فالأصل التركيبي للبشر هو التراب ، وهذا ما يقاس عليه عيسى عليه السلام في التكوين ، فآدم : نشأته وتكوينه مباشران لم يسبقا بقانون طبيعي وكذلك عيسى ، وكلاهما خاضعان للأرادة التكوينية من قبل الله تعالى « كن فيكون » ، وهذا سر الحياة الذي لا يعلمه إلا الله ، دون التقاء ذكر بأنثى ، أو تلاقح خلية ببيضة ، وذلك طريق الأخصاب ، وسنن الانجاب (2) .

--------------------
(1) الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن : 3 / 482 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 296 .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 23 _
   والقرآن يكاد يستقطب الحديث عن المدرك الطبيعي والاعجازي في خلق الأنسان في جزئيات دقيقة تغوص في عمق الموضوع جذباً وإستئناساً ووقوفاً عند أمثل مظاهر ، وأبرز جوانبه الكلي ، مشيراً بادء ذي بدء إلى الأصلين معاً كما في قوله تعالى حاكياً : ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ) الكهف / 37 .
   ومفرعاً على ذلك في تأكيد مراحل الحقيقتين معاً بقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * ) غافر / 67 ، ويتبلور هذا الملحظ شيوعاً بالاستدلال على البعث يوم القيامة من جهة ، والاعتبار بتقلبات الخلقة وتطويرها من حقيقة إلى حقيقة أخرى ، حتى تنتهي مراحل العمر بالعودة إلى أرذله أو بالوفاة ، يتمثل ذلك في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ) الحج / 5 .
   أرأيت هذه الحيثيات المنوعة في مراحل الانشاء المتعددة ، ثم قف عندها قليلا لتجدها عالمية الايجاد لأبناء البشر كافة ، فهي حقيقة فوق الحقائق ، ومنظور إنساني لم يتأقلم ، وقاعدة عامة في الاسترسال التكويني بكل مقوماته لهذا الانسان المخلوق كما هو عليه في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ) المؤمنون / 12 ـ 14 ، ويتابع القرآن مطلق الانسان في الحياة فيذكره بضعفه الواهن فيقول : ( وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ) النساء / 28 ، ويقيمه وهو يتعرض للبلاء فيلتجئ إلى الله مخلصاً له الدين كما في قوله تعالى : ( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَو قَاعِداً ) يونس / 12 ، ويمثل غطرسته في ضد هذا فيصوره وقد أنعم الله عليه معرضاً ، قال تعالى : ( وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) الاسراء / 83 .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 24 _
   ميزاناً فيما بينه وبين نفسه كما في قوله تعالى : ( بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * ) القيامة / 14 ، ثم يشير إلى طبيعته في التمرد وتجاوز الحدود ظلماً وكفراناً كما في قوله ( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومُُ كَفَّارُُ ) إبراهيم / 34 ، ويعبر عنه مستفضعاً ما جبلت عليه نفسه عناداً وإصراراً وطغياناً بما قال تعالى : ( قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكفَرَهُ * ) عبس / 17 .
   وحقق القرآن مع الانسان فيما يبقى له ، وما يتواجد معه ، بعد مفارقته الدنيا ووفوده على الله تعالى متحدثاً عما ينفعه فيما عمل فقال : ( وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَانِ إلاّ مَا سَعَى * ) النجم / 39 ، وأشار أنه سوف يتذكر ذل ( يَومَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * ) النازعات / 35 ، ومع كل هذا التقويم لا يترك القرآن الإنسان دون عظة وعبرة ونصح كريم : ( أَيَحسَبُ الإِنسَانُ أَن يُترَكَ سُدًى * ) القيامة / 36 .
   فيهزه من الأعماق ليقف به على تجاوزه وتعديه بما يكشف عنه قوله تعالى : ( يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ * ) الانفطار / 6 ، وقد يقال في جواب هذا أنه ألهمه الجواب الناجع : غرني يا رب كرمك . وهذا فضل جديد يضاف للأفضال السابقة ، وهنا يتطامن هذا الطاغوت لينظر إلى أولياته في التكوين ، ليكبح من جماح نفسه ، ويخفف من غلواء جبروته فيصكه الله تعالى بقوله : ( فَليَنظُرِ الإِنسَانَُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخرُجُ مِن بَينِ الصُّلبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجعِهِ لَقَادِرًً * ) الطارق / 5 ـ 8 ، فإذا رجع إلى الله ، ووقف للحساب الجديد ، هنالك : ( يَقُولُ الإِنسَانُ يَومَئِذٍ أَينَ المَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَومَئِذٍ المُستَقَرُّ * يُنَبَّؤُا الإِنسَانُ يَومَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * ) القيامة / 10 ـ 13 .

نظرات معاصرة في القرآن الكريم _ 25 _
   وهنا يصطدم هذا الانسان الغر الجاهل المتعنت الضعيف بالحقيقة الهائلة الكبرى إذ يقف بين يدي أعماله وذنوبه وجهاً لوجه ، لا ستار ولا حجاب ، ولا إستقالة : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخرِجُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلقَاهُ مَنشُوراً * ) الاسراء / 13 ، هذه المفاجأة لجنس الانسان إلا المتقين يجب أن يقف بإزائها وقفة الصامد الخبير ، فأعماله متمثلة أمامه ، وأفعاله وأقواله متجسدة في قوالبها لديه ، والشاهد هو الحاكم ، والحاكم هو الله ، وكفى في ذلك شدة وروعة وترويعاً وذهولاً ، لهذا فقد حذر هذا الانسان من أهوال ذلك اليوم ومشاهده ، قال تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم إِنَّ زَلزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ * يَومَ تَرَونَهَا تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعةٍ عَمَّا أَرضَعَت وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ حَملَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَى وَمَا هُم بِسُكَرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ * ) الحج / 1 ـ 2 .
   إنها الواقعة والراجفة والطامة والنازلة الكبرى ، تصدق في كل جزئياتها ، وتجد في كل ساعاتها ، فلا كذب ولا لعب : ( إِذَا وَقَعَتِ لوَاقِعَةُ * لَيسَ لِوَقعَتِهَا كَاذِبَةٌ * ) الواقعة / 1 ـ 2 ، هنالك يمتاز الناس إلى أزواج ثلاثة كما ينص القرآن العظيم : ( وَكُنتُم أَزوَاجاً ثَلاَثَةٍ * فَأَصْحَابُ المَيمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيمَنَةِ * وَأَصْحَابُ المَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنّاَتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةُُ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلُُ مِّنَ الأَخِرِينَ * ) الواقعة / 7 ـ 14 ، وذلك أن الناس يوم الحشر بهذا الاعتبار يصنفون إلى : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقين ، فأهل الجنة هم أصحاب اليمين ، وأهل النار هم أصحاب الشمال ، والسابقون هم تلك الطبقة العليا التي اهتبلت فرصة الحياة الدنيا فقفزت باتجاه واحد نحو الله وحده ، سبقوا إلى الايمان ، وسبقوا إلى الخيرات ، وسبقوا إلى العبادة بأنصع مظاهرها فتسنموا الدرجة الراقية في الزلفى .