والثالث : على ما عليه أمير المؤمنين ، وهذا كائن على امتداد التاريخ الإسلامي منذ ذلك الحين .

  4 ـ مقتل الإمام :
  بعد الفراغ من الخوارج ظل أمير المؤمنين يدعو في معسكره لقتال معاوية ، ولكنه عندما رأى منهم التكاسل قال ، ( إني أرى أهل الشام على باطلهم أشد اجتماعا منكم على حقكم ) ( والله لتطأون هكذا هكذا ـ وضرب برجله على المنبر حتى سمع قدمه في آخر المسجد ـ ثم قال : ثم لتستعملن عليكم اليهود والنصارى حتى تنفوا ثم لا يرغم الله إلا بآنافكم ) (1) لقد وعدوه بأنهم بعد الفراغ من الخوارج يسيرون معه إلى أهل الشام ، ولكن هذا الوعد كان كرغوة جوفاء وهباء ضائع في خلاء ، وفي كل يوم يدفع معاوية بأمواله لتزداد رقعة طابور النفاق الطويل الذي ورث انحرافات البشرية منذ أيام قابيل ، يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( من أصاب دينارا أو درهما في فتنة طبع على قلبه بطابع النفاق ) (2) وقال : لكل أمة عجل يعبدونه وعجل أمتي الدرهم والدينار (3)، كان أمير المؤمنين يحذرهم ويطالبهم بأن يأخذوا بالأسباب لوقف تقدم الانحراف ، ولكن القوم لم يثبتوا معه على رأي ، فضاق بهم ذرعا ، ووضع المصحف على رأسه وقال : اللهم إنهم منعوني أن أقوم في الأمة بما فيه .
  فاعطني ثواب ما فيه اللهم إني قد مللتهم وملوني وأبغضتهم وأبغضوني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني ، اللهم أمت قلوبهم ميت الملح في الماء (4) .
  وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخبر بأن عليا لن يموت إلا مقتولا فقال : ألا أحدثكما بأشقى الناس ، رجلين : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي ، على هذه ـ يعني قرنه ـ حتى تبتل هذه من الدم ـ يعني

-------------------------------
(1) الدولابي في الكنى والأسماء ، ابن أبي شيبة ( كنز : 780 / 5 ) .
(2) رواه الديلمي ( كنز العمال 187 / 17 ) .
(3) الديلمي ( كنز : 223 / 3 ) .
(4) ابن عساكر : 195 / 3 ( كنز العمال ، البداية : 14 / 8 ، المسعودي 139 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 477 _
  لحيته (1) ، وكان على يقول : أيها الناس إنما يجمع الناس الرضا والسخط ، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد ، فعمهم الله بالعذاب فقال تعالى : ( فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ ) ! فما كان إلا أن خارت أرضهم بالخسفة خوار السكة المحماة في الأرض الخوراء ، أيها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء ومن خالف وقع في التيه (2) وكان أمير المؤمنين يقول لأهل العراق ، وددت أنه قد انبعث أشقاكم يخضب هذه ـ يعني لحيته ـ من هذه ـ ووضع يده على مقدمة رأسه (3) وقال لابنه الحسن : رأيت في منامي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
  فقلت : يا رسول ما لقيت من أمتك من الأود واللدد (4) ، فقال لي : أدع الله عليهم ، فقلت : اللهم أبدلني بهم خيرا لي منهم ، وأبدلهم بي شرا لهم مني (5) وكان يقول ، غدا ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري وتعرفونني بعد خلو مكاني ، وقيام غيري مقامي (6) .
  ولما كانت الليلة التي أصيب فيها أمير المؤمنين أتاه ابن النباح حين طلع الفجر يؤذن بالصلاة وهو مضطجع فتثاقل ، فعاد إليه الثانية وهو كذلك ، ثم عاد الثالثة فقام (عليه السلام )يمشي وهو يقول :

أشدد حيازيمك للموت      فإن   الموت   iiلاقيكا
ولا تجزع من iiالموت      إذا    حل    iiبواديكا
  فلما بلغ الباب الصغير ضربه ابن ملجم لعنه الله على رأسه فابتلت لحيته .

-------------------------------
(1) رواه الحاكم والبيهقي وأبو نعيم ( الخصائص الكبرى : 211 / 2 ) وأحمد والطبراني والبزار ( الزوائد : 136 / 9 ) .
(2) النهج خطبة : 199 .
(3) رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقاة ( الزوائد : 136 / 9 ) .
(4) الأود / العوج ، اللدد / الخصومة الشديدة .
(5) الطبقات : 3 / 36 ، مقاتل الطالبين 16 ، العقد الفريد : 298 / 2 ، البداية والنهاية : 14 / 8 ، تاريخ الخلفاء : 164 ، 6 النهج خطبة : 148 .
(6) ابن عساكر : ( كنز : 196 / 13 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 478 _
  وروى الدارقطني والحاكم والخطيب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي : إن الأمة ستغدر بك من بعدي ، وأنت تعيش على ملتي ، وتقتل على سنتي ، من أحبك أحبني ، ومن أبغضك أبغضني وإن هذا سيخضب من هذا ـ يعني لحيته من رأسه (1) وروي أن الحسن بن ، علي خطب حين قتل أمير المؤمنين فقال ، يا أهل العراق ، لقد كان فيكم بين أظهركم رجل قتل الليلة ، وأصيب اليوم ، لم يسبقه الأولون بعلم ولا يدركه الآخرون ، كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إذا بعثه في سرية كان جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه (2).
  وبعد قتل الإمام اتسع الانحراف وحمل الحسن بن علي راية الاصلاح بعد أبيه ، ولكن الناس هم الناس وثقافة الأديرة بدأت تنساب من المخادع ، وبدأ المال يكتسب كل يوم أرض جديدة حول الحسن ، وفشلت محاولات الحسن لإعداد جيش يقاتل به معاوية ، فاللصوص والقتلة حوله في كل مكان ، سرقوا بساطه وطعنوه وأرادوا خطفه وتسليمه إلى معاوية ، وعندما عرض عليه معاوية الصلح ، رفض أن يأخذ في هذا الصلح قرارا حتى يخبر الناس ، لعلهم يطيعوه ويقاتلوا معه ، فقال الحسن لأتباعه : إن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه عليه ، وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف .
  وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضا ، فناداه الناس من كل جانب ، البقية البقية وإمضاء الصلح ، واشترط الحسن في وثيقة الصلح ، بأن يحكم معاوية بما أنزل الله ، وأن يكون للحسن الأمر من بعده ، ولكن معاوية أطاح بكل هذا ولم يكن له عهدا ، وروي أن الحسن عندما طالبه القوم بإبرام الصلح مع معاوية خطب في الناس وقال ، أيها الناس ، إنما نحن أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل بيت نبيكم الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وكرر ذلك ، حتى ما بقي في المجلس إلا من بكى حتى سمع نشيجه (3) وبعد إمضاء الصلح خطب

-------------------------------
(1) كنز العمال : 617 / 11 .
(2) رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو نعيم وابن عساكر وابن جرير ( الفتح الرباني 164 / 24 ) ، ( كنز العمال : 192 / 13 ) .
(3) ابن الأثير : 204 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 479 _
  معاوية ، ثم قال : قم يا حسن فكلم الناس ، فتشهد ثم قال : أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا ، وإن لهذا الأمر مدة ، والدنيا دول ( " وأن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) ثم استغفر ونزل (1) .

  5 ـ ظلال الشجرة الخبيثة :
  لقد ظلمت الرعية قيادتها ، ولو كانت القيادة تحب الغدر وتعمل به ما وقف في وجهها أحد ، ولكن مهمة القيادة رفع أعلام الحق ، وعلى الرعية أن تهرول إلى هذه الأعلام ، لأن دين الله لا إجبار فيه ، فإذا التفت الرعية أخذت القيادة القرار الذي يناسب هذا الالتفاف ، وكل إنسان يقدم لنفسه وكل إنسان محاسب أمام الله عما قدم ، لقد ذكرهم الإمام بأنه ولي رسول الله وأنه يقاتل معارك التأويل التي زرع شجرتها القص والرأي ولكن المساحة العريضة لم تفهم هذا المعنى لأنهم كانوا يزينون الأمور في أغلب الأحيان برأيهم ، ألم تر أنهم قالوا لأمير المؤمنين عند رفع المصاحف ! أجب إلى كتاب الله وإلا دفعنا برمتك إلى القوم ، إن الجيل الذي يقول مثل هذه الكلمة لعلي بن أبي طالب جيل ميؤوس منه عجنت نفسيته بماء اغتسل منه جبابرة قوم نوح وعاد وثمود الذين عقروا الناقة .
  وعندما جاء الحسن بن علي وجد في الجيل الذي عاصره مجموعة من اللصوص أخبرهم أنه من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، ولكن لا حس لأن السواد الأعظم سار على أهداف دائرة الرجس التي حذر القرآن منها .
  ومن أخذ مال من رجس لا ينظر إلى تطهير ، وقضى الله أنه من يأخذ درهما أو دينارا في فتنة طبع الله على قلبه بطابع النفاق ، لقد كافح بني أمية منذ فتح مكة من أجل هذا اليوم ، كافح طابورهم الذي يرتدي ملابس الإسلام ويمشي بين الناس بشهادته ، وازداد هذا الكفاح استعارا عندما ألغى عمر بن الخطاب سهم المؤلفة قلوبهم ، وهو من الأحكام الشرعية التي وردت في القرآن وذلك في قوله تعالى : ( وإنما الصدقات للفقراء والمسكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ) " ولقد كان الرسول يمنح هؤلاء من

-------------------------------
(1) فتح الباري : 13 / 63 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 480 _
  أموال الحرب ، والمؤلفة قلوبهم ، منهم من لم يكن قد أسلم بعد ومنهم من كان ضعيف الإيمان ، ولكنهم كانوا جميعا قوما أولي بأس ومكانة بين العرب، فكان الرسول ومن بعده أبو بكر يتألف قلوبهم أي يستميلهم إليه بالهبات والصدقات .
  إتقاء لشرهم وإبقاء على ودهم ومنهم أبو سفيان بن حرب (1) رأس بني أمية، ولكن عمر لم يجر على تلك السنة التي جرى عليها أبو بكر ومن قبله رسول الله تنفيذا لحكم شرعي جاء في القرآن ، وساوى هذا الصنف مع غيره من المسلمين (2)، ووفقا لهذه المساواة انطلق طابور النفاق ليغرس مخالبه في جسد الأمة ويحفر له مكانا فيه وعن حذيفة إنه قال : ( إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون ) (3) .
  وطابور النفاق حاصره كتاب الله كما ذكرنا من قبل وحاصرته السنة الشريفة وذلك في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب : ( لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق ) (4) وقوله : ( يا علي معك يوم القيامة عصا من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن حوضي ) (5) ومن هذا نعلم أن سياسة علي بن أي طالب هي الكشاف الذي يظهر المنافقين تحت ضوءه ، ونظرا لأن سياسة علي في الأمة لم تنل حظها الوافر بعد رسول الله ، فإن أبا بكر أعطى من كان يعطيه رسول الله من المؤلفة قلوبهم ، أما الجديد منهم فإن السياسة لم تكتشفه ، وعلى هذا اتسعت الدائرة لتصل في عهد عمر أقصى اتساع لها وذلك لإلغائه العلامة التي ضربها الله على هذا الصنف ليميزه بين الأمة ، والغمس العديد من المفكرين لعمر في هذا الأعذار ومما قيل : أن عمر رأى أن الحكمة التي أدت إلى تقرير ذلك الحكم الشرعي قد زالت ، بعبارة أخرى ، إنه عمل بروح النص لا بظاهره أو حرفيته ، أما عن تلك الحكمة فقد كانت حاجة المسلمين في ذلك الحين إلى

-------------------------------
(1) الإصابة : 238 / 3 .
(2) أزمة الفكر : 122 .
(3) البخاري : 230 / 4 .
(4) رواه أحمد ( الفتح الرباني : 121 / 23 ) ومسلم : 64 / 18 .
(5) رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي فيه سلام بن سليمان وزيد الصمي وهما صديقان وقد وثقا وبقية رجاله ثقاة ( الزوائد : 135 / 9 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 481 _
  المعضدين والمؤيدين من تلك الطائفة التي تدعى ( بالمؤلفة قلوبهم ) (1) ومهما يكن من الأمر فلقد اشتد ساعد هؤلاء في عهد عثمان وتعالت صرخات الشعوب تحت إمارتهم وكان نتيجة ذلك قتل عثمان ، وعندما جاء أمير المؤمنين علي .
  وجد رقعة واسعة فيها من يريد الكرسي أو المال وفيها من يتأول القرآن وبضعه أين يشاء ، وعلى الرغم من هذا الاتساع ، اعتمد أمير المؤمنين على القاعدة المؤمنة وقام بمعاركه ، وعندما أكلت الحرب أصحابه ولم يبق معه إلا غلمان ساحة الاتساع ، كان ما كان وارتفع السفهاء على الحلماء كما في الحديث الشريف (ضاف ضيف رجلا من بني إسرائيل ، وفي داره كلبة محج (2) ، فقالت الكلبة : والله لا أنبح ضيف أهلي ، فعوى جراؤها في بطنها ، قيل ما هذا ؟
  فأوحى الله عز وجل إلى رجل منهم : هذا مثل أمة تكون بعدكم يقهر سفهاءها حلماءها (3) وفي رواية : يستعلي سفهاؤها على علمائها (4) .
  وبني أمية كان عليهم من الله ورسوله تحذير ولكن هذا التحذير ضاع من الذاكرة كما ضاع غيره ، قال المفسرون في قوله تعالى : ( ألم تر الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) أنهم ( بنو المغيرة وبنو أمية ) وفي رواية ( بنو أمية وبني مخزوم ) (5) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( إن لكل دين آفة وآفة هذا الدين بنو أمية ) (6) وقال : ( شر قبائل العرب بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف ) (7) وقال : ( يهلك الناس هذا الحي من قريش ) قالوا : فما تأمرنا ؟
  قال : لو أن الناس اعتزلوهم (8) وقال في فتح الباري : المراد أنهم بها كون

-------------------------------
(1) أزمة الفكر السياسي في الإسلام : 122 .
(2) محج / أي حامل .
(3) رواه أحمد والطبراني والرامهرمزي ( كنز العمال : 254 ، 256 / 14 ) والبزار ( كنز : 280 / 7 ) .
(4) رواه الطبراني ( كنز : 256 / 14 ) .
(5) أخرجه البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر ( الدر المنثور : 48 / 4 ) .
(6) أخرجه أبو نعيم ( كنز : 87 / 14 ) .
(7) رواه البيهقي ورجاله ثقاة ( البداية والنهاية : 268 / 6 ) .
(8) رواه أحمد والبخاري ومسلم .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 482 _
  الناس ، بسبب طلبهم الملك والقتال لأجله ، فتفسد أحوال الناس ويكثر الخبط بتوالي الفتن ، وقد وقع الأمر كما أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) والنبي كان يعلم من ربه أن الكثرة من الناس لن يعتزلوا وأن بني أمية سيقيمون جسورا لهم على عقول هذه الكثرة ـ وعن رسول الله أنه قال : ( رأيت في المنام بني الحكم أو بني العاص ـ وفي رواية بني أمية ـ ينزون على منبري كما تنزو القردة ) وبعد هذا اليوم لم ير رسول الله مستجمعا ضاحكا حتى مات (2) ـ ولقد فتح الباب على مصراعيه وجاء أغيلمة قريش وجاء السفهاء كما أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( هلاك أمتي على يد غلمة من قريش ) (3) وقال : ( إن هلاك أمتي أو فساد أمتي رؤوس أمراء أغيلمة سفهاء من قريش ) (4) ، قال يوسف بن أسباط كان سفيان الثوري يقول في هؤلاء الأغيلمة : ( ما أشبه طعامهم بطعام الدجال ) (5) وقيل لسفيان : معاملة الأمراء أحب إليك أم غيرهم ؟ فقال :
  معاملة اليهود والنصارى أحب إلي من معاملة هؤلاء الأمراء (6) وقال ، لا تنظروا إلى الأئمة المضلين إلا بإنكار قلوبكم عليهم لئلا تحبط أعمالكم (7) ، وفي الحديث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن إمارة السفهاء : أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي ، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون علي حوضي (8) ،
  وبداية ظهور هؤلاء الأمراء لم تكن بعد ثلاثة قرون من البعثة أو بعد ألف سنة منها ، وإنما كان الظهور في وقت مبكر بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)

-------------------------------
(1) فتح الباري : 10 / 13 .
(2) البداية والنهاية : 275 ، 276 / 6 .
(3) أخرجه أحمد ( الفتح الرباني : 33 / 23 ) والبخاري والحاكم ( كنز العمال : 128 / 11 ) .
(4) أحمد ( الفتح : 34 / 23 ) .
(5) أحمد في كتاب الورع ، ص 94 .
(6) أحمد في كتاب الورع : ص 96 .
(7) أحمد في كتاب الورع : ص 96 .
(8) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح ( الزوائد 247 / 5 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 483 _
  قال عليه الصلاة والسلام ، ( تعوذوا بالله من رأس الستين ومن إمارة الصبيان ) (1) وقال : ( تعوذوا بالله من رأس السبعين ) (2) فمن هنا يبدأ الطوفان الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( يكون خلق من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ثم يكون خلفا يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ويقرأ القرآن ثلاثة ، مؤمن ومنافق وفاجر ) (3) فالمنافق كافر به ، والفاجر يأكل به ، والمؤمن يؤمن به وعلى أكتاف هؤلاء تأتي أشد الفتن، وسئل حذيفة : أي الفتن أشد ؟ قال : أن يعرض عليك الخير والشر لا تدري أيهما تركب (4) فالجميع يقرأون القرآن والجميع يقول من أقرأ منا ؟ من أفقه منا ؟ من أعلم منا ؟ إنها كارثة الكوارث ، في عالم اختلفت فيه الأمة ضروبا من الاختلاف ، في الأصول والفروع وتنازعوا فيها فنونا من التنازع في الواضح والمشكل من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والعيان والخبر والعادة والاصطلاح ، إنه عالم يحق فيه البكاء بلا احتجاز عملا بقول الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله ) (5) فغير أهله يحفرون العوائق أمام الفطرة الإنسانية ، وغير أهله هم الذين قتلوا أهله ، قتلوا الإمام ، ودسوا السم للحسن ، وقتلوا الحسين في أبشع مجزرة في تاريخ الإسلام ، حتى أن إبراهيم النخعي قال : لو كنت فيمن قاتل الحسين ثم دخلت الجنة لاستحيت أن أنظر إلى وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (6) وفي الصحيح أن النبي قال عن الحسن والحسين : ( هما ريحانتاي من الدنيا ) (7) وقال : ( من أحبني وأحب هذين وأباهما كان معي في

-------------------------------
(1) أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار والبيهقي والحاكم ( كنز العمال 1190 / 11 ) ( الخصائص الكبرى : 236 / 2 ) ( البداية والنهاية : 026 / 6 ) .
(2) رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى ( البداية : 249 / 8 ، 266 / 6 ) .
(3) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقاة ( الزوائد : 231 / 6 ) والحاكم وأقره الذهب ( المستدرك : 547 / 4 ) وابن حبان والبيهقي ( كنز العمال : 195 / 11 ).
(4) أسد الغابة : 468 / 1 .
(5) الحاكم وأقره الذهبي ( المستدرك : 515 / 4 ) .
(6) الإصابة : 17 / 2 .
(7) الإصابة : 15 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 484 _
  درجتي في الجنة ) (1) ونظر النبي إلى الحسن والحسين وفاطمة وقال : ( أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم ) ( (2) والحسين قتل عندما هب عام ستين الذي حذر منه النبي ليوقف زحف طوفان الانحراف والشذوذ ، ففي هذا العام سنة ستين أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد (3) بعد أن دس السم للحسن وكان قد صالح الحسن على أن يكون للحسن الأمر من بعده ، وعندما خرج شهيد الأمة الحسين بن علي ليوقف تدوين عصور السفهاء ، لم يفهم الكثرة حقيقة هذه الحركة ، لأن معاوية حاصر هذه الكثرة بثقافة سب علي بن أبي طالب على المنابر ، حتى أن أم سلمة قالت لعبد الله الجدلي : أيسب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيكم ؟ فقال : معاذ الله ، فقالت ، سمعت رسول الله يقول من سب عليا فقد سبني (4) وكان الإمام علي قد أخبر عن هذه الثقافة فقال : إنه سيأتيكم رجل يدعوكم إلى سبي وإلى البراءة مني ، فأما السب فإنه لكم نجاة ولي زكاة .
  وأما البراءة فلا تبرأوا مني فإني على الفطرة ) (5) فمعاوية حاصر الكثرة بثقافة السب التي تكاتفت مع ثقافة القصاص في المساجد ومن وراء هذا وذاك المال الذي سال على كل جانب ، ووفقا لهذا لم تفهم الكثرة حركة الحسين التي تستقيم مع حركة الدعوة ، وقتل الحسين ، والكثرة يلعقون من فوق موائد معاوية ما يشتهون ، ولم يعد للإمام علي ذكر في عالم السب ، وروي أنه قيل لزعيم من زعماء الرأي والعقل من أهل الشام : من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر ؟ قال : أراه لصا من لصوص الفتن (6) فإذا كان الأكثر علما في عالم بني أمية لا يعلم من هو علي بن أبي طالب فما هو الفرق بينه وبين من صلى الجمعة يوم الأربعاء وفي عالم يزيد بن معاوية نصبت مجزرة لأهل المدينة بعد مجزرة الحسين ، وذلك عندما خلعه أهل المدينة لما رأوا من فسوقه ، وروي أن

-------------------------------
(1) أخرجه عبد الله بن أحمد والترمذي ( الفتح الرباني : 104 / 22 ) .
(2) رواه أحمد والطبراني ( الفتح الرباني : 106 / 22 ) .
(3) الطبري 179 / 6 .
(4) رواه أحمد ( الفتح : 121 / 23 ) والحاكم وأقره الذهبي ( المستدرك : 121 / 3 ) .
(5) ابن عساكر والحاكم ( كنز : 302 / 11 ) .
(6) مروج الذهب : 42 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 485 _
  عبد الله بن حنظلة قال : والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة (1) وكان ( أمير المؤمنين ) معاوية قد أوصى ( أمير المؤمنين ) يزيد قائلا : قد وطأت لك البلاد ومهدت لك الناص ، ولست أخاف عليك إلا أهل الحجاز ، فإن رابك منهم ريب ، فوجه إليهم مسلم بن عقبة فإني قد جربته وعرفت نصيحته (2) فلما خرج أهل المدينة على يزيد ، قال لمسلم بن عقبة :
  ادع القوم ثلاثا فإن أجابوك وإلا فقاتلهم ، فإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثا .
  فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند ، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناص (3) وذهب الجيش ، وقيل في المجزرة : والله كان ينجو منهم أحد ، قتل خلق من الصحابة ونهبت المدينة وافتض منها ألف عذراء (4) وقتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن (5) ، وراثت الخيل وبالت بين القبر والمنبر ، ولم تصل في مسجد النبي جماعة ، وكان هذا اليوم من أكبر مصائب الإسلام وخرومه ، ثم انتقل الجيش بعد ذلك إلى مكة فحوصرت ورمي البيت بالحجارة (6) لقد وضعت بني أمية بذور الأنياب التي تحافظ على الانحراف والشذوذ تحت مظلة قالوا بأنها مظلة الإسلام ، وأثمرت هذه البذور شجرة كبيرة ، مارس أصحابها فيما بعد الاعتداء والترويع والتنكيل وقتل وصلب المخالفين لهم في الرأي ، ولم يكن هذا الارهاب أو الحكم بالرعب والتخويف سوى ، تحصين لمصالح الحاكم دون الشعب ، ولم يقف هذا الأمر عند بني أمية بل أصبح سنة رفع أعلامها الذين جاؤوا من بعدهم على الرغم من اختلاف الأسماء .
  روي أن عصر أبو جعفر المنصور كان من أشد العصور قسوة على المعارضين له في الرأي وظلت الدائرة تتسع وتحمل ثقافة كاملة تبارك حكم الجبرية والطاغوت وتزينه بأعلام الفتوى.

-------------------------------
(1) تاريخ الخلفاء : 195 .
(2) فتح الباري : 71 / 13 .
(3) ابن الأثير : 311 / 3 .
(4) تاريخ الخلفاء : 195 .
(5) الخصائص الكبرى : 240 / 2 .
(6) رسائل ابن حزم ط المؤسسة العربية : ص ، 140 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 486 _
  6 ـ تحت ظلال الشجرة :
  قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( لا تقوم الساعة حتى يبعث الله أمراء كذبة ، ووزراء فجرة ، وأمنا خونة وقراء فسقة ، سمتهم سمة الرهبان ، وليس لهم رغبة ، فيلبسهم الله فتنة غبراء مظلمة يتهوكون (1) فيها تهوك اليهود في الظلم (2) ، لقد بدأ بنو أمية الطريق وحصنوا أنفسهم على حساب غيرهم فتحت شعار الفتوحات وضعوا أعينهم على خزائن المال، كانت هذه خطوتهم الأولى.
  أما الخطوة الثانية فلقد جاءت على حساب الصحابة ، وذلك أنهم وضعوا الصحابة في مرتبة القداسة ، وبما أنهم ممن ينطبق عليهم تعريف الصحابي ، فقد دخلوا حظيرة هذه القداسة التي تقول بعدالة الصحابة وعدم اجتماعهم على ضلالة ، فالتشكيك فيهم يعني التشكيك في الصحابة ، ونحن بدورنا لا ننكر فضل الصحابة ، ولكن أي صحابة ؟ إن القرآن الكريم وصف دوائر منهم بالنفاق والخروج على الرسول ورسالته كما جاء في سورة التوبة ووصف دوائر منهم بالفسق وفضح مؤامراتهم ودسائسهم التي كانوا يحيكونها في الظلام كما فضح تخاذلهم عن نصرة الرسول في بعض الغزوات وتجسسهم عليه إلى غير ذلك مما نص عليه القرآن ، هذا بالإضافة إلى عشرات الأحاديث التي اختارها أصحاب الصحاح ووصفتهم بالارتداد عن الدين والتمرد على أصوله ومبادئه بنحو لا يدع مجالا للريب ، والتاريخ أثبت في أن العديد منهم كان كغيرهم من سائر الناس .
  فيهم الصالح والظالم والمنافق ومن قذفت به النزعات والأهواء إلى أسفل درك من الانحطاط والتدهور ، ولقد أخبر رسول الله بأن هذا التدهور سيقود أصحابه إلى فتنة غبراء مظلمة يتهوكون فيها تهوك اليهود في الظلم ، إن الصحابة الذين لا ينكر فضلهم هم من حدث التاريخ أن أعمالهم وأقوالهم خرجت من تحت ظلال القرآن الكريم ، ومن لم يأت ذكره في التاريخ وثبت أنه من الصحابة فله نصيب وافر من

-------------------------------
(1) أي يقعون فيها بغير روية .
(2) رواه البزار ( الزوائد 233 / 5 ) وأحمد ( الورع : 49 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 487 _
  الاجلال ، أما مظلة الصحابة التي شيدها بنو أمية ، فهي مظلة تخضع للبحث العلمي ، حتى لا يأتي اليوم الذي نصلي فيه الجمعة يوم الأربعاء ، أو نجد أنفسنا نسير على قاعدة لا تحقق إلا المجد الشخصي لفرد ما أو لقبيلة ما أو لحزب ما وجميع هذه المناهج لها أصول قيل بأنها دينية في عالم بني أمية ، لقد شيد بني أمية صرحهم على حساب الصحابة ، فقام هذا العهد بوضع العديد من الأحاديث التي تنتقص من أهل البيت:
  أولا: ثم التي تحور من مفهوم الخلافة وتنتهي به إلى مفهوم الوراثة وحكم الفرد .
  ثانيا : ومن أجل الوصول إلى هذه الأهداف اشترى بنو أمية ضمائر المرتزقة والحاقدين لينسجوا لهم ولأتباعهم ثوبا من الفضائل ليستتروا به أمام رعاياهم .
  وبالإضافة إلى هؤلاء ، قاموا بتغذية الشعراء بالحياة القبلية ، فألقوا بمآثرهم إليهم ليذيعون على الناس مفاخرهم كما يهجون أعداءهم هجاء تفوح منه رياح العصبية الجاهلية الموروثة (1) .
  ولم يكتف بني أمية في وضع أصولهم في الحديث والشعر والقصص ، وإنما حفروا بأظافرهم في الكيان الإنساني فوضعوا الأحاديث التي تقول بفضل العرب على من سواهم ، وذلك لتذويب الروح الإسلامية التي لم تفصل بين جنس وجنس ولا لون ولون إلا بالأعمال الصالحة التي تعود بالنفع على الأفراد والجماعات وفقا لتقوى الله تعالى ، وكان شعار الأمويين ( السواد بستان قريش ) وتحت هذا الشعار تم احتقار الموالي ودفعهم إلى الأعمال التي كان الأمويون يأنفون منها ، وأخذ العرب في العصر الأموي ينظرون للموالي نظرة السيد للعبد .
  ومضوا يعاملونهم لا تلك المعاملة الإسلامية التي أمر بها رسول الله ، وإنما معاملة أقل ما توصف به إنها بعيدة عن روح الإسلام ومجافية لمبادئه الإنسانية (2)، فبني أمية ورثوا ما جاء به الأولون من خيمة ( أنا خير منه ) تلك الخيمة التي صنفت الناس إلى أشراف وأراذل من عهد نوح ، وفي عالم وضع الأحاديث والقصص

-------------------------------
(1) حياة الشعر : 742 .
(2) حياة الشعر : 171 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 488 _
  وشعر الجاهلية وشعر الأديرة ، وفي عالم أمراء بني أمية وفقهائهم ، ألقت الشجرة بثمارها التي يسير من أكلها في فتنة يتهوك فيها تهوك اليهود في الظلم ، لقد ظهرت المذاهب منها ما هو على الطريق الصحيح ومنها الذي أخطأ الطريق ، وأهم مذهب شجعه بني أمية لأنه يتفق مع أهدافهم هو ( الإرجاء ) يقول الدكتور يوسف خليفة : ظهر هذا المذهب بعد أحداث الفتنة ، كما تظهر حمامة السلام ، مذهبا سياسيا مسالما يحمل غصن الزيتون ، يلوح به للجميع ويعلن أن الجميع قاتل ومقتول وظالم ومظلوم على حق ، لأنه لا يوجد أحد يستطيع أن يعين أيهم المخطئ وأيهم المصيب لأن الأمور مشتبهة ، ولهذا فإن الحكم ، أن يترك أمر الجميع إلى الله ، ولقد عمل الأمويون على استقرار مذهب المرجئة ذلك المذهب الذي يخدم البيت الأموي (1) بعد أن ثار جدل طويل حول موقعة الجمل وصفين والنهروان ، وبدأ البعض بحث عن الحقائق ، ولقد جاء هذا المذهب نتيجة للكم الرهيب من الأحاديث والقصص التي وضعها مرتزقة بني أمية وخلطوا فيها بين الحق وبين الباطل حتى التبس الأمر على الكثير ، ومذهب الإرجاء هذا تحيط به الشبهات ، فكما أن اليهود اخترقوا الساحة قديما عندما كف الناس عن الرواية وتفرغوا للقص في المساجد وكما دخل النصارى إلى ساحة الشعر تحت مظلة الوليد بن عقبة في عهد عثمان ، كذلك كان النصارى وراء مذهب الإرجاء الذي جاء على هذا الكم من القص والحديث ، يقول الدكتور يوسف خليفة : ويميل ( كريمر ) إلى القول بأن هناك صلة بين مبادئ المرجئة وبين تعاليم الكنيسة الشرقية ، ويرى أن هذا واضح بالذات في فكرة عدم التخليد في النار ، كما أن إيمان المرجئة الهادئ الذي يغلب عليه الانشراح وتعزية النفس ، يتفق كل الاتفاق مع تعاليم يوحنا الدمشقي الذي كان وقت ظهور هذه الطائفة ، يشتغل بالأبحاث الدينية ، ويتمتع بشهرة كبيرة في عاصمة الخلفاء الأمويين ، ثم يؤكد في النهاية إن آراء المرجئة ترجع في أصلها ومسلكها إلى فلسفة الكنيسة الإغريقية ونحن لا نرفض القول بأن تعاليم المرجئة قد تكون متأثرة بتعاليم الكنيسة الشرقية (2) وهكذا التقى البدء مع الختام وقام بني أمية بإزالة الفوارق بين دائرة

-------------------------------
(1) حياة الشعر : 309 .
(2) حياة الشعر : 312 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 489 _
  الرجس وبين دائرة النجس، وكان القرآن قد حذر من أصحاب هذه الدوائر كما ذكرنا من قبل ، وسقط من مذهب المرجئة قطرات جرت من الماضي إلى الحاضر وتنطلق إلى المستقبل ، ولم تكن بصمات أهل الكتاب على هذا المذهب العقائدي فقط وإنما وضعوا بصماتهم على العديد من شؤون الحياة يقول الدكتور صابر دياب :
  والدارسون للسياسة الأموية المالية كان من رأيهم إنها كانت إحياء للسياسة البيزنطية القديمة بمساوئها ومظالمها معا ، فولاة الأمويين لم يكونوا رسل إصلاح إنما كانوا جباة للمال همهم أن تحصل الضرائب ، وكان من يسلم لا يعفى من دفع الجزية وأباح الأمويون للقبائل العربية التي توافدت على مصر أن تحوز الأرض إلى جانب ما كانت تناله من عطاء وعادت ظاهرة الهرب الجماعية من الأرض الزراعية هربا من ضرائب الأمويين مثلما كان يحدث في العصر البيزنطي (1).
  ومن هنا بدأت الإنطلاقة التي أخبر عنها الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ) قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن ؟ ) (2) وقال الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم من أهل الكتاب حذو القدة بالقدة ) (3) ولما كان الطريق هو طريق الطمس والقهقري فإن ببني إسرائيل على هذا الطريق فرق عديدة .
  يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( إن بني إسرائيل تفرقت على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة ، وإن أمتي ستتفرق على اثنتين وسبعون فرقة ، فتهلك إحدى وسبعين وتخلص فرقة ـ وفي رواية : كلها في النار إلا فرقة ـ قالوا يا رسول الله من تلك الفرقة ؟ قال ( الجماعة .

-------------------------------
(1) تاريخ مصر الإسلامية وحضارتها / د . صابر دياب : ص 66 .
(2) رواه البخاري : 264 / 4 ، مسلم : 219 / 16 ، أحمد ( الفتح : 197 / 1 ).
(3) رواه أحمد والبغوي وابن قانع والطبراني وسعيد بن منصور ( كنز العمال : 170 / 11 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 490 _
  الجماعة ) (1) ، لقد كان بنو أمية ثمرة لطريق بدأ بعد وفاة الرسول الأعظم صلى ، الله عليه وآله وسلم ، وهذه الثمرة حملت شذوذ وانحراف بني إسرائيل الذين حملوا شذوذ وانحراف البشرية كلها ، ويخطئ من يظن أن بني أمية إنتهوا بنهاية دولتهم على أيدي العباسيين ، لأن ثمرتهم طرحت بذرتها بعد نهاية دولتهم بستانا من الشذوذ ـ الخارج عليه خارج عن القانون، وفي ظل هذا القانون اتسعت حضارة الثراء والترف والرقيق والجواري والغناء والمجون والشعوبية والزندقة ، فبني أمية حفروا في جسد الأمة مجاري طويلة ، ورفعوا فوق هذه المجاري أعلام القداسة .
  وعندما جاء العباسيون ثاروا على بني أمية في الوقت الذي استعملوا فيه هذه المجاري يقول الدكتور شوقي ضيف : أقام العباسيون خلافتهم على أنهم أحق الناس بإرث رسول الله ، ومضوا يحيطون أنفسهم بهالة كبيرة من التقديس ، كان لها أسوء الأثر في خنوع الناس وخضوعهم للظلم والفساد وفي ظل هذا الحكم الاستبدادي لم يحسب أي حساب للرعية ، فهي أدوات مسخرة للحاكم ، وليس لها من الأمر أي شئ ، فالحاكم في يده كل الأمر وكل السلطات (2) وكثر الرقيق في العصر العباسي ، وكان يشيع بينهم الخصيان ، والإسلام يحرم خصاء الإنسان احتراما لآدميته ، وكان رقيق النساء من الجواري أكثر عددا من رقيق الرجال .
  وكانت هؤلاء الجواري والإماء من أجناس وثقافات وديانات وحضارات مختلفة ، فأثرن آثارا واسعة في أبنائهن ومحيطهن ، وهي آثار امتدت إلى قصر الخلافة وعملت فيه عملا بعيد الغور، فقد كان أكثر الخلفاء من أبنائهن ، فالمنصور أمه حبشية والهادي والرشيد أمهما الخيزران رومية ، وكانت أم الواثق رومية ، وقد أخذ هؤلاء الجواري يكثرن في القصر منذ المهدي وكان بينهن من يعلقن الصلبان ، وكان قصر الأمين يزخر بالجواري الغلاميات اللاتي يلبسن لبس الغلمان وزخر قصر المعتصم والواثق بالجواري المسيحيات (3) .

-------------------------------
(1) رواه أحمد ( الفتح الرباني : 6 / 24 ) وابن ماجة وابن جرير في التفسير ورجاله رجال الصحيح .
(2) العصر العباسي الأول / د . شوقي ضيف ط دار المعارف : ص 21 .
(3) العصر العباسي الأول / د . شوقي ضيف ط دار المعارف : ص 58 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 491 _
  إن الطريق الذي بدأه الوليد بن عقبة في عهد عثمان أثمر في نهايته مأساة ، وعلى امتداد هذا الطريق ذبحت الفضيلة بمقاصل القبائل التي استسلمت للإسلام كي تحفر المجاري التي تدفن فيها الفطرة ، ونحن لا ننكر أنه خلال هذه العصور كان هناك تقدما مدنيا في مجالات عديدة مثل الطب والهندسة الفلك وغير ذلك .
  ولكن ما قيمة هذا كله إذا كان يتجه بأصحابه نحو الطمس ، إننا ننظر هنا إلى الدعوة الإسلامية التي بعث الله تعالى رسولها لينقذ الفطرة من عالم الزخرف والفتن ، ونحن نقول إن هذه الدعوة واجهت عثرات على امتداد التقدم المدني، وقتل على طريق هذا التقدم والطرب ، الإمام علي بن أبي طالب ، قتل الإمام الذي قاتل على تأويل القرآن ، فإذا كان فقيه التأويل قد قتل في بداية الطريق .
  فبماذا نسمي نهاية الطريق ؟ لقد كان التقدم المدني تقدما عظيما في عالم الفتن ، وكان قتل الإمام ومن بعده أولاده تقدما أعظم في اتجاه المسيح الدجال، إنها الفتن وعن حذيفة أنه قال : ( إن للفتنة وقفات وبعثات فإن استطعت أن تموت في وقفاتها فافعل ، وما الخمر صرفا بأذهب بعقول الرجال من الفتن (1) ولقد جاء النبي بدين الحق، ولا إكراه في دين الله ، والله غني عن العالمين ! وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) (2) قال المفسرون ، أفإن مات أيها القوم لانقضاء مدة أجله ، أو قتله عدوكم انقلبتم على أعقابكم ، يعني ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمدا بالدعاء إليه ، ورجعتم عنه كفارا بالله بعد الإيمان به ، وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم محمد إليه ، وحقيقة ما جاءكم به من عند ربه ومن ينقلب على عقبيه ، أي من يرتد منكم عن دينه ويرجع كافرا بعد إيمانه ، فلن يضر الله شيئا ، أي فلن يوهن ذلك عزة الله ولا سلطانه ، ولا يدخل بذلك نقص في ملكه ، بل نفسه يضر بردته .

-------------------------------
(1) رواه ابن أبي شيبة ( كنز العمال : 229 / 11 ) .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 144 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 492 _
  7 ـ خاتمة المطاف :
  في عالم الفتن تطير العقول ، وفي عالم العقول الطائرة ، لا تسأل عن إجابة لأي سؤال ، لقد ذم الإسلام منذ عهد نوح (عليه السلام )وحتى الرسالة الخاتمة اتباع الأهواء ، ولم يضع الله دينه على مائدة البشرية كي يقول فيه كل منهم برأيه ، وإنما كانت العامود الفقري للدين ، أتؤمن أو لا تؤمن ؟ ونحن نقول هل شذت الرسالة الخاتمة عن هذا؟ بمعنى هل ترك الله دينه الخاتم لتنهش فيه القبائل كل منهم حسب ما يراه ، أم قام سبحانه بتحصين هذا الدين من مختلف الأهواء حتى قيام الساعة ؟ فإذا كانت الإجابة أن الدين لم يشذ عن القاعدة وأن الله تعالى حصن دينه من أطماع الطامعين ، فما معنى أن يجلس يزيد بن معاوية على رقبة الأمة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأقل من خمسين عاما ، وكان يزيد فاتحة للغلمان من كل جنس ولون بعد ذلك ؟ إذا كانت هناك إجابة فهي أن مبادئ التحصين لم يلتفت إليها بعد الرسول إلا في حدود ضيقة ، فإن قيل أن مبادئ التحصين وضعت أيام الرسول وسارت عليها الأمة من بعده مدة طويلة ، نقول أن التاريخ لا يقول بذلك ، ونحن أمام التاريخ إما أن نقول ، أن الرسول وضع أساسا سار عليه الناس من بعده ، وفي هذا ظلما للدعوة ، وإما أن نقول أن الرسول وضع أساسا ولم يسير الناس عليه بعد موته إلا في حدود وهذا القول يستقيم مع حركة التاريخ وأيضا مع إخبار الرسول بالغيب عن ربه ، فمعنى أن الأمة ستتبع سنن الذين من قبلها ، أن حلقات التحصين ستذوب ليختلط هذا مع ذاك ، ومعنى أن حلقات التحصين ستذوب أن ساحة النسيان بين الأمة وحلقات التحصين ستتبع .
  والنسيان أرض خصبة للشيطان وعلى امتداد التاريخ انطلق الشيطان منها نحو البشرية ، دخل إلى قوم نوح منها وإلى قوم عاد عندما أقاموا أبنيتهم على الأعمدة لتفادي الطوفان لما دثرت ثقافة النسيان حقيقة الطوفان ، وعندما أهلكهم الله بالريح ، دخل إلى ثمود من بعدهم عندما حفروا بيوتهم في الصخور كي يتفادوا الرياح لما دثرت ثقافة النسيان حقيقة الرياح ، وهكذا لا نستبعد أن قول الرسول لعلي بن أبي طالب ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ضاع أثره في عالم النسيان في الأمة الخاتمة شأنها شأن الأمم السابقة ، ولذا نجد أن أمير المؤمنين عندما ذكر العديد بهذا الحديث كانت إجابتهم واحدة ( نسينا ) ! ! وكل نسيان له مقدمات

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 493 _
  على امتداد التاريخ الإنساني ، وعلى هذا فالقول بأن الرسول وضع أساسا وسار عليه الناس ، هذا القول يذهب كهباء ضائع في خلاء بمجرد النظر في أحداث مقتل الحسين والحرة ودخول الخيل مسجد النبي وحرق البيت العتيق بعد وفاة النبي بنصف قرن تقريبا .
  ويبدو هذا القول عاجزا أمام طريقة اختيار الخليفة منذ البداية وحتى عالم الوراثة الذي سنه معاوية بن أبي سفيان وأخذ من بعده أشكالا متعددة على امتداد التاريخ تحفظ للفرد أو القبيلة أو الحزب حقه في رقاب الناس ، إن دين الله لا يوضع على الموائد ليقول فيه كل صاحب هوى ، وإلا لماذا أهلك الله الأمم السابقة ومنهم من قال : ( ما أريكم إلا ما أرى ) ؟ وقد جعله الله عبرة للمسلمين بمقدار ما هو عبرة لبني إسرائيل، قال تعالى : ( إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ، فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا ) (1) لم يقل :
  كما أرسلنا إلى مدين رسولا أو إلى المؤتفكة رسولا ، وإنما اختار فرعون ، ليتدبر الذين أمسكوا بذيول القياصرة والأكاسرة والفراعنة ، في قصة الذي عصى الرسول فأخذه الله أخذا وبيلا ، والآية الكريمة يجد المتدبر فيها شعاعا يلقي بضوئه على حركة تاريخ المسلمين.
  ويبقى سؤال : إذا كانت حركة التاريخ تستقيم مع الأساس الذي وضعه النبي ، فكيف يستقيم هذا مع الحديث الشريف : ( من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية ) (2) فهل يزيد بن معاوية وأمثاله ومروان بن الحكم والوليد بن يزيد وأمثالهما يدرجوا ضمن الأئمة الذين إذ لم يعرفوا كان مصير من لا يعرفهم أن يموت موتة جاهلية ؟ إن يزيد قتل الحسين والعديد من علماء الإسلام أجازوا لعنه ، وفي عهد يزيد اقتحمت الخيول المدينة وبايع أهلها يزيد على أنهم عبيد له ، ومروان كان سببا مباشرا في قتل عثمان وهو قاتل طلحة وفوق كل هذا فهو ابن طريد رسول الله ولعن الرسول أباه وهو في صلبه ، والوليد فتح نافذة الغناء والطرب والمجون ليدخل الشذوذ والانحراف من كل لون ، إذا كانت الإجابة ، إن هؤلاء

-------------------------------
(1) سورة المزمل ، الآيتان : 15 ـ 16 .
(2) رواه الطبراني ( الزوائد : 218 / 5 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 494 _
  أئمة ساروا على الأساس الذي وضعه الرسول ، فإن هذه الإجابة ستكون ظلما للإمامة ، وإلا يكون تعريف الإمامة نفسه قد التقط من على طريق القهقري والطمس ، حيث الإمامة على هذا الطريق تدعو إلى النار كما في الحديث :
  ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) (1) ، فكيف وعلى أي أساس تعقد الإمامة لمن لا يقتدي برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ إن انعقاد الإمامة لهذه الأنماط البشرية ، يعني أن الحركة تسير على غير الأساس الذي وضعه الرسول الأكرم ، لأن الحركة تاجرت بالشعار وجندت ألفاظه لخدمة مآربها ، ولأن الجماهير في عالم الفتن قد افتتنت بهذه الشعارات ترتب على ذلك الموتة الجاهلية كما ورد في الروايات المتعددة ، أن الذين تاجروا بالشعار أعد الله لهم عذابا أليما يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( ليتمنين أقوام ولوا هذا الأمر .
  أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يلوا شيئا ) (2) ، وما ينطبق على استعمال لفظ الإمامة في الفتنة ينطبق أيضا على استعمال لفظ الجماعة ، ففي الحديث الشريف ، ) من فارق الجماعة شبرا فقد فارق الإسلام (3) والحديث : ( ... فمن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه ) (4) وغير ذلك من الأحاديث التي تنادي بالجماعة وفقا للأساس الذي وضعه النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فإذا حدث ولم نر جماعة فمعنى ذلك أن الطريق من الأساس إلى نقطة الافتراق كان به عقبات .
  ولقد روى أصحاب التواريخ والتراجم والسير والصحاح والمسانيد والتفسير ، أن المذاهب الفكرية قطعت الأمة إلى رقع ، حلال الحقبة الأولى من تاريخ المسلمين ، فكان الخوارج في العراق وفارس والجزيرة والأباظية في عمان ، ثم بدأت المذاهب تضع الأسوار حول أراضيها ، فاستقلت الأدارسة والأغالبة والطاهرية والزيادية من العصر العباسي الأول ، وفي عصر المماليك استقلت

-------------------------------
(1) رواه مسلم : 20 / 5 .
(2) رواه أحمد ( كنز العمال : 23 / 6 ) .
(3) رواه البزار ( الزوائد : 224 / 5 ) .
(4) رواه الإمام أحمد ( الزوائد : 217 / 5 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 495 _
  الصفارية بفارس والسمانية بخراسان والزيدية بطبرستان والطولونيون والإخشيديون بمصر والشام والفاطميون في الشمال ، ولم يبق مع عاصمة الخلافة سوى العراق والسواد ، ويقول السيوطي: في دولة بني العباس إفترقت كلمة الإسلام وانقسمت ممالك الأرض ، وحكم الناس بالعسف والظلم والجور ، وقال الذهبي : بدولة العباس تفرقت الجماعة (1) إن الطريق إلى هذا التمزق لم يكن بحال ينتمي إلى الأساس الذي وضعه النبي الذي لا ينطق على الهوى (صلى الله عليه وآله وسلم) .
  فهذا الطريق الذي يدعي الجماعة ، ضرب الرسول جماعته عندما تحدث عن أئمة الفتن كما ورد في الصحيح وقال : ( لو أن الناس اعتزلوهم ) إن هذا القول ينسف قول الذين جندوا لفظ الجماعة لخدمة مآربهم ، فإذا قال قائل ، إن الجماعة قائمة على مستوى الأمة وهي على نفس الأساس الذي وضعه رسول الله ، فإننا نقول : إن هذا القول بالنسبة للمساحة العريضة ، قول رده علماء التاريخ ، حيث قالوا بدولة العباس تفرقت الجماعة ، وفي عالم التتار والمماليك كانت الكارثة عظيمة ، وهذه الكارثة مهدت فيما بعد لأيامنا هذه التي لا نعرف حتى أسمائها ولا نعرف لأحداثها ألوانا وهذا كله يصرخ في أسماع الوجود بأن النتيجة لا تنسجم إلا مع مقدمتها .
  ولا يخفى على المتدبر أن الروايات التي تطالب بمعرفة الإمام حتى لا يكون هناك ميتة جاهلية ، والروايات التي تطالب بالجماعة حتى لا يكون هناك مفارقة للإسلام ، هذه الروايات تنسجم مع الروايات التي حددت أن الأئمة من قريش .
  ولكن أي قريش ؟ إن التاريخ يخبرنا بأن قريشا وضعت نظاما من تحت مظلته حرقت الكعبة ودام به الحكم بالوراثة وحكم الناس في ظله بالظلم والجور ، فأي قريش يقود إلى النجاة ؟ إننا لا نقبل أن يكون التحديد خاضعا للأهواء ، فلنتدبر تحديد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الشأن وبه نعلم أي قريش يقود إلى النجاة ؟ قريش المال والسلاح ، أم قريش العفة والعلم ؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ) (2) وقال : ( الأئمة من قريش أبرارها أمراء أبرارها ،

-------------------------------
(1) عقيدة المسيح الدجال / للمؤلف : ص 182 .
(2) رواه الإمام أحمد وفي الصحيح طرف منه ( الزوائد : 191 / 5 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 496 _
  وفجارها أمراء فجارها ) (1) وقال : ( إن خيار أئمة قريش خيار أئمة الناس (2) .
  والخلاصة : إن حركة التاريخ تقر وتعترف بأن السواد الأعظم قد أخذ بذيول أهل الكتاب شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى أن رقعة كبيرة في هذا السواد أصبحت في النهاية تخجل من الانتساب للإسلام إرضاء لجبابرة أهل الكتاب الذين يتربعون على قمة النظام الدولي الذي أقرته الأهواء ، ووراء ذيول أهل الكتاب تتردد ألفاظ لا معنى لها مثل ، الإمامة والجماعة والأمة ، ونظرا لأن هذه الألفاظ تستعمل في أكثر من ساحة وتستعمل في كل فتنة ، فإن المطلوب إرجاعها إلى الإسلام للوقوف على معناها الدقيق .
  لقد سردنا على امتداد هذا الكتاب ، الانحرافات البشرية ، وبينا أن الشيطان أفصح عن خطته منذ اليوم الأول عندما رفض السجود لآدم ، وبينا أن تحقير الإنسان خرج من تحت إدعاء الشيطان بأنه خير من آدم ، وأن تقييض الشيطان للصراط المستقيم تم على امتداد التاريخ البشري على أكتاف المنافقين الذين يسيرون على الصراط المستقيم بفقه الشعار الخالي من الشعور ، فقه القول الذي لا يتطابق مع العمل ، وإن ، الشيطان اعتمد في خطته على التزيين والإغواء وطرح الأماني والآمال على عقول البشر ، كي يندفعوا وراء الشذوذ والانحراف ولا يجدوا حرجا من تغيير خلق الله والعمل على اجتثاث أي أصول تدعو إلى الفضيلة ، وبينا أن الله تعالى حاصر خطوات الشيطان ، بإرشاد الإنسان إلى طرق الخير على لسان رسله وأنبيائه عليهم السلام، وأن الشيطان لا يستطيع أن يضر إنسان لأن الله تعالى ضرب على خطواته العجز بحيث لا تصيب إلا الذين خرجوا من دائرة الأمان باختيارهم واتجهوا نحو زينة الشيطان وزخرفه وذكرنا أن الرسالة الخاتمة قصت على البشرية الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم ، وكيف ضربها الله تعالى بأسباب الكون وطالبت الرسالة البشرية ، بالنظر إلى الخلف ليكون للإنسان في ماضيه عبرة ، لينطلق إلى المستقبل هو لا يحمل من الماضي انحرافا أو شذوذا ، وأن يتقدم إلى الأمام بزاد الرسالة الخاتمة، التي حصنت الإنسان من كل موارد

-------------------------------
(1) رواه الطبراني ( الزوائد : 192 / 5 ).
(2) رواه الطبراني ( الزوائد : 195 / 5 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 497 _
  الهلاك التي تكمن في المستقبل ، وإذا كان لنا في الختام كلمة ، فإننا نقول : يخطئ من يظن أن تاريخ الإسلام هو نفسه تاريخ المسلمين ، ويخطئ من يظن أن تاريخ الإسلام كله صراعات وبحث عن المال والكرسي ، وهذه المقولة تاجر بها العديد على امتداد التاريخ وهي لا تقترب من الصواب بحال من الأحوال ، إن تاريخ الإسلام في عصر الرسالة الخاتمة امتداد لتاريخ الإسلام منذ اصطفى الله تعالى آدم ، وتاريخ الإسلام هو تاريخ الفطرة التي يقف في مربعها نوح وآل إبراهيم وآل عمران ، فمن أراد أن يقف على تاريخ الإسلام ، فعليه بحركة الأنبياء والرسل ودعوتهم في اتجاه عبادة الله الحق ، وفي عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ تاريخ الإسلام في دعوته وحججه التي أقامها على معسكر الشذوذ والانحراف ، ولأن تاريخ الإسلام هو تاريخ الفطرة النقية ، فإنك لا تجد على امتداد هذا التاريخ ما تنفر منه الفطرة السوية ، وتجد أن الله تعالى أيد هذا التاريخ على امتداده بالنصر والظفر على أعدائه وإن طال المدى، أما تاريخ المسلمين فهو شئ آخر ، فما استقام منه مع حركة الرسل فهو من تاريخ الإسلام ، أما الصراعات والأحقاد من أجل هوى من الأهواء ، فهذا لا علاقة للإسلام به ، لأنه من تاريخ الناس ، ومن الناس من أغواهم الشيطان وزين لهم فانطلقوا مع أمانيه في اتجاه القهقري والطمس .
  فكيف يستقيم تاريخ قهقري مع تاريخ يقيم رسل الله وأتباعهم وجوههم فيه في اتجاه العبادة الحق ، إن بني إسرائيل قبل أن يعبروا البحر مع موسى (عليه السلام )كانوا يدونون تاريخ الإسلام ، وعندما نصبوا العجل قبل أن تجف أرجلهم من مياه البحر ، كانوا يدونون تاريخ بني إسرائيل ، والذين آمنوا منهم برسول الله عيسى (عليه السلام )، كانوا يدونون تاريخ الإسلام حتى الليلة التي رفع الله فيها رسوله عيسى ، وعندما أشرقت الشمس ووجدوا شبيه المسيح على الصليب ، وكان المسيح قد ذكر لهم ذلك ، تبخر قول المسيح لهم وراحوا يدونون تاريخهم الذي لا يعرف المسيح عنه شيئا ، وفي عصر الرسالة الخاتمة أحكمت الشريعة القفل على جميع الانحرافات وحذر كتاب الله من المنافقين الذين يحملون الرجس على عقولهم وأبدانهم وحذر من المشركين الذين يحملون النجس على عقولهم وأبدانهم ، وحذر من اتخاذ بطانة من هؤلاء أو هؤلاء ، لأن اتخاذ البطانة من هؤلاء سيكون فاتحة لبكاء بلا احتجاز ، ولكن العديد من المسلمين رأوا أن الاقتراب من

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 498 _
  هؤلاء لن يضر المسيرة في شئ ، وكانت النهاية كما ذكرنا ، واتسعت دائرتها في عصرنا الحاضر حتى تسلل اليهود من تحت الأظافر ، وامتصت بنوكهم ثرواتنا ، وأصبح لهم ولغيرهم الصوت المسموع في المحافل الدولية التي صنعوها ، ونحن لا نجيد إلا العزف على عود الوليد بن عقبة ونهتز طربا على أشعار شعراء المجون والانحراف ، ويخطئ من يظن أن تاريخ المسلمين قد ابتلع تاريخ الإسلام ، فللإسلام طائفة تعمل على امتداد التاريخ وهذه الطائفة لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله ، ولقد أفاضت الروايات في طائفة الحق منها ( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين ، لعدوهم قاهرين ، لا يضرهم من جابههم ... ) (1) ويخطئ من يظن أن تاريخ المسلمين دون كله في دروب الانحراف ، فالمسلمين هم وحدهم الذين يعرفون معنى الطهارة والشرف ، وغيرهم لا يقيم لهذه الأمور وزنا .
  ودائرة الاختلاف عند المسلمين منحصرة في القيادة لا غير ، فكل طائفة ترى أن قيادتها أحق وكل طائفة تدعم أقوالها بما لديها من حجج ، ونحن في هذا الكتاب ابتعدنا عن أي حجة لا تستند على كتاب الله وحديث رسوله وحركة التاريخ ، كي يظهر الحق ويشع بعيدا عن أسواق الجدل ، ورغم الجدل الدائر حول من الأحق بكرسي الخلافة أو بكرسي الوعظ والإرشاد ، إلا أن المسلمين في العبادات يلتحفون بلحاف واحد ، لا يظهر فيه الاختلافات التي من المفروض أن تكون بين المذاهب ، وعالم المسلمين اليوم بعد انهيار النظم الوضعية ، تعدى دائرة الخلاف التي تنحصر في من الأحق بالقيادة واتجه إلى فقه الشعار الذي يحتضن فقه الشعور ولا يسير إلا به ، وذلك بعد أن تبين المسلمون حقيقة المخاطر التي تحيط بهم على مستوى النظام الدولي ، باختصار بدأ المخلصون في العالم الإسلامي في العمل على رقعة واحدة ، ونحن نأمل أن تكون هذه البداية مقدمة لوحدة اقتصادية وتربوية وعسكرية ، تمهد الطريق ليوم الإنتصار ، يوم يجتمع أصحاب طريق الطمس والقهقري تحت راية المسيح الدجال ذلك الشر المخبوء ، الذي من عدل الله جعل أمامه خيرا مخبوءا يحمل رايته المهدي المنتظر ، وهو من ولد فاطمة عليها السلام كما ذكرت الأحاديث والمهدي عندما

-------------------------------
(1) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه البزار والطبراني ورجاله ثقاة ( الزوائد : 287 / 7 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 499 _
  يأتي سيمثل تاريخ الإسلام الذي يحتوي على مخزون الفطرة النقية ، أما الدجال فإنه يمثل تاريخ الناس في عالم الانحراف والإغواء ، وهناك من ينكر وجود المهدي وفقا لأطروحة الانحراف ، ونحن لا ندين من اعتقد بهذا الإعتقاد ، فدين الله لا إجبار فيه ، وهذا الإعتقاد لا يستند إلا على تاريخ الناس ، وتاريخ الناس عندنا يخضع للنقد ، لأننا لا نعبد الرجال ، أما تاريخ الإسلام ، فانتظروا ، فغدا سترفع راياته من جديد ، وستكون راياته آخر الزمان عنوانا للفطرة النقية في عالم مملوء بالرجس والدنس والعار ( والله غاب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (1) وصلى اللهم على النبي الأكرم وآله وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

-------------------------------
(1) سورة يوسف ، الآية : 21 .