هكذا بدأت الموجة على أيدي الأمويين الأوائل ، أمير يصلي سكران ، وكان هذا الفعل من المقدمات التي مهدت للثورة على عثمان ، ومعنى أن الأمير يتكاتف مع صديقه النصراني في حزمة واحدة ، أن ثقافة اللهو قد بلغت مبلغها .
  وإذا كان الناس قد شهدوا في أيام عثمان أميرهم يشرب خمرا ويستمع إلى المغنيات ، فإنهم في نهايات العصر الأموي شهدوا خليفة لهم يشرب الخمر ويتغنى بها ويستمع إلى المغنيات ، ويبعث في طلبهن من أقصى الأقاليم الإسلامية ، بل يزيد على ذلك إستهانة بالدين واستهتارا به ، وتحللا من القيم الأخلاقية وإفراطا في المجون والتهتك والخلاعة ، وهو الوليد بن يزيد ، الني يصفه صاحب مروج الذهب ، بأنه ( صاحب شراب ولهو وطرب وسماع للغناء وهو أول من حمل المغنين من البلدان إليه ، وجالس الملهين وأظهر الشرب والملاهي والعزف ، وغلبت عليه شهوة الغناء في أيامه على الخاص والعام ) (1) ويقول الدكتور يوسف خليفة : ومعنى هذا أننا أمام ظاهرة اجتماعية شديدة الخطر ، لم يسبق للمجتمع الإسلامي أن شهد مثلها ، فلأول مرة في تاريخ هذا المجتمع ، نجد أنفسنا أمام خليفة ماجن متهتك خليع ، نسي أنه ( أمير المؤمنين ) ! وأنه ( إمام المسلمين ! ) فاندفع في حياة لاهية مستهترة حتى أطلق عليه لقب ( مروان الخليع ) والناس على دين ملوكهم ، وفعلا اندفع كثير من الناس يقلدون خليفتهم ، دون أن يجدوا في ذلك حرجا عليهم أو يخشوا تنفيذ الحدود فيهم ، وإذا كان الوليد بن عقبة قد نفذ فيه الحد أيام عثمان عندما ثار الناس ، فإن الخليفة الوليد بن يزيد ، لم يجد أحدا ينفذه فيه ، لأنه هو نفسه صاحب الحق الشرعي في تنفيذ الحدود ، ولم يكن من المعقول ، أن ينفذ الحد في نفسه ، ولم يكن من المعقول أيضا أن ينفذه في غيره (2) ولكنه على أي حال فقه الرأي ، وهكذا بدأت الحلقة بأمير وانتهت بخليفة ، وإذا كان الشعراء قد بدأوا عالم اللهو على استحياء في عالم القص والوضع والرأي ، فإن حركتهم بعد ذلك 1 / 333 ـ 336 ، الطبري : 1 / 5 / 2843 ، العقد الفريد : 34816 .

-------------------------------
(1) مروج الذهب : 2 / 146 ، 149 ، الطبري : 2 / 3 / 1740 وما بعدها ، ( 181 ، 1812 ، الأغاني : 7 / 1 ـ 83 .
(2) حياة الشعر في الكوفة : 205 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 452 _
  كانت من أجل وضع ثقافة على مثلها يأتي خليفة قبل الوليد بن يزيد ، ولقد روي أن العديد من الشعراء والقصاصين كانوا على علاقة وطيدة بأديرة النصارى ، وعلى أكتاف هؤلاء ظهر شعر المجون الذي زرع ثقافة ظلت تعبر من جيل إلى جيل وتعمل من أجل تكاتف دائرة الرجس مع دائرة النجس ، يقول الدكتور يوسف خليفة ، كان ظهور الوليد بن عقبة وصاحبه النصراني في هذا الوقت المبكر ، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، إرهاصا لموجة اللهو التي كانت في طريقها إلى ديار المسلمين لتغمرها شيئا فشيئا ، ولعل أهم شاعر أخذت تغمره هذه الموجة المبكرة هو ( الأقيشر الأسدي ) وهو أحد المعمرين يرجح صاحب الأغاني أنه ولد في الجاهلية ، وقد طال به العمر حتى أدرك خلافة عبد الملك بن مروان ومات فيها (1) .
  وإذا كان الحديث عن الخمر قد ظهر على استحياء في شعر الوليد بن عقبة حيث قال وهو في طريقه إلى عثمان :
  لا تحسبنا فد نسينا الايجاف ، والنشوات من عتيق أوصاف وعزف قينات علينا عزاف وهو بذلك يحصر المتعة في ألوان ثلاث هي ، الرحلة والشراب والسماع ، فإذا كان ذكر الخمر قد ظهر هنا على استحياء فإن ( الأقيشر ) لم يتورع عن التصريح بشربها في خلاعة واستهتار غير مألوفين في هذا الوقت المبكر من حياة المجتمع الإسلامي ، والظاهرة التي تلفت النظر في خمريات ( الأقيشر ) هي استهتاره بالإسلام واستخفافه ، بشعائره (2) أما لماذا اختار هذا الشاعر الإسلام هدفا ليرشق فيه نباله ، فإن هذا يرجع إلى الدائرة التي كان يعيش فيها ، فالأقيشر كان يتخير ندماءه من أبناء البطارقة النصارى (3) وفي شعره قال :
  لا أشربن أبدا راحا مسارقة ، إلا مع الغر أبناء البطاريق

-------------------------------
(1) الأغاني : 11 / 251 ، 257 ، 258 .
(2) حياة الشعر : 596 .
(3) الأغاني : 11 / 253 ، 254 ، 257 ، 259 ، 560 ، 263 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 453 _
  والأقيشر هو الذي وضع مبادئ الزندقة في شعره ، وأعلن أنه يشرب الخمر على المنبر ، ويقف على الناس خطيبا ، لا ليبصرهم بشؤون دينهم ، ولا ليحثهم على مكارم الأخلاق ، وإنما ليقلب لهم الأوضاع الدينية والأخلاقية والاجتماعية (1) ، وإذا كان الأقيشر قد اكتفى بإلقاء الشعر وتربية أجيال عليه .
  فإن ( حنين الحيري ) وكان معاصرا للأقيشر ، قد قام بتوسيع ، هذه الدائرة ، وخاصة إنه كان يجمع بين الشعر والغناء ، وحنين الحيري كان يتخير لشعره الأوزان الخفيفة القصيرة والسريعة الانتشار ، وكان يتجنب الأوزان الطويلة الضخمة ليكون شعره صالحا للتحين والغناء ، وهذا الاتجاه الموسيقي ازداد اتجاه الشعراء خلفه ، وبخاصة شعراء اللهو ، حتى أصبح بدعا فنيا بينهم ، وسمة من السمات المميزة لفنهم (2) وحنين في عالم بني أمية صاغ منهجه بوضوح يقول الدكتور يوسف خليفة : عندما بدأ في نشر رسالته اللاهية التي زينها للناس ، بدأ وكأنه يقول لهم : هذه هي حياتي فهل تحبون أمثالها ، إنه نداء غير مباشر إلى حياة تقوم على المتعة المتحررة ، وما من شك في أن هذا النداء وأمثاله كان يؤثر في نفوس الكثير من الشباب، ويخلب ألبابهم ويلفت أنظارهم إلى أن الحياة تشيع فيها البهجة والمتعة ، وتسيل الخمر بين أيدي الندامى في ظلال الطبيعة ، وفعلا استجاب كثير من الشباب إلى هذا النداء الساحر ، الذي يوقعه مغنيهم على قيثارته ، ومضوا يغرقون همومهم في هذه الحياة الصاخبة المعربدة ، لعل رنين كؤوسها وصخب سكارها ينسيهم أنين الجرحى وعويل الثكالى ـ في العهد الأموي ـ ومضى التيار في ترفعه ورياح المجتمع الجديد تدفعه ، والناس من حوله يغرقون أنفسهم وفنهم فيه (3) .
  لم يكن هذا يحدث في بقعة واحدة من خيمة بني أمية ، إنما كان يحدث في بقاع شتى ، يقول صاحب حياة الشعر : فالأديرة كانت مقصدا لطلاب الخمر من المسلمين ، ويتاح لهم فيها حظ كبير من الحرية والشراب واللهو مع من

-------------------------------
(1) حياة الشعر : 597 الشعر في الأغاني : 11 / 268 ، 269 .
(2) حياة الشعر : 599 .
(3) حياة الشعر : 598 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 454 _
  يقومون على حاناتها من فتيان الرهبان ونساء القساوسة وبناتهم ، وخاصة في أيام الآحاد والأعياد حيث تتوافد مواكب النصارى في أبهى زينة وأجمل زي ، وقد وصف الشعراء هذه الأديرة وما يحيط بها من مظاهر الطبيعة ، ووصفوا مجالس الشراب في حاناتها ، ودور الضيافة بها ، وتغزلوا في راهباتها الجميلات وفي أولئك الفتيان والفتيات ، الذين كانوا يقدمون عليها ويقدمون الخمر لروادها .
  ووصفوا مواكب النصارى في طريقهم إليها ، وما كان يجري فيها من ألوان العبث (1)، ولما كانت الأديرة تشرف على الثقافة الجديدة التي تجعل من الإسلام إسما ومن القرآن رسما بل لينتهي الأمر معها في عصر من العصور أن يخجل المسلم من الانتساب إلى الإسلام، كان لا بد لتجار المتع أن يطفحوا بألسنتهم كل ما عندهم في هذا الوقت المبكر ، ولهذا فتحت الأديرة أبوابها للقصاصين والشعراء ، يقول صاحب حياة الشعر ، كان من بين هؤلاء الشعراء جماعة يلازمون هذه الأديرة وكثر شعرهم فيها ، ولعل أشهرهم شاعران : الثرواني وبكر بن خارجة ، ويذكر الرواة أن الثرواني كان له صديقا من رهبان دير الحريق بالحيرة ، يوفر له جميع ألوان العبث ليفرغ الثرواني ما في جوفه من الشعر الذي يشيع فيه الجو النصراني ، وقد بالغ الثرواني ووصل التطرف في شعره إلى درجة الرغبة في مشاركة النصارى أعيادهم وصلواتهم وعقائدهم بل إلى الدعوة إليها .
  ولا يبالي أن يفتضح أمره بين المسلمين ، بل إنه يدعو إلى تعظيم أحبار النصارى ورهبانهم وصلبانهم التي يبدي إعجابه بها ، وينادي بأن يكون مستقره في داخل البيع مع الرهبان والقساوسة ، ثم يعلنها جريئة متطرفة : أنه لا يقول هذا عبثا .
  وإنما هوجاء فيه ، أنه ليس كأولئك الخلفاء المنافقين الذين يصطنعون الخلاعة اصطناعا لينالوا من ورائها الشهرة ، وهو يريد أن يكون أصحاب الخلاعة على حظ من الشجاعة المعنوية ، فإما أن يؤمنوا في نفوسهم بما يفعلونه ، وإما أن يتركوا سبيل العبث والخلاعة ، ويلزموا سبيل التقوى والصلاح ، فيحافظوا على الصلوات وشهود الجمعة وملازمة المساجد ، أما هذا النفاق الديني فشئ لا يحبه ولا يرضاه لا لنفسه ولا لهم ، ومن شعره في هذا :

عظم  الأحبار iiوالره      بان والصلب الملاحا

-------------------------------
(1) حياة الشعر : 633 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 455 _
واجعل  البيعة iiوالقصد      سـر  جميعا iiمستراحا
لا  كـمن يمزح iiبالشه      رة  والـخلع iiمـزاحا
أو  دع الـشهرة والزم      كل من يهوى iiالصلاحا
والـزم  الجمعة iiوالبك      رة فيها والرواحا (1)
  وانطلق هذا الشاعر وأمثاله في الكوفة والبصرة والحيرة والشام وغير ذلك من البلاد يدعون في أشعارهم إلى شرب الخمر في جو نصراني خالص ، عندما تقرع النواقيس في الأديرة ، وعندما يأخذ القساوسة والشمامسة في تراتيلهم الدينية على أنغام (الأرغن) الناعمة الحالمة (2) وكثرت جماعات المجون وعصابات السوء ، ودوت معزوفات ضخمة ، اشترك فيها مجموعات هائلة من العزاف .
  وعلى الجسر الذي يصل الشاطئين الأموي والعباسي ، أخذت جماعات من المجان والخلعاء تمر فوقه ، مخلفة وراءها الفضيلة التي صرعت على مذابح اللهو والمجون والخلاعة ، لتستقبل على الشاطئ الآخر الرذيلة وقد تجردت من ثيابها جميعا ، وبسطت ذراعيها إلى أقصاهما ، لتضم إلى أحضانها هؤلاء الوافدين من طلابها ، وتبلغ الغواية مداها ، ويتساقط الشباب تساقط الفراش المتهافت على النار ، وكلما اشتدت ظلمة الهاوية زاد عدد المتخبطين فيها ، وفي أعماقها السحيقة مضت جماعات من الشعراء تضرب على غير هدى ، وقد ألف اللهو بينهم ، وربط المجون بين أسبابهم ، كلهم فاسق ، وكلهم خليع ، وكلهم سكير ... وهذه المدرسة اللاهية ، هي التي أرست قواعد غزل النساء وغزل الغلمان ، وكلا اللونين لم يكونا تعبيرا عن عاطفة روحية ، وإنما كان تعبيرا عن لذة حسية ، فالغزل في هذه المدرسة ، لم يكن حديث العاطفة وإنما كان حديث الغريزة ، ولم يكن نجوى الروح وإنما كان نداء الجسد ، وعلى بناء هذه المدرسة كثرت طائفة الجواري والمغنيات في المجتمع الإسلامي ، وعلى أكتاف هذه المدرسة انتشرت الزندقة ودقت أوتادها ، وراج شعر الأديرة (3).

-------------------------------
(1) حياة الشعر : 633 ـ 634 .
(2) حياة الشعر : 633 .
(3) حياة الشعر : 506 - 606 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 456 _
  والخلاصة : مهدت كل دائرة للأخرى في عالم القص والشعر ، فالدائرة التي فيها أمير مهدت للدائرة التي فيها أمير للمؤمنين (!) ومن دائرة أمير المؤمنين كانت أعلام الضياع ، وهكذا أمير عينه على الشام وآخر عينه على مصر وأمير عينه على كأس ، وينتهي الأمر بكارثة ، هيمن فيها على الساحة خلف يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، القرآن في واد وهم في واد آخر ، وتسير الجموع في طريق اللاهدف ، دليلها أمير يريد كرسي وبيده شعارا إسلاميا ضاع منه الشعور ، وإذا كانت هناك إضافة لهذا الضياع الذي بدأ هادئا وانتهى ـ بكارثة ، فإننا نضيف شيئا مهما آخر قد ضاع بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسلم في عهد بني أمية ، وهذا الشئ هو الصلاة .
  فلقد روى البخاري عن الزهري أنه قال : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : لا أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت (1) إن أنس لا يعرف حوله أي مظهر من المظاهر التي كانت على حياة رسول الله، إلا الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت ، وما ضاعت الصلاة في نهاية الطريق إلا عندما ضاع الحكم في أول الطريق وهذا هو الدليل ، أخرج أحمد والطبراني والحاكم وصححه عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله (ص) قال : ( لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، أولهن نقضا الحكم وآخرهن ( الصلاة ) (2) .

  ثانياً : العواصف :
  1 ـ قتل عثمان :

  في عهد عثمان بحث ولاة البيت الأموي عن الذهب والمتعة في كل مكان ، وفي نهاية عهد عثمان تعرضت الدولة لانتفاضتين سببهما واحد ، ظلم الولاة.
  الانتفاضة الأولى : مرت بهدوء ولكنها ألقت بظلالها على الثانية .

-------------------------------
(1) البخاري : 13 / 1 .
(2) الخصائص الكبرى / السيوطي : 265 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 457 _
  والإنتفاضة الثانية : كانت عاصفة في عالم من السكون فعثمان كان محاصرا ، على الرغم من وجود أكثر الصحابة في المدينة ، وليس معنى هذا أن سكان المدينة كانوا من الضعف بحيث لا يستطيعون التصدي لحفنة قطعت طريقا طويلا من مصر إلى المدينة ، وضمت إيها حفنة أخرى من هنا أو هناك ، ولكن السكون كان له ما يبرره .
  أولا ، لم يكن في السياسة ما يشجع للدفاع عنها ، وهذه السياسة قام بتعريتها أبو ذر الغفاري حين فضح معاوية في الشام وعندما رده معاوية إلى عثمان قام الأخير بنفيه إلى الربذة ، وهذا الحدث ثابت في كتب التواريخ والسير وغيرها .
  ثانيا : إن السيدة عائشة أدلت بدلوها في الأحداث وأصدرت فتوى مبكرة في قتل عثمان وقالت : ( اقتلوا نعثلا فقد كفر ) .
  ثالثا : كان هناك من الولاة من يهمه انقلاب الأوضاع طمعا في التهام قطعة من أرض الأمة ، فعمرو بن العاص على سبيل المثال يذكر ، ابن سعد بأسانيده ، أن عثمان لما عزله عن مصر قدم إلى المدينة فجعل يطعن على عثمان فبلغ عثمان .
  فزجره فخرج إلى أرض فلسطين فأقام بها (1) : فهذه العوامل ، أي السياسة الخطأ وشحن ابن العاص لأهل المدينة ، وفتوى السيدة عائشة كل هذه عوامل تبرر هذا السكون الذي يرفع راية السلبية وأكبر رأس في الدولة محاصر ، ويضاف إلى هذا معاوية ، لقد روي أنه كان بالمدينة في أوائل الأحداث وعلم أن هناك خطورة على عثمان ومع ذلك لم نرى على امتداد الأحداث أن معاوية جاء بجيش جرار للدفاع عن رأس الأمويين، حتى أمراء الأجناد في المدينة وما حولها لم تر لجيادهم غبار ، فإن دل هذا على شئ فإنما يدل على اتفاق يقضي بالتضحية بثمرة لامتلاك بستان فيه كثير من الثمر ، فالأمراء من بني أمية والذهب في أيديهم وسحق القوى المعارضة مضمون ، وعن مثل هذه الأنماط البشرية يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم ، " كان في بني إسرائيل جدي في غنم كثيرة ترضعه أمه، فانفلت فرضع الغنم كلها ، ثم لم يشبع. فبلغ ذلك نبيهم ، فقال : إن هذا

-------------------------------
(1) الإصابة : 61 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 458 _
  مثل قوم يأتون بعدكم ، يعطى الرجل منهم ما يكفي القبيلة أو الأمة ثم لا يشبع (1) ، ومعاوية قال فيه رسول الله ( لا أشبع الله له بطنا ) وهذا ثابت في كتب الحديث .
  إن عدم حركة بني أمية أثناء الحصار وعدم محاكمة قتلة عثمان بعد أن تولى معاوية خلافة المسلمين التي تاجر على أول أعتابها بقميص عثمان ، هي من معالم الفئة الباغية التي لا ينكرها أحد ، لقد كان السكون يدب في أرجاء المدينة ، ولم يكن في بيت عثمان للدفاع عنه سوى قلة من الرجال من بينهم الحسن والحسين ، جاؤوا لعلمهم بما سيحدث وفقا لأخبار الرسول بما سيجري بعده ، ففي الحديث عن يزيد ابن مريم عن أبيه قال ، (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حدثنا ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة (2) وعن حذيفة قال :
  قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فلم يدع شيئا إلا ذكره إلى أن تقوم الساعة ، عقله من عقله ونسيه من نسيه ) فالحسنين كانت دائرة الذهن عندهم تراقب الأحداث ، فجاؤوا ليقيموا الحجة بأنهم ليسوا طرفا في طبخ الفتنة ، ولأن الفتنة واقعة لا محالة لأنها ثمرة لطريق طويل ، وقف الحسن والحسين في مربع المقتول وليس القاتل ، والوقوف في مربع المقتول ليس شهادة للمقتول ، وإنما لأن مربع القاتل في دائرته أصابع خفية ستحكم وعندما تحكم ستذيق أمة محمد الذل ألوانا ، وعن علي بن أبي طالب أنه قال عن صناع الفتن : ( ما من ثلاثمائة تخرج إلا ولو شئت سميت سائقها وناعقها إلى يوم القيامة ) (3) فحركت الأحداث عند أمير المؤمنين وأولاده معروفة لأن الرسول أخبر بأسماء رؤوس الهدم على امتداد التاريخ فعن حذيفة أنه قال : ( والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا ، والله ما ترك رسول الله من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا ، إلا وقد سماه لنا ، باسمه وسم أبيه واسم قبيلته ) (4) ، فحركة الإمام علي والحسنين حركة على بصيرة بالأحداث ، لذا وقفوا في مربع المقتول ليقيموا

-------------------------------
(1) رواه الطبراني ( كنز العمال : 368 / 3 ) .
(2) رواه البغوي وابن عساكر ( كنز العمال : 426 / 12) .
(3) رواه الحاكم وأقره الذهبي ( كنز 472 / 4 ) .
(4) رواه أبو داوود : حديث رقم 4222 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 459 _
  الحجة على كل من سيتاجر بدماء المقتول لأمر في نفسه ، وقفوا ليقولوا أن أيديهم نظيفة ولا إجبار في دين الله ، وبقراءة سريعة لأحداث الانتفاضة الأولى التي مهدت للثانية ، نجد سببها الوليد بن عقبة والي عثمان على الكوفة ، ولقد ذكرنا من قبل قصته مع النصارى والشعر والخمر ، والوليد عندما خرجت رائحته ، ذهب وفد من الكوفة إلى عثمان ليشكون إليه الوليد ، وتقدم منهم رجلان إلى عثمان وقالا كما ورد في الأغاني : إنا جئناك في أمر ونحن مخرجوه إليك من أعناقنا ، وقد قلنا أنك لا تقبله ، قال :
وما هو ؟ قالا : رأينا الوليد وهو سكران من خمر شربها ، وهذا خاتمه أخذناه وهو لا يعقل وفي رواية المسعودي: وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه ، فرزأهما ودفع في صدورهما وقال : تنحيا عني ، وفي رواية البلاذري : وقد يقال : إن عثمان ضرب بعض الشهود أسواطا ، فأتوا عليا فشكوا إليه ، فأتى عثمان وقال ، عطلت الحدود وضربت قوما شهود على أخيك فقلبت الحكم ، وأخرج البلاذري : فأتى الشهود عائشة ، فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان ، وأن عثمان زبرهم ، فنادت عائشة : إن عثمان أبطل الحدود وتوعد الشهود .
  وأخرج صاحب الأغاني ، أن عثمان قال ـ : أما يجد مراق أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة ، فسمعت فرفعت نعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم ، وقالت : تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل ، فتسامع الناس فجاؤوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل ، أحسنت ، ومن قائل : ما للنساء ولهذا ؟
  حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ، وأخرج البلاذري، وكان ذلك أول قتال بين المسلمين بعد النبي ، ومرت هذه الانتفاضة بسلام بعد أن أقيم الحد على الوليد بن عقبة ، فأما الانتفاضة الثانية فكان سببها أخو عثمان أيضا ولكن من الرضاعة، عبد الله بن أبي السرح وكان النبي قد أهدر دمه يوم الفتح ولكنه اختبأ عند عثمان والقصة ذكرناها من قبل ، ومن أسبابها أيضا مروان وهو ابن عم عثمان ومروان طرد النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم أباه ولعنه وذكرنا هذا من قبل .
  والخلاصة يقول فيها صاحب الإصابة : كان سبب قتل عثمان ، أن أمراء الأمصار، كانوا من أقاربه ، كان بالشام كلها معاوية وبالبصرة سعيد بن العاص وبمصر عبد الله بن أبي السرح وبخراسان عبد الله بن عامر ، وكان من حج من

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 460 _
  الناس يشكو من أميره ، وكان عثمان يستبدل بعض الأمراء ليرضي الناس، ثم يعيدهم بعد ذلك إلى أن رحل أهل مصر يشكون من ابن أبي السرح ، فعزله .
  وكتب لهم كتابا بتولية محمد بن أبي بكر ، فرضوا بذلك ، فلما كانوا في أثناء الطريق ، رأوا راكبا على راحلة ، فاستخبروه فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي السرح ، ومعاقبة جماعة من أعيانهم ، فأخذوا الكتاب ورجعوا وواجهوه به ، فحلف أنه ما كتب ، فقالوا سلمنا كاتبك ، فخشي عليه من القتل ، وكان كاتبه مروان بن الحكم وهو ابن عمه ، فغضبوا ، وحاصروه في داره (1) .
  وروى ابن أعثم (2)، أن أم المؤمنين عائشة لما رأت اتفاق الناس على قتل عثمان قالت له : أي عثمان خصصت بيت مال المسلمين، لنفسك ، وأطلقت أيدي بني أمية على أموال المسلمين ، ووليتهم البلاد وتركت أمة محمد في ضيق وعسر ، قطع الله عنك بركات السماء وحرمك خيرات الأرض ، ولولا أنك تصلي الخمس لنحروك كما تنحر الإبل ، فقرأ عليها عثمان : ! ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين (3) وبعد ، أن فرغ عثمان كانت الفتوى ، أخرج الطبري وابن أعثم وابن الأثير وغيرهم ، أن أم المؤمنين قالت : ( اقتلوا نعثلا فقد كفر ) (4) وانتشرت الكلمة على الأفواه ، وخرجت السيدة عائشة قاصدة مكة ، ولم ينام بنو أمية على أعتاب دار عثمان ، ولم يبدو في الأفق غبار سرية من سرايا أمراء بني أمية الذين فتحوا البلدان ومصروا الأمصار .
  تبشر بفك الحصار المضروب على أكبر رأس في الدولة .
  والخلاصة : قتل عثمان !

  2 ـ أضواء على يوم الجمل :
  بعد دفن عثمان ، تهافت الصحابة الكبار على علي بن أبي طالب ، يطلبون

-------------------------------
(1) الإصابة : 4 / 223 ـ 224 .
(2) تاريخ ابن أعثم : 155 .
(3) سورة التحريم ، الآية : 10 .
(4) الطبري : 477 / 4 ، ابن الأثير : 87 / 3 ، ابن أعثم : 115 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 461 _
  يده للبيعة ، كان قد مضى على وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسلم ربع قرن تقريبا ، وخلال هذه المدة لم ترو الأحاديث لتعريف المسلمين بفضائل أهل البيت ، ونتيجة لهذا فإن مساحة عريضة من شباب المسلمين حينئذ لم يكن لديهم أدنى معرفة بعلي بن أبي طالب (عليه السلام ) ، ويبدو هذا بوضوح في تخاذل قواته فيما بعد في تنفيذ أوامره ، فالشباب نشأ في عصر الفتوحات حيث المال والتنافس والجور ، ولقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم بهذه الثقافة في قوله .
  ( لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع ، فكلما طلع من الجور شئ ذهب من العدل مثله حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره ، ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل فكلما جاء من العدل شئ ، ذهب من الجور مثله حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره ) (1) باختصار كان أمير المؤمنين يقف في دائرة مملوءة بالغرباء .
  وكان من أقواله في هذه الدائرة قول النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم ، ( طلب الحق غربة ) (2) لقد كان عليه أن يواجه الرؤوس ولكن القاعدة التي سيستند عليها في معظم الأحوال لم يسهر عليها ولم يربيها بنفسه ، وأمام هذه الحقيقة عندما طالب الصحابة بمبايعته تردد في أول الأمر ، ليس خوفا من الموقف ، وإنما لعلمه أن تقدمه سيفتح بابا إلى الجنة وبابا إلى النار ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سئل : من يحمل رايتك يوم القيامة يا رسول الله ؟ قال ، ( من يحسن من يحملها إلا من حملها في الدنيا علي بن أبي طالب ) (3) لقد كان أمير المؤمنين يجد الطريق طويل وعليه يسقط الكثير وهذا ما كان يحزنه ، لكنهم عندما أصروا على مبايعته قبلها ومما ذكره الطبري: فأتاه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم ، فقالوا : إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله ، فقال ، لا تفعلوا فإني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا ، فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال : ففي المسجد فإن لا تكون خفيا ولا تكون إلا عن رضى المسلمين ، وروي بسند آخر: ( فجاء فصعد المنبر. فاجتمع الناس إليه .

-------------------------------
(1) رواه أحمد ( الزوائد : 196 / 5 ) .
(2) رواه ابن عساكر عن علي ( كنز العمال : 239 / 1 ) .
(3) رواه الطبراني ( كنز العمال : 136 / 12 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 462 _
  فقال : إني قد كنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ، ألا وإنه ليس لي أمر دونكم ، ألا إن مفاتيح مالكم معي ، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم ، رضيتم ؟ قالوا : نعم ، قال : اللهم إشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك (1) .
  وروي أن طلحة والزبير كانا ضمن الذين بايعوا الإمام ـ على مشهد من الناس ـ وحينما هم أمير المؤمنين لمباشرة أعماله التي بدأها بتغيير الولاة ، جرت الأحداث لتعميق كل هذا ، فلقد خرجت عليه السيدة عائشة وانضم إليها طلحة والزبير بعد أن نكثا ببيعتهما ومما رواه الطبري : أن عائشة سألت عن الأحداث وهي في طريقها إلى المدينة عبد الله بن أم كلاب ، فقال : قتلوا عثمان فمكثوا ثمانية ، قالت ، ثم صنعوا ماذا ؟ قال : أخذها أهل المدينة بالإجماع ، إجتمعوا على علي بن أبي طالب ، فقالت : ردوني ردوني ، فانصرفت إلى مكة وهي تقول : قتل عثمان مظلوما ، والله لأطلبن بدمه ، فقال لها ابن أم كلاب : ولم ؟
  فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت ، ولقد كنت تقولين اقتلوا نعثلا فقد كفر ، قالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه ، ولد لملت وقالوا ، وقولي الأخير خير من قولي الأول فقال لها :
فـمنك البداء ومنك iiالغبر      ومنك الرياح ومنك المطر
وأنـت أمرت بقتل iiالإمام      وقـلت لـنا أنـه قد كفر
فـهبنا أطـعناك في iiقتله      وقـاتله  عـندنا من iiأمر

  فانصرفت إلى مكة ، فنزلت على باب المسجد ، فقصدت الحجر فتسترت ، واجتمع إليها الناس ، فقالت : ( يا أيها الناس إن عثمان قتل مظلوما ، والله لأنملة من عثمان خير من علي الدهر كله ) (2) وعلى أثر هذا بدأت الحركة ، وهذه الحركة كانت الحجة قد أقيمت عليها من النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم من قبل ، فقد روي أن الناس ذهبوا إلى حذيفة وقالوا : إن عثمان قد قتل فما تأمرنا ؟
  قال : آمركم أن تلزموا عمارا ، قالوا : إن عمارا لا يفارق علي ، قال : إن الحسد هو أهلك الجسد ، وإنما ينفركم من عمار قربه من علي ، فوالله لعلي أفضل من

-------------------------------
(1) الطبري : 5 / 152 .
(2) الطبري : 172 / 5 ، البلاذري : 91 / 5 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 463 _
  عمار ، أبعد ما بين التراب والسحاب ، وإن عمار لمن الأحباب ، وهو يعلم أنهم إن لزموا عمارا كانوا مع علي (1) ، وأخرج البزار بسند جيد عن يزيد بن وهب قال : كنا عند حذيفة ، فقال : كيف أنتم وقد خرج أهل دينكم يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف ؟ قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : انظروا إلى الفرقة التي تدعو إلى أمر علي فالزموها فإنها على الحق (2)، لقد كان هذا التوجيه حجة على حركة التاريخ في هذا الوقت ، فالذي فتك به الحسد عليه بعمار ليسير مع علي ، وفضل عمار تفيض به كتب الصحاح والمسانيد ، ومن لا حسد عنده ولا يريد الخلافة لأحد من قبيلته ، فعليه مباشرة بعلي ، ليرى تحت رايته العديد من الصحاح عملا بتوصية النبي فقد قال ، إنها ستكون فتنة ؟ قالوا : فما نصنع يا رسول الله ؟ قال :
  ترجعون إلى أمركم الأول (3) والأمر الأول يقف علي بن أبي طالب في قلب دائرته ، ويواصل النبي إقامة الحجة على حركة الأحداث فعن معاذة الغفارية قالت ، كنت أخرج مع رسول الله في الأسفار أقوم على المرضى وأداوي الجرحى ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت عائشة وعلي خارج من عندها ، فسمعته يقول لعائشة : إن هذا أحب الرجال إلي وأكرمهم علي .
  فاعرفي لي حقه واكرمي مثواه (4) وعن رافع مولى عائشة قال ، كنت غلاما أخدمها إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها ، وإنه قال : عادي الله من عادى عليا (5) وعن ابن عباس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسائه : ليت شعري ، أيتكن صاحبة الجمل الأديب (أي الكثير الشعر) تخرج فتنبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثير (6) ، وأحاديث نباح كلاب الحوأب أخرجها أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم والبيهقي وأبو نعيم ، من هذا كله نعلم أن الحركة كلها تحت مظلة الحجة ، فالدين دين الله وحركته حركة

-------------------------------
(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقاة ( الزوائد : 243 / 7 ) .
(2) فتح الباري : 85 / 13 وقال الهيثمي رجاله ثقاة ( الزوائد : 236 / 7 ) .
(3) رواه الطبراني ( كنز العمال : 149 / 11 ) .
(4) الإصابة : 183 / 8 .
(5) الإصابة وقال ابن حجر رواه ابن منده وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه : 2 / 191 .
(6) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ( الزوائد : 234 / 3 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 464 _
  مضبوطة لا تسمح لأي إنسان أن يضيف إليها إضافة ، لأن الإضافة هوى ، والهوى إذا لبس رداء الدين أفسد الدين، وبدأت الأحداث التي أقيمت عليها الحجة من قبل ، وبدأ الزحف قال ابن عباس : دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام ) وهو يخصف نعله ، فقال لي : ما قيمة هذا النعل ؟ قلت : لا قيمة لها ، فقال ، والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا ، ثم خرج فخطب في الناس فكان مما قال : فلأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه ، ما لي ولقريش ، والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأقاتلنهم مفتونين ، وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم (1) وتقدم علي (عليه السلام ) للحرب على بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهباء (2) وتقدمت السيدة عائشة ومعها طلحة والزبير ، وأخرج أحمد وأبو يعلى والبزار ، لما بلغت عائشة بعض ديار بني عامر.
  نبحت عليها الكلاب ، فقالت : أي ماء هذا ؟ قالوا : الحوأب (3) ، قالت ، ما أظنني إلا راجعه فقال الزبير: لا ، تقدمي فيراك الناس ويصلح الله ذات بينهم .
  قالت : أظنني إلا راجعة ، سمعت رسول الله يقول : كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب (4) وذكر المسعودي أن الزبير قال لها : بالله ما هذا الحوأب ! ولقد غلط فيه من أخبرك به ، وكان طلحة في ساقة الناس فلحقها ، فأقسم أن ذلك ليس بالحوأب ، وشهد معها خمسون رجلا ممن كان معهم ، فكان ذلك أول شهادة زور أقيمت في الإسلام (5) .
  وتقدمت عائشة تاركة وراءها نصيحة العديد ومنهم جارية بن قدامة السعدي قال : يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة للسلاح ، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي من حيث جئت إلى منزلك ، وإن كنت أتيتينا مكرهة فاستعيني بالناس في الرجوع (6) وقال لها زيد بن

-------------------------------
(1) نهج البلاغة .
(2) مروج الذهب : 390 / 2 .
(3) الحوأب منزل بين البصرة ومكة .
(4) الخصائص الكبرى / السيوطي 232 / 2 .
(5) مروج الذهب : 367 / 2 ، البداية والنهاية : 232 / 7 .
(6) البداية والنهاية : 233 / 7 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 465 _
  صوحان عندما كتبت له تدعوه إلى نصرتها : أنا في نصرتك ما دمت في منزلك ، وأبى أن يطيعها في ذلك وقال : رحم الله أم المؤمنين ، أمرها الله أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل ، فخرجت من منزلها وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي هي أحق بذلك منا (1) .
   وعندما التقى الجمعان دنا عمار من موضع عائشة وقال : ماذا تدعين ؟
  قالت : الطلب بدم عثمان فقال : قاتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق، ثم قال ، أيها الناس إنكم لتعلمون أينا الممالئ في قتل عثمان (2) وما أن انتهى عمار ، حتى جاء في اتجاه عائشة فوارس أربعة ، فهتفت عائشة : فيهم رجل عرفته إن أبي طالب ورب الكعبة ، سلوه ما يريد ؟ فقال لها أمير المؤمنين:
  أنشدك بالله الذي أنزل الكتاب مع رسوله (صلى الله عليه وآله) وسلم في بيتك أتعلمين أن رسول الله جعلني وصيا على أهله وفي أهله ، قالت : اللهم نعم .
  قال : فما لك ؟ قالت أطلب بدم أمير المؤمنين عثمان ، قال : أريني قتلة عثمان ، ثم انصرف (3) وقال لطلحة والزبير : أني أراكما قد جمعتما خيلا ورجالا وعددا ، فهل أعددتما عذرا يوم القيامة ، فاتقيا الله ، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا (4) ثم قال لطلحة : نشدتك لله سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ؟ قال : نعم قال ، فلم تقاتلني ؟ قال : لم أذكر وانصرف إلى المعسكر (5) ثم قال للزبير : ألم تذكر قول النبي لك ، إنك تقاتلني وأنت ظالم ؟ فقال ، اللهم نعم ، ولو ذكرت ما سرت سيري هذا ، والله لا أقاتلك (6) وكان علي قبل ذلك قد أقام الحجة في المسجد وقال للناس : أنشد الله من سمع رسول الله يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه أن يقوم فقام ثلاثون رجلا ، وقالوا نشهد أننا قد

-------------------------------
(1) البداية : 234 / 7 .
(2) مروج الذهب : 371 / 2 .
(3) رواه الطبراني ( كنز العمال : 238 / 7 ) .
(4) البداية : 241 / 7 .
(5) رواه الحاكم ( المستدرك : 371 / 3 ) .
(6) البداية والنهاية 241 / 7.

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 466 _
  سمعنا هذا ، ورجع العديد منهم عن قتال أمير المؤمنين ولكن السواد الأعظم على الرغم من هذه الحجج الدامغة طافوا حول الجمل ، وكما روى الطبري ، وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتونه ويشمونه ويقولون : بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك (1) وبدأت المعركة بقول علي (عليه السلام ) : اللهم خذ أيديهم وأقدامهم (2) ودار القتال وسقط عن يمين الجمل وعن يساره قتلى كثير في رواية إنهم بلغوا خمسون ألف قتيل ، وعندما رأى أمير المؤمنين أفي المعركة لن تنتهي إلا بقتل الجمل ، حيث أن معسكر عائشة كانوا يدافعون عن الجمل ، ويعملون على رفع رأسه ، وكلما قتل منهم واحد سارع الآخر ليمسك بزمام الجمل ، حتى قطعت يد سبعين رجلا وهي آخذة بخطام الجمل ، أمر (عليه السلام ) بقتل الجمل ، لأن الحرب ستظل قائمة ما دام هذا الجمل واقفا (3) .
  ولما سقط البعير على الأرض ، انهزم أصحابه وحمل هودج عائشة لتعود إلى بيتها ، وكان الهودج كالقنفذ من السهام ، ونادى منادي على الناس ، إنه لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح (4) ويقال أن أعين بن ضبعة اطلع في الهودج فقالت عائشة : إليك ، لعنك الله ، فقال : والله ما أرى إلا حميراء ، فقالت هتك الله سترك (5) ، وعن أبي ثابت مولى أبي ذر قال كنت مع علي يوم الجمل فلما رأيت عائشة دخلني بعض ما يدخل الناس ، فكشف الله عني ذلك عند صلاة الظهر ، فقاتلت مع أمير المؤمنين ، فلما فرغ ذهبت إلى المدينة ، فأتيت أم سلمة ، فقلت أني والله ما جئت أسأل طعاما ولا شرابا ، ولكني مولى لأبي ذر .
  فقالت : مرحبا ، فقصصت عليها قصتي ، فقالت : أين كنت حين طارت القلوب مطائرها ؟ قلت : إلى حيث كشف الله ذلك عني عند زوال الشمس ، قالت :
  أحسنت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض (6) .

-------------------------------
(1) الطبري : 213 / 5 .
(2) البداية والنهاية : 7 / 8 .
(3) البداية والنهاية : 244 ، 266 / 7 .
(4) البداية والنهاية : 245 / 7 .
(5) البداية : 245 / 8 .
(6) رواه الحاكم وأقره الذهبي ( المستدرك : 124 / 3 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 467 _
  وبعد الجمل قال واحد من الناس لأمير المؤمنين لما أظفره الله بأصحاب الجمل : وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا ، ليرى ما نصرك الله به على أعدائك ، فقال له (عليه السلام ) : أهوى أخيك معنا ؟ قال : نعم قال : فقد شهدنا ، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، سيرعف بهم الزمان ويقوى بهم الإيمان (1) .
  لقد كان لموقعة الجمل أسبابا كثيرة في دوائر كثيرة قد تكون دوائر الحسد وقد تكون دوائر الطمع في الكرسي وقد تكون الطمع في المال ، وقد تكون لا هذا ولا ذاك ، وتكون الموقعة ضمن المخطط العام لبني أمية للسيطرة على جميع خزائن المال في الدولة ، وإشارة ذلك أن مروان ابن طريد رسول الله الحكم .
  كان في معسكر عائشة ضد علي ، لكن قلبه لم يكن مع عائشة ، وكان يعمل أعمال الطابور الخامس داخل صفوف الجمل ، روى البغوي بسند صحيح عن أبي سبرة ، قال ، لما كان يوم الجمل ، نظر مروان إلى طلحة فقال : لا أطلب ثأري بعد اليوم ، فنزع له بسهم فقتله وروي بسند صحيح عنه أنه قال : رأيت مروان بن الحكم حين رمى طلحة يومئذ بسهم ، فوقع في عين ركبته ، فما زال الدم يسبح إلى أن مات (2) وقتل مروان لطلحة مشهور وصرحت به جميع المصادر التي تعتني بهذه الأمور ، فمروان كان عضوا أصيلا في حركة هدامة تصنع الحدث وتراقبه ، وتستأصل في الأحداث كل من يمثل لهم عقبة من العقبات .
  والدليل على أن حركة الهدم تراقب الأحداث ، ما ذكره ابن كثير قال ، قام عمر بن العامر في الناس فقال ، إن صناديد الكوفة والبصرة قد تقاتلوا يوم الجمل ، ولم يبق مع علي إلا شرذمة قليلة من الناس ، وقد قتل الخليفة أمير المؤمنين عثمان .
  فالله الله في حقكم أن تضيعوه (3) ، قال ذلك عندما هرول إلى معاوية وعقد معه صفقة ، أن يساند معاوية في حربه ضد علي نظير أن يعطيه معاوية مصر طيلة حياته ، وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن الزهري ، لما بلغ معاوية غلبة

-------------------------------
(1) النهج الخطبة : 12 .
(2) الإصابة : 292 / 3 .
(3) البداية : 255 / 7 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 468 _
  علي على أهل الجمل ، دعا إلى الطلب بدم عثمان ، فأجابه أهل الشام (1) لقد كانت معركة الجمل ضرورة لحركة الهدم كي يقتل الصناديد ويبقى من يستطيع معاوية اجتياحه أو اللعب بعقوله .
  والخلاصة : لقد اعتبر الخلف أن معارك السلف كانت بين حق وحق وهذه المقولة قامت بتمييع أمور كثيرة ، والقضية لم تكن أبدا محاكمة الموتى ، وإنما هي النظر في خطوات الماضي التي تنطلق إلى الحاضر ، فقد يكون الماضي فتنة وهذه الفتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة وإنما تتعداهم وتصل إلى عقول التمييع والتلجيم والتكميم وتنطلق بهم إلى الدجال ، وما من فتنة صغيرة أو كبيرة منذ صنعت الدنيا إلا من أجل فتنة الدجال (2) قال تعالى : ( ! واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) (3) لقد أمر الله المؤمنين بأن يتقوا فهل من الاتقاء أن يقال إن معارك الماضي كانت بين حق وحق ؟ إن هذه الفتنة التي أمر الله باتقائها .
  قال عنها ابن كثير : قال السدي نزلت في أهل بدر ، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا ... وقال مجاهد : هي أيضا لكم ، وفي قول لابن عباس : أمر الله المؤمنين أن لا يقربوا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم بعذاب (4) .

  3 ـ أضواء على صفين وقتال الخوارج
  إذا جاز لنا أن نضع عنوانا لهذه الموقعة ، فإننا نختار قول النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم : ( علي يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين ) (5) وعن علي أنه قال : ( أنا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الفجار ) (6) وقال مرة ، والمال يعسوب الظلمة (7) ، كان مع علي في قتاله معاوية ثمانون بدريا

-------------------------------
(1) فتح الباري : 85 / 13 .
(2) حديث مخرج سابقا .
(3) سورة الأنفال ، الآية : 25 .
(4) ابن كثير في التفسير : 299 / 2 .
(5) يعسوب أي ملك المؤمنين ، واليعسوب ملك النحل ، رواه ابن عدي ( كنز العمال : 14 / 11 ) .
(6) رواه أبو نعيم ( 119 / 13 كنز العمال ) .
(7) أبو نعيم ( كنز : 119 / 13 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 469 _
  ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة (1) أما معاوية فلقد أرسل إلى علي :
  ( أبلغ عليا أني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل ، وقد بلغ في طاعتهم لمعاوية أنه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة يوم الأربعاء ، ولقد أعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه عليها (2) والعمود الفقري لهذه المعركة كان عمار بن ياسر ، فهو ميزان الحركة ، من في صفه فهو على الحق ومن خالفه فهو من البغاة ، وفيه قال النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم : ( من عادى عمار عاداه الله ، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، (3) وكان عمار مع علي ، وقال النبي :
  ( إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق ، (4) وقال : ( دوروا مع كتاب الله حيث دار ) فقال الناس : ( يا رسول الله فإذا اختلف الناس ، فمع من نكون ؟ فقال ، أنظروا الفئة التي فيها ابن سمية ، فالزموها ، فإنه يدور مع كتاب الله ) (5) وعلي يدور مع كتاب الله ويقاتل معاركة على تأويله ، قال رسول الله:
  ( أنا أقاتل على تنزيل القرآن وعلي يقاتل على تأويله ) (6) .
  وأهم العلامات التي وضعها الرسول (صلى الله عليه وآله) وسلم قوله : ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ) (7) فإذا كانوا يدعونه إلى النار فكيف يكون قتال السلف حق ضد حق ؟ وروي في بداية المعركة أن عمار خطب الناس فقال فيما ذكره الطبري : أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان ، ويزعمون أنه قتل مظلوما ، والله ما قصدهم الأخذ بدمه ، ولا الأخذ بثاره ، ولكن القوم ذاقوا الدنيا ، واستحلوها واستمرأوا

-------------------------------
(1) البداية : 255 / 7 .
(2) مروج الذهب : 41 / 3 .
(3) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح ( الفتح الرباني : 329 / 22 ) .
(4) رواه الطبراني ( كنز : 721 / 11 ) .
(5) رواه الحاكم ( كنز العمال : 168 / 11 ) ، البداية 271 / 7 .
(6) الإصابة : 22 / 1 وحديث قتال علي على التأويل أخرجها أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم .
(7) رواه أحمد والبخاري وابن عساكر وابن أبي شيبة ( الفتح الرباني : 321 / 22 ، كنز العمال 724 / 11 ، البداية والنهاية : 269 / 7 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 470 _
  الآخرة فقلوها ، وعلموا أن الحق إذا لزمهم ، حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم وشهواتهم ، ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس لهم ، ولا الولاية عليهم ، ولا تمكنت من قلوبهم خشية الله التي تمنع من تمكنت من قلبه عن نيل الشهوات ، وتعقله عن إرادة الدنيا وطلب العلو فيها ، وتحمله على اتباع الحق والميل إلى أهله ، فخدعوا أتباعهم بقولهم إمامنا قتل مظلوما .
  ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا ، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون ، ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجلان ، ولكانوا أذل وأخس وأقل ، ولكن قول الباطل له حلاوة في أسماع الغافلين ، فسيروا إلى الله سيرا جميلا ، واذكروا الله ذكرا كثيرا (1) .
  وقال : والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة ، والذي نفسي بيده لو ضربونا حتن يبلغوا بنا سعفات هجر ، لعرفت أن مصلحنا على الحق وأنهم على الضلالة (2) وقال : من سره أن يكتنفه الحور العين فليتقدم بين الصفين محتسبا (3) وأنشد شعرا يقول فيه :
  نحن ضربناكم على تنزيله ، واليوم يضربكم على تأويله ضربا يزيل الهام عن مقيله ، ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق إلى سبيله (4) .
  وكان علي (عليه السلام ) قد خاطب معاوية مرات عديدة كي يدخل في الجماعة ، ويكف عن تعبئة الناس للحرب ولكن معاوية رفض جميع المبادرات السلمية ، ومارس هو وطابوره كل الأعمال لعرقلة مسيرة الاصلاح وعندما جاء القتال ذكر علماء التاريخ وغيرهم ، أن عليا بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلفا حتى ذكر بعضهم أنه قتل خمسمائة ، ونادى علي : ويحك يا معاوية ، ابرز إلي ولا تفني العرب بيني وبينك ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية : اغتنمه فقال له معاوية : والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط ، وإنما أردت قتلي لتصيب

-------------------------------
(1) البداية والنهاية : 292 / 7 .
(2) رواه أحمد ( البداية : 267 / 7 ) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة ( فخ الباري : 86 / 13 ) .
(4) تاريخ الشعر : 354 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 471 _
  الخلافة من بعدي (1)، إن عين كل منهما على الكرسي ، كي يتسمى بأمير المؤمنين ، وينتج ثقافة لا تنتج إلا غثاء لو قاتلتهم الثعالب يوما لغلبتهم ، ودارت المعارك وقال في الفتح :
  قتل من الفريقين فيما ذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه ، نحو سبعين ألفا ، وقيل كانوا أكثر من ذلك ، ويقال كان بينهم أكئر من سبعين زحفا (2) وعلى امتداد المعارك قتل عمار ، وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسلم قد أخبر بأن آخر زاد له من الدنيا ضياح من لبن ، يقول حبة بن جوين : شهدت عمار يوم قتل وهو يقول : إئتوني بآخر رزق لي في الدنيا ، فأتي بضياح من لبن في قدح له حلقة حمراء ، وقال : اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه ، ثم قاتل حتى قتل (3) وبعد قتل عمار التهبت المعارك وشارك فيها نفر من الذين اعتزلوا القتال ، بعد أن تبينوا أن معسكر معاوية على الضلالة ، فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف الهلاك ، قال لمعاوية ، هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا ، ولا يزيدهم إلا فرقة ؟ قال : نعم قال نرفع المصاحف ثم نقول هذا حكم بيننا وبينكم ، فإن بعضهم سيقول ينبغي أن نقبل فتكون فرقة بينهم ، وإن قبلوا رفعنا القتال عنا إلى أجل ، فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا حكم كتاب الله بيننا وبينكم ، فلما رآها الناس قالوا نجيب إلى كتاب الله (4) .
  لقد تاجروا بما تأولوه ووضعوه في غير موضعه ، تاجروا بالمصحف الذي أخفوه تحت أغطية الرأي ، ودخلت الحيلة على الأجيال التي شبت في عالم الرأي ، وطالبوا الأمير بأن يقبل التحكيم ، فقال : ( عباد الله! إمضوا إلى حقكم وصدقكم ، وقتال عدوكم ، فإن معاوية وعمرو بن العاص ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، وأنا أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالا وصحبتهم رجالا فهم شر أطفال

-------------------------------
(1) البداية : 264 / 7 ، ابن الأثير : 158 / 3 .
(2) فخ الباري : 86 / 13 .
(3) ابن الأثير : 157 ، 161 / 3 .
(4) الطبري : 48 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 472 _
  وشر رجال ـ وفي رواية ـ فهم أهل مكر وغدر (1) ، ما رفعوها لكم إلا خدعة ودهاء ومكيدة ) (2) فقالوا : لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فتأبى أن تقبله فقال لهم : ( ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب الله ، وأول من أجاب إليه ، وليس يحل لي ولا يسعني في ديني أن ندعى إلى كتاب الله فلا أقبله ، إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن ، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونقضوا عهده ، ونبذوا كتابه .
  ولكني قد أعلمتكم أنهم قد كادوكم وأنهم ليس العمل بالقرآن يريدون ( (3) ، فقال له بعض القراء الذين صاروا خوارج فيما بعد : يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم ، فقال : فاحفظوا عني نهي إياكم .
  واحفظوا مقالتكم لي ، فإن تطيعوني فقاتلوا ، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم (4) ، وكان النبي صلى عليه وآله وسلم ، قد أخبر عن اختلاف الأمة بعد موته ، وأن دائرة هذا الاختلاف ستتسع عند تحكيم حكمين ، فقال : ( إن بني إسرائيل اختلفوا ، فلم يزل اختلافهم بينهم ، حتى بعثوا حكمين فضلا وأضلا .
  وإن هذه الأمة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين ضلا وضل من اتبعهما ( (5) واتفق الطرفان على الحكمين وارتضى معسكر معاوية بابن العاص حكما وارتضى الذين في معسكر أمير المؤمنين أبو موسى الأشعري حكما ، ولكن أمير المؤمنين اعترض وقال ( إني لا أرضى بأبي موسى ولا أرى أن أوليه ) فقالوا : لكنا لا نرضى إلا به ، فقال لهم ، افعلوا ما شئتم (6) واحفظوا عني نهي إياكم ، واحفظوا مقالتكم لي (7) ، وبدأ التحكيم ، وكما بدأت الحركة بخدعة المصاحف أنهت الموقف

-------------------------------
(1) ابن أبي الحديد : 426 / 1 ، البداية : 274 / 7 ، الطبري : 48 / 6 ، ابن الأثير : 161 / 3 .
(2) أبي الحديد : 426 / 1 .
(3) البداية : 299 / 7 .
(4) ابن الأثير : 161 / 3 .
(5) أخرجه البيهقي ( الخصائص الكبرى : 234 / 2 ) .
(6) الطبري : 038 / 6 .
(7) البداية : 274 / 7 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 473 _
  بخدعة التحكيم ، فبعد تداول الحكمين اتفقا على أن يخلع كل منهما صاحبه ، وأن يجعلا الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا ، وأمام الناس دعا عمرو أبا موسى أن يقدمه في الكلام ، فتقدم وقال ، أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة ، فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشملها ، من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه ، وهو أن نخلع عليا ومعاوية ، ويولي الناس أمرهم من أحبوا ، وأني قد خلعت عليا ومعاوية ، واستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلا ، ثم قام عمرو ، فقال : إن هذا قد قال ما سمعتموه ، وخلع صاحبه ، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية ، فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه (1) .
  فقال أبو موسى لعمرو : ما لك ، لا وفقك الله ، غدرت وفجرت إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا فقال له عمرو : بل إياك يلعن الله ، كذبت وغدرت ، إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، ثم وكز أبا موسى فألقاه لجنبه (2) وهكذا اكتملت المأساة وصار مصير الأمة يلهو به من مثله كمثل الحمار والكلب ، وهكذا خضع كل شئ للتجارة بعد رحيل النبي بزمن يسير .
  وعندما علم أمير المؤمنين بهذه الخدعة قال : قد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة ونحلتكم رأيي لو كان لقصير أمر ، ولكن أبيتم إلا ما أردتم ألا إن هذين الرجلين الذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، واتبع كل واحد منهما هواه ، بغير هدى من الله فحكما بغير حجة بينة ولا سنة ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشد ، فبرئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، استعدوا وتأهبوا للمسير إلى الشام (3) وكان معسكر أمير المؤمنين قد انشق قبل التحكيم وظهرت الخوارج على مسرح الأحداث وكانوا قد أنكروا تحكيم الرجال ، فبعث إليهم يخبرهم بالنتيجة التي أسفر عنها رفع المصاحف ، وقال لهم : فإذا بلغكم كتابي هذا

-------------------------------
(1) ابن الأثير : 168 / 3 .
(2) المسعودي : 41 / 2 ، ابن الأثير : 168 / 3 .
(3) ابن الأثير : 171 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 474 _
  فاقبلوا إلينا فإنا سائرون إلى عدونا وعدوكم ونحن على الأمر الأول الذي كنا عليه ، فكتبوا إليه : إن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نبذناك على سواء ! فلما قرأ كتابهم آيس منهم ، ورأى أن يدعهم ويمضي بالناس حتى يلقى أهل الشام ، فيناجزهم ، فقام في أهل الكوفة ثم قال : اتقوا الله ، وقاتلوا من حاد الله ورسوله وحاول أن يطفئ نور الله ، فقاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين الذين ليسوا بقراء القرآن ولا فقهاء في دين الله ولا علماء في التأويل ، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام ، والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل تيسروا للمسير إلى عدوكم (1) وفي الوقت الذي كان يشدهم شدا لقتال معسكر معاوية ، كان الناس يقولون لو سار بنا لقتال الحرورية ( الخوارج ) فلما بلغه ذلك قال لهم ، بلغني ما قلتم ، فدعوا ذكر هؤلاء ، وسيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين ملوكا ويتخذوا عباد الله خولا ، فناداه الناس أن سر بنا حيث أحببت (2).
  وبينما أمير المؤمنين يستعد لقتال معاوية قتل الخوارج بعض من شيعته وكان فيهم أطفالا ، وأتى الخبر عليا والناس معه فقالوا يا أمير المؤمنين علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفونا في عيالنا وأموالنا سر بنا إلى القوم ، فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدونا من أهل الشام ، وسار أمير المؤمنين لقتال الخوارج ، وقال قبل بدء قتالهم :   ... ألم تعلموا أني نهيتكم عن الحكومة ، ونبأتكم أنها مكيدة ، وإن القوم ليسوا بأصحاب دين فعصيتموني ، فلما فعلت شرط واستوثقت على الحكمين أن يحيا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن ، فاختلفا وخالفا حكم الكتاب والسنة .
  فنبذنا أمرهما ونحن على الأمر الأول فمن أين أنتم ؟ قالوا : إنا حكمنا فلما حكمنا أثمنا ، وكنا بذلك كافرين ، وقد تبنا ، فإن تبت فنحن معك ومنك ، وإن أبيت فإنا منابذوك على سواء ، فقال علي : أصابكم حاصب ولا بقي منكم وابر ، أبعد إيماني برسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم وهجرتي معه وجهادي في سبيل الله ، أشهد على نفسي بالكفر ، لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، ثم انصرف

-------------------------------
(1) ابن الأثير : 171 / 4 .
(2) ابن الأثير : 174 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 475 _
  عنهم (1)، هكذا تحدث غلمان ثقافة الرأي والتأويل ، الغلمان الذين تغذوا على ثقافة الوليد بن عقبة ونديمه النصراني أبو زبيد الطائي ، لقد قطع الغلمان شوطا مع أمير المؤمنين وفي منتصف الطريق عصوه وفي نهايته كفروه لعنهم الله ، وكان تخاذل الغلمان سببا في أن أهل الشام سلموا على معاوية بالخلافة ، وعندما اشتغل أمير المؤمنين بالخوارج اشتغل معاوية بالإغارة على أعمال أمير المؤمنين هنا وهناك ، وكان يشعر بالفخر عندما تحمل إليه الأخبار أن بسر بن أرطاة يمزق أحشاء الأطفال والنساء الذين يوالون علي بن أبي طالب ، لقد فتح غلمان الرمز والشعار الخالي من الشعور على أمير المؤمنين جبهة وفتح الذين صلى بهم معاوية الجمعة يوم الأربعاء جبهة أخرى ، وأصبح الإسلام بين نابين ناب يقتل باسم الدين والدين منه برئ ، وناب يبث سموم هواه المزخرفة بالذهب والفضة ويرفع راية الدين والدين من برئ ، لقد تكاتفوا ليقيضوا الصراط المستقيم ويقع الكثرة في مهاوي الضلال ، وبدأ أمير المؤمنين في قتال الخوارج ، وبعد أن نصره الله عليهم قال : ( إن خليلي أخبرني أن قائد هؤلاء رجل مخدج اليد ، على حلمة ثديه شعرات كأنهن ذنب اليربوع ، فالتمسوه ) فلم يجدوه ، فجعل يقول : إقلبوا ذا ، إقلبوا ذا ، فقالوا يا أمير المؤمنين لم نجده ، فقال ما اسم هذاء المكان ؟
  قالوا : النهروان ، قال : صدق رسول الله وكذبتم إنه لفيهم ، فالتمسوه ، فوجدوه وجاؤوا به وعليه العلامة التي قد قالها لهم ، فكبر علي (عليه السلام ) ، وعندما سمع أحد أبنائه يقول ، الحمد لثه الذي أراح أمة محمد (صلى الله عليه وآله) وسلم من هذه العصابة ، قال أمير المؤمنين: لو لم يبق من أمة محمد إلا ثلاثة لكان أحدهم على رأي هؤلاء ، أنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء (2) .
  لقد كشف أمير المؤمنين عن مناهج ثلاث داخل البيت الإسلامي :
  أحدهما : على رأي الخوارج .
  والثاني : على رأي أهل الشام .

-------------------------------
(1) ابن الأثير : 174 / 3 .
(2) رواه الطبراني في الأوسط ( كنز : 291 / 11 ) .