نفسه لأن الله غني عن العالمين ولقد دلت الحوادث أن هناك من نكث بيعته ، فمثل هذا لا معنى للقول بأن له عند الله أجرا عظيما ، وعلى هذا فإننا نقول إن تحديد الدوائر كان رحمة من الله تعالى بعباده ، كي يجتازوا بحور الفتن والامتحان على سفن النجاة ، وكما حاصر الإسلام دائرة الرجس التي يمثلها المنافقين ، حاصر أيضا دائرة النجس التي يمثلها الشرك وطابوره الطويل ، فمن في دائرة النجس راقبوا من بعيد ، بعد أن يئسوا من تدمير الصرح العظيم ، راقبوا الأحداث في الداخل فلعل هذه الأحداث تأتيهم بإنسان جديد لوثه الرجس ، فيلتقي الرجس مع النجس في منظومة واحدة تخطو في طريق الطمس والقهقري نحو غايات بني إسرائيل تلك الغايات التي يجلس على قمتها المسيح الدجال .

  2 ـ حصار النجس :
  قال تعالى : ( إنما المشركون نجس ) (1) وكل مستقذر نجس يقال ، رجل نجس وامرأة نجس وقوم نجس ، وإذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل : رجس نجس ـ بكسر النون ـ ومعسكر الصد عن سبيل الله لا يسبح إلا في بحيرات من الرجس والنجس ولذا حذر القرآن الكريم من الاقتراب منه في مواضع عديدة ، لأن الاقتراب فيه هلاك. لأنه الخيام في بحيرات الرجس والدنس يعلوها بريق الزينة ، ومن دخلها لن يخرج منها إلا إلى عالم الغثاء والعالة ، ويصبح مرتبطا ارتباطا وثيقا بطريقة أصحاب الخيمة التي يسيرون بها في الحياة ، ولهذا قال تعالى : ! يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) (2) قال المفسرون : ونهى عن مودتهم حتى لا يتجاذب الأرواح والنفوس ، فإن ذلك يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية البنية على سعادة أتباع الحق. إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية ، والولاية في الآية هي ، ولاية المحبة ، وقوله تعالى : ! بعضهم أولياء بعض " وذلك لتقارب نفوسهم وتجاذب أرواحهم واجتماع آرائهم على اتباع

-------------------------------
(1) سورة التوبة ، الآية : 28 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 51 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 427 _
  الهوى والاستكبار عن الحق ، واتحادهم على إطفاء نور الله ، وتناصرهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا على وحدة من الملية لكن يبعث القوم على الاتفاق ، ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين ، أن الإسلام يدعوهم إلى الحق ، ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى ، والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا فهذا هو الذي جعل الطائفتين : اليهود والنصارى على ما بينهما من الشقاق مجتمعا واحدا يقترب بعضه من بعض ... ويرتد بعضه إلى بعض ، يتولى اليهود النصارى وبالعكس ، ويتولى بعض اليهود بعضا ، وبعض النصارى بعضا ، فالمعنى : لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم ، لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) أي أن من يتخذهم منكم أولياء فإنه بعضهم ومنهم ، غير سالك سبيل الإيمان وهذا المتولي لهم ظالم مثلهم والله لا يهدي القوم الظالمين (1) ، ونداءات القرآن باجتناب معسكرات الكفر عديدة ، ومنها قول الله تعالى : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ) (2)قال المفسرون ، أي لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا ، توالونهم على دينهم وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين وتدلوهم على عوراتهم ، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شئ ، أي ليس من حزب الله في شئ ، إلا أن تتقوا منهم تقاة ، أو تكونوا في سلطانهم فتخافونهم على أنفسكم فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم. وترفض قلوبكم ما هم فيه وعليه ، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ولا تعينوهم على مسلم (3) وكما حذر القرآن من التعامل مع معسكر الكفر ، حذر أيضا من التعامل مع معسكر النفاق الذي حمل على عاتقه عرقلة دعوة الفطرة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد

-------------------------------
(1) الميزان 373 / 5 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 28 .
(3) ابن جرير : 152 / 3 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 428 _
  بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) أخرج ابن جرير وابن حاتم عن ابن عباس قال : هم المنافقون (1) وقال المفسرون : أي لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم من دونكم ، وجعل سبحانه البطانة مثلا لخليل الرجل ، والبطانة هي ما يلي البدن الثوب ، والله تعالى نهى المؤمنين أن يتخذوا من الكفار أخلاء وأصفياء لما هم عليه من الغش والخيانة (2) ولما هم عليه من الاستكبار باتخاذهم الدين هزوا ولعبا ، قضاء منهم بأن الدين ليس له من الواقعية والمكانة الحقيقية شئ ، إلا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعبا قال تعالى : ! يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) (3) ، لقد حاصر الإسلام دائرة النجس والرجس ، التي حمل أصحابها معاول الهدم التي تحمل شعارات قابيل وجبابرة قوم نوح وعاد وثمود ، وانطلقوا ليحاصروا الفطرة بثقافة أهل المؤتفكة وأصحاب الأيكة وزخارف فرعون ، لقد حاصر الإسلام تلك الدائرة الواسعة التي تحتوي على دوائر الماضي وفي محاصرته لها تحذير لأتباع الرسالة الخاتمة ، حتى لا يكون للناس على الله حجة .

  3 ـ إتمام الحجة :
  لم يكتف كتاب الله بحصار معسكر الكفر كله وتحذير المؤمنين منه ، وإنما قضى الله أن العلم النافع يناله المؤمنون فقط ، لذا أعلنت الشريعة الخاتمة أن المعارف الحقيقية تكون في متناول البشر عندما يصلح أخلاقه ، وأن السعادة الحقيقية يصل الإنسان إليها عندما يكون مؤمنا بالله وكافرا بالطاغوت ، أما غير ذلك من معارف وزخرف فلا تصل بالإنسان إلى طريق الهلاك وما عاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم فرعون من الإنسانية بعيد ، ولما كان معسكر النفاق داخل البيت

-------------------------------
(1) الدر المنثور / السيوطي : 66 / 2 .
(2) ابن جرير : 40 / 4 ، الميزان : 3 / 386 .
(3) سورة المائدة ، الآية : 57 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 429 _
  الإسلامي لا بد له من معارف ينطلق بها إلى عالم الفتنة ، وإن معارفه سيستند فيها على كتاب الله بتأويل آياته بحيث ينتسخ دين الله وذلك في قوله تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) (1) قال المفسرون الزيغ هو الميل عن الاستقامة ، والآية تكشف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه ومتشابهه ، وأن منهم من هو زائغ القلب يتبع المتشابه إبتغاء الفتنة والتأويل ، ومنهم من هو راسخ العلم مستقر التلب يأخذ المحكم ويؤمن بالمتشابه ، والمراد بابتغاء الفتنة في الآية طلب إضلال الناس ومعنى الآية :
  يريدون بإتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله ، وأمر آخر هو أعظم من ذلك ، وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ، ومآخذ أحكام الحلال والحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينسخ بذلك دين الله من أصله (2) لما كان معسكر النفاق سيفرز الذين يتاجرون بالمتشابه ، وفيهم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ( أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان ) (3)فإن كتاب الله عزل هذا الصنف عن معارفه وهو قوله تعالى : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (4) فمس الكتاب لا يقف عند الطهارة من الخبث أو الحدث عند مسك الكتاب باليد ، بل ينطلق نحو تعريف أوسع ، فإذا كانت الأيدي التي تمسه يجب أن تكون طاهرة فكذلك يجب أن تكون العقول التي تمسه طاهرة ، ولأن عقول المنافقين ليس عليها مسحة من طهارة ، فإن الله قضى أن لا يصيبهم علم نافع ، ليتخبطوا في عالم المتشابه الذي يقودهم إلى الهلاك ومن ورائهم الذين مضغوا علومهم ، وفي قوله تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) قال المفسرون : مسه هو العلم به ، والمطهرون هم الذين طهر الله نفوسهم من أرجاس المعاصي وقاذورات الذنوب أو مما هو أعظم من ذلك وأدق وهو تطهير قلوبهم من التعلق بغير الله ، وهذا المعنى من التطهير هو المناسب

-------------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية : 7 .
(2) الميزان : 23 / 3 .
(3) رواه ابن عدي ( كشف الخفاء : 16 / 1 ) .
(4) سورة الواقعة، الآيات : 77 ـ 79 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 430 _
  للمس الذي هو العلم دون الطهارة من الخبث أو الحدث ) (1) ، إن داخل البيت الإسلامي فريقان : فريق دسه معسكر الانحراف والأهواء وفريق أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وكتاب الله يقرأه هذا وذاك ، ومس الكتاب عند فريق يقود إلى تأويل الكتاب بحيث لا يكون الإسلام إلا اسما ولا يكون القرآن إلا رسما ، بينما يكون عند فريقا آخر مرشدا للبشرية ليس بها نحو أهداف الله ، ولأن الرسالة الخاتمة لها أهداف ، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرن كتاب الله بالعترة الطاهرة وأعلن أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، أما فريق اللاهدف واللاغاية فلقد أخبر النبي بأنهم عند الحوض سيقال لهم سحقا سحقا كما بينا من قبل ، ولأن تأويل القرآن ووضعه في غير مواضعه وكذا إدعاء إنسان ما أنه أحق بالتأويل من الذين نص عليهم رسول الله بعد أمرا خطيرا تترتب عليه أمور خطيرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( أكثر ما أتخوف على أمتي بعدي رجل يتأول القرآن ، فيضعه على غير مواضعه ، ورجل يرى أنه أحق بهذا الأمر من غيره ) (2) لقد حاصر كتاب الله دوائر الرجس والنجس ، وحذر من الاقتراب من هذه الدوائر ، وأمر كتاب الله بالجماعة ، ولا جماعة إلا بإمام مشهود له بالعلم من رسول الله ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، " لا يقوم بدين الله ، إلا من حاطه من جميع جوانبه " (3) وكما أن هناك جماعة يقودها إمامها إلى الجنة ففي البيت الإسلامي أيضا جماعات يقودها أئمتها إلى النار فعن حذيفة قال : سألت رسول الله (ص) : هل بعد ذلك الخير من شعر ؟ فقال : ( نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ) قلت : صفهم لنا ؟ قال : ( هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ) قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ) قلت : فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة ؟ قال : ( فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) (4) في هذا الحديث كشف الستار عن

-------------------------------
(1) الميزان : 137 / 19 .
(2) رواه الطبراني في الأوسط ( كنز العمال : 200 / 11 ) .
(3) رواه أبو نعيم ( كنز العمال 84 / 3 ) .
(4) مسلم : 20 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 431 _
  أجهزة الصد والفتنة الذين يدعون إلى النار مستخدمين في ذلك رموز الإسلام، وأمر عليه الصلاة والسلام بالالتزام بالجماعة والإمام ولا إمام إلا بكتاب الله، ولم ينكر على حذيفة قوله : ( فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ) بل قدم الدواء لهذا الداء لعلمه أن هذا واقع لا محالة ، فأمر باعتزال الفرق كلها ، وأمر بالعض على أصل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء حتى يأتي الموت فيجده على ذلك ، لقد قامت الحجة على الماضي والحاضر والمستقبل ، ولا إجبار في دين الله في جميع الأحوال .

  4 ـ يوم الخميس والرحيل :
  على امتداد الرسالة كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحدث إلى القافلة البشرية، كما تحدث الأنبياء من قبل ، فنادى بالعدل مبينا أن الإنسانية لم توجد ليأكل القوي فيها الضعيف ، وإنما ليعيش هذا وذاك بإحساس أن كل منهما في حاجة إلى الآخر وأن فوق الجميع قوة الله القادر على كل شئ ، وبهذه القوة يرزقون وبها يموتون ويبعثون يوم القيامة ، وأنذر الجبابرة مبينا أن فناء الباطل بالحق ، وأن الذي يخرج عن معيار التوازن قويا كان أو ضعيفا فإنه يطارد في الكون أمام الأمواج كقوم نوح أو أمام الرياح كقوم عاد أو تحت الصيحة كثمود أو تحت الظلة كأصحاب الأيكة إلى غير ذلك من عذاب الله الغير مردود ، وعندما أتم الله رسالته أتى الإنسانية ، بآخر أنبيائه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعندما سدت جميع المنافذ التي يدخل منها الشيطان وأتباعه ليكون في هذا حجة على من يفتح نافذة للشيطان ، تحت جلده أو داخل أسرته أو في مجتمعه الذي يعيش فيه ، جاء وقت رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولقد روي أن دموعه كانت تجري كثيرا في آخر أيامه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وذلك لأنه كان يعلم من ربه الأحداث التي ستعصف بالأمة وتنتهي بالظالمين إلى عقاب الله المؤجل ، كان يعلم أمورا روي أنه لم يرى بعدها ضاحكا حتى مات ، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام حريصا رغم إتمام الحجة أن يحذر مما سيقع ليكون كل تحذير يضاف حجة فوق الحجة ... لتعلم الإنسانية بعد ذلك أن الطريق يعج بالفتن وهذه الفتن لم تأت من نفسها ، فيحذر كل عضو فيها أن يكون من صناعها وحتى لا يصيبه العذاب ، والله لا يظلم الناس والعذاب الذي يراه الناس ما هو إلا نتيجة طبيعية

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 432 _
  لأعمالهم ، لقد كان النبي في أيامه الأخيرة يدفع العذاب بغرس التوحيد في النفوس والدعوة إلى الإعتصام بكتاب الله وسنته التي يبلغها عنه من لا يكذب عليه ، والروايات عن أيامه الأخيرة (صلى الله عليه وآله وسلم) عديدة ، منها روايات تتحدث عن بعث أسامة ، حيث وضع النبي كل كبار الصحابة عدا عليا تحت قيادة أسامة بن زيد ، وأمرهم بالخروج ولكن بعض الصحابة استصغروا أسامة في قيادة هذه الحملة العسكرية وطعنوا فيه ، فقال لهم النبي : ( إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ) (1) قال في فتح الباري (2) ، كان الطاعن فيه من ينتسب إلى النفاق ، وبعد أن قال رسول الله ذلك رفض ما ذهبوا إليه وطالبهم بالخروج ، ومات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن تخرج حملة أسامة ، ولم تخرج هذه الحملة إلا في عهد أبي بكر ، وروايات الطعن في أسامة واستصغاره رغم تعيين الرسول له ، رايات كثيرة ترى في كتب التراجم والسير والحديث ، ومن روايات الأيام الأخيرة ما رواه الإمام أحمد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، دعا عند موته بصحيفة ليكتب كتابا لا يضلون بعده ، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها (3) وجاء في صحيح ، البخاري عن ابن عباس قال : لما حضر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال : هلم أكتب إليكم كتابا لن تضلوا بعده ، قال عمر إن النبي (صلى الله عليه وسلم ) غلبه الوجع ، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ، واختلف أهل البيت ، واختصموا فمنهم من يقول ، قربوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قاله عمر ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قوموا عني ) (4) وروى الإمام

-------------------------------
(1) رواه البخاري في كتاب الأحكام .
(2) فتح البخاري : 180 / 13 .
(3) رواه أحمد وقال رواه أحمد وفيه ابن بهيقة وفيه خلاف ، وقال صاحب الفتح الرباني ، قلت : أي لأنه عن من في هذا الحديث وقالوا إذا عن ابن بهيقة فحديثه ضعيف وإذا قال حدثنا فحديثه صحيح أو حسن ( الفتح الرباني : 136 / 21 ) .
(4) صحيح البخاري : 271 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 433 _
  مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ ثم جعل تسيل دموعه حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إئتوني بالكتف والدواة ـ أو اللوح والدواة ـ أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فقالوا : إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) هجر (1) وعند البخاري : ( فقال إئتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدأ ، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا : ما له أهجر )(2) وزاد البخاري وأحمد فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : ( دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ) (3) ، وفي لسان العرب : يهجر هجرا ، إذا كثر الكلام فيما لا ينبغي ، وهجر يهجر هجرا ، بالفتح ، إذا خلط في كلامه وإذا هذى (4) وقال ابن الأثير في النهاية: الهجر بالضم هو الخنا والقبيح من القول (5) ، وأقر ابن الأثير كما في لسان العرب وفي النهاية بأن القائل هو عمر بن الخطاب ، معتذرا بأن أقل ما يقبل في هذا المقام أن يكون قد قال : (أهجر) على سبيل الاستفهام .
ومما رواه الطبراني في هذا الحدث عن عمر بن الخطاب قال : لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ادعوا لي بصحيفة ودواة أكتب كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، فقال النسوة من وراء الستر : ألا تسمعون ما يقول رسول الله ؟ فقلت : إنكن صواحبات يوسف ، إذا مرض رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) عصرتن أعينكن ، وإذا صح ركبتن عنقه ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) : ( دعوهن فإنهن خير منكم ) (6) وخلاصة أحاديث الصحيفة ، إن ردود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على من حوله ، لم تكن تحمل جانب من جوانب الرضا ، فعندما قالوا حسبنا كتاب الله ، وأكثروا اللغط والاختلاف قال ، ( قوموا

-------------------------------
(1) صحيح مسلم 76 / 5 .
(2) البخاري : 202 / 2 .
(3) البخاري : 202 / 2 ، أحمد ( الفتح : 234 / 21 ) .
(4) لسان العرب : 5618 / 55 .
(5) النهاية : 240 / 4 .
(6) الطبراني في الأوسط ( كنز العمال : 644 / 5 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 434 _
  عني ) إن الرسول لا يقف على أرضية من اللغط والاختلاف ، الرسول جاء ليتكلم وليستمع الناس ، والرسول عندما يتكلم لا ينطق عن الهوى لهذا فرض الله تعالى على الناس طاعة النبي في جميع الأحوال ـ وعندما قالوا : هجر ، أو ، أهجر ، قال : ( دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه ) وأيضا ما قاله عن النسوة عندما قالوا : ألا تسمعون ما يقول رسول الله ؟ قال : دعوهن فإنهن خير منكم ، فجميع هذه الردود لا تحمل معنى من معاني الرضا على سير الأحداث ويؤيد هذا بكاء ابن عباس ، يوم الخميس وما يوم الخميس ؟ وذهب أكثر من باحث إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يصر على كتابة الصحيفة التي لا يضلوا بعدها أبدا ، لأن قولهم : ( هجر ) أو ( أهجر ) يمكن أن يكون مقدمة يشكك بها البعض فيما سيكتبه الرسول ، بمعنى أن الرسول كتب ما كتب وهو في حالة لا تسمح له بذلك ، والتشكيك مكتوب ربما يتعدى هذا المكتوب إلى مكتوب آخر تحت هذه الحجة ، وقال آخرون : عندما أكثروا اللغط والاختلاف ، علم أن الاختلاف واقع من بعده لا محالة كما أخبره ربه ، ولذا اكتفى بما أقامه عليهم قبل ذلك من الحجج ورحل النبي الأمي العربي القرشي الهاشمي المكي المدني صلى الله عليه وآله وسلم ، رحل النبي الخاتم للمسيرة الشريفة التي تقدمها نوح وتوسطها إبراهيم عليهما السلام ، ونشهد أنه قد أدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في سبيل الله حق جهاده ، ونسأل الله أن يحشرنا تحت لوائه ، وأن يسقينا من حوضه جرعة ماء لا نظمأ بعدها أبدا ، والمؤمنين أجمعين ، إنه سميع مجيب .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 435 _
  حفائر القريش :
  ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) سورة الفرقان ، الآية 30

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 437 _
  حفائر قريش
  ( الطريق إلى سنن الأولين )

  أولاً : البدايات والنهايات :
  كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يحذر من الفتن ، لأن كل فتنة تصب في نهاية المطاف في سلة المسيح الدجال الذي ينتظره اليهود على امتداد طريق الطمس والقهقري ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ( وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال ) (1) ولأن فتنة الدجال يجتمع فيها كل ثقافات معسكر الكفر والانحراف منذ عهد نوح (عليه السلام ) ، فإن جميع الأنبياء حذروا أممهم من الاقتراب من شذوذ الذين مضوا ، لأن هذا الشذوذ يحمل بصمات الدجال إليهم ، وأن يتمسكوا بما معهم لأن في اختلافهم شذوذ يحمل بصمات الدجال وينطلق محتضنا لشذوذ الماضي إلى المستقبل حيث الدجال ، قال النبي : ( وأن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال ) (2) ولقد حذر النبي أمته أعظم تحذير ، فقال : ( لأنا لفتنة بعضكم أخوف عندي من الدجال ، ولن ينجو أحد مما قبلها إلا نجا منها ) (3) ، فالذي ينجو من الدجال هو فقط الذي تفادى رياح الانحراف والشذوذ والأهواء التي

-------------------------------
(1) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ، ( الزوائد : 7 / 335 )
(2) رواه ابن ماجة : حديث 4077 .
(3) رواه أحمد والبزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح : ( 335 / 1 ) .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 438 _
  تحمل ثقافات أصنام الماضي والحاضر والمستقبل ، فهذه الثقافة ستكون أرضية للدجال ولن ينجو منها إلآ من عرفها ، ولقد حدد النبي ثلاث محطات في كل واحدة منها فتنة وطالب الأمة أن تحذرها فقال : ( ثلاث من نجا منها فقد نجا ، من نجا عند موتي ، ومن نجا عند قتل خليفة يقتل مظلوما وهو مصطبر يعطي الحق من نفسه ومن نجا من فتنة الدجال ) (1) ، لقد أشار إلى أحداث تكون عند موته ، وهذه الأحداث ستعصف بالعقول وبالقلوب ، وأشار إلى أحداث تأتي عند قتل خليفة من صفاته إعطاء الحق وهذه الأحداث هي الوسط بين موته صلى الله عليه وسلم وبين ظهور الدجال ، أي أحداث تحمل رياح الفرقة والاختلاف وانقسام الأمة إلى أحزاب كل حزب يلعن الآخر ، وما تلبث هذه الثقافة حتى تتعانق مع ثقافات الظلام الغابر لتمثل ثقافة عالمية واحدة يسهر عليها علماء الطمس والقهقري وتحميها القوى الدولية المتعددة ويعتبر الخارج عليها خارج عن القانون ، ثم يأتي الدجال على إثر ذلك ، لقد حذر النبي من كل فتنة. حذر زوجاته وأصحابه وكان يقول : ( هل ترون ما أرى إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر ) (2) قال النووي ، أي أنها كثيرة وتعم الناس ، لا تختص بها طائفة ، وهذا إشارة إلى الحروب الجارية بينهم كوقعة الجمل وصفين والحرة ومقتل عثمان والحسين وغير ذلك (3) وعن ابن عمر قال خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) من بيت عائشة فقال : ( رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان ) (4) وحذر النبي جميع الأجيال المؤمنة التي تأتي في المستقبل والتي تجد نفسها في دوائر الفتن الماضية ، حذرهم أن تصيبهم الرياح التي أصابت الذين ظلموا ، لأن رياح الفتن لا تصيب الذين ظلموا خاصة ، بل تخترق الماضي ومنه إلى الحاضر ثم إلى المستقبل .

-------------------------------
(1) رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح غير ربيعة بن لقيط وقد وثقه ورواه الخطيب في المتفق واللفظ له ( كنز العمال : 180 / 11 ) ( الزوائد : 334 / 7 ) .
(2) رواه مسلم : 168 / 8 .
(3) رواه مسلم : 168 / 8 .
(4) رواه مسلم : 181 / 8 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 439 _
  ويستقبلها كل من وقع هواه على ثقافتها ، قال النبي : ( تعرض ، الفتن على القلوب كالحصير ، عودا عودا ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ) (1) وللنبي إرشادات عظيمة لكل مؤمن ضعيف يعيش في زمان هذه الفتن ، منها أن يعتزل في حاله ، وأن يصلي وراء هذا وذاك في حالة كي ينجو بإيمانه في عالم يقول فيه النبي (صلى الله عليه وسلم ) : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) (2) وإرشادات النبي لم تدعو الفرص الإيمان بالقوة لأن القاعدة أن دين الله لا إجبار فيه ، فالمجتمع الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحييه الله حياة طيبة ، أما الذي يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف فله في الكون ضربة لا تخطئة ، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون .

  1 ـ أول الوهن :
  تواتر في كتب السير والتواريخ والصحاح والمسانيد أن الأنصار بعد وفاة النبي رأى معظمهم أن لا تكون البيعة إلا لعلي بن أبي طالب ، ولكن نقل إليهم أن المهاجرين أرادوا الأمر ، وعندئذ أخرج الأنصار سعد بن عبادة وهو مريض وقالوا : تولى هذا الأمر بعد النبي سعد بن عبادة فإن أبت مهاجرة قريش وقالوا :
  نحن المهاجرون الأولون ، فإنا نقول : منا أمير ومنكم أمير ، وعندئذ خرج من سقيفة بني ساعدة التي كان الأنصار يجتمعون فيها صوت يقول : ( هذا أول الوهن ) وعندما علم عمر بن الخطاب انطلق إلى أبي بكر فقال له أبو بكر ، ابسط يدك لأبايعك ، فقال له عمر : أنت أفضل مني ، فقال له أبو بكر : أنت أقوى مني ، فقال عمر ، فإن قوتي لك مع فضلك ، فبايعه (3) وانطلقا سويا إلى السقيفة

-------------------------------
(1) مسلم : 89 / 1 .
(2) مسلم : 20 / 5 .
(3) تاريخ الخلفاء : ص 65 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 440 _
  ومعهما بعض المهاجرين ولم يكن من بينهم أحدا من بني هاشم ، وفي السقيفة خطب أبو بكر وأشاد بسابقة قريش وبفضل الأنصار (1) ، ومرت المحاورات بين منا أمير ومنكم أمير ، أو منا أمير ومنكم وزير ، وانتهى المطاف بأن لقب المسلمون أبو بكر بلقب خليفة رسول الله (2) ، ولم يبايع سعد بن عبادة وتوعد المهاجرين وقصة تخلفه عن بيعة أبي بكر مشهورة (3) وروي أنه خرج إلى الشام وأن الجن قتلوه وقالوا فيه شعرا ، وروي أنه لما انتهت إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنباء السقيفة قال : ما قالت الأنصار ؟ قالوا : قالت منا أمير ومنكم أمير ، قال :
  فهلا احتججتم عليهم بأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم (4) ، قالوا : وما في هذا من الحجة عليهم ؟
  قال : لو كانت الإمارة فيهم لم تكن الوصية بهم ، ثم قال : فماذا قالت قريش ؟
  قالوا : احتجت بأنها شجرة رسول الله الله عليه وآله وسلم ، فقال : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة (5) .
  والباحث في أوراق ما بعد وفاة الرسول لا يجد المعلومات الكافية عن مجريات الأحداث ، ومن المؤكد أن معلومات كثيرة قد فقدت وهي في طريقها إلينا ، وإن معلومات أخرى قد حجبت عندما أمر الخلفاء بعدم التوسع في رواية الحديث بحجة أنه يؤثر على القرآن ، ولكن من خلال المعلومات التي وصلتنا في كتب السير والتواريخ وغيرها ، يمكن للباحث أن يتصور ، أنه بعد فتح مكة اتسعت رقعة النفاق ودخل الإسلام الذين قال الله فيهم : ! ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ، وسواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون )(6) وهؤلاء كان الرسول يعرفهم دفي حياته بل وحذر منهم وطرد

-------------------------------
(1) أنظر الطبري وابن الأثير حوادث سنة 11 .
(2) الإصابة : 101 / 4 .
(3) الإصابة : 80 / 3 .
(4) وصية الرسول بالأنصار رواها البخاري ومسلم وفيها : ( أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي ، وقد قضوا الذي عليهم ، وبقي الذي لهم ، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ) البخاري : 2 / 314 ، مسلم حديث رقم 1949 .
(5) أراد بالشجرة شجرة النبوة والثمرة آل البيت .
(6) سورة يس ، الآيتان : 9 ـ 10 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 441 _
  بعضهم فمن الممكن أن يقال أن هذا الفريق الذي استصغر أسامة بن زيد في قيادة الحملة العسكرية ، كره قيادة علي بن أبي طالب للأمة لأمور عديدة منها أن سيفه كان له أثرا بليغا في رقابهم ، لكنه لم يفصح عن هذه الأمور للصحابة الكبار ، وإنما عرض رفضه على أساس استصغار علي ، وأن قيادته ستفرق الشيوخ من حوله ، ويمكن أن يكون كبار الصحابة قد علموا مواطن القوة عند هذا الفريق .
  فأبعدوا عليا حتى لا تكون فرقة واختلاف ، ويمكن أن نكتشف ذلك من عدة أقوال حول هذا الحدث ، منها قول عمر كما جاء في الصحيح ، ( أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها ) قال في لسان العرب : أراد الفجأة ، لأنها لم تنتظر العوام وإنما ابتدرها أكابر الصحابة والفلتة كل شئ فعل من غير روية ، وشبه يوم موت النبي بالفلتة في وقوع الشر من ارتداد العرب ، والجري على عادة العرب في ألا يسود القبيلة إلا رجل منها ... ومنها ما رواه ابن عباس ، قال : كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة ، فقال ، أم والله يا بني عبد المطلب لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر ، فقلت في نفسي : لا أقالني الله إن أقلته، فقلت : أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين وأنت وصاحبك وثبتما عليه واقترعتما الأمر منه دون الناس ؟ فقال : إليكم يا بني عبد المطلب ، أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب ، قال : فتأخرت عنه وتقدم هنية ، ثم قال عمر : سر لا سرت وقال : أعد علي كلامك ، فقلت : إنما ذكرت شيئا فرددت عليك جوابه .
  ولو سكت سكتنا ، فقال : إنا والله ما فعلنا ما فعلناه عن عداوة ، ولكن استصغرناه وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها ، قال : فأردت أن أقول كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبعثه فينطح كبشها أفتستصغره أنت وصاحبك .
  فقال : لا جرم فكيف ترى ؟ والله لا نقطع أمرا دونه ، ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه (1) وما ذهبنا إليه يقترب أيضا مما رواه رافع الطائي قال : حدثني أبو بكر عن بيعته فقال : ( بايعوني وقبلتها منهم ، وتخوفت أن تكون فتنة يكون بعدها ردة ) (2) وأخرج ابن إسحاق وابن عابد في مغازيه عنه أنه قال لأبي بكر : ما

-------------------------------
(1) محاضرات الراغب : 213 / 2 ونقل ابن أبي الحديد مثله في شرح النهج 134 / 1 عن كتاب السقيفة للجوهري .
(2) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 66 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 442 _
  حملك على أن تلي أمر الناس وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين ؟ قال : لم أجد من ذلك بدا ، خشيت على أمة محمد (صلى الله عليه وسلم ) الفرقة (1) ، فقد تكون البداية أن دوائر النفاق داخل البيت الإسلامي قد لوجت بقبضتها فكان ما كان ولكن الذي يقف في أول الطريق لا يرى إلا أول الطريق أو وسطه وأما نهاية الطريق فإنها لا ترى إلا بعد أن تجئ ، ونهاية الطريق كانت بكل المقاييس مأساة لا ينكرها باحث منصف لقد تقاتلت القبائل والطوائف وقامت بتصفية حساباتها على حساب الإسلام ، وأصبح كرسي الحكم غاية وهدف لغلمان قريش وسفهائها ، بل أصبح فيما بعد كعجل بني إسرائيل حوله المستفيد منه والخائف من عضبة .

  2 ـ الحفائر :
  في عصر عمر بن الخطاب طفح على السطح فريق يذهب إلى المساجد بوجهه ويطلب الإمارة بقلبه ، ( منهم ) : المغيرة بن شعبة ، ذكر البغوي وابن شاهين أن المغيرة قال : أنا أول من رشا في الإسلام جئت إلى حاجب عمر وكنت أجالسه ، فقلت له : خذ هذه العمامة فالبسها ، فكان يأنس بي ويأذن لي أن أجلس من داخل الباب ، فكنت أجلس في القائلة ، فيمر المار فيقول : إن للمغيرة عند عمر منزلة إنه ليدخل عليه في ساعة لا يدخل فيها أحدا (2) .
  واستعمل عمر المغيرة على البحرين فكرهوه وشكوا منه فعزله ، ثم ولاه البصرة ، ثم عزله لما شهد عليه أبو بكرة بالزنا ثم ولاه الكوفة ، وأقره عثمان ثم عزله وبعد قتل عثمان حضر مع الحكمين ، ثم بايع معاوية فولاه الكوفة ، والمغيرة الذي اعتبر نفسه أول من رشا في الإسلام ، اعتبره التاريخ أول من وضع بذرة الحكم الملكي في الإسلام ، وذلك عندما علم أن معاوية سيعزله أشار إليه بتنصيب ابنه يزيد من بعده ، فلم يعزله معاوية وطلب منه أن يعد العدة لذلك .
  ( ومنهم ): معاوية بن أبي سفيان ولاه عمر الشام وأقره عثمان ، ثم إستمر فلم يبايع عليا بعد قتل عثمان ، ثم حاربه واستقل بالشام ثم أضاف إليها مصر ثم

-------------------------------
(1) تاريخ الخلفاء / السيوطي : 66 .
(2) الإصابة : 132 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 443 _
  تسمى بالخلافة بعد صلحه مع الحسن ، وقال في الإصابة : عاش ابن هند ـ يعني معاوية ـ عشرين سنة أميرا وعشرين سنة خليفة (1) ، ومعاوية أسلم يوم الفتح مع أبيه وأمه ، وروى البعض أنه أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى أظهره يوم الفتح وإنه كان في عمرة القضاء مسلما ، وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد ، بن أبي وقاص أنه قال في العمرة في أشهر الحج ، فعلناها وهذا يومئذ كافر (2) .
  ( ومنهم ) ، عمرو بن العاص ، نظر عمر بن الخطاب إليه وهو يمشي فقال : ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرا (3) ولاه عمر فلسطين وذكر ابن سعد ، أن عثمان لما عزله عن مصر قدم إلى المدينة ، فجعل يطعن على عثمان ، فبلغ عثمان ذلك فزجره ، فخرج عمرو إلى أرض له بفلسطين ، وبعد قتل عثمان بلغته بيعة علي ثم بلغته وقعة الجمل ، وخروج معاوية ، فلحق بمعاوية لعلمه أن عليا لا يشركه في أمره (4) ، وساند معاوية مقابل شيئا واحدا ، أن يعطيه معاوية مصر طعمة ما بقي (5) .
  فهذه الطائفة وغيرهم ما كانت الدعوة هدفا من أهدافهم وإنما كان الكرسي هو الهدف ، كانوا في أول الطريق أصحاب أحمال خفيفة ، أما في نهاية الطريق فقد أمطروا الأمة بفتن لا حد لها ، وإذا كان عمر بن الخطاب قد اعتمد على سواعد الولاة القوية في بداية الطريق ، فإن عثمان بن عفان لم يتخير إلا أقاربه حتى ولو كانوا من الذين طردهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
  ( ومنهم ) : عبد الله بن أبي السرح ، قال في الإصابة ، كان أبوه من المنافقين (6) ، ويوم فتح مكة أمن الرسول الناس كلهم إلا أربعة نفر منهم : ابن أبي السرح ، الذي اختبأ عند عثمان وكان أخوه من الرضاعة ، فجاء به عثمان

-------------------------------
(1) الإصابة : 113 / 6 .
(2) الإصابة : 113 / 6 .
(3) الإصابة : 3 / 5 .
(4) الإصابة : 61 / 6 .
(5) ابن الأثير : 179 / 1 .
(6) الإصابة : 77 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 444 _
  حتى أوقفه على النبي وهو يبايع الناس ، فقال يا رسول الله : بايع عبد الله ، فبايعه بعد ثلاث ، ثم أقبل النبي على أصحابه وقال : أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن مبايعته فيقتله (1) وعبد الله هذا ولاه عثمان على مصر ، وكان على الصعيد في زمن عمر ثم ضم إليه عثمان مصر كلها (2) وفي مصر فرض عبد الله الضرائب وعامل الشعب هناك بقسوة ، وترتب على هذا كله الخروج على عثمان وقتله .
  ( ومنهم ) : الوليد بن عقبة الذي نزل فيه : ! (يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) وقال ابن عبد البر لا خلاف بين أهل العلم أن الآية نزلت فيه (3) والوليد نشأ في كنف عثمان وكان أخوه لأمه ، استخلفه عثمان على الكوفة ، وقصة صلاته بالناس الصبح أربعا وهو سكران مشهورة مخرجة (4) وكان الوليد شاعرا وروي أنه كان يحرض معاوية على قتال علي بكتبه وبشعره (5) .
  ( ومنهم ) : الحكم بن العاص ، عم عثمان ووالد مروان ، أسلم يوم الفتح وسكن المدينة ثم نفاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطائف ، ثم أعيد إلى المدينة في خلافة عثمان (6) وروي في سبب طرده أنه كان يتبع سر رسول الله (7) وروي أن أصحاب النبي دخلوا عليه وهو يلعن الحكم بن أبي العاص ، فقالوا :
  أفلا نلعنه نحن ؟ قال : لا ، فإني أنظر إلى بنيه يصعدون منبري وينزلونه ، فقالوا يا رسول الله ألا نأخذهم ؟ قال : لا ، ونفاه (8) وروي أن الحكم مر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال النبي ، ( ويل لأمتي مما في صلب هذا ) (9)

-------------------------------
(1) الإصابة : 77 / 4 .
(2) الإصابة : 77 / 4 .
(3) الإصابة : 321 / 6 .
(4) الإصابة : 322 / 6 .
(5) الإصابة : 322 / 6 .
(6) الإصابة : 28 / 2 .
(7) الإصابة : 29 / 2 .
(8) الإصابة : 28 / 2 .
(9) الإصابة : 29 / 2 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 445 _
  والنبي لم يأمر بقتله ، لأن الحكم وأمثاله ثمرة طريق وباب للفتن والرسالة أغلقت في وجوه هؤلاء الأبواب ، فمن فتح الباب عليه استقبل الرياح .
  ( ومنهم ) : مروان بن الحكم ، وهو ابن عم عثمان وكاتبه في خلافته (1) كان قد خرج مع أبيه إلى الطائف حين نفاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
  وعندما أذن عثمان للحكم في الرجوع إلى المدينة رجع مع أبيه (2) روي أن عائشة قالت لمروان : أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله ، لعن أباك وأنت في صلبه (3) ، وكان مروان من أسباب قتل عثمان (4) وشهد الجمل مع عائشة ثم صفين مع معاوية ثم ولي إمرة المدينة لمعاوية وخرج منها في أوائل إمرة يزيد بن معاوية ، وبقي بالشام إلى أن مات معاوية بن يزيد بن معاوية ، فبايع بعض أهل الشام مروان ، وعندما تمت له المبايعة من هؤلاء ، أراد أن يستحوذ على الشام بأسرها ، فكانت الواقعة بينه وبين الضحاك بن قيس ، وانتصر مروان واستوثق له ملك الشام ، ثم توجه إلى مصر فاستولى عليها ، وكان الطريد هذا وابن الطريد يلقب حينئذ بأمير المؤمنين في بلاده ، إلى أن مات فعهد إلى ولده ( أمير المؤمنين ) عبد الملك بن مروان ، لتبدأ سلسلة أمراء المؤمنين الذين طرد رسول الله أكبر رأس فيهم إن الفريق الذي كان يذهب إلى المساجد بوجهه ويطلب الإمارة بقلبه ، حفر في نفوس الشعوب الحفائر العديدة ، وهذه الحفائر أنتجت ثقافة ، وعلى هذه الثقافة جاء غلمان قريش وسفهائها كل منهم يطلب الكرسي لنفسه ، ولقد مهدت حفائر كل حلقة للأخرى حتى إستقرت عند الطريد الذي مهد إلى الضياع ، ولقد كان بين كل حلقة وأخرى فتوحات ، ولكن الفتوحات جاءت بالأموال حتى كثر التنافس الذي جر الفتن ، والإسلام لم يكن في أصوله البحث عن الأموال والنعيم ، وإنما في أصوله البحث عن الفطرة التي تئن تحت أحمال الجاهلية في أصول الإسلام أن وضع الفطرة في المكان الصحيح يترتب عليه

-------------------------------
(1) الإصابة : 156 / 6 .
(2) الإصابة : 157 / 6 .
(3) قال في الإصابة أصل القصة عند البخاري بدون هذه الزيادة : 29 / 2 .
(4) الإصابة : 157 / 6 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 446 _
  دوران صاحبها في اتجاه حركة الكون ، ومع هذا الدوران الصحيح سيأتي حتما الاطعام والأمن ، وليس معنى ذلك أن الفتوحات كانت سياسة خاطئة وأن حركة جميع الولاة كانت في اتجاه الكرسي والمال ، فالتاريخ يشهد بأن العديد من الفتوحات صان بيضة الإسلام من أعدائه المحيطين به ، وأن من الولاة من عمل إبتغاء مرضاة الله ، ولكن حركة الفريق الذي قدمناه وأمثالهم طغت على أعمال غيرهم ، ووضعت مقدمات أثمرت نتائج هي بكل المقاييس لا علاقة لها بالإسلام إلا بالاسم ، وهذا إن دل على شئ إنما يدل على أن الحركة لم تكن في الاتجاه الصحيح ، فنحن لا نصدق على سبيل المثال لا الحصر أن ضرب الكعبة ورميها بالمنجنيق أو دخول الخيل إلى مسجد الرسول في واقعة الحرة أو قتل الحسين.
  لا نصدق أن كل هذا كان نتيجة صحيحة لمقدمة صحيحة ، ولأننا لا نصدق فإننا نقول إن حركة هؤلاء الولاة منذ البداية كانت تعمل لخدمة هوى تلبس بالإسلام .

  3 ـ حفائر أهل الكتاب والأهواء :
  إن الكفار من أهل الكتاب يقاتلون معاركهم من وراء جدر ، فيدخلون المعارك وراء جدار الجواسيس ويقفون بأسلحتهم وراء الجدر المنيعة ، وعلى هذا إذا رأيناهم داخل منطقة ما من البيت الإسلامي اجتماعية أو تربوية أو اقتصادية يجب أن نعلم إما أن لهم جدر تحمي حركتهم وإما فتكت أسلحتهم بهذه المنطقة فدخلوها وهم يعلمون أن أحدا لن يجابههم ، وأهل الكتاب لم يستطيعوا أن يقاتلوا أمام المسلمين بسلاح ، ولقد هزموا في جميع معاركهم ، وبعد موت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بدأوا يعدون لمعارك من نوع آخر يساعدهم فيها المنافقين داخل البيت الإسلامي ، ومن هذه المعارك وضع الأحاديث ورواية القصص التي تحمل بين طياتها دماء أهل الكتاب ، ولقد ساعد أهل الكتاب على ذلك أن الساحة أعطتهم هذه الفرصة الثمنية وهي لا تدري ، في عصر الرسول كانت رواية الحديث معروفة عملا يقول الله تعالى .
  ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ، ولم تنقطع رواية الحديث حتى يوم خطبة الوداع حيث قال فيها النبي : ( ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب ) ، وربما يكون الرسول قد أمر في صدر الدعوة بعدم رواية الحديث حتى يتمكن القرآن من النفوس ، ولكن الحديث اتصلت روايته بعد ذلك ، لأن الحديث مكمل

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 447 _
  للتشريع ، ومبين لمجملات القرآن ومخصص لعموماته ومطلقاته ، كما تكفل لكثير من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والتربوية ، والذي حدث بعد وفاة الرسول أن رواية الحديث كانت في نطاق ضيق ، وفي عصر عمر بن الخطاب ضاقت الدائرة أكثر وكان قد قال : ( قلوا الرواية عن محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) وأنا شريككم ) (1) ثم ضاقت أكثر عندما توعد الخليفة الناس بالعقاب عليها ونحن نختلف مع الذين قالوا : أن النهي عن الرواية والتدوين في عهد عمر كان ضرورة حتى لا يلتبس القرآن بالحديث ، وحتى لا ينصرف المسلمين عن كتاب الله ، وذلك لأن للقرآن أسلوب لا يبلغه الإنس والجن مجتمعين ، فكيف يلتبس القرآن بالحديث ؟ وكيف ينصرف الناس عن كتاب الله وهم يقرأونه في صلاتهم كل يوم ، ويسهرون معه ليلا طويلا ، وهل معنى إننا نخاف على القرآن أن نضيع سنة الرسول ؟ لقد كان من الأفضل أن تجتمع هيئة من الأمناء وتدون الحديث الصحيح كله بعد تدوين القرآن ، وبهذا يقطع الطريق على الكذابين والوضاعين إما أن تمنع رواية الحديث تحت عنوان المحافظة على القرآن ، فهذا لا يقبله عقل سليم ويفتح الطريق للقول بأن عدم الرواية والتدوين الهدف منه التعتيم على من طالب الرسول بالالتفاف حولهم أو الذين حذر منهم وعلى أي حال فكما ذكرنا من قبل أن معلومات كثيرة فقدت عن هذه الفترة ، ولا ندري السبب الحقيقي لأمر عمر بن الخطاب بعدم الرواية ، ولكن من المؤكد أن حركة الوضع ترعرعت في هذا السكون وحمل شجرتها كعب الأحبار ، وكعب كان من أكبر أحبار اليهود ، أسلم في عهد عمر وسكن المدينة في خلافته ، ثم تحول إلى الشام في عهد عثمان ، فاستصغاه معاوية وجعله من مستشاريه لكثرة علمه ! ! ويقول الشيخ رشيد رضا: أن كعب كان من زنادقة اليهود ، الذين أظهروا الإسلام والعبادة لتقبل أقوالهم في الدين ، وقد راجت دسائسه ، وانخدع به بعض الصحابة ورووا عنه وتناقلوا أقواله (2) وقال ابن كثير في تفسيره : لما أسلم كعب في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه ، فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده من غث وسمين وذكر أن كعبا كان متخصص في بث

-------------------------------
(1) الطبري : 90 / 5 .
(2) المنار : ( 541 ـ 783 / 27 ).

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 448 _
  الخرافات في أمور الخلق والتكوين والأنبياء وأقوالهم والفتن والساعة والآخرة ، وهذه الأمور قادرة على خلق أرضية ثقافية واسعة تخدم مخطط كعب الأحبار ، وإذا كنا لا نعرف على وجه اليقين ماذا كان يريد كعبا من بث هذه الثقافة ، إلا أننا يمكننا بملاحظة الساحة أن نتبين ذلك ، فروايات كعب كانت في مجملها قريبة من القصص ، فهو يقص ولا يحدث ، وفي الوقت الذي كان فيه عصر عمر شبه خاليا من رواية الحديث كان هناك قصاص يقصون في المساجد (1) وآخرون يقصون في مقدمة الجيوش الفاتحة (2) ومن المعروف أن القصص نشأ في عهد عمر .
  فكعب جاء بسلعة ، الساحة في حاجة إليها ، وظل كعب يمد الساحة بإنتاجه حتى غمرها. وبعد عهد عمر توسع كعب في عهد عثمان ومن عنده تحول إلى الشام ليكون مستشارا لمعاوية ، الذي اتسع القص في أيامه ، فكانت هناك طائفة تعرف بالقصاص تفسر القرآن الكريم ، وتخرج تفسيرها بقصص كثيرة تستمدها من موروثات أهل الكتب السماوية ، وكانوا يستغلون ميل الناس إلى الأخبار العجيبة فيزيدون في قصصهم (3) وكان للأمويين في كل بلد قاص يقص على الناس في المسجد الجامع ويدعو إلى طاعتهم (4) وقد أمر معاوية أن يكون القصر مرتين في اليوم مرة بعد صلاة الصبح ومرة بعد صلاة المغرب وعين للقصاص مرتبات خاصة (5).
  وكما فتح عدم رواية الحديث باب القص في المساجد ، وترتب على ذلك جريان دماء أهل الكتاب في هذه القصص ، كذلك ترتب على عدم رواية الحديث وعلى عدم أخذ علوم القرآن من أهله اتساع دائرة الرأي ، يقول الشيخ محمد عبده : ( كان الصحابة إذا رأوا المصلحة في شئ يحكمون به وإن خالف السنة المتبعة لا (6) ويقول الدكتور عبد الحميد متولي : وكان عمر بن الخطاب من أبرز

-------------------------------
(1) طبقات ابن سعد : 5 / 341 .
(2) أسد الغابة : 5 / 341 .
(3) الفن ومذاهبه في النثر العربي د ، شوقي ضيف : ص 66 .
(4) خطط المقريزي : 2 / 253 عن المصدر السابق .
(5) الولاة والقضاة / للكندي : 304 .
(6) علم أصول الفقه / الشيخ خلاف : 301 ، المنار / رشيد رضا 210 / 4 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 449 _
  شخصيات الصحابة في هذا الباب ،فهو لم يقتصر فحسب على الاجتهاد ، حيث لا نص من كتاب أو سنة ، وإنما ذهب إلى مدى أبعد من ذلك ، إذ كان يعمد إلى الاجتهاد ، أو بعبارة أخرى : ( استعمال الرأي ) ليبحث عن وجه العدالة أو المصلحة حتى رغم وجود نص من الكتاب أو السنة ، فكان لذلك لا يفسر النص طبقا لحرفيته ، وإنما يفسره طبقا لحكمته ، أي طبقا لباطنه ولو أدى هذا التفسير إلى عدم تطبيق النص (1) وقد اتسع مفهوم الرأي وذهب في كل واد بعد عصر عمر ، وعندما ظهرت المذاهب والأحزاب ،كان كل فريق ينظر إلى النصوص بعين مذهبهم ( أي أنهم كانوا لا يرجعون إلى نص القرآن أو الحديث ، إلا ليلتمسوا فيه ما يؤيد مذهب إمامهم ، ولو أدى ذلك إلى سلوك التعسف في التفسير ، ومما يذكر عن أحد علماء الحنفية وهو عبد الله الكرخي المتوفى 340 ه‍ أنه قال : ( كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا ـ يقصد أتباع المذهب ـ فهو مؤول أو منسوخ ) (2) واتسعت الدائرة بعد ذلك فيقول الدكتور عبد الحميد متولي : إنه مما لا ريب فيه أن الرسول الذي خاطبه الله في كتابه الكريم بقوله :
  ( وإنك لعلى خلق عظيم ) هو خير قدوة للبشرية ، ولكن هذا لا يعني أن المسلمين في كل زمان ومكان ملزمون شرعا أو قانونا بالسير على نهجه واتباعه في جميع ما صدر منه من أقوال وأفعال ، حقا لقد قال الله : ( ! لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ولكن الأسوة أو القدوة كما يقول الإمام ابن حزم مستحبة وليست واجبة ـ ولو كانت الأسوة أو القدوة واجبة لكان النص : ( لقد كان عليكم ) (3)! وهكذا نشأ الرأي في عصر ما قبل التدوين واستمر بعد التدوين واستقر في أغلب الدول الإسلامية تحت لافتة تقول : ( الإسلام دين الدولة لا مع العلم أن هذا الشعار لا يترتب عليه إلزام الدولة بتطبيق الشريعة ، وكما قال البعض ، ما هو إلا بمثابة تحية كريمة للعقيدة الدينية التي تدين بها الأغلبية أو بمثابة كفارة تقدمها الدولة لعدم التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية في تشريعاتها .

-------------------------------
(1) أزمة الفكر السياسي في الإسلام / د . عبد الحميد متولي : ص 148 .
(2) أزمة الفكر السياسي في الإسلام / د . عبد الحميد متولي : ص 36 .
(3) أزمة الفكر السياسي في الإسلام / د . عبد الحميد متولي : ص 56 .

الانحرافات الكبرى القرى الظالمة في القرآن الكريم _ 450 _
  4 ـ ما أشبه الليلة بالبارحة :
  إذا كان كعب الأحبار قد مهد الطريق لوضع الأحاديث واتساع القصص في وقت ثم تضييق الخناق فيه على رواية الحديث ، وإذا كان ظهور الرأي نتيجة حتمية لمقدمة لا رواية فيها ولا تأويل ، فإن ظهور شعراء النصرانية في الساحة في وقت مبكر من وفاة الرسول كان مقدمة لنتيجة هي كارثة بجميع المقاييس ، وشعراء النصرانية بدأوا في التسلل نحو المجتمع الإسلامي على امتداد عصور الفتوحات ، وروي أن العديد منهم وفد على عمر بن الخطاب ومنهم حرملة بن المنذر أبو زيد الشاعر قال في الإصابة : كان نصرانيا وكان يزور عمر وعثمان (1) وحرملة بن جابر قال في الإصابة : كان نصرانيا يدخل على عمر (2) ، والحطيئة الشاعر ، قال في الإصابة : أسلم ثم ارتد ، كان يقول الشعر ، وكعب الأحبار يقول : هذا والله في التوراة ، وكان يتردد على عمر (3) وغير هؤلاء الكثير .
  وهؤلاء كانوا مقدمة لآخرين جاؤوا في عهد عثمان ، وعن هذا العهد يقول الدكتور يوسف خليفة : بدأت الموجة في أول الأمر هادئة ، حيث كانت أديرة النصارى المنتشرة في الحيرة النصرانية ، تقدم ألوانا هادئة من اللهو ، وتهيئ لروادها فرصة هادئة من الشراب (4) ، ثم اتسعت الموجة. عندما بدأ الوليد بن عقبة والي عثمان على الكوفة وأخاه لأمه يشرب الخمر ويستمع إلى الغناء ، وروي أنه كان يسمر مع ندمائه ومغنيه من أول الليل إلى الصباح ، وأنه كان يؤثر بمنادمته صديقا له من نصارى تغلب هو أبو زبيد الطافي الشاعر ، وأنه أنزله دارا على باب المسجد ثم وهبها له ، فكان أبو زبيد يخرج من منزله حتى يشق الجامع على الوليد فيسهر عنده ويشرب معه ، ثم يخرج فيشق المسجد وهو سكران ، وروي أن الوليد صلى بالناس الصبح ذات يوم وهو سكران أربع ركعات ، ثم إلتفت إلى الناس وقال ، أزيد كم (5).

-------------------------------
(1) الإصابة / ابن حجر : 60 / 2 .
(2) الإصابة / ابن حجر : 59 / 2 .
(3) الإصابة / ابن حجر : 63 / 2 .
(4) حياة الشعر / د . يوسف خليفة : ص 207 .
(5) أنظر هذه الأخبار في الأغاني : 5 / 122 ـ 145 ، المسعودي ، مروج الذهب .